هالة الفيصل وحلم العقل!

 

علي سفر

 

حلم العقل استولد وحشُه أعجوبةَ العصر الخاطئ واللون الخاطئ.

ديرِك والكوت

 

مسكينة هالة الفيصل! فقد أُسقِط في يدها، ولم يصل من معاني تعريها يوم 9 آب 2005 في إحدى حدائق العاصمة الأمريكية إلى أبناء جلدتها القدامى من العرب والسوريين، المسلمين والمسيحيين على حدٍّ سواء، سوى أنها تبحث عن شهرةٍ ما تضيف إلى رصيدها بعضًا من الصور الضاجة والمغرية.

ومن بين عشرات – بل مئات – التعليقات على خبر احتجاجها المتعري التي كانت تتمحور حول اختراقها المستهجَن للتقاليد العربية والإسلامية، بقيت بعض التعليقات المرحِّبة شبه منبوذة وموضع هجوم هي الأخرى من قبل الأنا الجمعية التي توحَّدت خلف ساتر الرفض.

هالة فيصل: أوتوپورتريه.

فمَن قال للآخرين إن من حق هالة أن تحتج بحرية وبأي شكل تريد، هوجم في صفاقة على أنه يرحب بالعهر وبالانحلال الأخلاقي! – حتى إن بعضهم سأل كلَّ مَن رحَّب بخطوة هالة، بطريقة ساذجة ذكَّرتْني بألعاب أطفال المدارس، يقول: "هل تقبل بأن تقوم أختك أو زوجتك بهذا الأمر؟!"

وبالتأكيد لم يكن أصحاب الأقلام أخف وطأة على هالة من السوقية والرعاع الذين شتموها في أخلاقها وسمعتها كفنانة. فها هي ذي خولة غازي تتحدث عن "إفلاس" هالة الفيصل في مقالتها على موقع شام برس، وكأن هذه الفنانة التي حصلت على الجنسية الأمريكية [...] هي شركة مساهمة من شركات الفساد المعشش في الوطن! فهي ترى أن "ما سلكتْه في ظل العالم الجديد لا يقع عليها وحدها، بل فيه تعميم يُستخدَم لأغراض وضيعة بقصد الإساءة إلى المرأة العربية، وأولها السورية"!

وهنا يحق لنا أن نتساءل حول أسلوب التعميم الذي تسلكه خولة هي الأخرى حين تضع نفسها في موقف "المفتي" الذي يريد أن ينقل لنا الفكرة الدينية من خلال تصورات العوام عنها، لا من خلال المنطق الفكري الذي تسير عليه. فقد نقلت لنا منطق الذين استاؤوا من تصرف هالة عبر أقوالهم: فقد "طق عقلها" و"جنت البنت"، كما يرون هم. وبالنسبة إلى خولة، فإن الرؤية الحصيفة لهؤلاء تكفي لكي يتم تعميم هذا التصور عن المرأة السورية، الشاذة والمخالفة لتقاليد مجتمعها، دون أن تأخذ بالحسبان التصور الآخر الذي يرى بأن الحرية الشخصية يجب أن تكون أمرًا مقدسًا، لا في أمريكا فقط، التي حاولت هالة أن تخاطبها، بل في سورية، بلدها الأصلي، أيضًا. فالرضوخ للتصورات المستكينة لمسألة التقاليد والأعراف أمسى أمرًا حتميًّا كي تمر أفكارُ الكتاب والصحفيين الأشاوس الذين ينوسون بين أن يكونوا مثقفين حقيقيين وبين أن يبقوا مجرد صحفيين ينقلون الخبر على ذمة مصادره – وما أدراك ما هي مصادره؟! – دون أن يتدخلوا فيه.

وفي نَفَس لا يبتعد كثيرًا عن نَفَس شام برس، كتب السيد داوود البصري في جريدة السياسة الكويتية – في بذاءة – مقالاً نقله موقع العربية نت عنوانه: "مؤخرة ابنة الوزير وتحرير الجولان"، في مقاربة تنم عن روح تجرِّم الفنانة كما تجرِّم المجتمع، فقال: "يقينًا إن تصرف تلك الفنانة السورية، الذي يعبِّر عن أزمة فكرية وأخلاقية، إنما هو إفلاس تام ومحاولة مضحكة للظهور وركوب الموجة والالتفاف على القضايا المركزية من أجل خلط الأوراق ومحاولة مخاطبة الرأي العام من خلال الغرائز. [...] كنا نتمنى لو أن السيدة هالة الفيصل قد خلعت ملابسها احتجاجًا على مجازر النظام السوري ضد شعبه طوال أكثر من أربعة عقود عجاف سوداء! كنا نتمنى لو أن عريها وكشفها لمؤخرتها قد صبَّا في إطار الدفاع عن الحرية الشهيدة أو المطالبة بإطلاق سراح السجناء والمغيَّبين منذ عقود."

ويسوق السيد البصري في مقالته الكثير من مطالب المعارضة السورية، جاعلاً منها مطالب بديلة عن مطالب هالة الفيصل، دون أن يكلِّف نفسه عناء قراءة تاريخ هالة الفيصل التي لم تكن بعيدة عن كثير من هذه المطالب. فإذا كانت هالة قد تعرَّت من أجل أن توقَف الحرب على العراقيين وعلى الفلسطينيين – وهذا هو مطلب الجميع، قبل الحرب وبعدها، وقبل أن تقرر أمريكا "تحرير" الشعب العراقي – وقامت بفعلتها هذه في عاصمة الإدارة الأمريكية، فإن ما غاب عن السيد البصري هو تلك الدلالات التي تجعل من مطلب وقف الحرب مرادفًا آخر من مرادفات الطلب من المجتمع الأمريكي أن يحاسب إدارته على دعمها للأنظمة الديكتاتورية هنا وهناك. ولعل أقل ما يمكن أن يقال عن كلام البصري هاهنا إنه كلام حق يراد به باطل: فاستغلاله تصرف هالة من أجل مهاجمة النظام السوري، ومن أجل التنديد بالبعثيين في سورية والعراق في آنٍ معًا، إنما هو احتيال ساذج على الوقائع من أجل الوصول إلى غاية في نفس يعقوب!

هالة الفيصل لدى اعتقالها بعد حادثة التعري.

مشكلة العقل العربي السائد في وسائل الإعلام، في قراءته للظواهر، أنه عقل جزئي، يمارس الفصام، منهجًا وعملاً. فهو ينحني أمام السطوة الدينية كي يضمن قبولها له، ويمارس الاحترام الكامل للتقاليد المجتمعية المزعومة كي تستمر مسيرتُه الظافرة في مجتمعات السحر والشعوذة والتيس الحلوب! وفي الختام، يقرر سلَّم الأولويات للمثقف غير المنضوي في إهاب السلطة، – أية سلطة، – فيقول لهالة، مثلاً، إن التعري واجب من أجل تحرير الجولان ومن أجل الحريات في سورية و... و...، متناسيًا تلك الضريبة التي دفعها المثقف السوري – بعري وبدون عري! – ثمنًا لمواقفه.

ولنتذكر أن هذا العقل هو عينه الذي سكت طوال عقود عن تغلغُل التطرف الإسلامي في بنية المؤسَّسات الثقافية والإعلامية ومفاصلها، وهو عينه الذي تباكى و/أو استبكى على صورة العربي والمسلم التي شوَّهها بن لادن حين قصف الآمنين في برجي التجارة العالمية – وكأن بن لادن نسيج وحده، وليس صنيعة غياب العقل والتعقل في التفكير العربي.

هذا العقل الذي كان يستظرف أن تقوم بعض عارضات الأزياء والفنانات بالتعري احتجاجًا على عمليات صيد السناجب والثعالب والفقمة هو ذاته الذي أشاع صورة الفتاة العُمانية التي مُسِخَتْ لأنها عَصَتْ والدتَها وسخرت من كتاب الله العزيز (تبين فيما بعد أن الصورة إياها لم تعدُ كونها صورة منحوتة لفنانة أسترالية!) – هذا العقل هو ذاته الذي يريد أن يقرِّر لفنانة سورية أسلوب الاحتجاج المناسب.

ربما كان على هالة الفيصل أن تقصف سكان واشنطن وهي بكامل ثيابها – وربما بحجاب أيضًا! – لكي تقنع هؤلاء "العقلاء" بأنها ترغب فعلاً بأن يوقَف قتل الآمنين في فلسطين والعراق. ولعلها بذلك كانت ستحصل على ميزات إضافية: كأن يُقبِل العربان على شراء لوحاتها في ما يشبه رشوة أخلاقية تستحقها بعد أن سارت على "صراطهم المستقيم" ولم تخالف شرائعهم الآمنة!

هالة فيصل: "لا فردوس، لا هواء، لا مخرج"، أكريليك على القماش، 90X140 سم.

حين سيسألني الآخرون عن موقفي الشخصي من تعرِّي هالة الفيصل في واشنطن لن أجيبهم، بل سأحيلهم إلى لوحاتها.[*] فجمالياتها كفيلة بأن تقنعهم أنها ليست في حاجة إلى رأيي أو آرائهم. ففي انسجامها مع ذاتها ما يكفي لأن يكون جوابًا بلا تعقيب!

*** *** ***

عن منتدى معابرنا

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود