الجزء الثاني

الحكمة الخالدة[1]

 

تمهيد

في منتصف ستينيات القرن الماضي، صدر في القاهرة كتابٌ جيد للباحث عبد الله النجار بعنوان مذهب الدروز والتوحيد[2]، حاول المؤلِّف أن يبسط فيه مذهب التوحيد الدرزي، تاريخيًّا وعقائديًّا، مورِدًا فيه، للمرة الأولى، مقبوساتٍ عديدة من رسائل الحكمة التوحيدية التي لم يكن الاطلاع عليها مباحًا لغير الدروز "المستلمين دينهم". لذا تذرع "شيخ عقل" الطائفة الدرزية آنذاك بالاعتراض على "بعض" ما جاء في كتاب النجار ممَّا عدَّه مخالفًا للمذهب ليطالب بسحب الكتاب من التداول، الأمر الذي حدا بسلطات الأمن اللبناني إلى منع الكتاب ومصادرته في تموز 1965. لكن الكتاب كان قد لقي، قبل مصادرته، استقبالاً حارًّا في الصحافة والأوساط العلمية، الأمر الذي دفع د. سامي مكارم، بالاتفاق مع المرجعية الدرزية، إلى نشر دراسة بعنوان أضواء على مسلك التوحيد[3]، قدَّم لها كمال جنبلاط بمقدمة ضافية، بغرض تصويب بعض "الأخطاء والمزالق" التي وقع فيها النجار، درءًا لتطور الملابسات التي أثيرت حول الكتاب.

وبصرف النظر عن صواب نقد د. مكارم في تصحيح بعض النقاط وتوضيح بعض المواقف الواردة في الكتاب أو عدمه (فهذا ليس من شأننا)، فإن "محاولة" المرحوم كمال جنبلاط في "تفهُّم مصادر وأصول الحكمة والعرفان" على جانب لا يستهان به من الأهمية، وتصلح – إذا استُلَّتْ من مناسبة تأليفها وظروفه، وصُرِفَ الاهتمامُ عن بقيةٍ من "حصرية" درزية متسلِّلة إليها – مقدمةً للتعرف إلى النظرة الثيوصوفية (وجنبلاط كان ثيوصوفي الهوى[4]، كما تناهى إلينا) التأليفية إلى الحكمة القديمة وإلى وحدة الجوهر الروحي المبطِّن للتراث الديني للإنسانية كافة.

كمال جنبلاط (1917-1977)

بعد صدور كتاب د. مكارم، أرسل كمال جنبلاط نسخةً منه إلى الأديب الحكيم ميخائيل نعيمه، فأجابه هذا برسالة (مؤرخة في 24 نيسان 1966) بيَّن فيها رأيَه في المقدمة. وقد ارتأينا إيراد ما جاء في هذه الرسالة نظرًا لأنه يلقي أضواء ذكية، صائبة، على بعض المسائل الواردة فيها، ولاسيما مسألة "الأهلية" للاطلاع على أسرار باطن الدين و"أوان" إذاعة تلك الأسرار. يقول نعيمه:

قرأت كتاب الدكتور سامي مكارم أضواء على مسلك التوحيد الذي تكرَّمتَ عليَّ بنسخة منه، فكانت المقدمة الممتازة التي وضعتَها له أهمَّ ما استوقفني فيه. إذ إنها جاءت عرضًا وافيًا ومركَّزًا للنظرة الباطنية إلى الكون والإنسان، منذ أيام هرمس المصري وحتى أيام آتمانندا الهندي، مرورًا بطائفة من أبرز المتصوفين، المسلمين وغير المسلمين. وجليٌّ أن هذه المقدمة لم تكن غير الخلاصة لدراسات طويلة وعميقة قمتَ بها في حقل من حقول النشاط الإنساني لعله أخصبها؛ ثم لعله أقربها إلى قلبك وروحك، مثلما هو أقربها إلى قلبي وروحي.

لست أجهل الظروف التي دَعَتْ لتأليف الكتاب ووضع مقدمة له من قِبَلك. فهذه لم يخلقها غير صديقنا الأستاذ عبد الله النجار بكتابه مذهب الدروز والتوحيد، الذي تجرأ أن ينشر فيه على الملأ ما كان يُظَنُّ أنه مكتوم من العقائد الدرزية إلاَّ عن الذين اكتسبوا حقَّ الاطلاع عليه – وهم المعروفون بين تبَّاع العقيدة بـ"الأجاويد". ويبدو أن كتاب النجار قد أثار سؤالين كبيرين في أذهان إخواننا الأجاويد:

أولاً – هل يجوز أن تُنشَر العقيدةُ على الملأ؟ – والذي انكشفتْ له قبل ألف عام قد حدَّد فسحةً من الزمان لنشرها، ثم أقفل بعدها الباب، وحرَّم على الذين اعتنقوها، ضمن الفسحة المحدَّدة، أن يبوحوا بها إلاَّ للمستحقين منهم ومن ذرِّيتهم، إلى أن يكون "كشف" جديد.

ثانيًا – إلى أيِّ حدٍّ أصاب عبد الله النجار في عرض العقيدة وما يتفرع عنها، وإلى أيِّ حدٍّ أخطأ؟

أما أنت فقد انبريت إلى الإجابة على السؤال الأول – وهو الذي يهمني – وانبرى المؤلِّف للردِّ على السؤال الثاني – وهو الذي لا أملك المؤهِّلاتِ للخوض فيه، وإنْ كان يشوقني أن أرى الوجهَ الصحيحَ للعقيدة كما يراه أهلُها.

لقد شددتَ كثيرًا على قدسية الحقيقة الروحية كما انكشفتْ لنفر من المستنيرين عبر العصور. وشدَّدتَ أكثر من ذلك على حرمة تلك الحقيقة وضرورة كتمها عن الذين لم يبلغوا بعدُ ذلك المستوى من التفتح الروحي والنضج الخُلُقي الذي يؤهِّلهم لاقتبالها وصيانتها من الفساد – وهؤلاء هم الكثرة الساحقة في الأرض. واستشهدتَ في تبرير هذا التكتُّم هرمس وأسراره، وأسرار دِلْفي، وما جاء على ألسنة عدد من المفكِّرين الباطنيين، شرقًا وغربًا، وبعض الجمعيات السرِّية التي لا تزال على قيد الحياة.

وكان بإمكانكَ أن تستشهد السيد المسيح كذلك، حيث قال: "لا تطرحوا دُرَرَكم قدَّام الخنازير لئلا تدوسها بأقدامها ثم تعود فتمزقكم." [إنجيل متى 7: 6] فما أكثر ما تناول غير المؤهَّلين أسرارًا سماوية فاستخدموها لأغراض شخصية، أرضية، فكان ذلك وبالاً عليهم، وقط لم يكن وبالاً على الأسرار ذاتها. إننا قد نُسيء استخدام الحقيقة، ولكننا لا نستطيع تشويهها. ولنا اليوم في أسرار الذرة خير المثال على ذلك: فقد يهدم الإنسان بالذرة حضاراتٍ متعاقبةً شادها بكدِّ النفس والجسد، ولكنه لن يهدم الطاقة الكامنة في الذرة؛ ولو كان له الفهم الكافي لبنى له بالذرة عبَّارةً من الأرض إلى السماء – من عالم المحسوسات إلى عالمٍ وراء المحسوسات. فهل نقول إن سرَّ الذرة قد انكشف للإنسان قبل الأوان؟ أم نقول إن الذي كَشَفَه قد أخطأ في الحساب؟ ومَن الذي كَشَفَه: أهو الإنسان؟ أم هو النظام الذي يسيِّر الإنسانَ والأكوانَ والذي يحدِّد لكلِّ حَدَثٍ أوانَه؟

وها هو ذلك النظام يذيع ذاته باستمرار، في المحسوسات وغير المحسوسات، دون أقل تمييز بين عاقل وجاهل، وبين مستحقٍّ وغير مستحق. فهل نكون نحن أشد غيرةً عليه منه؟ وفيمَ خوفنا على الحقيقة مادام كل إنسان يتقبل منها على قَدْر حاجته وطاقته؟ وهل كان يومٌ تساوتْ فيه تمامًا حاجاتُ الناس وطاقاتُهم؟

ومن ثَمَّ فمتى كانت الحقيقة قابلةً "للاحتكار" من قِبَل هذه الجماعة أو تلك من الناس؟ أليس أنها كالشمس، تشرق على الأبرار والأشرار بالسواء؟ فشأن البارِّ أن يهتدي بنورها إلى البِرِّ، وشأن الشرير أن يستخدم نورَها للشر – فيلقى الأولُ ثوابَه، ويلقى الثاني عقابَه. إذا كان لنا أن نحتكر نورَ الشمس، أو أن نبيحه للبعض ونحجبه عن البعض، كان لنا أن نحتكر الحقيقة، فنحصر نورَها في طائفة من الناس دون كلِّ الناس. فلا مبرِّر، في نظري، للضجة التي أثارها كتابُ عبد الله النجار، ولا لتحريمه على الموحِّدين وغير الموحِّدين.

على الزارع الصالح أن يلقي بذارًا صالحًا، وليس عليه أن يعرف أين تقع كل حبَّة من بذاره: على الطريق، أم على الصخر، أم في حقل كثرت فيه بذورُ الشوك، أم في تربة كلُّ ما فيها مُهيَّأ لاقتبال تلك الحبَّة[5]؟ وليس مَن يدري – كما تقول العامَّة – "خوف الله بقلب مين". ليس مَن يميِّز المستحق من غير المستحق، ومَن يحدِّد أوان التفتح لهذا الإنسان أو ذاك، إلاَّ الذي عنده علم ما كان وسيكون ضمن الزمان والمكان. ومن ثَمَّ فالحقيقة ذاتها تفرض على الذين اهتدوا إليها أن يهدوا غيرَهم إليها، وتأبى أن تكون مِلكًا لأيِّ إنسان أو لأية جماعة من الناس: "مجانًا أخذتم، مجانًا أعطوا" [إنجيل متى 10: 9].

أرجو أن لا تبدو لكَ هذه الملاحظات السريعة كما لو كانت تقلِّل من قيمة مقدِّمتك في نظري. فحسب الكلمة قيمةً أن تدفع الفكرَ إلى أجواء أبعد وأرحب بكثير من التي نعيش فيها بأجسادنا.[6]

يبقى أن نشير إلى أن ترجمة كمال جنبلاط في "محاولته" لمقتطفات من نصوص الحكيم الهندي الأدفَيتي الكبير شري آتمانندا (التي ظهرت بالعربية للمرة الأولى آنذاك والتي قمنا بتنقيحها هاهنا) يضفي على مقالته قيمةً إضافية[7].

المحرِّر

* * *

 

الحكمة الخالدة 1

محاولة في تفهُّم مصادر وأصول الحكمة والعرفان

 

كمال جنبلاط

 

واعلمي يا نفس أنَّ الإنسان لم يُخلَق لمعنًى من المعاني إلاَّ للعلم والعمل به.

– هرمس

 

شروط الكشف: هذه المقدِّمة التي طُلِبتْ منَّا لهذا الكتاب القيِّم، الذي أشبعه المؤلِّف الصديق الدكتور سامي مكارم درسًا وتقصِّيًا، واستوضح مرتكزاته الرئيسية من مناقشة رجال الدين الفاقهين ومن مشاركتهم في البحث والاستدلال، ما كانت لتتيسر لنا كتابتُها لولا تقديرنا لقيمة ما أورده هذا الكتاب من أبحاث تسهم في التعريف بما يمكن التعريف به من المبادئ العامة لـ"مسلك الحكمة والتوحيد" – وهو الاسم الحقيقي للدرزية – والاحتراز ما أمكن فيما يجب أن يبقى سرًّا مكتنزًا لا تتداوله أيدي عامة الناس ممَّن لا تتفتح أفهامُهم وأذواقُهم لمعناه، ولا تتوفر فيهم شروطُ الأهلية الروحية والاستحقاق الخُلُقي، ولا يرغبون، في جدِّية وإخلاص، بالانخراط في مسلك هذا العرفان: و"لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا ما اكْتَسَبَتْ" [البقرة 286]. وهل تدرَك صورةُ المعاني في مرآة النفس إلا على قدر ما تكون لها بواطنُ العقول محددة ومستعلية، ومشاعرها مرهفة، وصفائح القلوب متطهِّرة، صافية، نيِّرة؟

مناسبة التأليف: وكان ما لقيه كتاب مذهب الدروز والتوحيد، لمؤلِّفه الكريم الأستاذ عبد الله النجار، من جدل وملابسات، دافعًا لتوضيح بعض هذه المبادئ العامة والمواجهات المشرفة الرئيسية.

وكان تعاون الدكتور سامي مكارم مع بعض رجال الدين والعلم الموحدين هو طابع الجِدَّة والجدِّية في مثل هذا المسعى والتأليف، ومثالاً يحتذي به مَن يريد الكتابة في مثل هذه الأمور الدقيقة، إذا كان يحرص أن يراعي ويقدِّر، في آنٍ واحد، حرية الرأي وحرية المعتقد وحرية معتنقيه وحرمتهم، ويهدف إلى التعرف الأصيل الداخلي، بنظرة أبناء التوحيد أنفسهم، إلى معتقدهم وتوحيدهم. والمسالك الروحانية، كالعقائد في الأديان والمذاهب، هي وجهة نظر شخصية، فردية داخلية subjective، أكثر منها وضعية في المعنى الغرضي للكلمة. وللراغب في التأليف فائدة ومصلحة في أن ينظر إلى المعتقد ويعتبر المسلك من منطلق وجهة نظر معتنقيه. والأصوب طبعًا أن يكون هو ذاته مؤمنًا موحِّدًا لكي يصحَّ له هذا التزاوج والتناغم، في الفهم والإدراك، بين العقل والقلب، بين العاطفة وخيال التصور، بين حدس الذهن وتوق الإرادة. وفوق ذلك، فإنه يكون لمثل هذه المشاركة في التأليف والمبادلة المثمرة في الرأي بين المؤمن الموحِّد والمؤرخ، المؤلِّف والمتعبِّد، وتداخُل هذه المواجهات وتجاوُب بعضها بعضًا، في سعي التقصِّي والتدقيق واستجلاء الغامض، ما يلقي ضوءًا سليمًا واقعيًّا، أي حقيقيًّا، على مفاهيم المعتقد.

ثم إن هذه المشاركة في التفكير والاستشعار والتصور والتأليف، بما ينجم عنها من حال ذوقيٍّ رفيع، تمكِّن من التوفيق المحمود بين حرية الرأي والنشر، من جهة، وحرية المعتقد وحرمته وحقِّ معتنقيه، من جهة أخرى. ومن البدهي، كما سبق وأشرنا، أن لحرية الرأي حرمة، كما أن لحرية المعتقد وحقِّ معتنقيه أيضًا حرمة، ومن الضروري ألا تُناقِض إحداهما الأخرى.

ومن المنتظَر والمعقول أن تبرز مثل هذه المحاولات على يد بعض الأمناء الروحانيين لنشر ما يمكن نشره، وما يأذن به الموحِّدون العقَّال، وما يفرضه تطور أحوال الزمان، لكي يتوفر لكلِّ راغب في الاستطلاع الروحي وفي التعبد والتجرد والإدراك المعنوي أو التعمق في المعرفة والمكاشفة أن ينجذب إلى ما يبين له وما يتكشف من طُرُق واستنارات، يتعرف من خلالها إلى البدايات، ويستهدي بإشاراتها وعلامات دلالاتها إلى "الصراط المستقيم" الخفي.

فريضة الوعظ وحدودها: ونعتقد، مخلصين في ذلك، أن في هذا التوجُّه والسعي واجبًا يترتب على المشايخ والمسؤولين الروحيين ونفر من المثقفين الذين تتوفر فيهم الأمانة الروحية ويستطيعون الولوج في مثل هذه الأبحاث المفيدة الشيقة الدقيقة، وأن عليهم أن يعكفوا على هذه المشاركة في التأليف والعمل وأن يوحِّدوا جهودهم في التبيان والاستطلاع إذا أردنا أن نتجنب أو نتفادى قيام عزلة فكرية وفاصل معنوي بين هؤلاء المسؤولين الروحيين وبين رعيل من المثقفين بالعلم العصري المادي، وإذا شئنا فعلاً أن نقوم بما نلتزم به، دينًا ودنيا، من فروض الوعظ والإرشاد والتنوير التي يحتِّمها واجبُ الضمير ومتطلباتُ المعتقد ذاته. وكيف يتسنى لمن لا يعرف شيئًا عن مبادئ دينه العامة أن يسترشد به، وأن ينطبع بقالبه، وأن يتشخَّص في صورته، وأن ينتسب روحيًّا – وحتى اجتماعيًّا – إليه، دون أن يتجاوز أحدٌ، في كلِّ حال، حدَّ ما لا يحق كشفُه إلا للمتعبدين الصدِّيقين والصالحين المحترزين، أي للمريدين: "وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ" [الذاريات 56]، أي على حدِّ تعبير أحد كبار الصوفيين: "إلاَّ ليعرفونِ". على أن هذه المعرفة، كما سبق وأشرنا، نوعان: معرفة عقلية أو عبادة صورية، وذوق عرفاني؛ أو كما كان يقول الشبلي: "المحب إذا لم يتكلم هلك، والعارف إذا تكلم هلك." أو قوله، رضي الله عنه: "مَن طَلَبَه به تعالى صحَّ توحيدُه، ومَن طَلَبَه بنفسه لم يصح له توحيد"، على أنه وقف في مقام الدين. أما الطلبة الأولى فهي منه إليه، لا تستنفر إليها سوى الخاصَّة المختارة والصفوة المتقربة، كما روى ابن حضرويه – رضي الله عنه – عن أبي يزيد البسطامي: "ما كلَّمتُ أحدًا من الناس إلا دعوته إلى الله ثم كلَّمتُه، إلا أبا يزيد: فإنِّي متى أردت أن أكلِّمه دعوتُه من الله ثم كلَّمتُه." أو كما وَرَدَ في توحيد الأوپنشاد الهندية:

كلاَّ إن هذا الآتمَن [أي الذات الجوهرية] لا يُكتنَه بالعقيدة، ولا بتقديم الأضاحي، ولا بتعاليم كثيرة. لا يكتنهه إلا الذي هو اختاره: فالآتمَن هو الذي يكشف له طبيعتَه الخاصَّة [فقرة 3 من III – 2] بنعمة المعرفة [فقرة 8 من III – 1، أوپنشاد مُنداكا].

أو كما جرى على لسان الصوفيين وفي عرفهم[8]:

من سارَرُوهُ فأبْدى كلَّما سترُوا       ولم يُراعِ اتِّصالاً كانَ غشَّاشَـا

مَن لم يَصُنْ سـرَّ مولاهُ وسيِّده      لم يأمنوهُ على الأسرار ما عاشَا

وعاقَبوهُ على ما كـانَ من زَلَلٍ      وأبدَلوهُ مكـانَ الأُنْسِ إيحاشَـا

ولابن عربي في المعنى ذاته:

فافهم فَدَيتكَ سِرَّ اللهِ فيك ولا                   تُظهِرْه فَهوَ عَنِ الأغيار مكنونُ

وغِرْ عليه وصُنْهُ ما حَيِيتَ بهِ        فالسِّـرُّ مَيْتٌ بقَلبِ الحُرِّ مدفونُ

أو كما عبَّر عن ذلك الحسين بن منصور الحلاج – قدَّس الله سرَّه – في صلاته الشهيرة قبيل استشهاده:

وهؤلاء عبادك قد اجتمعوا لقتلي تعصُّبًا لدينك وتقرُّبًا إليك – فاغفر لهم. فإنك لو كشفتَ لهم ما كشفتَ لي لما فعلوا ما فعلوا، ولو سترتَ عني ما سترتَ عنهم لما ابتليتُ بما ابتليت. فلك الحمد فيما تفعل، ولك الحمد فيما تريد.

السريَّة في المسلك: وهذه السرية كانت نهج حكماء الهند ومصر القديمة والصين وإيران واليونان وسواهم من الأقوام، ولا تزال ميزة مَن لا يزالون تعمُر حياتُهم وأرواحُهم بمسلك الحكمة القديم المتصل المتجدد أبد الدهر.

والسبب الجوهري لمثل هذه السرية ليس هو "التقية" بمعنى الخشية، بل الصفة الملازمة لهذا العرفان ذاته الذي هو محض اختبار، ولا يتحقق إلا في سرِّ البصيرة العقلية والخاطر. ولا يرتقي إلى مثل هذا المقام علمُ العقل والمادة والغرض، بل ذوقُ عرفان هذا المقام، كمن يسير وينجذب إليه في آنٍ واحد، أو يجذبه هو إليه من فنائه إلى بقائه، ومن عقله المتبدل إلى يقظته التي لا تبدأ ولا تتبدل ولا تزول[9]:

أنتَ بينَ الشِّغافِ والقلبِ تجري       مثل جَريِ الدُّموعِ من أجْفاني

وتُحِـلُّ الضَّـميرَ جوفَ فُؤادي       كحُلولِ الأرواحِ في الأبْـدانِ

* * *

يا موضعَ النَّاظرِ من ناظِري          ويا مكانَ السِّرِّ من خَاطِري

* * *

مَواجيد حـقٍّ أوجدَ الحَقُّ كلَّها        وإنْ عجزَتْ عنها فُهومُ الأكابِرِ

وما الوَجـدُ إلاَّ خطوةٌ ثم نظرَةٌ        تنشِّي لهيبًا بين تلكَ السَّـرائِرِ

إذا سكَنَ الحقُّ السَّريرةَ ضُوعِفَتْ      ثلاثَةُ أحْوالٍ لأهـلِ البَصـائِرِ

فحالٌ يبيدُ السِّـرَّ عن كُنْهِ وَصْفهِ     ويحضرُهُ للوَجْد في حالِ حائِرِ

وحالٌ به زمَّت ذرَى السِّرِّ فانثنَتْ      إلى مَنظرٍ أفنـاهُ عن كلِّ ناظِرِ

ولا نجد للتفريق والتمييز بين المواجهتين، السفلية والعليا، الدنيا والمتدلِّية، في توجُّه العامة ومسلك الخاصة أفضل من قولهم[10]:

وأيُّ الأرضِ تخلو منكَ حتى           تَعالَوْا يَطلبُونَكَ في السَّـماء

تَراهم يَنظـرُون إليكَ جَهرًا           وَهُم لا يُبصرُونَ مِنَ العَمـاء

والفارق أيضًا، إذا استطعنا الإشارة والدلالة، هو أن هذا "التوحيد المحض" [الأدفيتا فيدنتا]، أو مسلك الأحدية، "ليس مذهبًا دينيًّا"، على حدِّ تعبير الحكيم شري آتمانندا الفيدنتي – ونستعيره لأن هذه الشروح أوضح من سواها – وهو:

الفيدنتا ليس مذهبًا على الإطلاق. الفيدنتا يعني غاية المعرفة. هو الحق وحده الدالُّ على الحق. وهو لا ينازع أيَّ دين، بل يقول فقط لجميع المتديِّنين: "يا صاحبي العزيز، على قدر ما ذهبتَ إليه أنت على صواب. لكنْ رجاءً ارتقِ أكثر." الفيدنتا لا يختص بأيِّ دين بعينه، بل يستعلي عن الأديان جميعًا، وهو في الواقع غاية جميع الأديان. إن الفيدنتا وحده، الذي يدوم بوصفه الخلفية، هو الذي يهب الحياةَ للأديان طرَّا.[11]

المسلكان الرئيسيان للعرفان والتوحيد: ولا يفوتنا أن نوضح أن مسلك الحكمة والتوحيد المحض، في الأوَّلين وفي الآخرين على حدٍّ سواء، هو على نهجين في الاقتراب من الكشف والسعي إلى نيل الحقيقة الأخيرة وفق تحديد مذاهب الحكمة القديمة:

-       النهج أو الطريق "الكوني" Cosmogonic Way، أي التعرف إلى الذات الجوهرية من خلال تحليل الكون ومفهوم الخالق والخليقة، ارتفاعًا من الكثيف إلى اللطيف، ومن المفهوم الفكري لروح الكون، الذي نسمِّيه المولى أو الله، إلى الجوهر الفريد الساطع في كلِّية مجده: برهمَن أو الحق.

-       النهج أو الطريق "المباشر" الذي يقصد التعرف إلى الحق – تنزَّه وتعالى عن كلِّ تنزيه واعتلاء – من خلال الإنسان ذاته ومن معراج الروح الإنسانية التي يسكنها الحق تعالى أو الآتمَن العظيم، كما يسكن هذا العالم بأسره، إذا جاز لنا القول، وينيرها كما ينير كلَّ ذرة من ذراته. "اعرف نفسك"، على حدِّ ما كان منقوشًا على مدخل هيكل دلفي Delphi الشهير في يونان الحكماء الأقدمين وفي حقيقة ما يعبِّر عنه الشاعرُ في قوله:

دواؤكَ منكَ وما تَشعُـرُ     وداؤكَ فيكَ وَمـا تُبصرُ

وتَزعمُ أنك جِرْمٌ صَـغيرٌ    وفيكَ انطَوَى العالمُ الأكبرُ

أو قول الآية القرآنية الكريمة: "وَفي أنْفُسِكُم أفَلا تُبْصِرُونَ" [الذاريات 21]؛ والآية: "وَنَحْنُ أقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ" [ق 16]؛ و"مَن عرف نفسه فقد عرف ربَّه" (حديث)؛ و"إن للربوبية سرًّا، هو أنت، يخاطبه كل عين، لو ظَهَرَ لبطلت الربوبية" (سهل التُّستري).

وهاتان المواجهتان للحقيقة الأخيرة أو للوجود الحقيقي تعمر بهما وتتَّسم مسالكُ جميع أرباب العرفان والحكمة منذ أقدم العصور. فتارة يكون النهج "الكوني" هو السائد عند فريق من العارفين، وأخرى يكون النهج "المباشر" هو الذي يتَّبعه ويوحي به أربابُ المعرفة الأخيرة. وكلتا المواجهتين واحدة في الوصول إلى الغاية والتحقق بالجوهر المبدع الأصيل. وأحيانًا يكون الأسلوبان والنهجان مختلطين ومتمازجين، كما هو واقع بعض طُرُق العرفان والحكمة في الصوفية الإسلامية ذاتها وفي التوحيد الدرزي. و"العقل الأرفع" vidhya vritti، أو "العقل الكلِّي"، أو "المطاع"، على حدِّ تسمية الغزالي – رضي الله عنه –، هو الناظر والمنظور من خلاله في آنٍ واحد وفي كلِّ حال، البصيرة والمجهر. فالذي يريد معرفة حقيقة الماء يستطيع ذلك وفق قول شري آتمانندا:

النفوس الفردية، كالأمواج في البحر، تنوجد، ترتفع، ثم تسقط، يقارع بعضُها بعضًا ثم تفنى.

تولد الأمواج وتحيا وتموت في البحر ذاته، وتولد النفوس الفردية وتحيا وتموت في المولى.[12]

يمكن بلوغ الماء مباشرة من خلال الموجة باتباع الدرب المباشر. فإذا اعتمدنا الطريق عِبْرَ البحر نكون في حاجة إلى زمن أطول بكثير.[13]

هذا ما يجب دائمًا أن نتنبَّه إليه عندما نقرأ أقوال الحكماء والعارفين، لكي نستطيع الفهم والتمييز ولا نتعثر في إدراك اختلاف المسالك.

الثنائية المعتدلة: وتجب الإضافة أن بعض التوجهات تتوقف أحيانًا عند الإطلالة الأولى أو الثانية من الطريق، فلا تعبُر تمامًا واكتمالاً من الثنائية والازدواجية الظاهرة والباطنة إلى الأحدية الصرف. ويسمون ذلك "الثنوية المعتدلة" Semi-dualism.

سبب السرِّية: ومن القواعد الألفية المكرَّسة في مسالك الحكمة والعرفان أن يحافظ المؤتمَنون على السرية لسبب جوهري توضحه الكتبُ المقدسة:

تهيب الكتب المقدسة بالمجاهدين الروحانيين "ألا ينطقوا بالحقيقة المجرَّدة لأشخاص يغلب عليهم الفكر" لأن الحقيقة تتأذَّى من جراء ذلك. أمثال أولئك المستمعين يؤوِّلونها بحسب النسبية الموضوعية المعتادة التي لا يعيشون إلا فيها. إنهم يجدون أن من المتعذر مصالحة الحقيقة على هذا النحو. إذ ذاك يبدؤون في الهزء من الحقيقة نفسها، وهذا بالطبع يقودهم إلى التهلكة. لذا عليك أن تحاول تجنُّب مثل هذه الكارثة مهما كلَّف الأمر.[14]

* * *

الرد على الفكر بالفكر: هذا الكتاب القيِّم الذي نقدِّم له برز من ضرورة رفع مستوى النقاش والجدل والصخب المؤسف الذي أثاره كتاب مذهب الدروز والتوحيد، وتلبيةً لرغبة معظم إخواننا الموحدين (الدروز) وسواهم ممَّن شاقهم الأمر واهتموا به، وتحقيقًا لطلب المؤلِّف الكريم الأستاذ عبد الله النجار ذاته وهذا الفريق من المثقفين في الطائفة، كما جاء تتميمًا لمشيئة الهيئة الروحية الجليلة.

وكانت مناسبةُ اجتماع ضمَّنا إلى بعض رجال الدروز من ذوي المعرفة والمسؤولية والدين في دارنا، في بيروت، في سعينا إلى تهدئة بعض الخواطر، ولكي يُرَدَّ على الفكر بوسائل الفكر. فأوكِلَ أمرُ درس هذا الموضوع إلى بعض الإخوان الحاضرين، من عقَّال وزمنيين، نخصُّ منهم الصديق الدكتور سامي مكارم الذي يجمع في شخصه المعرفةَ والإيمان. فجاء كتابه في نهجه العلمي أفضل إيضاح لما يبتغيه الموحِّدون من بحث في هذا المعتقد الشريف. وكان ما نحن بصدده نتاجَ هذا الاجتماع وهذا المطلب وهذه الأمانة.

منطلق الإصلاح: وتملؤنا الرغبة ويحدونا الأمل بأن تتحول يومًا هذه البناية الضخمة الجميلة المسماة "دار الطائفة" إلى جامعة روحانية أو كلِّية مذهبية وشرعية وروحية ومنتدى للتنقيب والبحث والاستطلاع في مختلف بطون فلسفات الشرق واليونان، على شاكلة مجالس الحكمة عند الأولين أو "دار الحكمة" التي أنشأها مولانا الحكيم الحاكم بأمر الله على مثال "أكاديمية" أفلاطون – عليهما السلام – أو أندية الصوفية العارفين والمتحققين – رضي الله عنهم – في حِمَى الإسلام الحنيف.

ففي مثل هذه المنتديات والملتقيات، تنمو الشعلة الروحية الضرورية لكلِّ تطوير وتزهو، وتكون البداية الحقيقية لكلِّ إصلاح أو تجديد أو تعميق – أو سَمِّه ما شئت – للمفهوم التوحيدي العرفاني الدرزي، الأصيل والعميق في جذوره التاريخية. وإلا فإن محاولات الإصلاح القائمة، مهما سَمَتْ وطابت نواياها وازدهرتْ شعاراتُها وشادت في ظاهر الأمر، – وهي مازالت لا تهدف في معظمها سوى هذا الظاهر الحسِّي من الأشياء، – ستخيِّب الآمال وستُمنى بالفشل.

وكيف يستقيم إصلاح الظاهر وتطويره إنْ لم ينطلق السعيُ من الباطن وسمطه وروحه؟! أو كيف يصح للمصلحين أن يصلحوا، وهم يتعاطون معالجة الأمر من الخارج؟! – كمن يحاول بناء هيكل من الحجارة للصلاة قبل أن ترتفع في نفسه صلاةُ هذا الهيكل ذاته، أو كمن يبتغي اقتناء قيثارة ثمينة وهو لا يُحسِن اللعب على أوتارها ليستجلي منها ألحان جنة قلبه وخياله.

* * *

الإصلاح الحقيقي وشروط الولاية الروحيَّة: وهؤلاء الذين يبتغون الإصلاح صنفان، وكلاهما مشغوف بكلمتي التنظيم والتجديد:

الأول يحاول تنظيم جماعة العقَّال والنسَّاك والتقاة والموحدين على مثال ما استوحى من النظام الكنسي الإكليركي – وهو أمر غير مرغوب فيه، ويناقض سنَّة السلف الصالح. إنما يجب أن يُترَك للعقَّال أمرُ تقرير عاداتهم وطقوسهم وسيمهم وسُننهم الألفية وما يرتضونه من تطوير في ذلك يقتضيه تبدل أحوال الزمان وشيوع المعرفة العلمية.

وكل إصلاح حقيقي في هذا الباب يكون بالعودة إلى نظام السلف الصالح والمشايخ السابقين – و"لا إكراه في الدين" [البقرة 256]. والتنظيم الطقسي إلزام لا مبرِّر له في حدِّ ذاته. إنما المؤمنون هم جماعة من "الفقراء"، في المفهوم المعنوي أو المجازي للكلمة: أي أنهم تجرَّدوا ما استطاعوا من الرغبة في فائض الدنيا وبهرجة حلالها، وترفَّعوا عن انجذاب الجاه والمال والمجد الخارجي وشهوة الحواس، إلا فيما أجازتْه الطريقةُ لهم وأذِنَ به أدبُ السلوك. فهم على شاكلة المتصوفين المسلمين المتقدمين: فيجب أن تكون لهم الحرية في اتِّباع أفضل السبل وخير المسالك إلى ما يتطلعون إليه من التحقق بالمعرفة الروحية، والتمرُّس بالفضيلة، والتجمُّل بالتقوى – وهي اتِّقاء في جميع الأحوال، وهي "التقية" الحقيقية.

وقد تتنوع مسالك اليوم في تفرعاتها وفق حاجة العصر وتبدُّل الظروف الاجتماعية والأزمنة؛ ولكلٍّ منها درجات ومقامات والتزامات. فلا يجوز أن يُفرَض على الموحدين، ضمن هذا الإطار الشامل للتوحيد، سَمْتٌ واحد وتقليد واحد وهذا التنظيم الطقسي الذي هو أبعد ما يكون عن حقيقة المعتقَد وروحه وتقليده وتوجيهه.

بل إن على الرئاسة الروحية فريضة الإرشاد والوعظ والتوجيه واسترشاد الأفضل من مقام الأوَّلين الصالحين ومثالهم. ويجب أن تبقى الولاية الروحية الحقيقية للمجلِّين والمتفوِّقين على أقرانهم من المشايخ والعقَّال والمؤمنين والسبَّاقين في مجالي الحكمة والفضيلة. إنما المعتقد الدرزي أو التوحيدي، فوق كلِّ شيء، هو مسلك للتحقق بالعرفان والولاية الروحية والحكمة الزاهرة. أما "الزعامة الروحية"، في المعنى المعروف الشائع، فإنها لا تنطبق على المفهوم التوحيدي الدرزي الأصيل. بل إن الزعامة الروحية الحقيقية هي نقيض الزعامة الوجاهية في القصد الزمني العادي المنطوي على فكرة الرئاسة والمؤسَّس على السلطة والجاه.

هذه الزعامة الروحية الأصيلة هي اشتقاق معنوي وامتداد تاريخي تقليدي لفكرة الإمامة، أي الرشد والحكمة وسلطة التوجيه والتقويم لمن تكون له، من ذاته ومن تحقُّقه وعرفانه، مكنةُ التوجيه وحقُّه واستحقاقه. وهي نوعان: ولاية تنظيم ورعاية للمصالح الشرعية والروحية الظاهرة للجماعة – ولاية القسط فيما بينهم بالعدل؛ وولاية استرشاد بالمثل الأفضل، واهتداء بالولاء الأرفع، واستئناس بالعرفان الأعلى وبالتوجُّه الأصفى. والأفضل والأصح والأنسب طبعًا، والأقرب إلى تمثيل فكرة "الإمامة"، هو قيام الولايتين ووجودهما وتوحُّدهما في الشخص ذاته. فهكذا كان واقع المشايخ السابقين: فالهداية ولاية في حدِّ ذاتها، تفرض نفسَها ولا تُستبعَد ولا تُنكَر.

ويجب أن يبقى أبناء التوحيد محافظين على هذا التكريس والتهيؤ التقليدي والاجتباء الإنساني لفكرة الولاية. لأنه، في النهاية وفي الحقيقة، لا ولاية على الموحدين ولا على الأنام كافةً إلا للعقل الأرفع – صلوات المهيمن عليه: "إنَّها لنفوس اطمأنَّت بسلام نار قدسيَّتها العليا، بجمال كمال إنسانيتها."

العقل الأدنى والعقل الأرفع: أما "العقل" الذي نعني فليس هو العقل في المعنى العادي للكلمة، أي هذه الوظيفة التي تمكِّن من القياس والمقارنة والتمييز والمحاكمة فيما بين أغراض الحواس ومعقولات الفكر، وللاتصال بشؤون هذه الدنيا والتعاطي بأحوالها، والتمكُّن من معالجة ظروف العيش على تنوُّعها. إنما العقل المقصود هو العقل الأرفع: هذا الفيض اللطيف والصورة البسيطة النورانية المتجلِّية في كلِّ حين، وهذه الأداة الإشراقية الرفيعة Supreme Organon، على حدِّ تعبير بعض الحكماء الأصيلين، التي ترجع أحكامُها، وتعود في تقييم موازينها واستنتاج تمييزها وتحليل تجريدها وفصلها ووصلها وقطعها، إلى الحقيقة السرمدية ذاتها، الكامنة في عين نفوسنا واختباراتها، وتتنزَّل منها.

فالعقل العادي يتوجَّه إلى الخارج، ويسترشد في منطقه باختبارات أغراض الحواس وما تعكسه من معقولات عن الدنيا، في إدراكها وفي مرآة الفكر والتذكُّر. وهذه الأشياء والأغراض هي في دورة التبدل والتحول الدائم؛ ولولا هذا التبدل والتغير لما كانت في الظاهر. أي أن هذا العقل العادي يستهدي بنور الدنيا واختباراتها.

أما العقل الأرفع فيستهدي ويستوعب بالحقائق الثابتة وبالاستطلاعات الأزلية المشرفة والاختبارات والتأمُّلات المتجلِّية من الجوهر الكامن في غلاف العقل الظاهر، أي عقلنا الأدنى العادي، ككمون النار في حجره:

هذا، الشاهد على كلِّ شيء،

هذا، نور ذاته،

في غلاف العقل،

على الدوام يسطع.[15]

وهذا العقل الأرفع هو في صلة واتصال دائم بهذا الجوهر الفرد الفريد، لأنه مدُّه وامتداده، وفيضه ونوره فينا، لا ينفصل عنه ولا يجانبه ولا يستتر في مكاشفته لحظة؛ بينما العقل العادي يتناول في اختباراته العَرَض والظاهر، هذا الذي من طبيعته وإبداعه أن يتبدل ويتحول ويفنى في كلِّ آن.

العقل الأرفع والولاية: ولا تكون ولايةٌ ولا تقوم هدايةٌ ولا تستوي إمامةٌ روحية أو زمنية إلا بالاسترشاد بفيض هذا النور الأول وتنزُّلاته في بيوت قلوبنا وفي معارج هذه النفس الشريفة التي أبدعها من نوره، كقبس منبعث من الشعلة الجوهرية السرمدية، لا تنفصل عنها، وإلا ضلَّت وامَّحقتْ ولحقها العدم.

عيوب الإصلاح السطحي: وصنف آخر من المصلحين – وبعضهم من المثقفين بثقافة العصر العادية السالكة – يحوِّمون من الخارج على الأمانة المستودعة التي خلَّفتْها الأجيال بين أيدي أولي التوحيد والمؤتمَنين عليه، ويدورون حول سدرة المنتهى المستغلقة عليهم، ويرتئون أو يحاولون – باسم هذه الثقافة العصرية العامة السالكة – أن يعالجوا الموضوع، وهم خارجون عن حلقة إدراك التوحيد وبعيدون عن مسلكه وجاهلون (أو متجاهلون) لمضمونه في كلِّ حال.

وهذا الفريق يستوحي ما يبتغيه ويرتئيه من تطوير وإصلاح من بعض مفاهيم المجتمع الحديث وأنظمته ومؤسَّساته الدينية والزمنية. وهؤلاء لا يتنبهون إلى أن هذا المجتمع وأربابه ونخبته الواعية أخذوا، أكثر فأكثر، يحاولون التخلص من مغريات هذا النظام ومفاسده الانحلالية وآفاته وأضراره في عيش الإنسان وفي صحته وفي طباعه وخُلُقه وتوجيهاته، وحتى في سلالته، وهم يستغيثون مما جرَّتْه هذه الحضارة المادية، المتضمِّنة اختلاط القيم، وفوضى الحرية الفردية، والابتعاد عن الأرض وعن الطبيعة، وانهيار مؤسَّسات المجتمع الطبيعية، من بلايا عبَّر عنها كتابُ العالم المعروف الدكتور ألكسيس كاريل [الإنسان، ذلك المجهول] بشكل خاص، ولا أبلغ ولا أوقع من قوله:

لأن الإنسان عاجز اليوم أن يتَّبع هذه الحضارة في الطريق الذي تتوغل فيه، لأنه ينحط فيها. وإذ بَهَرَه جمالُ علوم المادة الجامدة، لم يفهم أن جسمه ووعيه يمتثلان لقوانين أكثر غموضًا من قوانين عالم الأفلاك، وإن لم تكن لا تقل عنها حتمية، وأنه لا يستطيع أن يخالفها من غير أن يعرِّض نفسه للخطر. [...]

فانتباه البشر يجب أن يتحول من الآلات ومن العالم المادي إلى جسم الإنسان وروحه، إلى السيرورات الفسيولوجية والروحية التي لولاها لما وُجِدَتْ الآلات ولما وُجِدَ كونُ نيوتن وأينشتاين.[16]

تنظيم أهل العرفان في الأوَّلين: ثم إن للموحِّدين، على يد بعض الخلفاء الفاطميين وقبلهم في الأدوار السابقة من تنزُّلات الحكمة عبر التاريخ، تنظيمًا خاصًّا بهم مستمدًّا من سُنَن وقواعد وأنظمة ومعرفة بالروح الإنسانية، أثارت جميعها دهش المؤرخين وإعجاب أساتذة التنظيم وقادة الجماعة وأولي الرأي البصير الحكيم. وللتمثيل لا أكثر، نعود بالقارئ إلى التنظيم الذي أبدعه فيثاغوراس – عليه السلام – في مؤسَّسته الشهيرة، وتنظيم جماعة "الأسينيين" Esséniens قبل الناصري بقليل، وشرعة الانتظام في الدعوة الفاطمية.

فلا يجوز، إذن، قياس الإصلاح ووزنه واعتماده بمقاييس ومعايير الحضارة المادية الفردية القائمة التي تهدِّد الإنسان والعائلة والمجتمع والعقل بأخطر كارثة حلَّتْ أو تحلُّ به.

تنظيم الطوائف الدينيَّة هو غير نظام أهل التوحيد: ويتصور هذا الفريق أحيانًا، كما سبق وأشرنا، تنظيماتِ بعض الأديان والطوائف الأخرى لنقلها وتطبيقها، أو استيحائها، في أسلوب مواجهتهم بعض الأوضاع الدرزية المتخلِّفة في الظاهر. ولكن هذا التوجُّه والانجذاب ليس هو أيضًا بالحلِّ السليم. ونحن نرى في حاضرنا كيف أن أضخم مؤسَّسة كنسية مسيحية تنفض عنها غبار الأجيال وتكدُّس التقاليد اللاحقة، وتحاول التخلص من بعض الأنظمة والتشكيلات الإكليركية، لتعود بالمؤسَّسة إلى طبيعة الأشياء، وما تبرزه بداهة، أو إلى ما أبرزتْه، أولاً وفي أصالتها، من أنظمة بسيطة غير معقدة لضبط نظام المعتقد وإشاعة وحيه وتقويم شؤون الجماعة.

دروب الإصلاح الحقيقي: إن الإصلاح الحقيقي هو في استيعاب وتفهُّم التراث التوحيدي العرفاني والحضاري النابع عنه، العميقة جذوره في التاريخ، وربما فيما قبل التاريخ المعروف، وفي الانصراف والانكباب على تتبُّعه وتحصيله، وفي الولوج، إن أمكن، في محراب شهوده الأخير، ثم العودة من هذا المرتقى للنظر في شؤون المسلك وطرق إصلاحه وتقويمه باسم هذا التراث ذاته وباستقطابه وروحه ونهجه، على خطى المشايخ السابقين والسيد عبد الله التنوخي وأمثاله. ولا يجوز أن تعبث نزعةٌ فردية عابرة أو نزوةٌ متجدِّدة مستكبِرة بإرث الآلاف من السنين المستوضَح في اختبار الإنسانية العارفة، المتعاقبة أجيالها على وجه هذه الأرض، كسلسلة ذهبية مشعة من الأقطاب وذوي المنزلة، منذ ألِفِ الدنيا إلى غاية يائها.

فالإصلاح لا يقوم بالتشذيب الأعمى، ولا بالزيادة أو النقصان، ولا بتقليد الجديد، – أيِّ جديد، – ولا بالتشويه أو التحريف والهدم، بل بالتنمية المتوافقة والتطوير الملازم الملائم. كالشجرة الذابلة أو الذاوية، يهدِّدها اليباس، فلا نعالجها بجري الفأس في جذعها وأغصانها، بل بالعودة إلى جذورها من حيث يرتقي إليها غذاءُ حياتها، فنبادر هذه الأصول بالعناية والنقب والأسمدة والري، لكي تنتعش المظلَّة الخضراء من جديد، وتنمو وتمدَّ الفروع والأغصان في إشراقة الشمس، وطلل الصبح الغافي، ونسيم الأمسيات، وندى الأسحار، ولفح وهج الظهيرة، التي منها جميعًا تستقي الأصولُ والفروعُ والأوراقُ تكامُل دورة الغذاء في الشجرة الباسقة النامية. وإنما التراب والماء والهواء والشمس والأثير كلها عناصر تدخل في تكوين هذه الموسيقى، الجاذبة لحواسنا ولعقولنا وبهجتنا، التي تؤلِّفها حياةُ أصغر الكائنات الخضرية النابتة من الأديم.

التفقُّه والإصلاح: واستطرادًا وتوضيحًا لضرورة المطلب وإلحاح الحاجة، كنَّا نتمنى لو توفَّرت الظروف لتلبية دعوتنا التي مضى عليها أكثر من سبع سنوات، وأُرسِلَ عددٌ من الشباب المؤمنين، أو من المشايخ المتقدِّمين أنفسهم، إلى بعض الجامعات الإسلامية الكبرى، كالأزهر الشريف والنجف المبارك، ليتلقَّنوا القرآن – وهو مصدر تأويلهم – ويتدارسوا الفقه والحديث وعلوم التصوف والروحانيات على أصالتها، على غرار خطى كبار أولياء الدروز، – وفي طليعتهم الأمير السيد عبد الله التنوخي، والشيخ محمَّد أبي هلال الفاضل، والشيخ يوسف الكفرقوقي، إلخ، – فتتم لهذا النفر من الموحدين، بهذا التحصيل، القدرةُ على إحياء علوم الدين وإعلائها كما ينبغي، وتتوفر لهم مكنةُ الوعظ والإصلاح على تمامها.

* * *

ارتباط مسالك العرفان: وفي رأينا أنه لا يمكن النظر إلى مسلك التوحيد منفصلاً ومستقلاًّ عن مسالك الحكمة والعرفان المتقدمة في أدوار التاريخ المعروف والمجهول، التي عمرت بها حياة المؤمنين الأولين الموحدين في مصر الفرعونية القديمة، وفي الهند وإيران وبلاد التيبت وما وراء الواحات، وفي بابل وآشور، وفي اليونان وفي جزر البحر الأبيض المتوسط وعلى انفراج شواطئه، ثم بعد ذلك في الإسلام، مرورًا بالنصرانية الأولى وما قبلها فيما تكشَّفت عنه مغاورُ البحر الميت في فلسطين، وبالمذاهب العرفانية Gnosticism التي انتشرت في كل صقع من أصقاع العالم القديم.

فالحكمة لا تنفصل، في أيِّ زمان أو مكان، عن الاستطلاع الأخير للعقل ونزعته الجوهرية إلى معرفة مصدر انبثاقه وأصل ينبوعه ومعين إبداعه. ولا ينفصل هذا المسلك التوحيدي (أي الدرزي) بشكل خاص عن التصوف العرفاني الإسلامي والتحقُّق الحنيف الأصيل الذي استقى هو ذاته مما سبقه في اختبار أرباب الحكمة والعرفان الأقدمين. ففي درس هذه المصادر واستطلاع كشفها يكمن سرُّ اجتناب الخطأ في تكوين فكرة صحيحة عن المعتقد التوحيدي الدرزي.

نهج العقل والقلب هو التوحيد: ومطلب التوحيد هذا هو في منطق نهج العقل البشري وتقصِّيه وسيره واستطلاعه. فالشعور (أي القلب) يطلب التوحيد والوحدة، ولا تطيب له السعادةُ إلا إذا غمرتْه غبطةٌ واحدة، متصلة، عميقة، دائمة، لا تتبدل ولا تتغير.

والعقل يطلب أيضًا التوحيد والوحدة: وحدة التفسير ووحدة عقل جميع مظاهر الكون، ولا يرتاح من قلقه الأزلي واستكشافه الأبدي إلا إذا حلَّتْ فيه وحدةُ التفكير وانسجام الأسباب في فعلها الأول وكانت له نظرةٌ واحدة منسجمة إلى الكون.

والحب ذاته – حب العاشق والمتصوف والشاعر والفنان والقائد الاجتماعي والرائد السياسي – أليس هو طلب الوحدة والتوحُّد مع الآخر، مع الآخرين؟ كأن التذكُّر الذي في نفوسنا لوحدة مصدرنا وانبثاقنا ولوحدة جوهر أرواحنا – وكيف نستطيع أن نفهم بعضنا بعضًا في النطق والفكر والتصور لولا هذه الوحدة الكيانية الأولى؟ –، كأن هذا التذكُّر والاذِّكار يهيج فينا وَجْد العودة من جديد إلى الواحد الأحد، إلى عين هذه الوحدة ذاتها، حيث يشعُّ الوعي والسلام والوجود الحقيقي.

غاية العلم هو التوحيد: والعمل البشري يطلب هو ذاته الوحدة والتوحيد وينفر بطبيعته من جوِّ التبدل والتغير، ويسعى إلى تحقيق تصور ومثال من السعادة والوجود الإنسانيين لا يتبدلان ولا يزولان.

وهؤلاء العلماء المعتكفون في مختبراتهم، والمتأمِّلون مدى الحياة في التفتيش عن حقيقة الأشياء التي تتهرَّب دائمًا وأبدًا أمامهم في غلاف تفكُّك المادة الأخير إلى أجزائها وجزئياتها الطاقيَّة النهائية، يتوغَّلون بمسابر مجاهرهم ومراصدهم البلورية والإلكترونية في مجاهل الكون الهائل المنتشر في مدًى لحيِّز المكان "لا نهاية له، ولكنه محدود"، على حدِّ تعبير أينشتاين – وهم عشاق المعرفة ومتصوِّفو قبسها الأخير – هؤلاء العلماء لا يتوقفون عند تفسير كيفية صدور العناصر والمركَّبات وخروج بعضها من بعض، بل يتقصون، بشغف المدنف وبصيرة الملهوف الجَلود، المعادلةَ الأخيرة الوحيدة التي تفسَّر بها جميع طاقات الوجود، من مادية وحياتية ونفسية، موضوعية وذاتية (أي فردية) في آنٍ واحد. إنهم يطلبون الوحدة والتوحيد – وكيف لا يكون ذلك، ونهج العقل ومنطلَقه هو إلى الوحدة والتوحد دائمًا وأبدًا: يسعى إلى تفسير المركَّب بالبسيط، والكثيف باللطيف، وهكذا إلى ما لا نهاية، إلى أن يتصل بالبسيط واللطيف الأوحد الذي به تُفسَّر جميعُ الظواهر والأشياء وتعلَّل.

وبدهي القول إن هذه المعادلة الأخيرة للوجود الظاهر، التي تشوَّق أينشتاين إلى اكتشافها وتحديدها قبل وفاته بقليل، لا تعود، في هذا المستوى الأخير، معادلةً على الإطلاق، لأن هذه الطاقات التي تنبثق وتتنزَّل وتتجلَّى وتتفرع من هذا المرتكز الورائي الخلفي الأخير، ومن عين أصالة الوجود – ولا "عدم" في الوجود – تضيع وتضمحل وتندثر وتذوب كما في ينبوعها ومصدرها وعينها ونقطة بروزها وكينونتها. إذ ذاك، يتوحد الشاهد والمُشاهَد، والناظر والمنظور إليه، في الحقيقة النهائية والاختبار الأخير الذي تنتهي إليه جميع المعادلات.

اكتمال العلم بالعرفان وتوافُقهما: وبعد، فيعتبون على الموحدين ويأخذون عليهم إنْ هم لم ينجذبوا، خارجًا ونزولاً وانحرافًا وعماهة، إلى هذه الأشباح الظاهرة في الكون الحسِّي السحري المحيط بهم، وإنْ هم أرجعوا بصيرتَهم إلى الباطن الخفي، وتطلَّعوا، في داخلهم وفي داخل الأشياء، إلى حيث هبطت من نقطة الإبداع جميعُ هذه المبدَعات المتسلسلة المتجلِّية في سمط عقد النجوم وأكاليل المجرات والسُّدُم وفي العوالم المجهرية المشعة، الدائرة في أفلاك الخلايا والذرات، وفي نور سماوات نفوسهم.

فسبحان مَن جعل العارفين، في الحقلين، والمنطلَقين، والسفحَين، وفي الباطن والظاهر، يتلاقون ليصدحوا على "مآذن أفئدة قلوبهم" بنداء الوحدة النابع الهادر من صميم هذا الوجود وثناياه بذلك النغم الأزلي الذي بعث فيهم العشق والتوق في الحالتين، والذي به وُجِدَ وكان العالمُ الظاهر والباطن على السواء – وهل ينفصل أحدهما عن الآخر إلا في منطق المحال؟ وسبحان مَن أوحى إلى النوريِّ – رضي الله عنه – قوله العجيب: "إن الله لطَّف ذاته فسمَّاها حقًّا، وكثَّف ذاته فسمَّاها خلقًا" – تعالى إبداعه عن كلِّ وصف وتشبيه.

* * *

الذهنية المعاصرة لمبادئ الحكمة والعرفان: إن مسالك التوحيد والحكمة والعرفان هذه – ولا عرفان بلا توحيد، ولا توحيد بلا عرفان – تبرز أهمِّيتُها البالغة من جديد في العصر الماثل القائم، من جرَّاء تناقُض الأديان وازدواجية الشرائع وتطلُّب العقل الذي يريد أن يتجرَّد عن التقليد والتبعية والالتزام، للتعرف إلى حقيقةِ ماورائية الأشياء، فيما يعانيه الإنسان المعاصر المتمدِّن من عذاب العقل، وآلام النفس، وفراغ القلب، وتشتُّت الفكر، وشقاوة الطموح، وضلالات النظريات الفلسفية والاجتماعية، على اختلافها. فإذا بهذا العرفان أو التوحيد الأصيل يبرز في مواجهة الواقع، كالمفتاح الذهبي السرِّي الوحيد لتعدِّي محدوديَّات العلم ونظرته الأخيرة، ولحلِّ المشكلات المادية والنفسية والأدبية والروحية والحضارية التي يتخبط فيها الإنسانُ المعاصر، المتمدِّن في خارجه، لكنْ غير المتحضِّر في داخله وباطنه.

وهذا الأمر هو الذي فطن إليه كبار العلماء، من فيزيائيين وبيولوجيين ونفسيِّين وأطباء ومربِّين وموجِّهين، فأخذوا، أكثر فأكثر، يعودون ببصيرتهم ليستكشفوا ويتحقَّقوا ما كانوا، في سعيهم وشغفهم وإلحاحهم المثابر، يطلبون، فيروا، وسط الدهش والإعجاب وتسبيح العقل العفوي المنطلق، أن ما توصَّل إليه أبناءُ العرفان والحكمة، في كلِّ شريعة ودين، يفوق كلَّ تصوُّر وكلَّ اكتناز ثروة وكلَّ إرث حضارة أو مكنون علم أو استيعاب اختبار ونهج اختراع.

ورأوا، ثانيًا، أن هذه الحقيقة، التي أدركها وشاهَدَها العارفون، في معراج توحيدهم وشهودهم واستئناسهم وفي مجاليها، هي يقين لا يُداخِلُه شك ولا ريب ولا ظلمة شبهة.

وتيقَّنوا، ثالثًا، أن هذه الحقيقة المستجلية هي ذاتها لا تتباين في مواصفاتها وجوهرها عند الحكماء والعارفين والمتحقِّقين في جميع الأدوار والعصور والمذاهب والمسالك والأديان، لا يختلف أحد العارفين مع الآخر في شأنها، ولو اختلف معراجُه، وبَعُدَ عنه في الظاهر مرتقاه، أو تنوَّع مرصدُه ومجهره. فسبحان العين الأولية التي تبصر بها جميع العيون. فهو "المبصر للإبصار في الأبصار" – وحقًّا كان ذلك عليه برهانًا ودلالةً، ومنه يقينًا، وإليه سبيلاً ومسلكًا.

وكان الحكيم الهندي شري آتمانندا – تقدَّستْ حقيقته – يقول:

"استيقظ، قُمْ، ولا تتوقف حتى بلوغ الهدف" – هذا هو نداء نفير الفيدنتا.

جميع الأديان تلبِّي أذواق البشر وتُضاعِف – جهلاً – الاختلافاتِ فيما بينهم. لكن الفيدنتا وحده يلبِّي الحقيقة التي لا تتغير ويوفِّق بين جميع الاختلافات دون استثناء.

فعلى حدِّ القول الرشيد: في حين لا يتفق دينان أو صوفيان أو يوگانيان أو عالِمان أو فيلسوفان، لم يحصل قط أن اختلف حكيمان في شأن الحقيقة المطلقة.[17] (المحاضرات الروحانية، ص 410)

وهذا برهان آخر على حقِّية هذا الاختبار وحقيقته.

* * *

تنضيد: نبيل سلامة


 

[1] استفدنا العنوان الذي أطلقناه على مقالة الأستاذ كمال جنبلاط من العنوان العربي لكتاب جاويدان خرد لأبي علي أحمد بن محمد مسكويه، وهو المقابل العربي الدقيق لمصطلح Philosophia Perennis اللاتيني.

[2] عبد الله النجار، مذهب الدروز والتوحيد، دار المعارف بمصر، القاهرة 1965.

[3] سامي نسيب مكارم، أضواء على مسلك التوحيد (الدرزية)، بتقديم كمال جنبلاط، دار صادر، بيروت 1966.

[4] جاء في بعض كتابات جنبلاط: "[...] في الدين التوحيدي الذي يمكن أن نركز جذوره التاريخية الأساسية في الانفصالية الشيعية، من جهة، عن طريق شيعة القرامطة خاصة، وفي الفلسفة الأفلاطونية اليونانية الأصل، التي ازدهرت في الإسكندرية والتي أخذ عنها المعتقَد نظرياتٍ كثيرة، كالانبثاق، والعقل الكلِّي والكلمة، والنفس، وغيرها [...]"؛ كذلك: "مَن هم الموحدون؟ إن أساس عقيدتهم قائم على طلب الحكمة. فليس سوى الطالبين بمستطيعين قراءة الكتب المقدسة التي تُسمى كتب الحكمة. إنها امتداد للمدارس الهرمسية اليونانية أو المصرية – مدارس السنَّة الباطنية التي انتقلت إلى التصوف الإسلامي. [...] ولا بدَّ لنا هنا من أن نذكر أن "الدروز"، أي أصحاب المذهب التوحيدي الذين يشبهون الهنود من أصحاب كتب الفيدا، منتشرون تحت تسميات أخرى في أديان العالم كافة، ويمثلون، بالتالي، أكثر من ربع البشرية [...]." ويعلق الباحث نسيب الأسعد على كلام جنبلاط كما يلي: "[...] دَرَسَ كمال جنبلاط المذهب التوحيدي دراسةً معمقة مكَّنتْه من الشروع في عمل تحليلي. وقد تفهَّم هذا المذهب على هدي تعاليم الفيدنتا أدفيتا الهندوسي والفلسفة اليونانية اللذين أتاحا له اكتشاف مفاتيح الأسرار التوحيدية – ذلك أن العرفان التوحيدي هو ذاته العرفان (الغنوصية) الذي يمكن أن تجده في كلِّ مكان من العالم والذي نجده عند حكماء الهند وحكماء "الأوائل" [...]" (كشف الستار، ص 386). جليٌّ أن هذا الموقف الفكري، بغضِّ النظر عن التوحيد الدرزي أو غيره، موقف ثيوصوفي بامتياز، على اعتبار أن السيدة هيلينا بلافاتسكي، مؤسِّسة الثيوصوفيا المعاصرة، تردُّ أصول "التوحيد" الثيوصوفي إلى مدرسة الإسكندرية الأفلاطونية الجديدة وإلى الفيدنتا الهندي، ناهيكم عن "البوذية الباطنية" والغنوصية المسيحية.

[5] استعار نعيمه هذا التشبيه من "مثل الزارع" للمعلم الناصري (إنجيل متى 13: 3-8).

[6] ميخائيل نعيمه، المجموعة الكاملة، المجلد الثامن (رسائل)، دار العلم للملايين، بيروت، طب 2: 1980، ص 85-88.

[7] راجع: شري آتمانندا، "محاضرة في اللاثنوية"، معابر، تموز 2005، باب "منقولات روحية".

[8] تُنسَب هذه الأبيات إلى شهاب الدين يحيى السهروردي القتيل. (المحرِّر)

[9] الأبيات التالية منسوبة إلى الحسين بن منصور الحلاج. (المحرِّر)

[10] البيتان للحلاج. (المحرِّر)

[11] “Vedantam is not a system at all. Vedantam means the end of knowledge. It is Truth alone pointing to Truth. It has no quarrel with any religion. It only says to all religionists: “Dear friend, so far as you have gone, it is all right. But please come higher still.” Vedantam does not belong to any particular religion, but transcends all and is in fact the fulfillment of all religions. It is Vedantam alone, remaining as the background, which gives life to all religions.” (Spiritual Discourses, p. 105)

[12] Jivas, like waves in the sea, come into being, rise and fall, fight against each other and die.

“Waves have their birth, life and death in the sea itself, jivas in the Lord.”

[13] “Water can be reached straightaway from the wave by following the direct path. If the way through the sea is taken, much more time is needed.” (Atma Darshan, p. 8)

[14] Spiritual sadhakas are strictly enjoined by the Sastras “not to speak the naked truth to purely minded persons.” Truth suffers thereby. Such listeners interpret it in the customary objective Relativity in which alone they live. They find it impossible to reconcile the truth this way. So they begin to ridicule truth itself. This naturally drives them to perdition. You must try to avoid such a catastrophe at all cost.” (Spiritual Discourses, p. 102)

[15] شري شنكراتشاريا، في وهج التوحيد، بترجمة بيازيد، ص 4.

[16] « Parce que l’homme est aujourd’hui incapable de suivre la civilisation dans la voie où elle s’est engagée. Parce qu’il y dégénère. Fasciné par la beauté des sciences de la matière inerte, il n’a pas compris que son corps et sa conscience suivent des lois plus obscures, mais aussi inexorables, que celles du monde sidéral. Et qu’il ne peut pas les enfreindre sans danger. […]

« L’attention de l’humanité doit se porter des machines et du monde physique sur le corps et l’esprit de l’homme. Sur les processus physiologiques et spirituels sans lesquels les machines et l’univers de Newton, d’Einstein n’existeraient pas. » (L’homme, cet inconnu, pp. VI-VII)

[17] “Awake, arise, and stop not, till the goal is reached” is the trumpet call of Vedanta.

“All religions serve human tastes and ignorantly multiply differences. But Vedantam alone serves the changeless Truth and reconciles all differences without exception.

“The wise saying goes: When no two religions, mystics, yogins, scientists or philosophers agree, no two sages have ever disagreed about the ultimate Truth.” (Spiritual Discourses, p. 410)

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود