ملاحظاتٌ أوليَّة حول الأنماط البدئيَّة ورموز الحلم

 

موسى ديب الخوري

 

الحلم هو "الطريق الملكي" via regia المؤدي إلى عالم اللاوعي[1]. ويعلِّق ك.غ. يونغ C.G. Jung أهميةً خاصة على الحلم ورسالته: فالحلم، في نظره، يكشف عن وجود نفسانية إيجابية، هي "حكمة فطرية"، تنزع إلى التنظيم والتوازن الذاتيين self-regulation للنفس. كذا فإن الرموز التي تظهر في الحلم ليست مجرد إشارات و"إسقاطات" projections ناجمة عن وظيفة حسِّية، كما هي الحال بحسب النظرة الفرويدية؛ بل إن هذه الصور موجودة بذاتها وتملك ديناميَّتها الخاصة. أما معانيها فتتجاوز دائمًا التفسير الذي نضفيه عليها ونُلبِسُها إياه، لأن خصوصية الحلم تكمن في جعل الوعي على تماس مع المجهول وغير المعروف فينا. ولهذا يمكن لنا القول إن كل حلم هو حلم جديد، فريد، وإن رموز كلِّ حلم تحمل معها سبرًا أو فتحًا جديدين لعالمنا الداخلي.

كارل غوستا يونغ

ك.غ. يونغ (1875-1961)

الحلم كل لا يتجزأ. ولهذا فإن تفسير رموزه يتطلب فهمَها من خلال الإطار الحيوي للحلم ككل. ويتحقق ذلك بأن نأخذ بعين الاعتبار الطبيعةَ الذاتية للرمز ووجود "لاوعي جمعي" هو منبع هذه الرموز والمدى العميق وغير المحدود للحلم وللحالم على حدٍّ سواء. فعبر هذا المدى يسافر الحالم إلى ما وراء صِلاته الخاصة ليعاين الطيف الواسع للصور، متجسدةً عبر مواد وصور تاريخيةِ الطابع تتوافق معها. وهكذا فإن الرموز والصور تولد وفق أنماط أساسية منبعها "اللاوعي الجمعي" Collective Unconscious.

يسمِّي يونغ هذه البُنى النفسانية العميقة بـ"الأنماط البدئية" Archetypes. إن حالات اللاوعي الفردية كافة تتجذر في نظر يونغ في لاوعي جمعي مشترك. ويحتوي هذا اللاوعي الجمعي على أنماط أصيلة من التمثيلات الرمزية هي أنماط سلوكية في النهاية. ونجد هذه الأنماط البدئية، بما هي قَبْلية a priori بالنسبة للنوع على المستوى النفسي–العقلي، عند مختلف البشر والأمم، مهما تباعدت عاداتُهم وأخلاقُهم.

شجرة الحياة البابلية–الآشورية: شجرة الحياة، بأغصانها التي تطاول السماء وجذورها الضاربة في الأرض، صلة الوصل بين العوالم الثلاثة، السماء والأرض وما تحت الأرض.

لقد حفظ لاوعينا الجمعي هذه الصور–الأنماط التي طالما عاشها الإنسانُ القديم في أساطيره وعباداته وأحلامه ورؤاه؛ وها هو ذا يعيدها إلينا اليوم عبر أحلامنا ورؤانا وسلوكنا وعلومنا حتى. وهكذا فنحن لا نحمل فينا تجاربنا الفردية فقط، بل وتجارب وخبرات أسلافنا والإنسانية جمعاء عبر العصور. إن هذه الأنماط البدئية تتجاوز الزمان والمكان، وتعود إلينا مجدِّدة للرموز القديمة، مثل البطل الشمسي، وإله الربيع المنبعث، وشجرة الحياة، وقبس النار والنور، والجنة والجحيم، ومواضيع التكوين والبدء، والساحر والساحرة، والمواد المتحولة والنادرة، والطيران والغوص، وانتهاء المكان والزمان، والصراع مع الشيطان، وغيرها، إلخ. ولهذا فإن كبار علماء التاريخ والأنثروپولوجيا والأديان – وأخصهم فان در لوو Van der Leew وم. إلياده M. Eliade – يعتمدون مفهوم "النمط البدئي" للإشارة إلى الرموز الأساسية التي تشكِّل محرِّض (ومصفوفة) سلسلة من التمثيلات والصور وأساسها. وبشكل أعم، يصبح النمطُ البدئي الصورةَ الأولى، الصورة الأم، الصورة التي تغذي الصور "الفردية" المتعددة، ابتداءً من العمق القديم نفسه ومن البُعد الأول عينه الذي تنهل منه الدياناتُ والأساطير والأحلام والإبداعات كلها.

النمط البدئي للجنة والجحيم: رسم "زواج النعيم والجحيم" الذي صدَّر به وليم بليك كتابه ذا العنوان نفسه.

وعبر هذه الدرب الواحدة والمتعددة للأنماط البدئية، يدخل الإنسان تدريجيًّا إلى دوائر نفسه (عبر دائرتَي "القناع" Persona و"الظل" Shadow أولاً) ليصل إلى مركز كيانه الداخلي. ولهذا يَعدُّ يونغ دراسة الأحلام ورموزها مدخلاً إلى فهم أعماقنا، والتواحد معها، والانفتاح على الحقيقي فينا. وعند ذاك يصبح الحلم حالة وعي، وتتحول الأنماط البدئية إلى معانٍ نمارسها يوميًّا في حياتنا كجزء لا يتجزأ منَّا.

ويمكن لهذه الرموز أن تظهر أيضًا في حالة اليقظة على شكل منبِّهات أو أطياف بصرية أو سمعية. ويسمِّي يونغ هذه الحالة بـ"الخيال الفعال" Active Imagination – وهو الذي يُحرَّض بتركيز الانتباه على صورة أو مثال معين ومعاينة تحولاته الذاتية الحرة. إن الخيال الفعال، الذي تلعب فيه الذات دور الشاهد اليقظ، يختلف عن حلم اليقظة: فهو الحضور اليقظ والموضوعي والمحب للوعي الصافي غير المنشغل بأيِّ أمر شخصي. إن حلم الخيال الفعال هو استحضار لفيوضات اللاوعي التي تنساب عبر صور الأنماط البدئية انسيابًا حرًّا.

إن الأنماط البدئية التي تظهر في أحلامنا ليست بُنى مشكَّلة مسبقًا فقط بقدر ما هي كمونات مكوِّنة تُنَمْذِجُ المادةَ غير المتمايزة عن دفق الطاقة النفسية. كذلك فإن النمط البدئي هو، في آن واحد، المُعامل الذي لا غنى عنه للتطور والتفتح الداخليين؛ وهو القوة المقيِّدة أيضًا، بسبب سحره وفتنته!

وهكذا فإن حياة الإنسان تنجذب إلى هذه الأنماط البدئية. ويُعدُّ النمطان الأبويان من أشدها تأثيرًا. لكن يجب ألا نخطئ بأن نرى في "الصورتين الأبويتين" إسقاطاتٍ ناشئةً عن الشخصيات العيانية بذاتها، كما فعل فرويد، بل إن العكس في الواقع هو ما يحصل: فالأب والأم الجسديان هما تخصيصان للنمط البدئي غير المنظور؛ ولهذا فهما يُحاطان بهالة من التقديس في نفسانية الطفل وفي أحلامنا.

علينا، إذن، ألا نرى في الأنماط البدئية مضمونًا شخصيًّا للنفسانية؛ بل هي أشبه بـ"قوالب" أو "مسارات" تصبُّ فيها حياةُ الفرد. فصلة الشخص بأمِّه، مثلاً، ليست صلة شخصية فحسب، بل هي صلة نمطية تسير وفق نماذج أولية لم تتغير منذ أن وُجِدَ الإنسان، على الرغم من تعددها الهائل. كذا فإن النفس تشتمل على معطيات غريبة عنها وغير مفهومة، ناشئة عن ارتباطها بمحيطها وعن تشكُّلها وفق أنماطه أيضًا. ويؤدي ذلك إلى تعارُضات غالبًا ما تظهر في أحلامنا. ومعرفة هذه العناصر وتمييزها عن جوهرنا العميق هو ما يسمَّى بالتنقيب في اللاوعي والغوص فيه بحثًا عن الأنماط الأكثر بدئية ونقاء.

الظل: رسم ليونغ بعنوان "الظل محاصَرًا"، وصف فيه إحساسه باليأس والعزلة بعد قطيعته المدوية مع فرويد.

وتحكم الأنماط البدئية صلاتِنا مع الآخرين كافة، كالعلاقة مع الجنس الآخر، وعلاقة التلميذ بمعلِّمه، وعلاقة الإنسان بنفسه أيضًا. وحول هذه النقطة الأخيرة، يصف غوته Goethe انقسام الإنسان على نفسه من خلال فاوست ومفستوفيليس، الذي يمثل "الظل" في نفسانية الإنسان، الجانب المعتم منها، غير الظاهر في حقل النور والوعي؛ وهو بذلك يُعدُّ نمطًا بدئيًّا أساسيًّا في حياة كلٍّ منا.

الأنيموس–أنيما: تتمثل العلاقة المثلى بين الجنسين في تكامل الجانب المؤنث من نفس الرجل مع الجانب المذكر من نفس المرأة.

لا بدَّ لنا من أن نذكر أيضًا نمطَي "الأنيما" Anima و"الأنيموس" Animus؛ إذ هما يُدخِلان صورة الجنس المقابل إلى النفسانية الواعية مع تمايز الكائن عن والديه. إن "الأنيما" هي المبدأ المؤنث في الرجل، وهي القدرة التي تنتزعه من عالمه العقلي في أقصى حالاتها؛ ولهذا فهي تظهر له كمغوية أو كسبب للفوضى والشواش (ثمة بعض أنماط "الأنيما" تبقى سلبية تمامًا وتأسر الرجل الذي تقوده). لكن شيئًا فشيئًا، يولد التناغم من الشواش: فـ"الأنيما" تكشف عن وجهها كمعلِّمة و"مرشدة"، كما يُعبِّر عن ذلك البيتان الأخيران من فاوست: "الأنثى الخالدة تجذبنا نحو الأعالي." يقود دمج "الأنيما" في الرجل، ومقابلها "الأنيموس" في المرأة، إلى التحقق الداخلي للإنسان في "أحدي الجنس" Hermaphroditus، النمط البدئي للإنسان، أي آدم.

أحدي الجنس المقدس: شيفا أردهَناريشفَرا، نصفه ذكر ونصفه أنثى، يرمز إلى الجمع بين الضدين في الطبيعة الإلهية.

وهكذا فإن الحياة الحلمية تتكامل مع حياة اليقظة لبناء الشخصية المتوازنة للإنسان ولمساعدته على ولوج أعماقه، فتتوافق، بالتالي، الأحداثُ الخارجية دائمًا مع المعطيات النفسية. ويتجسد ذلك في "أحلام رائقة" lucid dreams وفي تجلِّي أنماط بدئية ذات رمزية فائقة. هذا النمط من التواصل، المختلف تمامًا عن الصلة "السببية" causal بين الداخل والخارج، يسمِّيه يونغ بـ"التزامن" Synchronicity. وعندئذٍ يجب اعتبار النمط البدئي جسرًا يصل بين العالمين الداخلي والخارجي، بين العقل والمادة، مادام ينحت ويفصِّل، في آنٍ واحد، النفسانية والمتَّصَل الزمكاني.

يمكن لنا، أخيرًا، الإشارة في سرعة إلى بعض الأمثلة الهامة على الأنماط البدئية التي تشكَّلت في لاوعينا منذ أقدم العصور. نعدِّد منها الكهف والسهل والشجرة والجبل، الطيور والحيوانات الأسطورية، السماء والشمس والقمر، إلخ. ويشير المنزل في الحلم غالبًا إلى الصورة الكلاسيكية لتمثيل مختلف سويات النفس وحالاتها، بطبقاته وحجراته ونوافذه وشرفاته ودرجاته وترتيبه وإنارته واتساعه إلخ.

أما الألوان، فهي تُعدُّ أنماطًا بدئية غاية في القِدَم، حيث يمثل اللونُ حالةً نفسية ونسقًا طبيعيًّا في آنٍ معًا. فاللون الأزرق، مثلاً، هو لون البشارة والصفاء والإخلاص والسلام؛ واللون الأحمر لون النار وحدَّة الفكر والرغبة والحرب، ويرمز إلى الغيرة والحقد والغضب؛ أما اللون الأخضر فهو رمز حياة نفسية وروحية خصبة.

ومن أقدم الرموز أيضًا في لاوعينا الجمعي رمز الفراغ والمكان والجهات. ويرتبط اتجاهُ اليمين عادةً بالذكورة والفاعلية، فيما يرتبط اتجاهُ اليسار بالأنوثة والكمون؛ والاتجاه نحو اليمين يعني الاتجاه نحو الخارج والظاهر، بينما الاتجاه نحو اليسار يعني الاتجاه نحو الداخل والباطن.

ولا بدَّ لنا من أن نشير أيضًا إلى الأرقام والنماذج الهندسية والموسيقى والرقص كأنماط بدئية تشير إلى أولى التصورات المحسوسة عن قدرة الإنسان على اختراق حاجز الشواش واستخلاص المعاني المجردة وتنظيمها

التفردن أو التحقق الفردي: ترمز أشواط تكون الإنسان المتحقق في البوتقة الخيميائية، مرموزًا إليه بالذهب، إلى مراحل التفردن بحسب علم النفس اليونغي.

إن المكانة التي يحظى بها اللاوعي الجمعي ورسائله من الأنماط البدئية في حياتنا المعاصرة تشير في نظر يونغ إلى الطريق الذي تسعى الطبيعة عبره إلى حلِّ مشكلات مدنيَّتنا المستعصية. فعلى الرغم مما تكشفه لنا أحلامنا من مضاعفات تشبُّثنا بحياة استهلاكية وتكرارية، تُظهِر لنا، عبر صور إمكاناتنا الحقيقية، القيمةَ والمعنى اللذين يجب أن نحقِّقهما. وهكذا فإن العقلانية الطاغية – بل الشيطانية أحيانًا – تفسح المجال للفكر المبدع الذي لا يحصر بحثَه عن الحقيقة في الخارج فقط، بل في الأعماق حيث توجد المياه، رمز الشواش والنمط البدئي للحياة، كما تشهد على ذلك أحلامُ الكثيرين من الأفراد المعاصرين ورؤاهم.

*** *** ***

تنضيد: نبيل سلامة


[1] للمزيد من التوسع في نظرة يونغ إلى الحلم فليراجع القارئ المهتم: ديمتري أفييرينوس، "نداء الأعماق 1: مدخل إلى علم النفس المركب"، معابر، الإصدار الأول، باب "علم نفس الأعماق"، وخاصة فقرة "دينامية الصور الأحلامية". (المحرِّر)

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود