|
الأديان
الحيَّة: نشوؤها وتطورها[1] نحو
مقارنة وصفيَّة بين الأديان كل
مؤلِّف يخالجه شعورٌ من الرضا والفرح عند
صدور طبعة جديدة لأحد كتبه. وقد ازداد الطلب،
منذ سنوات، على إعادة إصدار ثلاثية المؤلف في
الدراسات الدينية، خصوصًا الأديان الحية
الذي يشكل واسطة العقد. هذا الكتاب الذي يظهر
في طبعته الثالثة، إذن، ليس مقصودًا لذاته،
وإنْ أمكن أن يشكل موضوعًا لقراءة مستقلة
ومفيدة، لكنه يأخذ نقطة انطلاقه من فاتحة
الثلاثية، الدين والمجتمع، ويمهِّد
لخاتمتها، المقدمة في فلسفة الدين. وإذ
يأتي اليوم على حدة، فالمؤمل نشر طبعة جديدة
قريبًا للكتب الثلاثة المتكاملة، علمًا أن
اختصاص المؤلف الأكاديمي يقع في حقل فلسفة
الدين، ولا يعول على التاريخ إلا بمقدار
النفع الذي يسديه للفلسفة. والفائدة التي
يمكن أن تجنيها الفلسفة من التاريخ (والتاريخ
من الفلسفة) كبيرة حقًّا. وتجدر الإشارة إلى
أن الثلاثية المذكورة أصبحت "رباعية" مع
صدور كتاب جديد للمؤلف بعنوان: وحدة في
التنوع: محاور وحوارات في الفكر الديني، هو
تتمة منطقية لكتبه الثلاثة السابقة. الدراسات الدينية، كما
يفهمها المؤلِّف وكما هي معروفة اليوم في عدد
من الجامعات ومراكز الأبحاث حول العالم، تقوم
على النظر الموضوعي إلى الأديان من
نواحيها التاريخية والفكرية والطقسية
والتنظيمية والاجتماعية، ومن أية ناحية أخرى
تخضع للدراسة العلمية. والمواد التي تكوِّن
نواة هذه الدراسات هي تاريخ الأديان وفلسفة
الدين وعلم النفس الديني وعلم الاجتماع
الديني. وإلى أهميتها العلمية في ذاتها وفي
حقول التاريخ والفلسفة والعلوم الاجتماعية،
يمكن أن تؤدي هذه الدراسات خدمةً كبيرة
للحياة والفكر الدينيين. صحيح أن مَن يعيش
الدين عمليًّا لا يستمد دوافعَه عادة من
الوقائع التاريخية أو المفاهيم الفلسفية أو
الإحصاءات السلوكية، لكن هذه الوقائع
والمفاهيم والإحصاءات من شأنها أن تجعله يفهم
دينه ويمارسه ممارسةً أفضل ويحترم ذوي
الأديان والعقائد الأخرى في إطار من التفاهم
والسلام على مختلف الصعد الاجتماعية
والعالمية. وتستطيع هذه الدراسات أن تساهم في
نقل الفكر الديني نفسه أو اللاهوت، كما في نقل
التعليم والرعاية الدينيين، من الأنماط
السجالية التي ما تزال سائدة على نطاق واسع
إلى أنماط أكثر ايجابية. يسر المؤلِّف أن "رباعيته"،
التي لقيت تقدير كبار ممثلي الأديان والفكر
الديني وصدرت أكثر من مرة وما يزال الطلبُ
عليها كبيرًا، نبهت القارئ العربي المعاصر،
للمرة الأولى[2]،
إلى ماهية الدراسات الدينية وأهميتها، كما
طرحت فلسفةً للدين قائمة على منهج منطقيٍّ
صارم وأسُس تاريخية راسخة. وقد أخذتْ بعضُ
جامعاتنا، إلى حد، بهذه الدعوة، فاستحدثت
مواد في تاريخ الأديان وفلسفة الدين
والمقارنة الموضوعية أو الوصفية بين
الأديان، بعيدًا عن المفاضلة. إلا أن الخطوة
هذه تبقى خجولة في غياب دوائر مستقلة
للدراسات الدينية، تعمل جنبًا إلى جنب مع
دوائر التاريخ والفلسفة والعلوم السلوكية
والآداب واللاهوت. كما تبقى هذه الخطوة ناقصة
جدًّا ما لم تعد باحثين يعتمدون أرقى الشروط
الأكاديمية. لكن المؤسف، على الرغم من تأسيس
بعض برامج الدراسات، أن الكتابات العربية
المعاصرة ما تزال منعدمة في علم النفس وعلم
الاجتماع الدينيين، وهزيلة في فلسفة الدين،
وغير علمية في تاريخ الأديان، مع حاجة ماسة
إلى الثقافة والأصالة والإبداع في هذه
المجالات كلها. لعل بعض هذه المحنة جزء من محنة
الإنسانيات التي بدأت تشتد منذ نحو ثلاثة
عقود، لا في جامعاتنا العربية فحسب، بل حول
العالم. حتى في جامعات الغرب ذات التراث
المستمر والمتراكم والعريق، تعاني الدراساتُ
الكلاسيكية والأدبية والفلسفية ضعفًا أكيدًا
بالمقارنة مع الماضي غير البعيد نسبيًّا.
والكتابات العظيمة حول شؤون ثقافية خطيرة، من
نوع التراجيديا الإغريقية وأعمال أفلاطون
وأرسطو والرواقيين والآداب اللاتينية
والتصوف وعصر النهضة وشكسپير، والحركات
الكلاسيكية والرومنطيقية والرمزية في الشعر
والأدب والفن، والأعمال الإبداعية لعباقرة
مثل دوستويفسكي وتولستوي وكامو، تبدو كأنها
قد تلاشت وباتت صدى من إنجازات الماضي السعيد
وذكرياته. لسنا هنا في صدد معالجة
عوامل هذه المحنة وسُبُل تجاوُزها. لكننا
نتطلع إلى تأليف عربي أصيل في مختلف حقول
الدراسات الدينية، يفيد، في آن معًا، من أفضل
الإنجازات العالمية في هذه الميادين ومن
الثقافة العربية في عصرها الذهبي، أي خلال
المرحلة المعروفة بالقرون الوسطى في الغرب.
وفي الحقل الذي ينتمي هذا الكتاب إليه –
تاريخ الأديان – نأمل صدور كتابات علمية
رصينة حول أديان المنطقة وأديان العالم،
تعتمد أفضل المناهج والطرائق التي توصل إليها
كبارُ العلماء في هذا المجال. لماذا لا يكون لنا باحثٌ
عربي في تاريخ الأديان من عيار الباحث
الروماني ميرشيا إلياده مثلاً؟ لماذا لا تكون
لدينا مجموعةُ مؤرخين عرب تبادر إلى نشر
مجلة، أو أكثر من مجلة، مكرسة لهذا الموضوع؟
متى يكون لدينا دارس للهندوسية أو للبوذية
يتقن اللغات الأصلية لهذه الديانة أو تلك
ويقيم مقارناتٍ مفيدةً، تاريخيًّا ودينيًّا،
خصوصًا بينها وبين الإسلام أو بينها وبين
المسيحية الشرقية، في مراحل التاريخ التي
تلاقت فيها هذه الأديان على الأرض الهندية أو
العربية أو سواهما؟ متى يتسنى لنا هؤلاء
العلماء العرب الذين لا يكتفون بالأخذ عن
الغربيين، بل يقدِّمون مادة أصيلة يأخذ
عنها الغربيون وسواهم أخذهم عن حجة، كما
يصححون الأخطاء وينبِّهون إلى الأهواء التي
وقع فيها الغربيون عند دراسة أديان منطقتنا،
ولاسيما الإسلام والمسيحية الشرقية، من غير
أن يركبوا أهواءهم الشخصية ويرتكبوا أخطاءهم
الخاصة؟ هذا المؤرخ العربي المنشود،
الذي يجب أن يستمد مبادئ علمه من أفضل ما
توصلت إليه البحوثُ العالمية في تاريخ
الأديان، يجب أن يعرف، في الوقت نفسه، أن
تاريخ الأديان، حسب المنهج الوصفي أو
الفينومينولوجي، بدأ قبل ألف سنة في تراثنا
العربي مع البيروني في كتاباته عن أديان
الهند، ربما قبل أن يبدأ في أيِّ تراث آخر. لا
بدَّ لهذا المؤرخ، إذن، من العودة إلى
البيروني وسواه من مؤرخي الأديان العرب، مع
استلهامهم وإظهار أهميتهم للعالم. المؤرخ المنشود للأديان،
مثل كلِّ باحث جدي، تعده وتتعهَّده عادةً
الجامعاتُ ومراكزُ الأبحاث عبر تأمين كل
التسهيلات المطلوبة. وفي هذا الزمن الذي يشهد
تقهقر الإنسانيات، نرجو أن تبادر الجهاتُ
القادرة إلى إصلاح الجامعة بإعادة الروح
إليها – وهذه "الروح" هي الإنسانيات.
وعلى أهمية العلوم الطبيعية والهندسة
والتكنولوجيا في بناء المجتمعات والحضارات
ومسؤولية الجامعة في احتضان هذه المعارف
وتنميتها، فما يصنع الجامعة، وما يصنع
الإنسان والمجتمع والحضارة، صنعًا حقيقيًّا،
بإضفاء الهدف والمعنى والقيمة على هذه
العلوم، هو الدراسات الإنسانية. وإذا كانت
الإنسانيات قلب الجامعة، فقلب الإنسانيات
يكمن في التاريخ والفلسفة: التاريخ للسعة
والفلسفة للعمق. وفي ظل واقع عالميٍّ يسوده
الاستغلالُ والحروب والظلم ويعلو فيه منطقُ
القوة على منطق الحق، لا بد من إحياء المثال
القديم القائل بأن الناس حول العالم أخوة
بعضهم لبعض ومواطنون لمدينة واحدة هي العالم
بأسره. هذا المثال نادت به إحدى الفلسفات
التي كانت منطقتُنا مهدًا لها، وهي الفلسفة
الرواقية. وإذا كان الكلام عن "العولمة"
من الموضوعات الطاغية اليوم، وإذا كانت
النماذج المطروحة للعولمة تقتصر على الجوانب
الاقتصادية التي تحاول توحيدَ العالم عبر
هيمنة الأقوياء، أي تحت حدِّ السيف، فالمطلوب
"عولمة مضادة"، إنْ جاز التعبير، ترفع
الظلم وتحقق العدالة ويستعيد فيها الإنسان
روحه الضائعة. نرجو أن تكون دراسة التاريخ
من العوامل التي تحفزنا على استعادة المثال
الرواقي للعولمة الصحيحة – هذا المثال الذي
تجسده الأديان خير تجسيد. صحيح أن تاريخ
الأديان، في جانب منه لا يستهان به، هو تاريخ
يكتنفه سوءُ التفاهم والعنف، وأن الحروب
الدينية والقومية والأهلية كانت من أسوأ
الحروب على مرِّ الزمن. هذا الجانب المظلم سوف
يبقى، مع الأسف، جزءًا من تاريخ الأديان،
وإنْ كان لا ينتمي إلى جوهر الدين؛ وهو "جوهر"
لا نستمده من قراءة محض ظاهرية لمسيرة
الأديان، بل نستمده من دراسة عميقة
للتعاليم الدينية في أرقى صورها. هذا يعني أن أمورًا عظيمة،
مثل النبوَّة وصراع الروح ضد قوى الشر وملحمة
النفس البشرية في معركة الوجود لتحقيق أنبل
ما فيها، ستبقى هي أيضًا جزءًا من تاريخ
الأديان، بل الجانب الأصيل من هذا التاريخ. ونؤكد هنا، مرة أخرى، على
الترابط الوثيق بين التاريخ والفلسفة كشرط
لتحقيق أية دراسة عادلة ومتوازنة في ماهية
الأديان. هذا ما حاولناه في الفصل الأخير من
الكتاب الحالي، إذ أقمنا ما سميناه "مقارنة
وصفية" بين الأديان، بعيدًا عن المفاضلة،
أفضت بنا إلى ملاحظة عناصر مشتركة بين
الأديان يتألف منها بالذات جوهر الدين.
والدين جوهر قبل أن يكون أي شيء آخر، قائم
على المحبة والتفاهم والسلام بين الناس. ولئن
صحَّ أن ما يمنح دينًا معينًا بعضَ هويته هو
ما يميز هذا الدين عن سواه، هناك هوية دينية
عميقة مستمدة من هذا الجوهر الواحد. وعند
الكلام عن "هوية دينية"، يجدر البحث عنها
في ما يجمع قبل البحث عنها في ما يفرِّق. وحسب
هذا الكتاب أنه خلص إلى ما يجمع. ***
*** *** [1]
صدرت طبعة جديدة (2005)
عن "دار النهار" لكتاب أديب صعب الأديان
الحية: نشوؤها وتطورها، وهو الكتاب
الثاني من "رباعيته" المعروفة في
الفكر الديني. والنص هو المقدمة التي صدَّر
بها د. صعب هذه الطبعة. (المحرِّر) [2]
نلفت نظر قراء معابر كذلك
إلى مؤلفات الأستاذ فراس السواح في تاريخ
الدين وفلسفته، ولاسيما دين الإنسان والرحمن
والشيطان اللذين يعتمد فيهما منهجًا "وصفيًّا"
غير بعيد عن منهج الدكتور أديب صعب. (المحرِّر) |
|
|