في معنى الإيديولوجيا وفي مآل الإيديولوجيات المعاصرة

كريم مروة

 

لا أدري إذا كان أمرًا غريبًا أم أمرًا طبيعيًّا أن يكثر الحديثُ عن "نهاية عصر الإيديولوجيات" مقترنًا بالحديث عن "نهاية التاريخ". إذ ما العلاقة بين هذين المفهومين في تلازُمهما وفي اعتبارهما – هكذا وببساطة! – في مستوى المسلَّمتين غير القابلتين للجدل؟ لكن الغرابة تزول عندما يتحدد الزمنُ الذي أُطلِقَ فيه لهذين المفهومين العنان. فهذا الزمن، كما نعلم، هو مطلع العقد الأخير من القرن الماضي الذي انهار فيه جدارُ برلين وانهارت، في أعقاب انهياره، التجربةُ الاشتراكيةُ في مركزها الأساس، الاتحاد السوڤييتي السابق، وفي مجمل البلدان التي تبنَّت النموذج السوڤييتي للاشتراكية وشكَّلت مع الاتحاد السوفييتي ما سُمي بـ"المنظومة الاشتراكية العالمية". هكذا، في هذا التحديد الزمني لبروز هذين المفهومين وفي تلازُمهما، تعود الأمور إلى نصابها الصحيح وتتضح صورتُها.

عندما أصدر المفكر الياباني–الأمريكي فرنسيس فوكوياما كتابه نهاية التاريخ تلقَّفتْه وسائل الإعلام في كلِّ مكان، وتلقَّفه المثقفون من الاتجاهات والتيارات الفكرية كلِّها. وقد كان للمفكرين العرب دورٌ بارز في هذا الاستقبال "الاحتفالي" للكتاب. فتبنَّى بعضهم، من دون جدل، أفكارَه كلَّها، فيما تحفَّظ آخرون على هذه الأفكار من دون نقاش حقيقي معها. لكن هذه الأفكار اعتُبِرَتْ في مجملها في ذلك الحين حدث العصر. وهذا بالضبط ما حصل لكتاب المفكر الأمريكي الليبرالي صموئيل هنتنغتون صدام الحضارات: إذ تلقَّفه الجميع في كلِّ مكان، وفي بلداننا العربية بخاصة، واعتبر الكثيرون أن أفكاره هي، مثل أفكار فوكوياما، أفكار العصر الجديد، في ما يشبه مسلَّمة من المسلَّمات أو بديهية من البديهيات.

فرنسيس فوكوياما

وكان كلٌّ من المفكرَين الأمريكيَين يعبِّر، بطريقته وفي موضوع بحثه، عما يعتبره كلٌّ منهما عناصر جديدة ذات طبيعة تاريخية تتصل بحقبة ما بعد انهيار التجربة الاشتراكية، من جهة، وتتصل، من جهة ثانية، بسمة العصر الجديد، عصر انتصار الليبرالية الجديدة في زمن العولمة بعامة، وفي زمن العولمة الرأسمالية بخاصة. وهما يشيران بذلك إلى أن تاريخ حقبة طويلة، متصلة بوجود الاتحاد السوڤييتي وبالمنظومة الاشتراكية العالمية، انتهت وأخلت مكانها لحقبة جديدة مختلفة عنها بالكامل من حيث الوجهة والغاية، ومختلفة عنها من حيث الاتجاه التاريخي على وجه الخصوص. واعتبر الكثيرون من المروِّجين لفكرة "نهاية التاريخ" (التي بدأ مُطْلِقُها فوكوياما نفسه يعيد النظر في تحديده لها) أن زوال الاتحاد السوڤييتي كتجربة اشتراكية قد أنهى فكرة ماركس الأصلية حول إمكان تغيير مجرى التاريخ في اتجاه معاكس للحقب الماضية كلِّها، أي في الاتجاه الذي يحقق التقدم للبشرية والسعادة للبشر، مستندين في حكمهم هذا إلى ما كان يُروَّج له باسم تلك التجربة الاشتراكية، وعلى أساس أفكار ماركس، من أن سمة العصر بعد انتصار ثورة أكتوبر هي الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية، ليؤكدوا بأن سقوط الاتحاد السوڤييتي وفشل التجربة الاشتراكية قد أعادا حركة التاريخ إلى اتجاهها الأصلي، أي إلى الاتجاه الذي يعبِّر فيه النظام الرأسمالي عن جوهره في الشكل العام الذي يتخذه التطور في شتى مجالاته وتتخذه العلاقات بين البشر في شتى جوانبها. إذ ما إن أشرف القرن على الانتهاء حتى تغيرت سمةُ العصر واقعيًّا وصار الانتقال من الاشتراكية إلى الرأسمالية هو سمة الحقبة الراهنة.

صموئيل هنتنغتون

وفي رأيي أن كلاًّ من المفكرَين الأمريكيَين، ومثلهما جميع الذين تبنوا أفكارهما حول "نهاية التاريخ" وحول "صدام الحضارات"، قد تسرعوا كثيرًا في تقديم استنتاجاتهم حول العصر الجديد الذي تدخل فيه البشرية، كما تسرَّعوا في إطلاق العنان لأحكام لا يكفي أن يجري الاستناد فيها إلى بعض الأحداث، حتى الكبيرة المهمة منها، مثل انهيار الاتحاد السوڤييتي، للجزم بأن هذه الأحكام والأفكار التي تستند إليها قد صارت من حقائق التاريخ المطلقة. وأكاد أجزم بأن هذا التسرع في إطلاق تلك الأحكام لم يكن مصادفة ولا كان عملاً اعتباطيًّا؛ بل إنني أسمح لنفسي بالقول إن إطلاق مثل تلك الأحكام والأفكار كان عملاً إيديولوجيًّا بامتياز: إنه تأسيس لإيديولوجيا جديدة على أنقاض ما اعتبره هؤلاء المفكرون الليبراليون إيديولوجيا انتهى زمانها إما بالفشل وإما بأنها قامت بدورها وانتهى هذا الدور، فأخلت المكان لإيديولوجيا جديدة أكثر ارتباطًا بالعصر وبتحولاته.

لا، لم يُنْهِ فشلُ التجربة الاشتراكية – وهي الأولى من نوعها في تاريخ العالم – حلمَ البشرية في السعي من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية، مقرونةً بالتقدم وبالحرية الحقيقية لبني البشر. بل إن أفكار ماركس، حتى وإن شاخ الكثير منها وانتهى زمانُه، ستبقى من أعظم ما أنتجه الفكر الإنساني في الألفية الثانية؛ وهو ما يتمثل في عبقرية هذا المفكر الكبير الذي وضع، بمشروعه لتغيير العالم، الأسُس لمستقبل جديد للبشرية سيستمر الجهد في العصور المقبلة لوضعه على الطريق الموصلة إلى الأهداف الكبيرة التي بشَّر بها. في اختصار، إن كلَّ حديث عن "انتهاء عصر الإيديولوجيا" هو إيديولوجيا بكلِّ ما للكلمة من معنى.

فلنرجع في هذا السياق من البحث إلى القواميس والموسوعات لنحدد، استنادًا إليها، المعنى الحقيقي لكلمة "إيديولوجيا". فماذا تقول القواميس والموسوعات في تحديد معنى هذه الكلمة؟ في الحقيقة، لم أجد في القواميس المتداولة ذكرًا لهذه الكلمة. لكن بعض الموسوعات الكبرى تقدم تفسيراتٍ وتأويلاتٍ شتى لها ولوظيفة استعمالها. لكن ما لفت نظري هو إقرار عدد من المفكرين المعاصرين شبه المؤكد، على امتداد القرنين التاسع عشر والعشرين، بأن أصل كلمة "إيديولوجيا" هو الجمع بين كلمة idée، أي "فكرة"، وكلمة logos اليونانية، أي "العلم". لذلك يكون المعنى الأصلي للكلمة هو "علم الأفكار" أو، في الأصح، محاولة إضفاء أصحاب الأفكار طابعًا "علميًّا" على أفكارهم هذه لكي يجعلوا منها عقائد ثابتة راسخة، فلسفية كانت أم دينية أم أخلاقية من أنواع أخرى مختلفة.

وفي معزل عن المعنى الذي يحدده المفكرون لكلمة "إيديولوجيا" (وهو التحديد الذي لا نستطيع إلا أن نحترم اجتهادهم في اختياره)، فإننا ملزمون بأن نرى، في التاريخ الحديث خصوصًا، كيف جرى استخدام هذا المصطلح. وبصفتي اشتراكيًّا مخضرمًا، ولأنني انتميت إلى الاشتراكية استنادًا إلى مرجعيتها الأساسية التي عبَّرت عنها أفكارُ ماركس وكتاباتُه والمفاهيمُ التي أطلقها، فإنني معني بالدرجة الأولى بأن أنطلق في بحثي هذا من هذه المرجعية الفكرية ومن الممارسة praxis التي اعتبرها ماركس مقياسًا أساسيًّا لصحة النظرية. كما أنني معني من الناحية التاريخية بأن آخذ في الاعتبار في بحثي هذا التجربة الاشتراكية التي استندت إلى هذه المرجعية، لكنها شوَّهتْها في النظرية وفي الممارسة، حتى انهارت بعد ثلاثة أرباع القرن من قيامها بسبب أخطائها الفادحة. وهي، أي هذه التجربة، كانت لدى قيامها، على امتداد سنوات وجودها وحتى بعد سقوطها، حدثًا تاريخيًّا بالغ الأهمية والدلالة، وهي ستبقى كذلك على مرِّ العصور.

جميعنا يعلم أن فكرة ماركس الأساسية، التي عبَّرت عنها كتاباتُه وحوَّلها الفكرُ الماركسي السائد إلى عقيدة بكلِّ معاني الكلمة، إنما ترتكز على مفصلين يحدِّد بهما ماركس مجرى حركة التاريخ منذ أن أصبح للبشرية تاريخ، وصولاً إلى نهايات هذا التاريخ – إذا صح أن له "نهاية" –، النهايات التي تتمثل في قيام النظام الشيوعي:

1.     المفصل الأول هو الذي يحدد فيه ماركس للتاريخ بداياته: وهو ما يتمثل، وفق قراءته لتسلسل أحداث التاريخ، بأن البشرية مرت في أربع تشكيلات اقتصادية–اجتماعية، هي: المشاعية والعبودية والإقطاعية والرأسمالية.

2.     المفصل الثاني هو الذي يحدد فيه ماركس ما اعتبره بعض المفسرين "نهاية التاريخ": وهو ما يتمثل، وفق قراءة ماركس لآلية نشوء الرأسمالية ولآلية تطورها، بأنها، أي الرأسمالية، تخلق في سياق تطورها نقيضها الطبقي و"حفار قبرها"، وأن التشكيلة الاقتصادية–الاجتماعية القادمة بعد الرأسمالية هي الشيوعية، التي ستنهي عصر الطبقات، وتنهي الصراع الطبقي، فتفتح الباب أمام عصر جديد، مختلف عن عصور التاريخ السابقة كلِّها ونقيض لمساره ولاتجاه تطوره بالكامل.

وعلى الرغم من أن ماركس كان شديد الحذر إزاء الأحكام النهائية المطلقة لأن منهجه كان منهجًا ماديًّا جدليًّا، وعلى الرغم من أنه نبَّه إلى عدم تحويل الأفكار الجديدة التي أطلقها إلى عقيدة جامدة، فإن الشيوعية قد تحولت، حتى في حياته على يد أنصاره، إلى عقيدة؛ ثم تحولت بعد وفاته إلى عقيدة شبيهة بالعقيدة الدينية، في حتميتها التاريخية، وفي صيغة الانتماء إليها، وفي الطقوس التي صارت تمارَس باسمها. وقد أدى هذا النمط من تحويل أفكار ماركس إلى عقيدة وإلى جعل الماركسية إيديولوجيا الشيوعيين خصوصًا، وإيديولوجيا الذين يشاركون الشيوعيين عمومًا، إلى اعتبار انتصار الاشتراكية النهائي على الرأسمالية بمثابة "حتمية تاريخية".

ولا أستثني نفسي من هذا النمط في التعامل مع فكر ماركس، على الرغم من أني كنت من المساهمين، مع رهط من رفاقي في أواسط ستينيات القرن الماضي، في إحداث تغيير جوهري في فكر الحزب الشيوعي اللبناني وفي ممارساته، تطابُقًا مع فكر ماركس الأساسي وتمايُزًا عنه في بعض مفاهيمه في الآن ذاته. لكن هذا التغيير في فكر الحزب الشيوعي اللبناني وفي سياساته لم يقيَّض له أن يعيش طويلاً؛ إذ كان للحرب الأهلية دورٌ أساسي في نكوصه، وفي تعثُّر تطوره، وفي تخلُّفه سياسيًّا وفكريًّا، وفي انفضاض جماهيره عنه بالتدريج.

إلا أن علينا، ونحن ندافع عن ماركس، أن نحمِّله بعض المسؤولية عن الخلل في التعامل مع فكره: وهو ما تمثَّل في بعض كتاباته وفي بعض مفاهيمه التي أضفى عليها صفة الديمومة. ولا بدَّ لنا، في المقابل، من أن نعود فنؤكد بأن منهج ماركس المادي الجدلي هو الأساس في الفكر الذي ارتبط باسمه وبأنه هو الأساس الذي يستند إليه مشروعُه الاشتراكي لتغيير العالم وتحويله. وإذ نؤكد على هذين الأمرين المتعلقين بفكر ماركس، فإننا نريد تسليط الضوء على المسؤولية التاريخية التي يتحملها في الوصول بالتجربة إلى نهايتها المأسوية أولئك الذين جعلوا من الفكرة "علمًا"، محولين العلم إلى عقيدة راسخة تشبه العقيدة الدينية؛ في حين أن الاشتراكية كانت تنتسب، كفكرة وكمشروع سياسي وكمفاهيم، مثل كلِّ فكر ومثل كلِّ علم، إلى تاريخ محدد، وأنها مرشحة، بسبب تاريخية الفكر الذي تنتمي إليه، لأن تفقد بعض عناصر صحتها ودقتها، أو حتى الكثير من هذه العناصر، مع الزمن ومع تطور الأحداث والوقائع، على اختلاف أنواعها.

وجدير بنا أن نشير، ونحن نتحدث عما آلت إليه التجربةُ الاشتراكيةُ وعما آلت إليه فكرتُها وعما آل إليه مشروعُها – الفكرة والمشروع المرتبطان باسم ماركس –، إلى أنها كانت حدثًا تاريخيًّا عظيم الأهمية وإلى أن أهميتها التاريخية وآثارها لا ينتهيان بفشلها. ذلك أن المشروع الاشتراكي يشكِّل، بأهدافه وبالآليات التي يستند إليها لتحقيق هذه الأهداف، أول مشروع حقيقي في التاريخ يرمي إلى تحويل العدالة الاجتماعية التي تحدثتْ عنها العقائد الدينية كلها والأفكار والحركات الإصلاحية كلها ودعت إليها وبشَّرت بقدومها – تحويلها من الفكرة والشعار المجردين ومن اليوطوپيا إلى الواقع، أي إلى الإمكان، وذلك من خلال الربط المحكم بين مفهومَي العدالة والتقدم، والربط المحكم بين الفكر والـpraxis، أي الممارسة، والربط المحكم بين اليوطوپيا والواقع. ولنتذكر في هذا الإطار المقولة اللينينية الشهيرة التي تقول بأنه لا حركة ثورية من دون نظرية ثورية، ولا نظرية ثورية من دون حركة ثورية تتبنَّاها وتناضل لتحقيق ما تهدف إليه. وجوهر ما تشير إليه مقولةُ لينين هذه هو أن التغيير، وفق ما عبَّر عنه ماركس ودعا إليه في كتاباته وفي مجمل مشروعه، إنما يحتاج إلى فكر جدليٍّ يقرأ حركة التاريخ ويستخلص منها أفكارًا وطرائقَ عمل وحركةً وقوى ذات مصلحة في تحقيق هذا المشروع وذات قدرة على الاضطلاع بمهمة النضال لتحقيقه.

إلا أن جوهر ما قصدتْ إليه هذه المقولة هو أن التغيير وفق مشروع ماركس هو عملية متحركة، أي غير ثابتة وغير جامدة، وأن حركتها تحمل معها عناصر تَجددها الدائم وشروطه واغتنائها بالجديد الذي تأتي به الأحداث والتطورات والتحولات التي تصيب، إيجابًا وسلبًا، كلَّ شيء – الأفكار وأدوات البحث والمفاهيم – وتصيب الأفراد والتجمعات البشرية وجميع الذين ينتمون إليها. ولا تُستثنى من هذه التغيرات والتحولات، كما دلَّت على ذلك الوقائع، العلومُ الطبيعية ذاتها؛ فكيف بالعلوم الاجتماعية؟! – وهي الأكثر صلة في ميدانها بالبشر وبالتحولات التي تحدث في معارفهم وفي مداركهم وفي مشاعرهم وتحدث في وعيهم. وتتم هذه التحولات في اتجاهات مختلفة ومتناقضة، وتشترك هذه العناصر المشار إليها جميعًا في تحديد نوع هذه الاتجاهات في التطور وفي التحول، ودائمًا إيجابًا وسلبًا، وليس بواحد منهما حصرًا.

الشيوعية والاشتراكية، وأفكار ماركس، وكل فكرة تبنَّاها أفرادٌ أو تبنَّتْها جماعاتٌ استنادًا إلى أفكار ماركس أو استيحاءً منه ومنها، ليست كلها "إيديولوجيا" بالمعنى الذي أشرت إليه آنفًا والذي حدد به المفكرون الدلالة التي تعبِّر عنها وتدل عليها كلمةُ "إيديولوجيا". فالإيديولوجيا، بالمعنى الذي يشير إليه هؤلاء المفكرون، هي تلك التي ترتبط أساسًا بالعقائد الدينية أو تلك التي يحرص أصحاب الأفكار الفلسفية أن يضفوا عليها طابعًا علميًّا. الشيوعية والاشتراكية والأفكار التي تعود إليهما من أجل تغيير العالم هي أفكار تحمل مشروعًا للتغيير، لا حتمية تاريخية فيها وفيه من أيِّ نوع ولا "نهاية للتاريخ" من أيِّ نوع!

وبهذا المعنى، نستطيع القول بأن ما فشل ليس الإيديولوجيا الشيوعية أو الاشتراكية أو الإيديولوجيا المرتبطة بماركس وبأفكاره؛ إذ إن ما انهار وفشل هو هذا المعنى المبتذل الذي أُضفِيَ على أفكار التغيير باسم الاشتراكية، والذي تحول فيه ماركس إلى صاحب إيديولوجيا، وتحولت أفكاره إلى "إيديولوجيا شيوعية"، بالمعنى الديني للكلمة، انهارت مع انهيار التجربة التي حملت اسمها. وبهذا المعنى أيضًا، فإن ما شاع بعد انهيار التجربة الاشتراكية وما أشار إليه فوكوياما حول "نهاية التاريخ" من أن عصر الإيديولوجيا قد ولَّى – إن هذا الذي شاع هو، بالمعاني كلِّها، إيديولوجيا من النوع الذي تحدث عنه وحدَّده المفكرون الآنف ذكرهم لمفهوم الإيديولوجيا وحدوده.

وإذا عدنا إلى هنتنغتون حول "صدام الحضارات"، سوف نجد أن الفكرة المهيمنة عنده هي أن العالم منقسم إلى حضارات عدة هي في جوهرها حضارات "دينية"، وأن هذه الحضارات المتعددة هي حضارات قائمة بذاتها، متفاوتة بين ما هو قديم وما هو جديد ومتقدم؛ أي أنها غير قابلة للجدل، أي غير قابلة لاحتمالات التغيير، وغير قادرة، بسبب انغلاقها على ذاتها، على التفاعل والحوار بعضها مع بعض؛ بل إن كلاًّ منها يرفض الاعتراف بالآخر ويعتبره نقيضًا له وخصمًا. ولذلك تصبح هذه الحضارات والعقائد الفلسفية التي تستند إليها في حالة "صدام" فيما بينهما لا نهاية له، ويصبح تاريخ العالم محكومًا بصراع بين الإيديولوجيات لا نهاية له ولا مجال للمصالحة بين أطرافه.

وفي قراءتي لهذا النوع من الحكم على أحداث التاريخ وتطوراتها، أستنتج بأنه يستند إلى إيديولوجيا من نوع محدد، ويرمي إلى أهداف محددة. أي أن فكرتَي "نهاية التاريخ" و"صدام الحضارات" إنما ترميان إلى تأبيد الرأسمالية كنظام اقتصادي–اجتماعي ينهي التاريخ وينهي أحلام البشر في التحرر من أشكال العبودية، القديمة والحديثة، وينهي أحلامهم في التحرر من الاستغلال والقهر الاجتماعيين.

والهدف المباشر من تعميم هذه الأفكار، وأفكار غيرها من نوعها، هو القضاء على الفكرة التي أطلقها ماركس لتغيير العالم وحملت اسمه كمرجعية فكرية وحملت اسم "الاشتراكية" كمشروع وكبرنامج وكأهداف للتحقيق. وقد استند أصحاب هذه الأفكار الخاصة بتأبيد الرأسمالية، كنظام للعلاقات بين البشر وبين الشعوب والأمم، إلى الفشل الذي مُني به فكرُ ماركس؛ وهو ما تمثَّل، في نظرهم، بفشل التجربة الاشتراكية التي استندت إلى أفكار ماركس كمرجعية وإلى مشروعه كشكل سياسيٍّ لتحقيق تلك الأفكار. وهو خطأ فادح في التفكير وفي قراءة الأحداث وفي استخلاص الاستنتاجات منها.

أستخلص مما استرسلت فيه حول المعنى الذي حملتْه كلمة "إيديولوجيا" ارتباطًا بماركس استنتاجاتٍ ثلاثة:

1.     الاستنتاج الأول هو ضرورة تحرير أفكار ماركس من حتمية الفكر السلفي الذي أُضفِيَ عليها من أجل إعادة صياغة أفكاره وفق ظروف العصر وتحولاته، أي في الاتجاه الأساسي الذي رمى إليه ماركس من دعوته إلى تغيير العالم، ضمن هذه الشروط وهذه التحولات وليس خارجها.

(لافتٌ للنظر في هذا الأمر أن عددًا من المفكرين الذين كانوا قبل انهيار التجربة الاشتراكية خصومًا لماركس ولأفكاره ولمشروعه يعودون اليوم للحديث عنه وعنها بأفق مختلف عن السابق، أي بأفق الإفادة من أفكاره وتجديدها وتطويرها، لكي تصبح أفكارًا معاصرة، لا إيديولوجيا مغلقة.)

2.     الاستنتاج الثاني هو ضرورة البحث الجاد والمسئول عن الطريق الذي يُخرِجُنا من دائرة العقائد المغلقة، بما فيها العقائد الدينية التي تُدخِلُ المقدس الديني في الشأن السياسي، فيفتح الأبواب الموصدة أمام الأفكار الجديدة المنادية بالتغيير في الاتجاه الأفضل والأرقى إنسانيًّا لكي تصبح أفكار المستقبل. وهي أفكار مضامينها متعددة، وأهداف أصحابها وبرامجهم ومشاريعهم متنوعة؛ لكن المشترك والأساسي في توجُّهاتها – وهذا ما أتصوره وأتمناه – هو السعي إلى التغيير في اتجاه الأفضل والأرقى إنسانيًّا.

(جدير بنا في هذا المجال أن نتأمل في الأفكار الجديدة التي يقدِّمها باحثون ومفكرون دينيون إسلاميون في تفسيرهم للدين. ومن بين ما يدعو إليه هؤلاء المفكرون المستنيرون الفصلُ بين المقدس في الدين وبين البشري فيه، وبين المقدس عمومًا وبين السياسي على وجه الخصوص. فهذه الأفكار جديرة بأن تُحتضَن لكي يجري الاستنادُ إليها في مواجهة الحركات السلفية المغامِرة المجنونة في أشكال تعامُلها العبثي مع الحياة الإنسانية بعامة ومع الآخر المختلف في الدين وفي الفكر وفي نمط الحياة بخاصة. فهذا النوع من الحركات السلفية المغامِرة لا يمكن له أن يكون ذا صلة بالإسلام كدين وكقيم وكمُثُل أخلاقية رفيعة، بل هو تسخير للدين في اتجاه مغاير لقيمه ولمُثُله الأخلاقية.)

3.     الاستنتاج الثالث هو ضرورة أن نفصل في الحديث عن الإيديولوجيا بين الفكر الذي تحمله بعض الحركات من أجل التغيير وبين الإيديولوجيا بالمعنى السائد، أي بالمعنى المبتذل للكلمة، أي بالمعنى الذي يشير إلى رؤية الواقع وفق ما تدعو إليه العقيدة خلافًا لما هو عليه هذا الواقع. وبهذا المعنى، يصبح من الضروري إعادة النظر في المقولة التي سادت في الفكر الاشتراكي باسم لينين – مقولة "لا حركة ثورية من دون نظرية ثورية". وإعادة النظر هذه ترمي إلى تحرير الحركة الاشتراكية والفكر الاشتراكي من أنماط إيديولوجية مغلقة، سواء في الفكر ذاته أم في الحركة التي تستند إلى هذا الفكر.

بكلام آخر، فإن وظيفة إعادة النظر في هذه المقولة وفي مدلولاتها لا ترمي إلى التقليل من دور الفكر في صياغة البرامج السياسية الهادفة إلى التغيير، بل ترمي إلى تحرير الفكر من الطابع الإيديولوجي النمطي الثابت الذي أُضفِيَ عليه؛ كما ترمي إلى تصحيح مسار الأحزاب الشيوعية والأحزاب الأخرى التي تحمل صفة اليسار في نضالها لتغيير الواقع القائم في بلدانها، من خلال تحليله في دقة لمعرفته كما هو والانتقال به من مرحلة إلى مرحلة ومن حقبة إلى حقبة، وذلك فق شروط كلِّ بلد منها، في الاتجاه الأفضل والأرقى والأكثر حرية وتقدمًا وعدالة اجتماعية. ويعني هذا تحديدًا أن على هذه الأحزاب اليوم أن تستخلص من التجربة الماضية دروسها كلَّها، وأن تتفاعل مع الجديد الناشئ بواقعية، وأن تدرك بأنها لم تعد وحدها (الشيوعية منها خصوصًا)، كما كانت تدَّعي في الماضي، المالكةَ الحصرية للحقيقة. إذ إن المقولة المشار إليها حول الثورة ونظريتها قد اتخذت في الممارسة معنًى يقطع بأن للثورة، هنا وهناك، أفقًا واحدًا وهدفًا واحدًا ونظريةً ثوريةً واحدة، تتحدد جميعًا وتنحصر في أحزاب الطبقة العاملة (الأحزاب الشيوعية خصوصًا) التي كانت مرتبطة عضويًّا، بمستويات متفاوتة، بالمركز الأممي السابق المتمثل بالاتحاد السوڤييتي. لقد كان ذلك حينذاك ادِّعاء غير مبرَّر بأن الحقيقة موجودة في مكان واحد دون سواه – المكان الذي يحتله الحزب الشيوعي في بلده، باسم الطبقة العاملة، الممثلة لمصالح المجتمع كلِّه؛ وكان ذلك في جوهره نفيًا غير مبرَّر للتعدد في الأفكار والرؤى والمشاريع ونفيًا للتعدد الذي هو أساس الحياة. وهذا الادعاء المغاير للواقع هو الذي جعل الأحزاب الشيوعية ترتكب الأخطاء، حتى وهي تخوض نضالات بطولية، وجَعَلَها تفقد الكثير من وزنها ودورها مع تعقُّد الأوضاع في بلدانها وتعقُّد الأوضاع على الصعيد العالمي، حتى قبل انهيار الاتحاد السوڤييتي بزمن غير قصير.

على أساس هذه الاستنتاجات الثلاثة، وانطلاقًا منها، أعود إلى ما بدأت به بحثي، وأتساءل: هل هي مصادفة أن يتزامن طرحُ الفكرة الخاصة بـ"نهاية عصر الإيديولوجيات" مع انهيار التجربة الاشتراكية ومع الحديث عن "نهاية التاريخ"؟! وأكرر ما قلت في الجواب عن السؤال بأن ذلك ليس مصادفة بتاتًا، إنما هو للترويج لإيديولوجيا جديدة؛ وهي إيديولوجيا بمستوى العقيدة الثابتة الراسخة، ومُفادها أن ما كان يُعتبَر، في أفكار ماركس، نهاية لتاريخ سابق ودخولاً في تاريخ جديد بالكامل للعالم قد انهار مع انهيار التجربة الاشتراكية، وأن حركة التاريخ تعود ليحكمها مصيران: الرأسمالية في أشكالها المتعددة، من جهة، والأديان كتعبير عن الحضارات القائمة وعن صدامها الدائم الذي لا نهاية له، من جهة ثانية. وهكذا يكون البشر محكومين بأن يركنوا إلى قَدَرهم!

لكني، في المقابل، وإنْ كنت أؤكد على هذا المعنى لنهاية الإيديولوجيا، التي هي إيديولوجيا بامتياز، أعود فأقول بأن الفكر سيظل يحكم حركات البشر من أجل تغيير واقعهم في اتجاه الأفضل والأرقى والأعدل. غير أن واقع هذا الفكر هو أنه فكر متحرك ومتغير ومتجدد؛ ولذلك لا يمكن له أن يصير عقيدة. وبهذا المعنى، تصبح قضية الجدل مع أصحاب العقائد الدينية بهدف جعل عقائدهم أكثر انفتاحًا على حقائق العصر واحدة من كبريات قضايا العصر. ذلك أن ما نشهده من انفلات للغرائز الدينية خارج قيم الدين إنما يعرِّض البشرية للعودة إلى الوراء ويجعل الصراع القائم والصراع المفترض صراعًا همجيًّا، صراعًا خارج المقاييس والمعايير كلِّها: إذ هو يجمِّد الناس داخل هوياتهم الراسخة – الهويات الماضوية – ويجعل عقائدهم الدينية عائقًا أمام التقدم، بعكس ما ترمي إليه قيمُ الدين عمومًا، ويُبعِدهم عن الاندماج في حركة التاريخ في هذه الحقبة الجديدة المذهلة من تطور البشرية وتطور المعارف والعلوم وتطور حاجات الناس، ويباعد بينهم وبين إمكانات حقيقية يقدمها للإنسان التقدمُ الهائل لوسائل الإنتاج من أجل تأمين شروط أفضل لحياته تحرِّره من الأشكال الفظة، القديمة والحديثة، القائمة على الاستغلال والظلم والقهر والعبوديات في صيغها المختلفة.

لا، ليس صحيحًا أن عصر الإيديولوجيات قد انتهى بالمعنى الذي يشير إليه مُطلِقا شعارَي "نهاية التاريخ" و"صدام الحضارات". فالذي يمكن أن يكون في طريقه إلى الانتهاء حقًّا – ويجب أن ينتهي – هو نمط معيَّن من تحويل الأفكار إلى عقائد جامدة باسم الاشتراكية والعَلمانية، عقائد ينغلق أصحابُها على ذواتهم وهوياتهم، فيكفِّرون سواهم من أصحاب الأفكار الأخرى، الدينية وغير الدينية، وبالأخص تلك الأفكار التي تحمل مشاريع للتغيير.

على العكس من ذلك كلِّه، نحن نعيش اليوم في عصر يتحدد فيه تحديدًا صحيحًا معنى الإيديولوجيا، ويتحدد فيه تحديدًا مهمًّا دورُ الفكر في النضال من أجل التغيير، وفق الشروط الموضوعية لكلِّ بلد ووفق الشروط الموضوعية للعصر. وإذا كنت أتوقف هنا عند السلفي الرجعي من الفكر الديني، الذي يجعل الدين عقبةً أمام التقدم، خلافًا لما تشير إليه وتدل عليه قيمُه ومُثُلُه الإنسانية الكبرى، فلأنني أعتبر هذا الفكر السلفي مصدر خطر حقيقي على مستقبل بلداننا. ولعلَّ أحد أشكال هذا الخطر وتجلِّياته ما نراه من انكفاء، وإنْ مؤقت، لقوى دينية مستنيرة، لعبت في فترات معينة من تاريخنا أدوارًا مهمة في الحركة القومية والديموقراطية العربية، منذ أواسط القرن التاسع عشر وصولاً إلى نهاية القرن العشرين.

ويعود انكفاء هذه القوى، في أحد أسبابه، إلى تراجُع دور القوى الديموقراطية العَلمانية المتمثلة في الأحزاب الشيوعية وفي الأحزاب ذات التوجُّه الاشتراكي وفي الأحزاب القومية التقدمية. ففي ظل هذا التراجع والتهميش اللذين طبعا هذه المرحلة من تاريخنا، حتى قبل انهيار الاتحاد السوڤييتي بزمن غير قصير، تقدمت تقدمًا سريعًا القوى السلفيةُ استنادًا إلى ما اعتُبِرَ فراغًا في الحياة السياسية العربية. وساهم في تقدمها تراجُعُ وانهيارُ دور السياسة بمعناها المتصل بالفكر والثقافة وبالبرامج الحقيقية للتغيير التي تصوغها وتحملها وتخوض المعارك في سبيلها أحزابٌ ديموقراطية من شتى الأنواع. وهذا الواقع هو النتيجة المباشرة لطغيان أنظمة استبداد ارتبطت بأحزاب ذات توجُّه قومي وجاءت إلى السلطة بالانقلاب العسكري حاملةً معها فكرًا قوميًّا، بدأ تقدميًّا ثم صار ماضويًّا واستبداديًّا في آنٍ واحد.

إلا أن سيادة أنظمة الاستبداد لم تنحصر في قمع الحريات الفردية والعامة، ولا في تعطيل السياسة وتشويه الوعي وإلغاء دور المجتمع، بل ساهمت بدور أساسيٍّ في نزع الطابع التقدمي للفكر القومي الذي حملتْه أحزابٌ وطنية هنا وهناك، سواء في مرحلة النضال من أجل الاستقلال أم في المراحل اللاحقة، من أجل الديموقراطية والتقدم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. ووصل الأمر ببعض الأحزاب القومية في ظل أنظمة الاستبداد إلى حدِّ التنكر لتاريخها التقدمي العَلماني، ودخل بعضُها بأشكال مختلفة في دائرة الفكر السلفي الديني، وصولاً إلى تبرير الاستبداد باسم النضال ضد الإمبريالية، وإلى تبرير الحركات السلفية الرجعية بالاسم نفسه وتحت الشعار نفسه.

لا بدَّ من توفير الشروط لإنتاج حالة جديدة في بلداننا تشمل جوانب الحياة فيها كلَّها؛ لا بدَّ من حركة تجدِّد فيها الأحزابُ اليساريةُ ذاتَها وتُخرِجُ الفكرَ الاشتراكيَّ الذي تنتمي إليه من حتمية ربطه بالماضي بإطلاق من دون تعديل في الفكر ومن دون تسديد؛ لا بدَّ من تحرير الحركات القومية من فكرها الماضوي ومن شعاراتها الجوفاء التي فقدت مبرراتها وفقدت صلتها بالواقع تحديدًا؛ ولا بدَّ للقوى الدينية المؤمنة بالتغيير وبالديموقراطية من بذل الجهد لكي تعيد قراءة أفكارها وتجاربها وتدخل في حركة التغيير والديموقراطية المنتظَر قيامها، ولو بعد حين.

فمن يا ترى سيقوم بعملية التجديد هذه التي هي في مستوى الثورة بالمعاني كلِّها؟ تلك هي المسألة! لكن المراهنة تظل على الأجيال الشابة. فهي، إذ تتصدى لهذه المهمة التاريخية في بلدانها، فإنها تساهم بذلك في صنع مستقبلها ومستقبل بلدانها في آنٍ واحد.

*** *** ***

عن النهار، الاثنين 6 تشرين الثاني 2006

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود