|
الكلمةُ في تاريخنا العربي جرحٌ
قتلي أنقاض
حروب
في كلِّ ما قدم الشاعر العربي الكبير أدونيس للثقافة العربية، سواء في شعره أو بحوثه أو مؤلَّفاته الأخرى، ظلت الدينامية حيةً بين الماضي (التراث) وبين الحاضر. لكنه حينما يؤكد، من خلال رؤيته، على تجاوُز ذلك "القديم" وهدمه ومحوه، فلأنه يريد تأكيده لاستعادته، لاسترداد ذلك الماضي بتحريره من ذاته التي دجَّنها الحاضر وحوَّلها إلى قيم كسيحة في قطيع. لذا فإن القارئ العادي قلَّما يستوعب وصف أدونيس للتراث في هذا الحوار بـ"الكلمة الرجيمة"، مثلما فعل بعض النقاد، وكذلك المندسون في حياة الثقافة العربية، إذ صوروا الشاعر جاحدًا، ناكرًا إرثه، قافزًا عليه باسم مشروع الحداثة الذي يظهر الشاعر كأحد أبرز رموزه في الشعر العربي الحديث. لأن قارئ أدونيس لا بدَّ أن يكون قارئًا ذكيًّا – وإلا وقع في فخ المعنى! إن الشعر يفضح ما لا يقوله التاريخ أو يكشف المسكوت عنه فيه. من هنا جاءت ملحمته الشعرية الأخيرة: الكتاب لتؤكد هذه الحقيقة، فيكون الشاعر شاهدًا على عصر تنازعتْه أطراف ومتناقضات عدة. وحين أقدم الشاعر على هذا المشروع فلأنه أحس بالهلع من الشيخوخة التي بدت تدب في ذاكرة المجتمع العربي، وكذلك الإحباط. إن الحوار الداخلي كان جوهر القصيدة التي تشي بالحكاية. أما وحدة النص فقد تشكلت على مدى مئات الصفحات في مقاطع تبدو مستقلة بعضها عن بعض، لكنها متصلة بالقناع الذي تشكَّل في شخص أدونيس–المتنبي، في صوت الحاكم والمحكوم، الطاغية والضحية، القاتل والقتيل – هذا على صعيد المعنى. أما على صعيد الشكل، فقد لمس الشاعر حاجة القارئ إلى الصحو من ركام النصوص في ساحة الشعر إلى نصٍّ حادٍّ يوازي حدة ذلك التاريخ الذي حمل من التعقيد ما شابه تيار الدم المسفوك، وكُبِتَ بعد ذلك باسم "قدسيته الماضوية" – هذا كله أحدث قطيعةً مخيفةً بين الإنسان العربي وبين تراثه، جفوةً وشقة. إلا أن ما أراده أدونيس في الكتاب هو كشف الغطاء والحجاب، كما يقول هو، مانحًا مومياوات الماضي روح الحاضر، مسائلاً، معاتبًا، رافعًا ما ذبل عن وجه التاريخ للارتقاء به إلى معمار جديد، إلى وعي الضد – الوعي الذي يلعن الظلمة لأنه يريد الخروج، إلى الأبد، من هذا الظلام. وحين يأتي القارئ إلى مجمل نتاج أدونيس، يلمس عصب الذاتية الذي يعتبره الأساس الراسخ للأدب العظيم. لقد أوجد تلك الوشائج اللغوية التي ابتعدت ولم تبتعد عن شخصه ومشاعره على نحو مبتكَر جعله ينجح في خلق ذائقة شعرية خاصة أخرى للشعر اختلفت عن الذين سبقوه وعن مجايليه ومَن خرج من عباءته – بمعنى أنه خلق للشعر ذاكرته الثقافية، ومنح الكلماتِ "هويتَها" – ونعني – حريتَها.
وفي هذا الحوار العميق، الهادئ، الجريء، نصل إلى حقائق أخرى تضاف إلى ما ذكرناه سابقًا – وهي أنه ما من شاعر قدَّم التراث العربي الشعري إلى القارئ مثلما فعل أدونيس، سواء من خلال مختاراته التي قدَّم بها شعراء الكلاسيكية العرب، أو من خلال إعادته اكتشاف النصوص القديمة وإبداع الأولين عبر الغور في النص الحديث والاشتغال عليه بأدوات وطرائق غريبة عن جسد القصيدة الكلاسيكية، بعيدة عن قصيدة الرواد. إنها قصيدة الإنسان المفتوحة على أفقها الكوني. وهو بذلك يطلق صهيل الذاكرة وكأنها كانت من قبلُ خيولاً مكمَّمة الخطوم تحاول الهرب من سوط التاريخ، لكنها استعادت عنانها – بهاءها – من خلال عودتها إلى الحاضر. وهذا مجد اللغة حينما تستعيد علاقتها بأرضها البكر، لتشرع بعد ذلك في التجاوز والتجاوب والتحليق في حقول جديدة، حيث قدر الشاعر الذي أراد للإنسان أن يغيِّرها في نفسه بقوت القلوب، بالشعر، بالكلمة... * * *
لنبدأ هذه الرحلة عائدين بك إلى مرافئ طفولتك. ماذا علَّمتْك الطبيعة في تلك المرحلة؟ وهل كان لها دور متأصل في مجمل حياتك؟ أدونيس: لم أعِ في طفولتي كيف أتعلم من الطبيعة، أو ماذا آخذ منها! وإذا شئتما الآن تحديد ما أخذته منها، فلعلي أن أتحول إلى باحث يتذكر، ويتساءل، ويحلِّل... لكن هناك في أعماقي، في جسدي، في مسلكي، وفي تفكيري، أشياء متأصلة كأنها "طبيعة فكرية"، تجعلني أشعر أنها مستقاة، مأخوذة من الطبيعة التي كانت، في هذا كلِّه، معلمتي الأولى. من هذه الأشياء بساطة العيش على مستوى الحياة اليومية؛ ومنها العيش في حرية خارج القيود، أيَّا كانت، والتفكير والتعبير في حرية، كما لو أن الإنسان اسم آخر للوردة، للهواء والنهر، أو للبحر؛ ومنها حس الائتلاف مع الآخر، مهما كان الاختلاف معه، كمثل ما تآلفت نباتات الحقل الواحد، على الرغم من تنوعها وتباينها؛ ومنها، على الأخص، التجدد المستمر، في صوره وأشكاله المتنوعة. ندرك من هذا التجدد أن الموت ليس إلا اسمًا آخر للحياة. فلكي تولد "البذرة" لا بدَّ من أن "تُقبَر": فنحن لا نحيا إلا حينما نعيش موتنا، ولا نموت إلا لأننا نحيا. لقد سحبتَ سفينة الحوار إلى وجه الحياة الآخر: الموت – هذه الوشيجة بين الاثنين التي عبَّر عنها الإمام علي – كرَّم الله وجهه – حينما قال: "الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا"؛ وكذلك بروتون: "لن تكون فزاعة الموت إلا مجازًا." فمن خلال البعدين الصوفي والسوريالي، ألم يُخِفْكَ هذا المجاز، فآثرت النوم على هذه اليقظة الموجعة؟ أدونيس: أحب أن أظل دائمًا يقظًا وفي يقظة. وأنا، مع ذلك، لا أخاف من الموت، ذلك أنني أحب الحياة. لقد أُعطِيَتِ الحياةُ مرة واحدة وإلى الأبد؛ ولذلك يجب أن نحتضنها وأن نحبها حتى الهيام، كما نحب المرأة، لا في أعضائها واحدًا واحدًا فحسب، بل كذلك في جسدها خليةً خلية. مادمنا وصلنا إلى المرأة، فتاريخ الكتابة في العالم أجمع، وفي الوطن العربي على وجه التحديد، هو تاريخ ذكوري. أين هي المرأة الكاتبة ضمن هذا الطرح؟ أدونيس: كل شيء في العالم العربي ذكوري. ومعنى ذلك أن كلَّ شيء في العالم العربي فاسد، وسيظل فاسدًا ما لم تتغير هذه الذكورية، لا على المستوى النظري وحده، وإنما كذلك على مستوى التكون والبُنى، عقليًّا واجتماعيًّا. ولا يمكن لهذا أن يتم إلا بتغيير النظرة الدينية السائدة، وبتغيير النظرة السائدة إلى الدين في آن. أما كيف يتم هذا، فإن لذلك حديثًا آخر. دون ذلك، ستظل المرأة العربية مجرد زخرف وزينة ومتعة، أي مجرد اسم، مجرد رقم، ولن تصبح أبدًا كيانًا حرًّا، لها هويتها واستقلالها وحقها الكامل في أن يكون جسدها ملكها الخاص، تتصرف به في حرية كاملة، كما تتصرف عقليًّا. والسؤال هو: ما يكون الرجل في مجتمع لا وجود للمرأة فيه إلا بوصفها اسمًا ورقمًا، أو بوصفها زخرفًا ومتعة وبطنًا "منتجًا"؟! مادمنا نتحدث ونحن في حقل المرأة المملوء بالحياة والموت، فلنأتِ إلى حقل الكتابة التي قد تكون لغمًا موقوتًا أو قد لا تكون كذلك. فمَن هو الذي يدير هذا اللغم في العالم العربي: الكاتب أم السلطة؟ أدونيس: قد تكون الكتابة الشعرية لغمًا أو لا تكون – لغمًا بمعنى أنها زلزلة لكلِّ مستقر، وخلق لإمكانات جديدة في رؤية الأشياء، وفي إقامة علاقات مختلفة بينها وبين الكلمات، وفي فهم العالم والإنسان. من هنا أرى أن ثمة خطرًا حقيقيًّا وقاتلاً يواجه الكتابة الشعرية اليوم، يتمثل في تحولها من كونها "خلقًا" إلى صيرورتها "نتاجًا"، ومن كونها "تقنية" و"فنًّا" إلى صيرورتها "نشاطًا" و"عملاً". وفي هذا ما يؤدي إلى تسوية الشعر بغيره من أنواع الكتابة، وبخاصة السردية؛ وهي تسوية تؤدي بدورها إلى انقراض الشعر، لانعدام "تميزه" عن غيره، ولانعدام معايير هذا "التميز". ولئن كان هناك خطر على الشعر فهو كامن، كما يبدو لي، في هذه الأسباب الداخلية، ولا يجيء من "التقنية"، كما يزعم بعضهم. فالشعر اليوم يكاد أن يصبح "رسالة" مسرودة دون "فن". لقد مثَّل الشعر، في تاريخه كلِّه، مشكلاً: الشكل، السر، الخفاء، المجهول، المتخيل، إلخ. واليوم يكاد أن يزول هذا كله. تكاد الكتابة الشعرية اليوم لا تطرح على نفسها أية مشكلة؛ ولهذا تكاد لا تطرح على العالم وعلى الإنسان أية مشكلة. أحيانًا أتساءل في حزن: هل تنتحر اللغة الشعرية؟ هي كذلك – خصوصًا أن الكتابة الشعرية اليوم تصبح شيئًا فشيئًا قتلاً أو "فكًّا" للسحر، بدلاً من أن تكون وأن تبقى، بشكل أو بآخر، "عقدًا" للسحر! كما تعرف، إن اللغم لا يستشير ضحاياه. فمَن هم ضحايا الكتابة؟ أدونيس: لا "ضحايا" للكتابة الشعرية! فهذه دائمًا شكل من أشكال "الإنقاذ"، دون أن تدري ودون أن تقصد. ولا أُدرِجُ في عداد "الضحايا" ما تزلزله الكتابةُ الشعرية، ذلك أنها لا تزلزل إلا الموت. الشعر حياة ثانية، لا تستحق الحياة الأولى أن تُعاش إلا في ضوئها، أعني ضوء الحب والصداقة والحرية. إذا كان الشعر هو ضوء الحب، هل تعتقد أن الشاعرية هي الأخرى "شهوة"، تصعب إعادة إنتاجها في شروط توتر محسوب؟ فليس من الصواب أن ندَّخر الشعر إلى أن تأتي قصيدته التي قد لا تأتي... أدونيس: "الشاعرية شهوة"؟ أميل إلى القول إن الشاعرية هي أم الشهوات. وليست الشهوات لكي "تُدَّخَر" بل لكي تُعاش. لكن أهو سهل، سواء مع الشعر أو في الحياة، أن يعيش الإنسان شهواته؟ أسأل لكي أشير إلى أن الحياة، كمثل الشعر، ابتكار دائم، وإلى أن جمال الحياة والشعر هو في قدرة كلٍّ منهما على ابتكار الآخر. قد يكون العشق فضيحة العاشق إذا ما وُلِدَ الحب في حقل موبوء بالقيم البالية. فمن المنظور ذاته، نسمع الدعوات المكرورة نفسها التي تروِّج لإقصاء قصيدة النثر من مسرح الشعر بوصفها كائنًا هجينًا، وكأن النثر هنا فضيحة الشاعر، في حين قد تتحقق الشاعرية في النثر أكثر من تحقُّقها في القصيدة ذاتها... أدونيس: قد تظل هذه الدعوات قائمة إلى أمد يطول قليلاً أو كثيرًا، لكنها ستظل باطلة ودون تأثير. فما اصطُلِحَ على تسميته بـ"قصيدة النثر" صار واقعًا راسخًا، سواء رُفِضَ أو شُكِّكَ فيه، بشكل أو بآخر. لذلك لم يعد جائزًا للشعراء الاهتمام بتلك الدعوات. الاهتمام الآن يجب أن ينصبَّ على كتابة هذه القصيدة: ماذا أنجزت هذه الكتابة شعريًّا؟ ما مشكلاتها الفنية الداخلية؟ وما قدراتها على إعادة النظر في ذاتها وفي سيرتها، في "لغاتها" و"بُناها"، وفي "جماليتها" على الأخص؟ فمسألة قصيدة النثر أصبحت الآن كمسألة قصيدة الوزن: داخلية، فنية، وليست "خارجية" – قبولاً أو رفضًا –، بوصفها نوعًا معينًا من الكتابة الشعرية. أقول ذلك لأنه لا يجوز الاستمرار في كتابتها بوصفها "مضادة" لقصيدة الوزن. فذلك يكشف عن "طفولة" لا تليق بالشعر، لا في وعيه ولا في لاوعيه على السواء. يجب أن تكتب هذه القصيدة نصًّا آخر في شجرة الشعر، أختًا ورفيقة لقصيدة الوزن. وأقول ذلك لأن مجرد الكتابة بقصيدة النثر لا يقدم بالضرورة شعرًا: فالمهم هو ماذا تقول هذه الكتابة وكيف تقوله. أقول ذلك خوفًا على هذه القصيدة ذاتها من أن تسقط في السبات ذاته التي عرفتْه قصيدةُ الوزن في مراحل عديدة من تاريخها. ذلك أنني ألحظ نوعًا من الاطمئنان إلى الكتابة الشعرية بقصيدة النثر يكاد أن يصبح بليدًا. وجدير بهذه الكتابة أن تفترض، على العكس، القلق، التساؤل، وإعادة النظر، لا فيما تقوله وحده، بل في طُرُق تعبيرها كذلك في المقام الأول – خصوصًا أن هوية الشاعر الكتابية تقوم هي كذلك على طرح الأسئلة عليها وإعادة النظر فيها، وليست قائمة في الثبوت. القصيدة، وزنًا أو نثرًا، تمثل شقًّا في جدار العالم، نرى عبره ما لا يُرى عادة. وما أخشاه، نتيجة لما تقدَّم وفي سياقه، هو هذا ما أقوله الآن: أن تتحول الكتابة الشعرية العربية، وزنًا ونثرًا، إلى لوحة كلامية، تروي الأشياء فيما هي تلتصق على هذه الأشياء، عاكسةً إياها كما هي، بحيث تصبح القصيدة غطاء، لا كشفًا. وهكذا، بدلاً من أن يتحول القارئ – قارئ الشعر – إلى أفق من البروق والتوهجات، أفق من التصورات والحدوس والإشراقات، يتحول على العكس إلى نفق يمتلئ بـ"العسل" و"اللبن" و"الخبز" والموعد القريب العاجل إلخ. وأحب أن أضيف، لمزيد من التوكيد، أن الخروج على شيء يُفترَض فيه أن يُحِلَّ محلَّه شيئًا آخر أغنى وأجمل. وما سُمي بـ"قصيدة النثر" ليس إلا مجرد إمكانية لتعبير شعري آخر. فهي تبدو الآن، عبر "ركام" الكتابات، كما عبَّرتما في كلامكما، وكأنها مجرد "مادة" لا "فن" فيها؛ والكتابة بها حتى الآن تعطي غالبًا انطباعًا بأننا أمام "بحر" أو "وزن" يتكرر بلا نهاية، دون "تقنية" بارعة أو جديدة، تحل محلَّ التقنيات الوزنية التي خرج عليها. إذ لم يخلق الانتقال من قصيدة الوزن إلى قصيدة النثر طرقًا وأشكالاً تعبيرية وتقنيات في مستوى هذا الانتقال الذي يمكن وصفه بأنه "جذري"، لكيلا أستخدم لفظة "ثوري" التي فقدت معناها. ماذا تعني هنا بكلمة "فن"؟ أدونيس: أعني الجانب الصيغي، الحرفي، التشكيلي، الجانب الذي كان يطلقون عليه اسم "الصناعة"، وهو الاسم نفسه الذي كان الإغريق يشيرون به إلى كتابة الشعر poiêsis. الشعر لا يكون "وحيًا"، على افتراض أنه يكون، إلا بقدر ما يكون "صناعة". هل يمكن لك أن تفصِّل وتعطينا أمثلة؟ أدونيس: أحب قبل الإجابة أن أؤكد على أن في الكتابة الشعرية العربية اليوم، في مختلف أشكالها الوزنية والنثرية وفي مختلف "أجيالها" – ولا أحب مصطلح "جيل" –، أصواتٍ شعريةً بالغة الأهمية ومبدعة. والملاحظات التي سأبديها، إذن، لا تنطبق على هذه الأصوات، وإنما على الشائع العام السائد. تعرفان أن المقول في الشعر لا يستمد شعريته إلا من طريقة القول. وتكون طريقة القول "شعرية" بقدر ما يكون صاحبُها، إلى جانب موهبته الشعرية، مسيطرًا على أدواته: اللغوية والتصويرية والتركيبية والإيقاعية. فالعمل الشعري، في آن، وحدة، لا تنفصل فيه موهبةُ الشاعر (أي طبيعته) عن فنِّه (أي صناعته). وهو، إذن، لا يعيد رسم صورة العالم أو الأشياء، وإنما على العكس يعيد خلقها، أي يقدم عنها صورة أخرى غير صورتها المستقرة. إذا صح ذلك، ونظرنا في ضوئه إلى الكتابة الشائعة السائدة، فماذا نرى؟ أدونيس: نرى: 1. أن ما نقرؤه هو، إجمالاً، تكرار أو إعادة إنتاج لصور الأشياء المستقرة، سواء كانت هذا الأشياء "مادية" أو "نفسية" أو "روحية". 2. وأن الأدوات واهنة تكاد ألا تبين. نرى أن الأهم فيها – وأعني الكلمات – تُلقى على الورق جزافًا واعتباطًا. لذلك تجيء العلاقات التي مع الأشياء اعتباطية وجزافية هي الأخرى. 3. وأن ما "يتشكل" بهذه الأدوات الواهنة ليس أكثر من طبقة قشرية مفكَّكة، ليس لها "منطق" داخلي. تقرآن الجملة الشعرية، ومن بعدُ العمل الشعري، فتشعران أنه يتفتت كالرمل؛ ولذلك لا تشعران بأية حاجة لكي تعيدا قراءته. على العكس، نشعر أننا في حاجة إلى قراءة متكررة لكلِّ عمل شعري حقيقي – وهو الذي يتكون من عدة طبقات، وهو ما يمكن أن نسميه بالنص الذي لا يُستنفَد. هذه "اللانفادية" هي نفسها التي تسمح لنا الآن بقراءة بعض النصوص القديمة العظيمة بوصفها "حديثة"، أي بوصفها لا تزال قادرة على الحوار معنا وعلى طرح أسئلتها الخاصة علينا. 4. وأن ما نقرؤه يمكن لنا تلخيصه بنثر عادي دون أن يخسر شيئًا من "معناه" أو من "شكله". والنص الذي يسمح بمثل هذا التلخيص هو، حتمًا، نص غير شعري. 5. وكذلك أن ما نقرؤه خالٍ تمامًا من أية إستراتيجية لأيٍّ من أنواع التحول الجمالي والفكري. 6. وأن ما نقرؤه لا بنية له، كأنه مجموعة من الأسطر–الخيوط تتعاقب وتتوالى واحدها وراء الآخر، دون رابط بؤري، بحيث يمكن أن نحذف أو نضيف أو نغير تتابُع الأسطر دون أن نشعر بأيِّ خلل داخلي أو بنيوي. مادمنا دخلنا في صلب إشكالية القصيدة العربية الحديثة، فلتحدثْنا عن مشروع كتاب الكتاب: أمس المكان الآن الذي قوبل بنقد صارم من بعض قرائه، وبينهم شعراء، ولكنه قوبل بإعجاب كبير من الكثيرين – حيث إن الكتاب طرح على مستوى القراءة مشكلاً معقدًا. أدونيس: يجب أن نلاحظ أن الكتاب، في جزأيه حتى الآن (وسيصدر الجزء الثالث والأخير في أواخر هذه السنة [2002])، لم ينتشر إلا في وسط محدود، وذلك لسببين: الأول سوء التوزيع أو انعدامه في البلدان العربية، من جهة، والثاني ارتفاع ثمنه الكبير قياسًا إلى أثمان الكتب الشعرية (فثمن الجزء الواحد منه يعادل تقريبًا ربع الدخل الشهري لمعلم مدرسة أو موظف في سورية، على سبيل المثال)، مما لا يتيح شراءه لكثير من القراء الذين يحبون أن يقرؤوه. وهذا يؤسفني كثيرًا لأنه يحول دون أن يأخذ هذا الكتاب مداه القرائي؛ غير أني لا أستطيع أن أفعل شيئًا في هذا المجال!
أما على صعيد القراءة، فالذي قلتماه صحيح، حيث إن قارئ الشعر عندنا معتاد على قراءة الشعر بوصفه مقطوعات، لكلِّ منها استقلاله الخاص وموضوعه الخاص، وليس معتادًا على قراءة نصٍّ مركَّب، متعدد الأشكال، كل شكل فيه مستقل، غير أنه في الوقت نفسه متداخل أو متواشج مع الأشكال الأخرى في قصيدة واحدة على مدى الكتاب، تبدو في الوقت نفسه لعين القارئ ظاهريًّا أنها قصائد متفرقة عديدة. ما الذي استدعى هذا النوع من البناء النصِّي في الكتاب؟ أدونيس: هذا ما سأصل إلى الكلام عليه... هكذا تبدو قراءة الكتاب صعبة بالفعل ومحيرة. في كلِّ صفحة منه، إضافة إلى الهوامش، هناك ثلاثة نصوص: الأول، إلى يمين الصفحة، نص–وثيقة، يسرد من الوقائع التاريخية أهمها فيما يتعلق بالصلة بين المحكوم والحاكم، ويمثل المحكوم في هذه الوقائع أشخاص معارضون بارزون، كلٌّ في ميدانه السياسي أو الفكري أو الشعري؛ والثاني، في النصف الأعلى من الصفحة، نص–استيحاء، يقوم على حياة المتنبي (دليل الشاعر في رحلته داخل تاريخه وثقافته)، في توتراتها وآلامها وأفراحها وتطلعاتها وعلاقاتها؛ والثالث، في النصف الأسفل من الصفحة، نص–استشراف. وبين هذه النصوص تداخُل خفي. يُفترَض في النص الأول أن يمثل الذاكرة التأريخية للدليل–المتنبي، وللقارئ عبر هذا الدليل. وقد حرصت على أن تجيء لغته الشعرية بسيطة، مباشرة، عمودية، على غرار اللغة الشعرية عند كاڤافيس وريتسوس. وكثير من هذه النصوص وُضِعَ في لغته ذاتها كما وضعها المؤرخون دون تدخل تقريبًا، إلا بتغيير طفيف لتراكيب الجمل لكي يستقيم الوزن. وهذا ما كان يفعله كاڤافيس في قصائده "التأريخية": فعنده قصائد كثيرة هي مجرد سرد "مرتب" للأحداث كما جرت، دون أيِّ تدخل "فني" أو فكري". أما النصان الآخران فيقومان على لغتي الشعرية الخاصة. والكتاب، إلى ذلك، يتكون من فصول؛ وكل فصل يتكون من 28 صفحة بعدد الحروف الأبجدية؛ وكل صفحة تتكون، كما أشرت، من ثلاثة نصوص، إضافة إلى الهوامش؛ وبين الفصل والآخر نقلة أو وقفة، سميتها "الهوامش"، تتكون من عشرة نصوص، أحيِّي بها الأشخاص الذين صنعوا تاريخنا الثقافي، كلٌّ في ميدانه، وبخاصة الشعراء. هذا فيما يتعلق بالجزء الأول من الكتاب، وفي اختصار كبير. وماذا عن الجزء الثاني؟ أدونيس: إنه أغنى كذلك في تعقيداته: إذ إنه يتضمن، إلى جانب رحلة "الدليل" في التاريخ، رحلة صديقه "أبجد" في "الواقع–المدينة" داخل الخريطة العربية؛ ويتضمن كذلك "مذكرات" سيف الدولة، و"مذكرات" أخته التي يقال إن المتنبي أحبها أو إنها أحبته؛ كما يتضمن "دفاتر" المتنبي الشعرية غير المنشورة، أي التي ظلت "مخطوطة" و"حقَّقها" للمرة الأولى و"نشرها" أدونيس. لكن كيف تفسِّر إلحاحك على ظواهر العنف في التاريخ العربي؟ أدونيس: ليس هذا "إلحاحًا"، وإنما هو كشف لما كان يشكِّل حياتنا اليومية؛ إنه مجرد سرد لمألوفنا السياسي–الفكري، ولا أخترع شيئًا – هذا من حيث الواقع. أما من حيث الدلالة، فإنني أرى أن الكلام على الوجه الرهيب الوحشي في تاريخنا هو وحده الذي يضعنا، كما يخيَّل إلي، في قلب ما هو إنساني. ثم إن هذا الكلام – وأستغرب كيف ينسى ذلك بعض القراء – ترافقه وتواجهه الجوانبُ السمحاء والمشرقة في تاريخنا، ممثلةً بالمبدعين في جميع الميادين، وخاصة في الشعر؛ وهو ما نراه في الفصول المعنونة باسم "هوامش". فهذا التجاور في التاريخ بين الأعمال الأكثر وحشية والأعمال الأكثر إنسانية يوضح التجاور الآخر في أعماق كلِّ فرد بين ممارسة العنف، أو النزوع إليه، وبين القدرة الكامنة فيه، في الوقت ذاته، على السمو إلى درجات الكينونة العليا وعلى الإبداع. الكلام على عنف التاريخ العربي وحاضره، فنيًّا، والتعبير عنه، لمما يساعد في أن نتغلب عليه ونعلو إنسانيًّا. وإضاءة تاريخنا في بُعده الإنساني لا تقوم، إذن، على تغطية العنف الذي عرفه، وإنما تقوم على الكشف عنه. إن إرادة تغطية العنف لا تخفي إلا إرادة البقاء فيه وفي فضاءاته. والذين يعترضون على التعبير عن العنف في حياتنا وتاريخنا يصعب عليهم، كما يبدو لي، أن يتذوقوا الفنَّ بوصفه رؤية "كونية"، إنسانية وشاملة، وأن يعرفوا الجمال ومواطنه، وأن يرتقوا إلى الإنسانية الكبرى: الحرية – عدا عن أن هذا الاعتراض يستر رغبةً عميقةً في إشاعة العنف وترسيخه. وذلك ما هو حاصل اليوم: فهؤلاء وأمثالهم لا يعني لهم أيَّ شيء أن يُنفى أو يُسجَن أو يُشرَّد أو يُقتَل آلافُ العرب من المحيط إلى الخليج كلَّ يوم، وكأن هؤلاء ليسوا بشرًا، بل حصى! بل إننا ألِفْنا هذا كلَّه حتى أضحى أمرًا عاديًّا لا نتحدث عنه! فمن أين له، إذن، أن "يهزنا" أو "يزلزلنا"؟! إن معظمنا يعيش مدافعًا عن عبوديته ذاتها، عاشقًا لها، متغنيًا بها! إن الذين يخافون من الكلام على رأس مقطوع يخافون، في الوقت ذاته، من أن تظل رؤوسهم عالية، مفضلين أن تظل أعناقهم منحنية. ويعني "منطق" هؤلاء أننا لا يجوز أن نتحدث عن رأس يوحنا المعمدان، ولا عن صلب المسيح وآلامه، ولا عن الجرائم الهائلة في حقِّ الإنسان في القرن المنصرم (ماذا أقول؟! ربما يسمح هؤلاء بالكلام على أشكال القتل والعنف عند البشر من غير العرب فقط!) إن في كلٍّ من هؤلاء يرقد طاغية، ويرقد إلى جانبه رقيب لا يكف عن الصراخ: تحدثوا عما هو "إيجابي" في ماضينا وحاضرنا واتركوا ما هو "سلبي" لأنه يخدم عدوَّنا ومخططاته! أفٍّ وأفٍّ لهذا "العقل"! الكلمة في تاريخنا العربي جرح، كمثل العمل بها؛ "وجرح اللسان كجرح اليد"، يقول شاعرنا القديم، جرح ينزف نزفًا متواصلاً. أفلا يريد هؤلاء أن نتجاوز هذا الجرح، أن نشفى منه؟ إذن لماذا يخافون من الكلام عليه لمعرفة أسبابه وجذوره ولكي نعرف كيف نقضي عليه؟ إن علوَّ إنسانية الإنسان مشروط بقدرته على الكلام عن أخطائه، وبخاصة الوحشية منها؛ والذين يريدون أن يغطوا تاريخ العنف هم الذين يريدون الاستمرار في ممارسته. إنه استمرار لتاريخ الطغاة؛ وهو استمرار يعلِّم الارتباط بتراث يقوم على البغي والعنف. إن على الشعر أن يُحدِثَ القطيعة الكاملة مع هذا التراث العنفي، كلامًا وعملاً. فالشعر، بوصفه رؤية معرفية وجمالية، يجب أن يكون مناهضًا مناهضةً جذريةً لمسار سياسي–ثقافي ليس إلا توغلاً في الوحشية والكارثة. وعذرًا منكما ومن القراء لهذه الإطالة، الضرورية، كما يبدو لي. إلى أيِّ حدٍّ ترى، في هذا الإطار، أن لرسوخ العنف في الحياة العربية، ماضيًا وحاضرًا، قولاً وعملاً، علاقةً بالنظرة الدينية؟ أدونيس: هذا سؤال عميق ومهم جدًّا، ومن الضروري أن تجيب عليه دراسات اجتماعية وفلسفية وأنثروپولوجية، على نحو خاص؛ وهو، إذن، سؤال يحتاج إلى متخصصين للإجابة عنه. غير أن لي، في هذا المجال، رأيًا سأقوله، وإن كان لا يزال في حاجة إلى مزيد من الاستقصاء والتدقيق. النظرة السائدة إلى تاريخنا، وبخاصة على المستوى السياسي، هي أنه ماضٍ ناصع لا عيب فيه – وهذا ما يُرسَّخ في أذهان العرب، منذ طفولتهم المدرسية. وهي نظرة تحقق أمرين: إسقاط هذا الماضي "السياسي" على الحاضر "السياسي"، ورفع هذا الثاني إلى مرتبة الأول، بحيث يندمجان ويصبحان كأنهما "زمن" واحد و"حكم" واحد. وفي هذا يتم تمفصُل أو "وحدة" بين السياسي واللاهوتي. ومعنى ذلك أن العلاقة بين الأرض والسماء في نظرتنا الدينية هي التي تؤسِّس للتاريخ وتكشف عن معناه الحقيقي. فالموت في هذه النظرة إنما هو انتظار يترقبه المؤمن لكي يدخل السماء إلى العالم الآخر. والموت في هذه النظرة يفقد معناه العدمي ويصبح فاتحة للوجود الحقيقي؛ يصبح الموت نوعًا من اللهفة للصعود إلى السماء! ونضال المؤمن في الحياة هو أن يرتقي بزمنية التاريخ إلى مستوى الأبدية، أو أن يجعل الأولى لائقة بالثانية. ومعنى ذلك أن الآخرة هي التي تكمل الوجود وتعطيه معناه. فليس الوجود، إذن، تتابعًا زمنيًّا بقدر ما هو ابتداء دائم أو دائري؛ وهو لا يبدأ من الدنيا، وإنما يبدأ من الآخرة. فالموت هو بداية الحياة الحقيقية (في الآخرة)، وهو إذن، بالأحرى، بداية الوجود الحقيقي. وإذا كانت الآخرة نهاية التاريخ على الأرض ودخولاً في الأبد، خاتمةً وهدفًا، فإنها، إذن، هي التي يجب أن تؤسِّس للأرضي وسياسته. فالأخروي هو الذي يؤسِّس للدنيوي ويسوسه في آن. اللاهوتي، بتعبير آخر، هو الذي يؤسِّس للسياسي – وهو ما تفصح عنه العبارة المشهورة: "الإسلام دين ودولة". وفي هذا ما قد يفسِّر ظاهرة "العنف" السياسي–الديني في المجتمع العربي. فقتل "المخالف" أو "الكافر" تقرُّب إلى الله وتقليل من "قبح" الأرض. ومثل هذا القتل يسهم في جعل الدنيا – مملكة الأرض – أكثر شبهًا بمملكة الله: السماء أو الآخرة. وبقدر ما يقتل ممَّن يُعَدون أعداءَ الله أو الدين (أي أعداء للسياسة السائدة باسم الدين والأمة إلخ) يكون القاتل مسلحًا بما يقرِّبه إلى الله وإلى الماضي "الناصع"! وهذا مما يبعده عن زمنية الشقاء ويُدخِله في أبدية النعيم. وماذا عن السؤال الذي يطرحه الكتاب في هذا الإطار بين أسئلة عديدة أخرى؟ أدونيس: إن السؤال هو: ما الذي كان ممكنًا أن يحدث في الماضي، ولم يحدث؟ ففي هذا السؤال ما يكشف عن شقوق ماضينا وتصدعاته؛ وفيه كذلك تكمن مسألة العلاقة مع المستقبل، أي مسألة الحاضر كذلك. والسؤال، إلى هذا كلِّه، ينقلنا من النظرة "الناصعة" التاريخية الجزئية إلى النظرة الحضارية الكلِّية: الأولى يحركها هدف تنتهي إليه؛ فمسارها خطي–أفقي، وترتبط بالسياسة وبالحياة السائدة وأشيائها؛ والثانية عمودية، تهدف إلى السؤال والاستقصاء، وتبدو كثيفة ومتوترة وشاملة، وغوصًا مع الذات ومع الأشياء. وفي ضوء هذه الثانية يجب أن يُقرأ الكتاب. نفهم من كلامك أن الكتاب هو تحريض للشاعر والقارئ معًا للعودة إلى التراث والتاريخ واستشراف ما يحدث، تمامًا كما يفعل الجراح ويشد مبضعه على موضع الداء، ليكون أمينًا في منح السبات والوجع حياةً أخرى. أدونيس: لا أحب أن أحرض أحدًا! أكتفي بالقول إني أحاول أن أفتح أفقًا للنظر. ومع ذلك، أعتقد أن الخلل الكبير في التجربة الشعرية الحديثة يكمن في أنها شبه مستنبتة في الخبرة البشرية الهائلة والفريدة التي عاشها أسلافنا، في طرق تعبيرهم عنها وفي أسرار هذا التعبير. لا يمكن لأيِّ شاعر إنكليزي أن يقول: مَن شكسپير هذا؟! إنه قديم ولا أقرأ له! أو مَن دانتي وهوميروس وأوڤيد وڤرجيل؟! إنهم قدماء ولا علاقة لي بهم! وما ينطبق على الشاعر الإنكليزي ينطبق على غيره من شعراء أوروبا. لكن معظم كتَّاب "قصيدة النثر"، و"قصيدة الوزن" كذلك، من العرب يقولون: مَن امرؤ القيس والشعر الجاهلي؟! مَن أبو نواس وأبو تمام والمتنبي والمعري؟! إنهم قدماء ولا علاقة لي بهم! – وهم في الواقع يجهلونهم، جملةً وتفصيلاً. والسؤال هو: كيف يصح لشاعر بلغة معينة أن يجهل ميراثها الشعري وأن يرفض خبرتها التاريخية؟! ثم كيف يمكن للشاعر أن يخلق جمالاً جديدًا بلغة لا يعرف جمالها القديم ولا تاريخها الجمالي؟! – هذا عدا عن أننا لا يمكن لنا أن نفهم حقًّا حاضرنا، في أبعاده المختلفة، السياسية–الاجتماعية والثقافية، إلا إذا فهمنا ماضينا في مختلف أبعاده. لا يمكن لنا أن نعمل لمستقبل أمة نجهل ماضيها. لذلك شهدتْ بدايةُ الستينيات عودتَك إلى التراث الشعري العربي، الصوفي منه بخاصة. فأين تكمن أهمية هذا التراث بالنسبة للشعر العربي الحديث؟ أدونيس: لا يقدر الشاعر أن يكون جديدًا، ولا أن يخلق علاقات جديدة بين اللغة والأشياء، إلا إذا كان يعرف تراثه في شكل عام والشعر في شكل خاص، كما أسلفت. فقد عُنيتُ عناية خاصة بالكتابات الصوفية لأن التجربة الصوفية تقوم على مقاربة مختلفة للإنسان والوجود، ضمن التراث العربي، وعلى التعبير بطرق مختلفة، ذلك لأنها تصدر عن رؤية مختلفة، في عالم جديد، رؤيويًّا وتعبيريًّا، داخل التراث الشعري العربي – عالم على حدة، غني وفريد وأصيل. وأحب هنا أن أتوقف عند ثلاث خصائص في هذه التجربة ترتبط مباشرة بالكتابة الشعرية: 1. الأولى: هي أننا لا نستطيع أن ندرك المرئي حقَّا، ولا أن نفهمه، إلا بوصفه يرتبط عضويًّا باللامرئي. فالحضور امتداد كينوني للغيب أو، بالتعبير الصوفي، "الظاهر تجلٍّ للباطن"؛ أو لنقل: هذا العالم الذي نراه ليس إلا صورًا لمعناه الذي لا نراه. وإذن فلا فصل بين الصورة والمعنى. 2. الثانية: هي أن الحقيقة ليست معطاة أو جاهزة. الحقيقة اكتشاف متواصل: فهي أمامنا وليست وراءنا. الحقيقة تجيء دائمًا من المستقبل. وهذا توكيد على حركية الحقيقة ضد التصورات الدينية التي تأسرها في الشرع أو في المذهبية الإيديولوجية المغلقة. 3. الثالثة: هي أن الكتابة لا تخضع لأية قواعد مسبقة، وأن الشعرية لا تنحصر في الأوزان والقوافي، وإنما هي انفجار لغوي دائم يجدد الكلمات دائمًا باستخدامها في غير ما وُضِعَتْ له أصلاً. وليست هناك، إذن، أشكال مسبقة للكتابة. تخلق الكتابة أشكالها كما يخلق النهر مجراه أو البحر أمواجه! ولكن مَن يخلق الصياغات النهائية لهذه التجلِّيات؟ – انتفاضات الوعي أم اللاوعي. أدونيس: لا أميِّز في الشعر بين الوعي واللاوعي. تأملا في نبع يجري صافيًا: هل للنبع "هوية" في سطح مائه وحده؟ لا. هويته هي، في آن، "سطحه" و"غوره". هكذا الشعر: وعي ولاوعي في آن. لا انفصال بينهما. في التفاصيل يمكن لأحدهما أن يكون، في تفصيل ما، أكثر حضورًا من الآخر؛ لكنها يؤلفان وحدة تامة في العمل الشعري، منظورًا إليه بوصفه وحدة تامة وكلِّية. ثم مَن يستطيع أن يحدد في لحظة الإبداع الشعري أين يبدأ الوعي أو اللاوعي وأين ينتهي كل منهما؟ – خصوصًا أن الجسد في هذه اللحظة، شأنه في لحظة النشوة الجنسية، قد يكون هو "الروح" فيما تكون الروح هي "الجسد"! ولنأخذ "الروح" إلى الفكرة التي يقوم عليها أساس "تقمص الأرواح". فحينما تتكرر الحياة في جسدين وروحين آخرين لا يحملان شيئًا من الفرادة، يكون هذا الفعل نوعًا من أنواع العقاب. أما في الأدب، ومن خلال هذا الركام الهائل من النتاج الشعري العربي الذي، في معظمه، لم يقدِّم بعدُ "الرؤية المغايرة"، فالتجارب إما أن تجترَّ ما سبقها أو أن تستلَّ من الثقافات الأخرى ما هو غريب عن كيان الثقافة العربية. فأي نوع من العقاب هذا؟! أدونيس: أظن أن لدينا شعرًا جيدًا، وإنْ كان قليلاً؛ وهو شعر يكفي لكي يعطي تنويعًا متميزًا على "صورة الشعر العربي". ولهذا الشعر القليل مكانه ومكانته على خريطة الشعر في العالم اليوم فيما إذا قورن بغيره أو كانت لهذه المقارنة قيمة فنية أو فكرية. لكن تبقى مع ذلك مشكلة "العقاب". و"العقاب" عندنا "مصنوع"، و"نعيشه" باسم تلك الكلمة الرجيمة الرجعية: "التراث"، الذي يصنعه المهيمنون – سلطات ومؤسسات – ويسوِّغونه باسم مفهوم يرى أن الشعر لا علاقة له بالفكر أو بالثقافة، وأن الشاعر إنسان يعيش متسكعًا داخل "أعصابه"، وتلك هي عبقريته – مفهوم ساذج وبدائي! وسيادة هذا المفهوم هي التي تعمِّم ثقافةً شعريةً تحول دون نشوء ما تسميانه بـ"الرؤية المغايرة"، فتعمل، إذا نشأت، على محاربتها وعزلها وإقصائها. ومن هنا يجيء التكرار الركامي. فالشاعر الذي لا يقول إلا "أعصابه" و"انفعالاته"، الغاضبة أو الراضية، لا يقول في آخر الأمر شيئًا؛ لا يكون "شعره"، في عبارة ثانية، إلا نوعًا من التأوه أو الصراخ! لا تجيء "الرؤية المغايرة" إلا من نظرة مغايرة، فكريًّا وفنيًّا؛ وهي نظرة لا تتكون إلا في ثقافة عظيمة وإحاطة معرفية عالية – وهذا مما يعوز شعراءنا اليوم بعامة. عدا عن ذلك، أود أن أشير إلى أن هذا المفهوم ليس "تراثيًّا" بالدلالة الشعرية العميقة لهذه الكلمة. ذلك أن الشعر العربي، في ذرواته العليا، قائم على "نظرة"، على فكر عظيم وإحاطة معرفية عالية في إطار العصور، بنسب متفاوتة، بدءًا من طرفة بن العبد وامرئ القيس وانتهاءً بالمعري، مرورًا بأبي نواس وأبي العتاهية وابن الرومي وأبي تمام والمتنبي، تمثيلاً، لا حصرًا. لا يكون الشعر عظيمًا إلا بقيامه على مثل هذه "النظرة" وبصدوره عنها. وهذا ما يؤكده تاريخ الشعر في العالم، إضافة إلى تاريخ شعرنا العربي. هذا "العقاب" الذي نعيشه هو، في التحليل الأخير، سياسي–ديني: عزل الشعر عن الهموم الكيانية الكبرى، وجودًا ومصيرًا، وحصره في "الأمة"، تمجيدًا وتسبيحًا، أو في "الفرد" وعواطفه، في انفعالاته الشخصية، لكنْ "الطيبة" و"النبيلة". قلتَ مرة: "ولكي تغير مسارًا شعريًّا، يجب أن يتجلَّى ذلك في المؤسسة." فهل كنت تقصد بـ"المؤسسة" النسيج الثقافي العام؟ أدونيس: كنت أقصد أن أقول إن هناك نوعين من التغيير فيما يتعلق بالشعر وبالفن عامة: الأول هو التغيير على مستوى التذوق الفردي، أو مستوى التقبل الفردي لما هو جديد، مغاير؛ والثاني هو التغيير على مستوى القيم الاجتماعية العامة، أي على مستوى المؤسسات التربوية–التعليمية أو الجامعية والاجتماعية. ولكي نقول إن هناك تغييرًا في مجتمع ما، لا بدَّ أن يكون هذا التغيير من النوع الثاني. الشعر الذي سُمي حديثًا في فرنسا، على سبيل المثال (بودلير ورامبو ومالارميه إلخ)، كان في البداية مرفوضًا من "المجتمع" و"مؤسساته"، تمامًا كما هو اليوم حال "شعرنا الحديث"؛ لكن شعر هؤلاء أصبح، فيما بعد، شعر "المجتمع" و"مؤسساته"، أي أصبح جزءًا من مكتبة العائلة، وأصبح أساسًا في تربية العامة وأساسًا في الجامعات؛ أصبح، بتعبير آخر، "كلاسيكيًّا". وهذا ما لم يحدث حتى الآن في "المجتمع العربي" و"مؤسساته" بالنسبة إلى "شعرنا الحديث" – وهو ما ننتظره. فمازال قبول الشعر الحديث عندنا محصورًا في أفراد وتجمعات و"دوائر" خاصة، ولم يدخل بعد في بنية المجتمع الثقافية والقيمية والاجتماعية. وإذا ما أصبح الشعر جزءًا من نسيج المجتمع ومؤسساته التربوية والاجتماعية والثقافية، هل يستطيع بعد، ومن خلال ذلك، أن يقدم الرؤية التي تساهم في إصلاح العالم؟ أم أن فضاء الشعر سيبقى في أحلام الشعراء وتنظيراتهم؛ أي في قول آخر، "سيبقى الشاعر مشرِّع العالم غير المعترَف به"؟ أدونيس: الشعر لا يصلح لتغيير العالم، وأطروحة تغيير العالم بالشعر أطروحة بالية. إن "رصاصة" واحدة (من جاهل أو من عاقل!) قد تغير أكثر مما يغير الشعر. فطوال تاريخه كلِّه – هذا إذا حصرنا التغيير في المجال السياسي والاجتماعي – لم يغير الشعر الكثير. غير أن الشعر يمكن له أن يغير بمعنى مختلف، وعلى مستويات مختلفة: فهو، في تقديمه علاقات جديدة بين اللغة والأشياء، وعبر رؤاه المختلفة، يقدِّم صورة جديدة للعالم وللعلاقة بين الإنسان والإنسان، بين الإنسان والعالم. والقارئ، حين يفهم هذه العلاقات ويتذوقها، يمكن لها أن "تغيِّره" في سلوكه وفهمه. وهذا التغيير في داخل الإنسان يمكن له أن يؤثر في التغيير خارجه. لهذا تريان أن التغيير في الشعر وبالشعر طويل ويتم مداورة، لكنْ هو وحده بين أنواع الكلام الأخرى الذي يغير عميقًا؛ ذلك أن كلمته هي الأولى والأخيرة، بوصفه التعبير الأجمل والأعلى عن الإنسان، وجودًا وهويةً ومصيرًا. وهناك الاستلاب الذي تعيشه الذات العربية الجريحة بعدما هدَّتها الحروب العقيمة واحتضار الأمل في بعض بلدانها. فهل لك أن تحدثنا عن الحروب الأخرى – "حروب الكتابة" – التي لم ولن تعرف وقف إطلاق نار الأحقاد، حتى لكأن "الآخرين" هم أقسى من الطغاة أنفسهم؟! أدونيس: السؤال يفصح عن الجواب! فالعلاقات فيما بين المثقفين والكتَّاب العرب هي صورة حية للعلاقات فيما بين السياسيين ورجال السلطة في البلاد العربية، بحيث تبدو الثقافة العربية، في تنويعاتها كلِّها، صورة للسلطة العربية، في تنويعاتها كلِّها. هناك بعض الكتَّاب والشعراء والمثقفين العرب يقفون إلى جانب السلطات ضد زملائهم في الكتابة؛ وهناك وشاة ورقباء وكتَّاب تقارير! وهناك مَن يختلق الأكاذيب لتشويه سمعة بعضهم. والرقباء الذين يمنعون الكتب ليسوا غالبًا من البوليس – البوليس العادي –، بل من "البوليس الأدبي" والفكري: الكتَّاب والأدباء والشعراء. ونجد بين الكتَّاب والشعراء العرب طغاةً لا يقلون عنفًا عن طغاة السياسة. انظرا إلى الصحافة الأدبية العربية، وسوف تجدان أن "دماء" بعض الكتَّاب والشعراء العرب تسيل يوميًّا على صفحات هذه الصحافة بخناجر كتَّاب وشعراء عرب آخرين! هذا كله مما يسمح بالقول، مجازيًّا، إن السمة الأساسية للعلاقات الثقافية العربية السائدة هي "القتل"! والقتل المعنوي، بشكل أو بآخر، أمرُّ، في معظم حالاته، من القتل العادي. تقابل هذه السمة طبعًا سمةٌ أساسية أخرى، لتمويه الأولى، هي سمة التبجيل وكيل المدائح، بشكل لا نعهده في أيِّ أدب آخر في العالم، وبشكل جاهل إجمالاً! وهذه سمة ترتبط عضويًّا بالسلطات وشبكاتها "الأدبية" و"أبطالها" و"رموزها" و"شركائها". لكن مقابل هذا كلِّه – وهذا ما يجب التوكيد عليه –، هناك كتَّاب ومفكرون وشعراء عرب يندر مثيلهم في العالم من حيث أخلاقية الكتابة وأخلاقية السلوك وأخلاقية الشهادة. وذلك هو عزاء الثقافة العربية، وفي ذلك مجدها الحقيقي. حينما تُرجِمَ ديوان أغاني مهيار الدمشقي مؤخرًا إلى الألمانية، أقبل القارئ الألماني على قراءته ليقترب من نصِّك أكثر، على الرغم من إجماع المستشرقين على أنك شاعر صعب وغامض، تختلف عن الشعراء العرب الذين تُرجِموا قبلك إلى هذه اللغة. ماذا تقول عن ذلك؟ وهل كان "مهيارك" صدى لمهيار الديلمي؟ أدونيس: لا أظن أن شعري أكثر غموضًا من شعر هولدرلن أو نوڤاليس أو شتيفان جورج أو پاول تسيلان، لكيلا أتمثل إلا ببعض الشعراء. فاللغة الشعرية التي قد تبدو للقارئ أحيانًا "بسيطة" ليست لها، في أغلب الحالات، أية علاقة ببساطة الشعر أو وضوحه. ثم إن اختيار اسم "مهيار" هو متابعة لاختيار اسم "أدونيس"، خروجًا من الذات نحو الآخر المختلف – هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى، اخترته كطريقة فنية، رمزًا لتجسيد أفكاري ومشاعري، في علاقتي بالثقافة العربية وبالقيم التي تستند إليها أو تبشِّر بها. وأظن أن ذلك نتيجة لتأثري بمثل هؤلاء الأشخاص–الرموز: زرادشت، هاملت، مالدورور. وليس لـ"مهيار الدمشقي" أية علاقة بالشاعر العباسي مهيار الديلمي إلا علاقة الاسم: فمهيار أدونيس ينتمي، فنًّا ورؤية وطرقًا وتعبيرًا، إلى زرادشت نيتشه وأمثاله من أولئك الأشخاص–الرموز. هل في الإمكان أن نسمي "مهيارك" بـ"زرادشت العربي الإسلامي"؟ أدونيس: حقًّا إن نيتشه أثَّر ويؤثر في كتاباتي، نثرًا وشعرًا. أما أن نسمي "مهيار" بـ"زرادشت العربي الإسلامي"، كما تقولان، فهذا ما أحب أن أتركه لرأي القراء والنقاد. لننتقل من "مهيار" عائدين إلى الكتاب. يعيش العالم العربي في مرحلة كثرت فيها الدعواتُ إلى الحلول السحرية الوحيدة: فمرة الإسلام أو الديموقراطية، ومرة الثورة أو العَلمانية. وفي الجزء الثالث من الكتاب نبوءات لما سيحدث بعد مقتل المتنبي وفي المستقبل القريب والبعيد. فأي الحلول ستكون هي "المعجزة" في زمن ماتت فيه المعجزات؟ – ليخرج العالم العربي من هذا الظلام. أدونيس: ليست هناك "حلول" تهبط من "فوق"، نبوءات أو تنظيرات. تبدأ "الحلول" من فهم الواقع في عمق وموضوعية. والمشكلة المباشرة، إذن، فيما نواجه، لا تكمن في انعدام "الحلول"، وإنما تكمن في انعدام الفهم – فهم واقعنا وفهم علاقاته بحاضرنا وبتاريخنا، بتاريخنا خصوصًا. وسوف تظل "الحلول" غائبة مادام "تحليلنا" لواقعنا وحاضرنا وماضينا غائبًا. ذلك أن "الحلول" تنبثق حصرًا من هذا "التحليل". وغني عن القول إن هذا التحليل يحتاج إلى عقول كبرى وإلى بصائر نفاذة، تعرف كيف تتقصى المشكلات وتحيط بها من جذورها ومن جميع جوانبها. هاتوا مثلاً هذه العقول وهذه البصائر، وسوف أقول لكما كيف "يخرج العالم العربي من هذا الظلام"، كما قلتما. بعد هذه الرحلة التي تزاحمت فيها رياحُ الأفكار وكأنها في مخاض الخلاص–الشعر، ينهض الشاعر مخلِّصًا ليزيح قبح العالم بوردة اللغة والجمال. ولكن أين تكمن جدوى ذلك كلِّه، وأهم الأصوات الشعرية في العالم العربي هي في منفى أو مهجر؟! وحتى إنْ وصلتْ إلى وطنها – الرحم – تكون قد عُلِّبتْ في كفن سرِّي! أما إذا أرادت الوصول عبر بوابة الرقابة الكبيرة، فإنها ستقع في فخ خدمة "السياسي اليومي". أدونيس: أعمق وأبهى ما في الشعر أنه دائمًا في "المنفى"، حتى وهو في "بيته" وداخل لغته. وليس "منفى" الخارج إلا امتدادًا لمنفى الداخل وتنويعًا عليه. الشاعر "منفي" أبدًا، حتى داخل جسده ذاته! كل قصيدة يكتبها إنما هي "انتقال" من منفى إلى آخر، من "فضاء" انفعالي ورؤيوي إلى "فضاء" آخر. هكذا يظل الشاعر "داخل" ذاته و"خارجها" في آن. "الجمهور" يُبطِلُ هذه المحاولة، يُخرِجُ الشاعر من "داخله" ويقذفه في "الخارج" – لا "خارجه" هو، بل الخارج الغريب الغفل، المتناقض، المسطح: الجمهور. إذا كان هناك عدو للشعر فإنه يتمثل في "الجمهور"، خصوصًا أن الجمهور لا يصغي إلا لهمومه، بوصفه "جمهورًا". أما "هموم" الشاعر، وبخاصة الجمالية–الكيانية منها، فيسخر منها ولا يأبه لها. "الجمهور" نقيض الذاتية والهوية؛ وهو إذن، تحديدًا، نقيض للشعر وللفن بعامة. وكل "جمهور" سياسي بالضرورة – ونحن نعرف السياسة: فمع الشعر العربي الحديث، حولت السياسةُ الشعراءَ إلى مجرد "أصداء" إلى مجرد "طبالين" و"دعاة". *** *** ***
حاوَرَه:
أمل جبوري (شاعرة من العراق تقيم في ألمانيا) |
|
|