|
القبض
والبسط في الشريعة ميزة
عبد الكريم سروش أنه مفكِّر
تكونت ثقافتُه ومنهجيتُه في البحث من أبعاد
علمية متعددة: فهو صاحب اختصاص في الصيدلة
والكيمياء، ومتابع لأحدث الدراسات الغربية
في علم التاريخ وفلسفة العلوم وعلم المعرفة epistemology؛
وهو، إلى ذلك، ناشط ثقافي سياسي، ومتبحِّر في
علم الكلام والتفسير وأصول الفقه ومتذوق
لأدبيات العرفان التي هي سمة من سمات
الشفافية والتسامي لدى المثقف الإيراني
المتميز. على أن هذه العناصر التكوينية
لثقافة سروش، التي تبدو جلية في كتاباته عبر
الاستشهاد والتوثيق والإشارة، لا تصطف
اصطفافًا كميًّا، بل تتداخل وتتفاعل في نوع
من الوحدة المعرفية التي تتحول بفعل تداخُلها
العميق إلى منهج معرفي متكامل. منطلقُ هذا
المنهج ما تراكم من أفكار نقدية في علم
المعرفة (الإپستمولوجيا) ومن إدراك للقفزات
المعرفية (العلمية) في مختلف فروع العلم،
ولاسيما في علوم الإنسان والمجتمع، وفي
طليعتها التاريخ والأنثروپولوجيا. ومرجعية
سروش الأساسية في تعريفه لنظريته في القبض
والبسط تعود إلى هذا التراكم المعرفي الذي
بدأ مع باشلار في تكوين العقل العلمي، إلى
كون[1]،
إلى پويز، إلى لودڤگ ڤتگنشتاين. يعرِّف سروش
بنظريته في مواقع عدة في الكتاب[2].
ومن أوجُه هذا التعريف أن فهمَنا لكلِّ شيء
متحرك ومتحول (ص 185)، وأن كلَّ نظرية
إپستمولوجية واقعية تقول بـالتمييز بين
الشيء وبين العلم به. ووفقًا لهذا التمييز،
يميز سروش بين الشريعة بذاتها وبين فهمها
البشري، وبالتالي، بين الدين بذاته وبين
المعرفة به، أي المعرفة الدينية. يقول: الشريعة،
باعتقاد المؤمنين، قدسية كاملة وإلهية
المصدر والمنشأ. [...]
أما فهم الشريعة فلا يتصف بأيٍّ من هذه
الصفات، ولم يكن في أيِّ عصر من العصور كاملاً
ولا ثابتًا ولا نقيًّا، ولا بعيدًا من الخطأ
والخلل، ولا مستغنيًا عن المعارف البشرية أو
مستقلاًّ عنها، ومنشؤه ليس قدسيًّا ولا
إلهيًّا، وهو ليس بمنأى عن تحريف المحرِّفين
أو الفهم الخاطئ لذوي العقول القاصرة، وليس
خالدًا ولا أبديًّا [...].[3]
(ص 31) أن تكون
المعرفةُ الدينية معرفةً بشرية يعني أنها
كغيرها من معارف علوم الإنسان والمجتمع. وفي
الفصل الثاني، يشبِّه سروش المعرفة الدينية
بالمعرفة التاريخية، يقول: "إن علم التاريخ
يتطور وتُعاد صياغتُه دائمًا"، ليس لأن
الاكتشافات التاريخية تزداد كميًّا، ولكن [...]
لأن فهم المؤرخ للحوادث يتطور كيفيًّا ولأن
الاكتشافات العلمية الجديدة تفتح منافذ
جديدة للتحقيقات والأبحاث التاريخية.
والمؤرخ المجهَّز بالوسائل العينية
والنظريات الجديدة يتوصل إلى الفتوحات
التاريخية الجديدة. (ص 36) ثم يعود سروش
إلى نقطة "اغتناء العلوم من بعضها بعضًا"
(ص 325). هذه هي حال المتصدي للمعرفة الدينية،
سواء كان فقيهًا أو مفسرًا أو عالم كلام أو
باحثًا من أيِّ اختصاص: عليه
أن يستعين بالتاريخ وبمنهجه، وبالفلسفة وعلم
الاجتماع والأنثروپولوجيا – هذا كله حاضر في
فهم الدين. (ص
43) ماذا يحصل إذا
اصطدمت المعرفةُ الدينية بالمعرفة البشرية
العلمية وحدث التناقض؟ يشير سروش هنا إلى
موقف غاليلِيْ في حلِّ التناقض بفهم جديد
للدين ولدوره. كانت نظرية السموات السبع في
نظر القدماء منسجمةً وعلومَ زمانهم؛ فلما ثبت
بطلانُ هذه النظرية علميًّا سبَّب هذا
لغاليلِيْ ألمًا من جراء التناقض: "فهو كان
يحترم العلم، وفي الوقت نفسه، كان متدينًا"،
فرأى أن الدين "يعلِّم الناس كيف يصعدون
إلى السماء، أي إلى الجنة، ولا يعلِّمهم كيف
تتكون السماء وكيف تتحرك" (ص 48). إذن فالعلوم
العصرية هي التي تطرح الأسئلة على الدين وعلى
الشريعة وتستثير الأجوبةَ عليها: وإن
أسئلة كلِّ عصر هي وليدة علوم ذلك العصر، ولا
يمكن أن تطرأ على بال أحد قبل نضج العصر
علميًّا. وبما أن العلوم تتجدد، فإن الأسئلة،
وثانيًا الأجوبة، تتجدد. ومن هذا المنطلق،
تبقى المعرفة الدينية في تجدد مستمر [...]. (ص 68) التحدي الذي
يواجه سروش هو في مدى مقدرته على تطبيق هذا
المنهج المعرفي على النصوص الدينية، وبخاصة
القرآن والسنَّة. ذلك أن كثرة من الإصلاحيين
المسلمين، منذ أواسط القرن التاسع عشر حتى
اليوم، حاولوا تقديم قراءة تأويلية للنصوص
منسجمة إلى حدٍّ ما مع حاجات العصر، ولكن
المحاولات ذهبت، في جلها، مذهبَ التبرير
الإيديولوجي "الظرفي" المتزامن مع واقعة
أو حدث أو دعوة سياسية أو اجتماعية أو حاجة
اقتصادية؛ وكانت المحاولات، في معظمها،
تتناول حقل الفقه وأحكامه في نطاق من
الاجتهاد الكلاسيكي، كتوسيع نسبيٍّ لحقوق
المرأة، أو الاجتهاد في مسائل الفائدة، أو
تفسير بعض الآيات تفسيرًا تأويليًّا. أما
سروش فإنه يحاول إحداث تغيير في المنهج من
داخل أصول الدين، أي من خلال علم الكلام.
وعُدَّته في هذا الاقتحام الفلسفةُ
والإپستمولوجيا والعلومُ الطبيعية، لأن هناك
تلاؤمًا لدى الإنسان المُعاصر بين معرفته
بالإنسان ومعرفته بالطبيعة والألسنية
والأنثروپولوجيا، وهذا التلاؤم يجب أن يشمل
فهم الإنسان للدين. وأكثر الناس
استهدافًا من هذا الاقتحام هم رجال الدين
الذين يُحمِّلهم سروش مسؤوليةَ بُعد
المثقفين التنويريين عن الدين في تاريخنا
المعاصر. يقول: كي
لا نكون بعيدين عن الإنصاف نقول إن ما أظهره
بعضُ المفكرين التنويريين في تاريخنا
المعاصر من بُعدٍ عن الدين لم يكن سببَه
الحقدُ على الدين، وإنما كان سببُه أن الدين
الذي عُرِضَ عليهم لم يكن مليح الصورة [...]. (ص 108) لذا يستنتج أن [...]
المعرفة الجديدة للإنسان والمجتمع والطبيعة
فريضةٌ على المتكلِّمين ورجال الدين اليوم. (ص
112) ويستعد سروش لـ"مشاجرة"
مع كثيرين من هؤلاء، غير أنه يرى أن [...]
المعرفة الدينية مباراة عقلية محتدمة لا
تتضرَّر من هذه المشاجرات، بل تغتني بها. (ص
123) لا ندري إن كانت
أفكار سروش ستقتصر على إثارة مشاجرة فكرية
فحسب! – ذلك لأن الأسئلة التي يطرحها، من خلال
تطبيق منهج الأنثروپولوجيا اللغوية الثقافية
على النص القرآني، كفيلةٌ وحدها بإثارة مخاوف
جيش عرمرم من رجال الدين وهواجسهم! وهذه سمة
كبرى من سمات شخصيته العلمية الجريئة
والنقدية إلى أبعد الحدود. اللافت في هذا
النقد الجريء دفعُه بتفسير الآية القرآنية:
"وما أرسلْنا من رسولٍ إلا بلسانِ قومه" [سورة
إبراهيم 4] إلى حقل المنهج الأنثروپولوجي
الثقافي، حيث يطالب سروش آية الله الطالقاني
بعدم الاكتفاء بالتأويل الانتقائي للآيات،
بل بما يقتضيه التفسيرُ الأنثروپولوجي
الثقافي لمعنى أن تكون الرسالة بلغة القوم
وثقافتهم (ص 135-136). فماذا يترتب على هذا
معرفيًّا؟ في بحث مستقل
سقط من الترجمة العربية، يوسع سروش هذه
الفكرة الجريئة ويشرحها تحت عنوان "الذاتي
والعَرَضي في الأديان"[4].
لتقديم وجهة نظره في معنى الذاتي (الجوهري)
والعَرَضي وتقريبها إلى الفهم، يتوقف سروش
عند ثلاثة أمثال بلغات ثلاث تفيد المعنى
الواحد، أي الروح أو الذات أو الجوهر. لنقرأ
معه هذه العبارات الثلاث المستخدمة في لغات
ثلاث: -
"كحامل
التوابل إلى كرمان" (مثل فارسي)؛ -
"كآخذ الفحم
الحجري إلى نيوكاسل" (مثل إنكليزي)؛ و -
"كناقل التمر
إلى البصرة" (مثل عربي عراقي). يعلق سروش: المدلول
الجوهري، أو قُل الروح المجردة (الذات) لهذه
الأمثال الثلاثة واحدة، بيد أنها روح ارتدت
ثلاثة أزياء مختلفة تتضمن ألوان القوم الذين
خاطوها وثقافتهم وجغرافيتهم ولغتهم. كما يعلِّق على
المقارنة بين الأمثال الثلاثة، من زاوية
الأخذ في الاعتبار اختلاف الجغرافيا
الطبيعية والعادات والثقافة واللغة،
بملاحظات منهجية ثلاث: -
قوام
هذه الأمثال وهوياتها بمحتواها الداخلي
الثابت. -
المظاهر
العَرَضية تظهر بوجوه وأشكال جد متنوعة. -
مناط
العَرَضي هو إمكان ظهوره بشكل آخر. ويحاول سروش أن
يطبِّق هذا المنهج على النص القرآني، معتبرًا
اللغة العربية والثقافة العربية السائدة حين
نزول الوحي هي المظاهر العَرَضية أو الأشكال
الظاهرة التي يؤدى عِبْرَها المعنى الجوهري.
وهذه اللغة والثقافة العربيتان تتجلَّيان في
استخدام مألوفات العرب وعاداتهم. فعلى سبيل
المثال، يذكر القرآن نساء الجنة بأنهن "حور"،
أي سوداوات العيون ولسن زرقاوات العيون،
وأنهن يسكنَّ في خيام: "حُورٌ مقصوراتٌ في
الخيام" [سورة الرحمن 72]. ويوصي الناس إلى
النظر إلى الإبل وخلقتها: "أفلا ينظرون إلى
الإبل كيف خُلِقَت" [سورة الغاشية 17].
ويعتمد القرآن التقويم القمري، ويتحدث عن
إيلاف قريش ورحلاتها الصيفية والشتوية،
ويحكي عن أبي لهب، ويذكر الدواب التي يعرفها
العرب، كالخيل والإبل والحمير إلخ – كلها
دلائل على أن اللون العربي والرائحة العربية
والخُلُق والعنف والتقاليد والعادات والبيئة
والمعيشة العربية أحاطت بالنواة المركزية
للفكر الإسلامي. ثم يخلص إلى القول، بعد أن
يسهب في ذكر المفردات المعروفة والمتداولة في
البيئة الثقافية العربية في الجزيرة: نحن
هنا حيال مجموعة من العَرَضيات. وعلى الرغم من
طابعها العَرَضي والخارجي، إلا أنها ساهمت
مساهمة كبيرة في تشكُّل المحتوى الداخلي. ما معنى هذا
الكلام؟ يجيب: معنى
هذا الكلام أن لبوس الثقافة القومية، من لغة
وأذواق وأساليب حياة ونقاط ضعف وقوة عقلية
وخيالية وعادات وتقاليد ومألوفات ومسلَّمات
فكرية وخزين لغوي ومفاهيمي، يضيف على جسد
العقيدة والفكر ويخلع عليه نواقصَه
وكمالاتِه لا محالة [...]. ويستشهد بجلال
الدين الرومي عندما يتشكَّى من اللغة في
ضيقها أن تتسع للتعبير عن الوجود: "ليت
للوجود لسانًا يتكلم به"! ويطرح سروش
سؤالاً افتراضيًّا قد يساعد على فهم أبعاد أو
إشكالية اللغة أو الثقافة التي شكَّلت "لبوس"
الإسلام: هل تبقى عَرَضيات الإسلام هي نفسها
لو نزل القرآن بلغة أخرى؟ ويجيب أيضًا: لا
جدال في أن الإسلام لو نزل في اليونان أو
الهند أو بلاد الروم بدل الحجاز لكانت
عَرَضيات الإسلام اليوناني والهندي،
المتغلغلة إلى أعماق طبقات النواة المركزية،
تختلف اختلافًا كبيرًا عن الإسلام العربي
ولوفَّرت الفلسفةُ اليونانيةُ المتينة، على
سبيل المثال، أدواتٍ لغويةً ومناهجية
ومنظومةً مفرداتية خاصة لنبي الإسلام تغيِّر
معالم خطابه، كما أن الإسلام الإيراني
والهندي والعربي والإندونيسي اليوم، بعد
قرون من التحولات والتفاعلات، تمثل أنماطًا
من الإسلام يختلف بعضها عن بعض بشهادة
أدبياتها ونتاجاتها (إلى جانب المشترَكات
فيما بينها). ولا تقف التباينات عند تخوم
اللغة والظواهر، بل تمتد إلى أعماق الوعي
والثقافة الدينية. (ص
191) يصل سروش في
مسار هذا التفكير الإپستمولوجي إلى مأزق
منهجيٍّ خطير ومهم، يترتب، من أجل تجاوُزه،
التفكيرُ في إستراتيجيات علمية كبرى لا تقف
عند حدود الاجتهاد الفقهي والتأويل
الإيديولوجي لبعض الآيات، كما فعل جل
الإصلاحيين الإسلاميين، فرسًا وعربًا
وهنودًا، بل التفكير في لاهوت إسلامي عالمي
جديد، عبرثقافي ومتجاوز للغات القومية
التي صبغت الإسلام طوال قرون بعَرَضيات ليست
من ذاتيات الإسلام، كما يقول سروش؛ لاهوت
يُبقي على الجوهري والذاتي في الإسلام، ولا
يلغي العَرَضي بما هو معطيات تاريخية، لكنْ
يفسِّره بمناهج علوم الإنسان والمجتمع،
ويتجاوزه إلى ما هو عالمي وإنساني ومستقبلي.
يحل سروش هذا المأزق، كما يبدو لي من قراءته،
بالتوجهين الآتيين: 1.
اللجوء
إلى الخطاب العرفاني: لذا يُكثِرُ من
الاستشهاد بشعر جلال الدين الرومي وحافظ
الشيرازي كلما أراد أن يعبِّر عن حالة معرفية
معقدة أو حال إيمانية وتوق إلى الخلاص من
القلق والتوتر. 2.
اللجوء
إلى الفلسفة وإلى إپستمولوجيا العلوم
وفلسفاتها وتاريخ تطورها ليقيم نوعًا من
المنظومة الفلسفية يتعايش فيها، في وئام،
الميتافيزيقيُّ مع نظرية الكون في الفيزياء
الحديثة مع الإيمان الديني. قد ينطبق على
هذين التوجهين ما يقوله باشلار في تكوين
العقل العلمي والتحليل النفساني للمعرفة،
اعتمادًا على قول برغسون بأن [...]
العلم المعاصر هو أكثر فأكثر تأمل في التأمل [...]
وإن الكائن الحي يكتمل بقدر ما يستطيع الوصل
بين حياته المتكوِّنة من لحظة ومن مكان وبين
أزمنة وأمكنة أكبر. إنَّ الإنسانَ إنسانٌ لأن
سلوكه الموضوعي ليس مباشرًا ولا محليًّا،
والتبصر هو شكل أول من أشكال التوقع العلمي. هذه المنظومة
الفكرية تقوم، إذن، على أبعاد ثلاثة في
المعرفة، قُيِّضَ لها أن تجتمع في شخص "متبصِّر"
استطاع أن يصل بين حياته (لحظة بعينها ومكان
بعينه) وبين "أزمنة وأمكنة أكبر": اللحظة
والمكان يتلخَّصان في تأمل باحث علمي scientist
وإسلامي في لحظة ما بعد الثورة الإسلامية في
إيران. والتأمل يجري هنا في دروس التجربة
ودلالاتها، ولكن في ما يتجاوز الراهن
الإيديولوجي والسياسي الذي استولت عليه
طبقةٌ من رجال الدين تحاول تأبيده في مؤسَّسة
حاكمة باسم الدين والشريعة، وفي صيغة "ولاية
الفقيه" ومؤسساتها السلطوية. أما "الأزمنة
والأمكنة الأكبر" فيجري التواصل معها عبر
التأمل في الكون والفلسفة والمعرفة الكشفية (العرفان)
وإپستمولوجيا العلوم المعاصرة، الطبيعية
منها والإنسانية. في هذا التأمل
المتعدد البُعد، تغيب اللحظةُ السياسيةُ في
ظاهر الخطاب، لكنها تبقى حاضرة في إلحاح وعمق
في باطنه وجوهره. فهو إذ يسكت عن السياسي
الراهن، يطرح إشكالية المعرفة – كلِّ معرفة
– بأبعاد إپستمولوجية أشمل. فإذا كانت
المعرفة الدينية هي معرفة بشرية نسبية، فكيف
هي بالحري حالُ المعرفة في مجال التاريخ
والسياسة؟! إن التغير هو القانون الحاكم
في كلِّ معرفة. والنتيجة العلمية التي يوصل
مثلُ هذا التحليل إليها هي أن تكفَّ السلطةُ
يدَها عن كلِّ معرفة: والمقصود بالسلطة أية
سلطة، خصوصًا إذا كانت دينية؛ والمقصود
بالمعرفة كلَّ معرفة، سواء تعلقت بالدين أو
بالطبيعة أو بالإنسان والمجتمع والسياسة. على أن هذه
النتيجة الضمنية، التي سبق لسروش أن عبَّر
عنها صراحةً في كتابات سابقة، هي ظاهرة فكرية
وثقافية يجري جدلٌ غني حولها في المجتمع
الإيراني اليوم. والتساؤلات التي تثيرها هذه
المنظومة الفكرية من زاوية الجدل السياسي
والاجتماعي والثقافي كثيرة: -
ما تأثير
أفكار سروش في الحياة الثقافية والسياسية في
المجتمع الإيراني اليوم؟ وما هو مكانها في
تيار الحركة الإصلاحية الإيرانية؟ -
ما مستقبل
مثل هذه الأفكار في مجتمع إسلامي متديِّن
كالمجتمع الإيراني؟ -
ماذا يعني
نقلُها إلى العربية؟ وماذا كان وقع هذا
التعريب في الثقافة العربية عمومًا، وفي
ثقافة النخب خصوصًا، ولدى الإسلاميين العرب
أيضًا؟ -
هل صحيح ما
يقوله أحد كتَّابنا العرب في مجال المقارنة
بين المشهدين الثقافيين العربي والإيراني؟ –
يقول: إن
المجتمع الإيراني يناضل للخروج من قوقعة
الشمولية، بينما أغلب المجتمعات العربية
تبدو وكأنها تناضل من أجل دخول هذه القوقعة
ذاتها. [...] -
ما
أسباب هذا القحط الملاحَظ في الحياة الثقافية
والسياسية العربية؟ صحيح أن هناك
بعض الإنتاج الراقي والجيد في مجال الفكر
العربي، لكنه إنتاج معزول في دوائر ضيقة، لا
يصل إلى أوساط النخبة الثقافية العربية
ليشكِّل حالة فكرية أو تيارات أفكار؛ في حين
أن بعض الإنتاج العربي الجيد والمعزول
عربيًّا يشهد ترجمةً له إلى الفارسية ورواجًا
ومتابعةً من جانب مجموعات من المثقفين
الإيرانيين. فهل انحصر صخبُ
الثقافة العربية في هذه المرحلة في التعبير
الشعبوي populist
الذي يصدر عن ثقافة الحشود وردود فعلها
الصاخبة على الأحداث وانفعالاتها التي لا
تعبِّر عن أيِّ وعي بالتاريخ وبتحولاته
ومتغيراته ومساراته المستقبلية؟ – حتى إنها
تسقط في فخاخ ثقافة الاستبداد والمستبدين،
كما نشهد ذلك في ما نسمعه على بعض الفضائيات
العربية عندما تتلقَّى هذه ما تسمِّيه "نبض
الشارع العربي" – وهو نبض لا أرى فيه حياة
ولا أملاً، بل صرخةُ النزع الأخير، ربما، أو
حشرجةُ ما قبل الموت! ***
*** *** عن
النهار، الأحد 7 أيلول 2003 [1]
راجع: توماس كون، بنية الثورات
العلمية، بترجمة شوقي جلال، سلسلة "عالم
المعرفة" 168، الكويت: 1992. (المحرِّر) [2]
عبد الكريم سروش، القبض والبسط في
الشريعة، نقلته من الفارسية إلى العربية
د. دلال عباس، منشورات دار الجديد، بيروت:
2002. [3]
يتركز هذا التعريف في معناه في
مواقع عدة من الكتاب، لأن الكتاب، على ما
يبدو، هو مجموعة محاضرات تتكرر فيها
الأفكارُ وتنضاف إليها تباعًا أفكارٌ
جديدة. [4]
تُرجِمَ إلى العربية في مجلة قضايا
إسلامية معاصرة، العدد 22، شتاء 2002، ص 174-208؛
وهو فصل من الطبعة الفارسية الأصلية. [5]
محمد السيد سعيد في رؤى مغايرة، ملف "إيران
ما بعد الإسلامية"، منشورات مركز
القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، 1999. |
|
|