كفاح بلا عنف

 

عدنان الصباح

 

نحن الأقوياء – بل نحن الأقوى!

وبـ"نحن" أقصد هنا جميع الذين يقتلون الآخرين ثمنًا لحياتهم لا أكثر، ويؤدون مهمةَ تجويع الآخرين ثمنًا لخبزهم لا أكثر، ويهدمون البيوتَ ثمنًا لبيت يأوون إليه لا أكثر، ويدوسون كرامةَ البشر ثمنًا لكرامة مزيفة لا أكثر.

إنهم جميع الجنود الذين يتقنون فنون القتل واستخدام أسلحة الموت والدمار لصالح مَن يطعمونهم فتات الخبز الذي يسرقونه من أفواه شعوب الأرض. إنهم العمال الذين يُفنون أعمارَهم في بناء ما لا يحلمون بالوصول إليه بمجرد اكتماله. إنهم الذين يستخرجون النفط لضخِّه في طائرة قد تقصف بيتهم الذي لا يمكن له انتظارهم.

هناك ملايين من الجنود والضباط والعمال يعملون علنًا في خدمة جلاديهم ويموتون دفاعًا عن قضايا كاذبة لصالح حفنة من المنتفعين وأصحاب المصالح المادية البحتة. هناك ملايين من الصحفيين والكتاب والفنانين والمبدعين يعملون في خدمة أصحاب مصانع الأسلحة وناهبي خيرات الشعوب والجلادين. بعضهم يدافع عن أنظمة ديكتاتورية، فيصير بوقًا لها، وبعضهم الآخر يدافع عن الحريات والديموقراطية وحقوق الإنسان، فيجد نفسه وقد أمسى خادمًا لشعارات العولمة الأمريكية، منفِّذًا لبرامجها، بدراية أو من غير دراية.

غير أننا "نحن" الأقوياء والأقوى! – لأنهم من دوننا يصيرون عاجزين، فاقدين كلَّ إمكاناتهم. إنهم غير قادرين على تنفيذ مآربهم من دون إمكاناتنا، غير قادرين على ممارسة النهب والسلب والاحتلال من دون جنود وعمال وصحفيين وإعلاميين وفنانين. إنهم في حاجة إلينا لقتلنا وتدميرنا بأيدينا، وهم غير قادرين على فعل ذلك إن لم تتحرك سواعد الملايين من الجنود والعمال.

لن تتمكن أدوات القتل التي تملكها قوى الاستعمار والاحتلال والعنصرية من أن تفرض هيمنتها على شعوبها والشعوب الأخرى إن لم تجد مَن تسترقُّ إصبعَه للضغط على الزناد. فلم يكن أبطال إلقاء القنابل على هيروشيما وناغازاكي عظماء، بل كانوا قتلة مأجورين في أيدي أسياد لم يذرفوا دمعة واحدة على ضحايا فعلتهم النكراء التي لم يرتكبوها بأيديهم.

كذا هي حال جنود الاحتلال الأمريكي في العراق اليوم: فلا بطولة فيما يقومون به، وحكاية حماية شعبهم وبلادهم وحماية العالم وهمٌ وخرافة صاغ كذبتَها أساطينُ المال ودهاقنةُ السلاح في بلادهم وحلفاؤهم لتسهيل مهمتهم. ألم يسأل هؤلاء الجنود أنفسهم عن أية ديموقراطية يدافعون ببنادقهم وبسيطرتهم على أرض أخرى وشعب آخر؟! أية مفارقة يراها الجندي الأمريكي بين ضحاياه في العراق وضحايا الجوع والتفرقة، العنصرية وغير العنصرية، في بلاده؟! هو يحمي مَن بموته؟! وأية ديموقراطية ستزدهر وآلاف الجنود الأمريكيين يموتون بعيدًا عن بلادهم؟!

حين تكف أصابع الفقراء عن الضغط على زناد الموت لصالح جلاديهم، سينتهي دور هؤلاء. حين يتوقف العمال عن إدارة ماكنات إنتاج أدوات الموت لصالح قاتليهم، سينتهي دور هؤلاء. حين يرفض الصحفيون والكتاب والفنانون والمبدعون تأجير أقلامهم وألوانهم ورقصهم ونحتهم وفكرهم لصالح القتلة، سينتهي دور هؤلاء.

لذا فبإمكان الضعفاء والمستضعفين أن يملكوا "عنفًا" لا يملكه أحدٌ من قتلة العصر: "عنف" من نوع جديد، "عنف" يوقف آلة الموت والدمار والقتل، ويصوغ رؤية جديدة لعالم جديد من السِّلم والحرية للبشر – كلِّ بني البشر.

كل ما في الأمر هو أن تتوقف أكفُّنا عن قبول استخدامها في طاعة أوامرهم، فتصبح طائراتهم ودباباتهم وأسلحتهم كلها ومصانعها، بما فيها أخطر الأسلحة النووية والذرية والبيولوجية والكيماوية، بلا جدوى ولا تصلح أبدًا إلا كلعب للأطفال الصغار من كلِّ الألوان والأجناس والأديان والأعراق.

من دون الجنود الإسرائيليين من فقراء الفلاشا والمهاجرين من اليمن والمغرب والعراق وبلدان أوروبا الشرقية وبعض المتصهينين من العرب، لن يكون بإمكان شارون وحكومته فرض سلطتهم على الأرض الفلسطينية والشعب الفلسطيني – بل ولا على غرف نومهم حتى! فحين يقرِّر هؤلاء المستضعفون جميعًا الإضرابَ عن القتل لصالح الغير مقابل الخبز، والإحجامَ عن منع الآخرين عن بيوتهم وأمنهم وأمانهم مقابل بيت مرهون للبنك برسم الراتب العسكري، سيجدون أن الكون أرحب مما يصوِّره القتلة من مالكي دواليب الموت، أمثال شارون!

حين يدرك فقراء المستوطنين، المتصهينين لصالح أباطرة تجارة السلاح من الصهاينة، أن وجودهم في جبال الخليل ونابلس ليست له علاقة بقداسة التوراة ولا بتعاليمها، وأن التوراة التي يتحدثون عنها ويستخدمونها لتجييشهم ضد شعب أعزل هي توراة رأسمال الموت، عندئذٍ فقط سيجدون أنفسهم ملزمين أخلاقيًّا بالوقوف إلى جانب الشعب الذي يكافح في سبيل خلاصهم من مستعبديهم الحقيقيين، فيدرك يهود الفلاشا واليمن والمغرب والعراق ورومانيا وروسيا الفقراء أنهم أدوات للموت في سبيل أن يحيا أباطرة السلاح الذين يعيشون بعيدًا، متنعِّمين، لا يهددهم الموت ولا الدمار.

وفي سبيل أن نتمكن من إنجاز ذلك، لا بدَّ لنا من تغيير الخطاب المباشر الذي نتوجه به إلى هؤلاء، والتوقف عن إعطاء مشغِّليهم مسوغاتٍ لتقديمها لهم على أننا لا همَّ لنا سوى قتلهم.

عدد من الطيارين الإسرائيليين، بينهم ضباط كبار، أعلنوا، في ذروة أحداث انتفاضة الأقصى وفي أوج الاعتداءات الإسرائيلية على المدنيين الفلسطينيين، رفضَهم لتنفيذ أوامر قصف المناطق الفلسطينية، وثبتوا عند موقفهم، مما دفع بالقيادة الإسرائيلية إلى محاكمتهم وطردهم من الخدمة – وكان في مقدمتهم مرشح لرئاسة القوة الجوية الإسرائيلية. موقف هؤلاء الأخلاقي الشجاع لم يقابله أي موقف تشجيعي فلسطيني، بل تُرِكوا وحدهم ليتم تصويرهم أمام المجتمع الإسرائيلي كخونة، لا أكثر ولا أقل، مما وأد حركتَهم من بدايتها، وجعلها غير قادرة على النموِّ والتأثير. في حين أن الجانب الفلسطيني، لو قدَّم لهؤلاء ما يشجِّعهم وما يثبت أنهم الأجدر بالاحترام وأنهم الجهة التي يقبل الفلسطينيون التعاطي معها كقيادة للمجتمع الإسرائيلي بديلاً عن شارون، ولو أن الهدنة التي قُدِّمَتْ لشارون من دون مقابل قُدِّمَتْ لهؤلاء مثلاً، لكنَّا تمكنَّا من تقديم رسالة عملية حية تشجِّع نموَّ الاتجاهات السِّلمية داخل المجتمع الإسرائيلي، بل وداخل المؤسَّسة العسكرية الإسرائيلية نفسها.

إن ما تقدَّم ينسحب أيضًا على جنود الجيش الأمريكي في العراق وأفغانستان وأولئك الذين يرابطون في قطر رغمًا عن إرادة شعبه ويحتلون أراضي شاسعة من السعودية ويهددون استقرارها. ذلك كله أيضًا ليست له علاقة بالمهاجرين من آسيا وأفريقيا استجابةً للحلم الأمريكي وطلبًا للسلام والأمن والأمان والعيش الرغيد، فإذا بهم يتحولون إلى أدوات في يد آلة الحرب والدمار الأمريكية ضد الشعوب التي غادروها طمعًا بالسِّلم، فعادوا إليها قتلةً مأجورين لصالح جلاديها!

مليارات من القنابل، بأنواعها، والرصاص، بأنواعه، والبنادق والدبابات والطائرات والبوارج تستهلك قوت الفقراء والجياع والمقهورين وتوقد نارَها بأجسامهم وبأيديهم هم أنفسهم. هذه الأسلحة كلها تصير واهية وضعيفة أمام "عنفنا"، – نحن بني البشر العاديين من الفقراء والبسطاء والمقهورين، – "عنف" لا يقتل، ولكن يمنع القتل، "عنف" لا يسرق الخبز من أفواه الجياع، بل يعيده إليهم. كفاح بلا عنف!

كل ما في الأمر أن علينا أن نمنع أنفسنا من تأجير أكفِّنا لصالح القتلة وتجار الموت، ونجيِّش العالم – العالمَ كلَّه – في وجوههم، ونعيد تصنيع أدوات الموت وسائل لراحة البشرية ورفاهيتها، بعيدًا عن المرض والتخلف والجوع والموت.

البشرية جمعاء، موحدةً في وجه الجلادين وتجار الموت، تملك "عنفًا" يفوق أدواتِ الموت كلَّها التي يتاجرون بها من أثمان قوتنا ومن سعادتنا. أجل، موحدةً يجب أن تكون قوى الخير في أوساط بني البشر قاطبة. إذ إن بإمكانها عند ذاك أن تملك عنفًا يُخرِس مدافعَ الموت كلَّها، ويغلق مصانعَ السلاح في العالم كلَّها – مرة واحدة لا رجعة فيها!

ما تقدَّم كله مجرَّد حلم ودعوة إلى توسيع نطاق هذا الحلم. لكنه حلم ممكن قطعًا. وتمامًا كما بدأت جميع الإنجازات العلمية في خيال الفنانين والمبدعين وأحلامهم، كذلك فإن السلام على الأرض، بأيدي أبناء الأرض وضد حفنة قليلة من أعداء الحياة، أمر ممكن. وتمامًا كما تحوَّل حلم المهاتما غاندي إلى حقيقة دفع حياتَه ثمنًا لها، كذلك فإن حلمنا ممكن: هو سلام على الأرض للبشر أجمعين، بأيدي البشر فقط، حين تتوقف أكثريتُنا المطلقة عن القيام بدور المجرمين المأجورين ضد أنفسنا لصالح حفنة صغيرة من أعداء الحياة.

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود