|
التنسيب
والولادات الصوفية يُعتبَر
ميرسيا إيلياد (بالرومانية: مرتشا إلياده) من
كبار علماء الميثولوجيا في القرن العشرين،
وتُعَد كتبُه التي جاوز عددُها ستة وأربعين
كتابًا مراجع لا غنى عنها لدراسة الأساطير
وتاريخ الأديان البدائية. وفي كتابه الذي بين
أيدينا، التنسيب والولادات الصوفية[1]،
يطل علينا دارسًا طقس التنسيب الذي كان
شائعًا لدى القبائل البدائية والجماعات
الصوفية. فما هو التنسيب؟ من الناحية اللغوية، تقابل
كلمة "تنسيب"[2]
التي نحتها مترجمُ الكتاب الكلمةَ
الإنكليزية والفرنسية initiation،
التي تعني تلقِّي المبادئ الأولى لعلم أو فن
يجهله المرء؛ كما أنها تعني دخول الفرد في
عضوية جمعية أو تنظيم باطني بعد أدائه شعائر
وطقوس معينة. ويقترب هذا المعنى اللغوي من
المعنى الاصطلاحي الذي تُفهَم منه، في صورة
عامة، مجموعةٌ من الطقوس والتعاليم الشفوية
التي تعمل على إدخال تعديل جذري على الوضع
الديني والاجتماعي للإنسان الخاضع لعمليات
التأهيل والإعداد الروحي. وهذا يعادل،
فلسفيًّا، إجراء تحول أونطولوجي في النظام
الوجودي للفرد: إذ في ختام الاختبارات
والطقوس المؤهِّلة للتنسيب يولد المريد ولادة
جديدة في عالم الروح ويبدأ حياةً جديدة،
فيرى نفسه متمتعًا بوجود يختلف تمامًا عما
كان عليه قبل التنسيب. إنه، في اختصار، يصير
كائنًا آخر. من خلال التنسيب، يطلع
المُريد على أساطير القبيلة وتقاليدها
المقدسة وعلى تصورها للعالم الذي يجري نقلُه
تدريجيًّا إليه في مرحلة التأهيل. وبذلك ليس
للمعرفة التي يحصِّلها المعنى نفسه الذي
يعطيه زمانُنا لكلمة "معرفة"، بل هي تعني
في المجتمعات البدائية تحصيل العلم المقدس
بالأحداث التي جرت في الزمان القديم وبالصلات
القائمة على المستوى الصوفي بين القبيلة وبين
القوى الأسطورية فائقة الطبيعة. رمزية الموت
التنسيبي إن معظم الخبرات التنسيبية
تستلزم موتًا طقسيًّا متبوعًا بانبعاث أو
ولادة جديدة. واللحظة المركزية في كلِّ تنسيب
تتمثل في الاحتفال الشعائري الذي يرمز إلى
موت طالب التنسيب وإلى عودته إلى عالم
الأحياء إنسانًا جديدًا ينهض لأعباء نمط آخر
من أنماط الوجود. وبحسب السيناريو المتصل
بالطقوس التنسيبية، يقابل الموتُ الرمزي
عودةً إلى حالة العشوائية والسديم Chaos.
وبهذا الاعتبار، يكون الموتُ التعبيرَ
الأمثل عن نهاية نمط من الوجود: نهاية الجهالة
عند الفتى طالب التنسيب وخاتمة لامسؤولية
مرحلة الطفولة. ولهذا بالذات يشكل الموت
التنسيبي نقطةَ انطلاق تجعل من الممكن أن يتم
نقش الإيحاءات المتتالية على اللوحة البيضاء
الخالية في نفس الفتى، بما يؤهِّله لأن يصبح
إنسانًا جديدًا. ويرمز إلى الموت التنسيبي في
الغالب كلٌّ من الظلمات والليل ورحم الأرض
والكوخ إلخ. وهذه الصور تدل على ارتداد إلى
حالة سابقة على تكوين الأشكال وإلى وضعية
كمون الأشياء الداخلة في نطاق السديم البدئي
أكثر من دلالتها على الفناء الكلِّي الذي
يفهمه أبناءُ المجتمعات الحديثة، على سبيل
المثال، من الموت. نماذج التنسيب ثمة ثلاثة أصناف أو نماذج من
التنسيب: 1.
النموذج
الأول يتضمن ممارساتٍ طقسيةً تتيح الانتقال
من الطفولة والمراهقة إلى سن الرشد، وهي
إلزامية لجميع أبناء القبيلة. 2.
والنموذج
الثاني ينطوي على الطقوس المرافقة لدخول
الفرد إلى مجتمع باطني أو جمعية دينية سرية
تكون مقتصرة عادة على جنس واحد، إما ذكور وإما
إناث. 3.
ويتميز
النموذج الثالث بامتلاك دعوة صوفية. وهذا
يعني، على صعيد الديانات البدائية، شعور
الفرد بأنه مدعو بنداء داخلي إلى نيل رتبة رجل
الطب – الحكيم – أو إلى منزلة الشامان.
والعلامة المميزة لهذا النموذج تتجلَّى في
الدور الهام الذي تؤديه التجربة الشخصية –
تجربة الوَجْد – التي تفوق شدةً وعمقًا
التجارب المتاحة لسائر أفراد القبيلة أو
الجماعة. وبذلك فإن هذا النموذج يؤهل لحيازة
وضع ديني واجتماعي يتسم بالرقي والسمو. ينتقل المؤلِّف بعد ذلك إلى
استعراض أشكال التنسيب وتفاصيله والرموز
المتعلقة به في أنحاء وأزمان مختلفة، من
أستراليا وقبائلها، إلى أمريكا الشمالية
وسيبيريا، وكذلك في الهند القديمة وبلاد
الإغريق والعالم الهلنستي، وصولاً إلى
استقصاء بعض الموضوعات التنسيبية في أوروبا
المسيحية في العصور الوسطى. ثم يدرس إيلياد العلاقة ما
بين الأدب الحديث وموضوعات التنسيب، ليخلص
إلى أن هذه الموضوعات حية على وجه الخصوص في
لاوعي الإنسان الحديث. وتؤكد هذا الأمرَ
رمزيةُ التنسيب في بعض الإبداعات الفنية في
مجالات الشعر والرواية والأفلام والفنون
التشكيلية، وكذلك في الأصداء التي تخلِّفها
تلك الرمزية عند الجمهور. يستنتج إيلياد في نهاية
الكتاب أن التنسيب يصاحب، بشكل أو بآخر، كلَّ
وجود إنساني حقيقي، وذلك لسببين: 1.
السبب
الأول أن كل حياة إنسانية حقيقية تتضمن
أزماتٍ في الأعماق وقلقًا وفقدانًا للذات
واسترجاعًا لها؛ 2.
والثاني أن
كلَّ وجود إنساني، مهما كانت النظرةُ إلى
تحققه، إنما يتكشف في إحدى اللحظات كوجود
خائب. إن ما يحلم به الإنسان ويأمل
فيه في لحظات الأزمات العميقة إنما هو تحقيق
تجديد شامل يتيح له تحويل وجوده إلى حال أخرى.
وإنه إلى مثل هذا التجديد تنتهي كلُّ هداية
روحية حقيقية. ***
*** *** [1]
ميرسيا إيلياد، التنسيب والولادات
الصوفية، بترجمة حسيب كاسوحة، وزارة
الثقافة، دمشق، 1999، 264 ص من القطع الكبير. [2]
يميل بعض
كتَّاب معابر إلى أداء معنى التنسيب
بمصطلح "مُسارَرة". راجع في معابر
مقال أحمد تموز "موقع المُسارَرة من علم
الباطن"، كانون الأول 2005، باب "منقولات
روحية". (المحرِّر)
|
|
|