|
الغَريزة
والتَّكرار – عملُ الشاعر كلاهما
– الغريزةُ والتكرار –
مُدافِعٌ عن نفسه ومحصنٌ لها: الغريزةُ،
مسحورةً بالإشباع الآني الحال، مضغوطةً به؛
التكرارُ، محبوسًا في لازمنيته الآليةِ
واكتفائه العصيِّ المغري وتدفُّقه. كلاهما،
حالما يبلغ ما ندعوه، في شيوع باهت، بالإتمام
أو الحدِّ الأعلى للتحقق، يبدأ من جديد
المسعى نفسَه – رغبةً وتكثيفًا – إلى تثبيت
الحسِّ على الموضوع عينه ونوال الفعل
المُعادِ الغايةَ ذاتَها. هكذا، أن نكرِّر هو
أن نبدأ. نحن لا نكرِّر ما لا نعرف، ولا نشتهي
ما نجهل. عبر تكرارنا الغضِّ لما خبرناه
وامتلأنا به سابقًا، نتعرف إليه، كما لو لأول
مرة، تحت ضوء ندًى شفاف. ذلك أن البداية –
صلبةً وجذابةً ومجهولةً – كلمةٌ لا تتبدل ولا
تشير ولا تقال. غير أن حاجتنا إلى الإحساس بها
– مشهدًا بريئًا بلا حدود، واكتمالاً
بدئيًّا ناصعًا – تدفعنا إلى تقبيل الجرح في
حميميته المغمضة بالشفاه عينها التي ذاقت
خساراتٍ باهرة، وقد غدت أشهى وأرق وأعمق،
مغمورةً بتألق الكلمة مكرَّرةً على ابتكارٍ
أكثر غزارةً وأشد انفعالاً وأوفر بلوغًا
وأعظم ارتواء. يستعير
التكرارُ من الغريزة، في ليونة اقتدارٍ مسرف،
قوتَها الباذخة، وتستبدل الغريزةُ بالتكرار،
بإحجامه عن التغير، نظامَه الصارم الثابت.
القوة، حتى وإنْ كانت عمياء قاسية، مشفوعةٌ
ومطاعةٌ بالنظام المرفوع – خلال تأمل
التكرار كجوهر صلد صامد ومرن في الآن ذاته –
إلى مستوى مرهف من الاستبطان المنتشي، تدفع
المكتومَ المُكرَه إلى التفتح، والمنسيَّ
الراكدَ إلى التذكر، والخاملَ المعتقَلَ إلى
التحمس والتوقد والنهوض. لا نظامَ
جاهزًا: النظامُ يُبنى حينما تكون حاجةٌ إلى
نظام. لا معنى مباحًا: المعنى – أو بقول جاك
درِّيدا: "أكبر مردود ممكن من المعنى" –
يُسحَب عندما ينفلت ويبتعد وينسحق. ما لا
يُرجَأ قط، ما لا يقبل بكمًا ولا تخثرًا ولا
تقهقرًا، قبضَ ضرورةٍ كاخضلال زهرة سامة
فاتنة، هو ما يحرِّض ويغوي، تحت انجذابات
التخيل السافر، بناءَ قيامة قصوى وإحلالَ
غريزة ليست العفة ولا الخطيئة، بل تدارُكُ
العفة بنبلها الطائش الشريف، وتهشيمُ
الخطيئة بسخفها الأرعن الخطَّاء. والمعنى
الشعري – كم مرة ينبغي توسل الشعر، كم مرة
ينبغي صونُه مثل تحفة نادرة؟! – بلا ضرورة
استقراره على راديكالية غير مستقرة – مكلومٌ
ومساءلٌ ومندغمٌ بمزيج هذه الاستعارة
المزدوجة. يشير ميشيل
فوكو إلى أن حسِّية الخيال تلبِّي حاجاتِ
الجهل الماسة. هنا يمكن قراءة الغريزة من شغف
حسِّية خيالها، ويمكن اعتبار التكرار – عدا
عن كونه صونًا أمينًا لها – قوةً أصلية لا
تعرف النفاد، قوةً تحكم التحولَ مثلما يحكم
الجهلُ بالشيء سؤالَه الجوَّاب المتحوِّل. لا نود النظر
إلى المعنى الشعري بمنطق العلَّة والمعلول،
المبنى والمعنى، السبب والنتيجة. لا نبحث عن
الركون إلى سببية تعطب البحث، مفضيةً إلى
نتيجة متوقَّعة سلفًا. إننا نرى داخل المعنى
الشعري بزوغًا عاجلاً، مسرحًا خاصًّا،
تعيِّنه فرديةٌ شخصيةٌ تستحق الإعفاء من أية
تسمية باتة، حيث يكون العقل، محاصرًا بحاجاته
الإباحية فقط، أذكى وأبهى، أرفعَ وأوجع،
أدقَّ وأرق، أعفَّ وأخف، إذْ يؤسِّس معرفتَه
كما يلبِّي صراخًا روحيًّا ساميًا. نشير، بعد هذا
الطواف المربك، إلى أن التذكر، مصاغًا
بنقائضَ كذهبِ الخيانة الطاهرة، حيث فعالية
الشعر الدافقة، ليس سوى تأويل مضاعف للتكرار
ثرٍّ أثير. الحسية
الأثيرية، أي إثراء الغريزة – عبر وضعها
كمادة موسيقية في سياق تأمل مُصْغٍ إلى طيف
بلا نسبٍ وبلا أصلٍ وبلا وصية –، يكون
بالتركيز على الغريزة نفسها، لا بحَجْبها أو
تبديلها أو تعويضها، على فهم فرويد المختلط
القار. طيفٌ ذهنيٌّ هي الغريزة، فيما تكرارها
يكلِّمها ويبتكرها بصوتٍ نغميِّ النبرة. ذلك
أن الروح – وكلُّ روح إصغاءٌ فريدٌ لصمت لا
يتشابه، حتى عندما تكون في الدرجة الدنيا من
الألم والحيرة – تدرك الدرجةَ القصوى
المبتدأة والمحاطة بغريزة واعية. أي أنها
تتكرر في تكشُّف تام عندما تدرك كونَها
أرضيةً تمامًا، سطحيةً تمامًا في مستوى
المرئي والمحسوس والزائل، على وتيرة احتفال
سخيٍّ، منحازةً ومباركةً بحلم لا يكف عن
استنجاد تكراره، وائلاً موطنًا يحميه، قبل
أيِّ خطر آخر، من الفوضى المحيطة المسعورة
الطاغية. يقيم الشعريُّ – إنْ كانت إقامةٌ –
في التنحي لا في التصدي، في الإزاحة لا في
المرافقة، في اليتم لا في العائلة–الغول، في
التقدم المستتر الخَفِر لا في الوصول الرخيِّ
الناعم، في الإصغاء الوقور النازف لا في
الصراخ المؤذي المفسد. *
* * يفترض
التكرارُ عودةً منفردة، فيها
يُكتنَز ما مضى ولا يعود، ما لا يمكن له أن
يُستعاد قط. يفترض، من خيبة العودة حيث
يتبادلُ الأسى محنةَ التذكر مع منحةِ
النسيان، عودةً معكوسة إلى ما سيكون لاحقًا
فعْلَ نسيانٍ جديد وتذكُّرٍ جديد. يشكِّل
فعلُ التكرار"حدثًا" ممكنًا لفعل يستحيل
أن يوجد كما كان. يبدو التكرارُ مستحيلَ
التحقق، مغريًا وقاهرًا في عدم القدرة على
حدِّه وضبطه وحيازته. وداخل هذه الاستحالة
"المخمورة" المتأرجحةِ الهاوية،
يتجلَّى عملُ الشاعر ويُختبَر وينجز ويتوارى! هكذا، ليس
الجديد فحسب، بل النادرُ، بسماته ذات العرفان
القاسي، مضمارُ التكرار السائل وعراكُ
الغريزة الشاق. الحفظ والوفاء، الشهادة على
الغياب – إخلاصًا لما يُنجَز ولا يهنأ. دونه
لا يملك التكرارُ أيَّ تعلق بما يؤلِّف حين
يعيد استحالتَه غريزةً تأسر الوجود. ربما
وحده التكرار يتعلق بما سيحدث، مستعينًا
ومراقبًا ما حدث بالفعل. يبني التكرار بيتًا
يجدر بالغائب، مكانًا معشوقًا لما ندعوه
المستقبل. لا نريد
الإيحاءَ بتمركُز ما، بانعكاسات الفكر
الجامد ذي "المبادئ الأولية"، أو على
حدِّ تعبير جيل دولوز: "كلما اعتقدنا بمبدأ
أوليٍّ كبير، فإننا لن ننتج سوى ثنائيات
كبيرة وعقيمة." وإذا ما كنَّا مؤمنين، كما
أسلف كلُّ إيمان وأفلس، بأن الخلقَ يتأتى من
تناقُض قوي، فإننا نحصر إيماننا بجاهزية
الخلق المُعدِيَة، بميكانيكيته الشديدة
الخواء، في حين يستوجب الخلقُ الحيويةَ التي
لا تتألق ولا تتعاضد ولا تتماسك دون جذر من
تنوع فعال. بتأكيدنا على
تداخل الاستعارة المزدوجة وتراكُبها (غريزةً
في التكرار، تكرارًا في الغريزة – طهرًا
كالعنف، عنفًا كالبحر، "بحرًا لا ينتن")،
نؤكد على سلالة متنوعة هجينة–صافية، على
تضمين الأبهى والأرقى في الأبسط والأكثر
ديمومةً وزوالاً (جل إبداعات الرحبانَيْن
وفيروز وزياد، مثالاً، مستخلصةٌ كعطر من ثمرة
الزائل المدوِّخة، من غريزة خجولة رقيقة،
وتكرار آسر متجدد). إذا كان ثمة
إيحاءٌ بتوجُّه ما يمكن تحديده لاحقًا، فإنه
يودُّ الإصمات والخلع: إصمات ما يثرثر، وخلع
ما يُقلِق؛ يود الأمومةَ الراعية، الاحتضانَ
الدافئ العزيز. لأجلهما "يصير" التكرارُ
جلاءَ الغريزة، والغريزةُ حصانةَ التكرار.
بهما يكون عملُ الشاعر عملَ لازمةٍ موسيقية،
ركنَ الضبط الملائكي والحراسة الساهرة،
وعليه يعتمد التنوع في الانتشار والتموج في
الهبوب. كُنْ غريزةً، تكرارًا، سفينةً في
رمل، رملاً في العين، عينًا هو البحر. ومن
الانتعاش المبتكَر غير المسبوق، من حسِّيةٍ
تُقارِبُ منحى المتصوفة الغريب، يعثر الشعري
على انتماء حُرٍّ – انتماءٍ يُنسَبُ إلى
الغياب الأكثر كمالاً، الأعمق في لاتعيُّنه،
في تهرُّبه المستمر وتسرُّبه المستمر. حيرةٌ
تنأى عن كلِّ توريث وكلِّ إيراث. مكانٌ في
الشاعر – والشاعرُ في لا إقامةٍ ولا موطنٍ ذي
حدود منجزة، كما أشار موريس بلانشو يومًا في
كتابه الفضاء الأدبي – بلانشو الغريب
والنادر في قراءته التي تكاد أن تمحو
مؤلِّفَها: "ينتمي الشاعر إلى لغة لا
يتكلَّمها أحد، ولا تتجه إلى أحد، ولا تملك
مركزًا، ولا تدل على شيء." عامودا،
حزيران 2007 ***
*** ***
|
|
|