ذاكرة الباطن

 

أكرم أنطاكي

 

الفصل الثاني عشر

تحوُّلات

أو

هاشم وسلافا – 2

 

"وأعِدِ الكرَّة إنِ استطعت، لكنْ بنزاهة لامتناهية..."

رومان رولان

 

طائر الليل: "... خدعتْني الحياة./ هذا ليس عدلاً/ في حقِّ ضبٍّ مسكين/ يعيش مصادفةً في قلب المجتمع./ المجتمع، أنا لا أرغب في التدخُّل فيه،/ لأني شخص على حدة،/ بذرة فوضوية..."[1] (من قصيدة وأغنية فرنسية لليو فيريه)

1

طارق ونورا

(1976 – 1978)

... ويستمر بناء جسر الميادين، الذي سرعان ما أضحى العملُ فيه في نظري روتينيًّا. فها هي ذي الأوتاد تنفَّذ من الضفة اليمنى من النهر، تليها الأعمدة، فالمساند، فردمية جسم الطريق الواصل من الجهة نفسها، حيث ركَّبنا رافعة "الآسپم" وأقمنا ورشة تصنيع الجوائز مسبقة الصنع والإجهاد. بعيدئذٍ، وفور الانتهاء من أعمدة هذه الضفة ومساندها، كانت إزالة الردمية من مسار النهر في هذا الطرف والبدء بردمية الضفة اليسرى من أجل الشروع في وضع الأساسات والأعمدة والمساند من هناك – ما قد يبدو وكأنه شريط مسلسل سينمائي بطيء وممل في نظر المشاهد العادي. لكن الأمر، كما هو في طبيعة الحال، ما كان ليخلو من بعض الحوادث المؤثرة، التي هي، في نهاية المطاف، دراما أيِّ بناء هندسي وقصة كلِّ منشأة حقيقة... وذلك لأن لكلِّ منشأة في الواقع قصتَها، وسجلاتِها، وأحداثَها، وأخبارَها...

كهذا الخبر الذي وصلنا برقيًّا ذات صباح من الطبقة ومن إدارة الشركة بآنٍ واحد: سترتفع مياه النهر طوال الأيام الأربعة القادمة حوالى مترين، إذ ستصل الغزارة إلى 6500 م3/ثا. وعلى الفور، ولأننا كنَّا نتوقع شيئًا من هذا، بحُكْم مراقبتنا اليومية لتدفق المياه، استُنفِرنا للعمل على مدار الأربع وعشرين ساعة من أجل رفع منسوب ردمياتنا بما يتجاوز المترين، ولسحب آلياتنا من ضفتي النهر حتى المنسوب الآمن. هي ليالٍٍ بيضاء، لم نعرف إبانها النوم إلاَّ في صورة متقطعة ونحن في موقع العمل؛ هو سباق مع الزمن، وصراع مع عوامل الطبيعة، لا بدَّ من توقُّعه دائمًا في أعمال كهذه. وفي النهاية – وهذا أجمل ما في الأمر – يسود شعورٌ عميق بالراحة حين ينتهي كل شيء مع بدء انحسار منسوب المياه الذي كنَّا نقيسه كلَّ ساعة. وأتذكر ما قاله لي آنذاك صديقي الروسي الجديد إدفارد ليسنياك:

-       "في وسعنا أن نذهب الآن إلى فراشنا لننام."

نعم، في وسعنا ذلك الآن، يا إدفارد، وقد اطمأنتْ قلوبُنا إلى أن الأوضاع عادت طبيعية. أحداث تمر ولن يذكرها أحد من بعد؛ لكنها بنظر البنَّاء كبيرة ومؤثرة...

كأنْ تتعطل آلية حفر الأوتاد، الـ"بينوتو"، إبان عملية صبِّ الوتد ما قبل الأخير الواقع على حافة الردمية وسط النهر. والتحدي الذي واجهناه في صعوبة آنذاك كان وجوب إعادتها إلى العمل خلال أقل من أربع ساعات، أي قبل تجمُّد البيتون، من أجل إنقاذ قميص الوتد الذي إنْ فقدناه توقفت جميع أعمالنا لفترة طويلة، أولاً، ومن أجل إنقاذ الوتد في حدِّ ذاته، ثانيًا. وكان هذا ما حصل، حيث تمَّ ذلك الإصلاح في غضون أقل من أربع ساعات، استمررنا بعدها، وبأمر من سلافا، بصبِّ ما تبقَّى من الوتد. وأتذكر أني سكرت مع الخبراء الروس في تلك الليلة! سكرت، نعم، وبكلِّ ما لهذه الكلمة من معنى حقير – لأول مرة منذ عودتي من موسكو. سكرت، وتقيأت حتى الاختناق، فرحًا بإنقاذ الوتد والقميص المعدني. إلهي، كم كنت مترنحًا وسعيدًا يومذاك! إلهي، كم كنت سعيدًا ومترنحًا! – على الرغم من "التوبيخ الشديد" الذي جاءنا من هاشم حين أخبرناه بما حصل (إذ لم يكن من المفروض البدء بالصبِّ قبل التأكد من الجاهزية الكاملة للآلية) ومن تأكيده على ضرورة وضع تعليمات صارمة حول هذا الموضوع. وأيضًا، تمر أمامي بعض الأحداث الصغيرة، المضحكة والمؤلمة، التي مازالت مطبوعة في ذاكرتي إلى اليوم...

كأن تتهور بي السيارة التي كانت تقلني وأنا في طريقي إلى تفقُّد المقالع على الضفة اليسرى من النهر قرب موقع الجسر، وكيف أنني، عندما خرجت والسائق (الكردي) "رمدان" كوسا من نافذة الجيپ المقلوبة على ظهرها، كان أول ما فعلتُه، بعد سؤال رمضان عن حاله، هو التأكد من أن ضررًا لم يُصِبْ الآلة الحاسبة التي كنت أحملها معي! في ذلك اليوم، ولما ازدادت الآلام في صدري إلى حدٍّ لا يطاق، عدت إلى حلب بعد مراجعة الدكتور محمود الذي أعطاني مسكِّنًا وعاينني وتأكد من حالي بمعاينة صورة شعاعية للقفص الصدري. وأسترجع ضحكته الجميلة وهو يقول لي:

-       "بسيطة، يا مهندسنا، بسيطة! هو مجرد "شِعْر" في ثلاث قصبات من القفص الصدري. لذلك آمرك أن تذهب الآن مباشرة إلى حلب لتستريح. إنه أمر من عندي أخبر به الأستاذ هاشم. لقد قررت لك استراحة مدتها ثلاث أسابيع."

وأتذكر كيف حاولت، بكلِّ سذاجة، حين عدت إلى حلب، ألا أدع منى تشعر بما حصل، لكنها شعرت به مباشرة! وأتذكر كيف ضحك الأستاذ هاشم وأنا أخبره بقرار الدكتور محمود قائلاً:

-       "بسيطة! لكن، هل ستتحمل ثلاث أسابيع بلا عمل؟!"

هاشم، آه يا هاشم!

لأن أكثر ما أتذكره اليوم – ويتجاوز كلَّ ما سبق – كان زياراتك للموقع، التي كانت في نظرنا، في تلك الأيام الجافة وفي هذه المنطقة الجرداء، كالعاصفة المطرية في البادية، غامرةً ومنعشةً معًا. وأتذكر منها خاصة تلك الأخيرة إلى موقع العمل في الميادين، عشية عيد الأضحى، حين اصطدمنا اصطدامًا عنيفًا، ثم تصالحنا في مودة – كالعادة! لأني حين وصلت إلى الورشة في ذلك الصباح، عرفت لتوي، من الحركة غير العادية للجميع، أن هاشمًا هنا، وأنه، كعادته، سبقنا جميعًا إلى موقع العمل. لم أبحث عنك يومذاك، يا هاشم، ولم ألحق بك، لمعرفتي بأنك ستستدعيني مباشرة حين تحتاج إليَّ. إنما، كما هي عادتي كلَّ يوم، توجهتُ إلى مكتبي لأسيِّر بعض الروتينيات، قبل أن أتوجَّه إلى مواقع العمل في الورشة. وسرعان ما جاءني محمود العليوي راكضًا لاهثًا ومضطربًا:

-       "أستاذ أكرم! يا أستاذ أكرم! الأستاذ هاشم يريدك على الفور... إنه على الجسر في الضفة اليسرى..."

ويتملَّك قلبي انقباضٌ صغير، لأني كنت أعرف سبب استدعائه الفوري لي من هناك. فقد كان عليَّ أن أبرِّر أمامه لماذا خالفنا تعليماته، ولماذا قمنا بتركيب القوالب المستعمَلة للصبِّ ما بين الجوائز وفق ترتيب مخالف لما سبق واتفقنا حوله معًا.

-       "لأننا اضطررنا إلى هذا كي نسرِّع العمل ونتمكن من الصبِّ اليوم تحديدًا، قبل ذهاب العمال في إجازة عيد الفطر." كان هذا ما أجبته به حين واجهتُه وسألني عن الموضوع.

-       "هذا لا يهمني! فأنت تعرف أن ما تفترضه تسريعًا للعمل اليوم سيؤخرنا غدًا. يجب إعادة فكِّ القوالب وإعادة تركيبها، كما سبق واتفقنا."

-       "لم يعد الأمر ممكنًا الآن، يا أبو الخير..."

وأتذكر أنه استعمل كلمة نابية، ما جعلني أشعر بالإهانة. فأدرتُ له ظهري، وعدت غاضبًا وحزينًا إلى مكتبي، تاركًا له تدبُّر الأمر بنفسه.

ثم، بُعيد ساعة، بعد أن تأكد بنفسه أنه لم يعد ممكنًا فكُّ القوالب المركَّبة والجاهزة لتلقِّي البيتون، أمر ببدء الصب.

الساعة الآن الواحدة بعد الظهر، والصب قد انتهى. العمال متجمِّعون أمام مكتبي، ينتظرون أن نأذن لهم بالانصراف. ويطلب مني أبو ماجد (مراقب الورشة) راجيًا:

-       "يا أستاذ، خبِّر الأستاذ هاشم أن علينا أن نغادر، خبِّره... لقد انتهى عملنا اليوم، وغدًا عيد، والباصات التي ستأخذنا إلى القامشلي تنتظر."

وأتوجَّه مع "المحاسب" أبو حسين إلى هاشم (الذي كان مازال على الجسر) لاستئذانه في صرف العمال، فيعلِّق ساخرًا:

-       "طبعًا، حين يتعلق الأمر بالانصراف قبل نهاية الدوام فإن الجميع جاهز ومستعد دومًا!" وأسأله مرة أخرى مؤكدًا:

-       "هل نسمح لهم بالانصراف أم لا، يا أستاذ؟ الباصات التي ستقلهم إلى القامشلي في انتظارهم."

-       "نعم، دعهم يذهبون... وكذلك الخبراء..."

أشكره، وأهم بالانصراف مع أبو حسين، حين يسألني هاشم مبتسمًا:

-       "إلى أين أنت ذاهب؟"

-       "إلى دير الزور، فحلب، لأن القطار ينتظرني أنا أيضًا. وأنا حاجز في القطار، كما تعلم."

-       "لا، دَعْ أبو حسين يعيد بطاقتك ويخبر زوجتك هاتفيًّا أنك ستعود معي." وأجيبه بابتسامة:

-       "على راسي، يا أبو الخير!"

وهكذا زال، بكلِّ بساطة، وكأنه لم يكن، سوءُ التفاهم الذي حصل بيننا هذا الصباح! ويأخذني من ذراعي بقوة، لنبدأ معًا جولةً ثنائيةً على الورشة التي انصرف منها الجميع، جولةً مررنا فيها معًا على كلِّ ما في الموقع، ودقَّقنا فيها معًا في كلِّ شيء. هي ملاحظة من هنا، هو تنبيه من هناك، وأحيانًا – نعم، أحيانًا – هي كلمة ثناء سريعة في صوت منخفض، كلمة هي، في نظره كما في نظري، ذروة المديح!

وأتذكر أننا غادرنا الورشة متجهَيْن إلى حلب حوالى الساعة الرابعة بعد الظهر – حلب التي كان من المفترض أن نصلها في هذه الحال، وفي شكل طبيعي، في الساعة السابعة والنصف مساء، لكننا لم نصلها إلاَّ في الواحدة والنصف بعد منتصف الليل...

لأننا كنا نتوقف عند كلِّ موقع من مواقع العمل الممتدة على طول خطِّ سكة الحديد الواصل إليها من دير الزور – الذي كانت شركتنا متعهدة لبناء محطات ركابه – فنترجَّل من السيارة ونتفقَّد معًا الورشات الفارغة إلاَّ من حرَّاسها. وبمساعدة حراس الورشة وسائق سيارته، غالبًا ما كنَّا نُحضِر الشوادر الثقيلة بأيدينا لتغطية أكياس الإسمنت الملقاة في العراء.

-       "انظر إلى هذا الإهمال، يا أكرم... لا أحد منهم يفكر بأن المال العام هو ماله في النهاية... لا أحد منهم يتصرف بمسؤولية... انظر كيف يتعاملون مع مواد البناء... بأيِّ استهتار!"

ونصل إلى حلب في نهاية المطاف – لكن، كما سبق وأشرت، في الواحدة والنصف بعد منتصف الليل – لنجد أن ورشة صبِّ القالب المنزلق كانت مازالت تعمل في موقع المطحنة عند مدخل المدينة. ويأمر هاشم سائقه بالتوجه إلى هناك وهو يسألني ضاحكًا:

-       "ما رأيك أن نكمل السهرة معهم؟ أعتقد أنهم سينتهون من الصبِّ مع طلوع الفجر."

وأعتذر منه لأني كنت قلقًا فعلاً على وضع منى التي كانت في انتظاري. فيقول لي:

-       "كما تريد." ويأمر سائقه بإيصالي إلى منزلي والعودة إليه.

هاشم، آه يا هاشم! كم أفتقدك الآن أيها العزيز! وكم أفتقد ملاحقتك الدائمة ورعايتك التي أشعر أنها مازالت تلاحقني إلى الآن وقد تجاوزت الستين من عمري! – لأني، إلى الآن، مازلت أتذكر مكالماتنا الهاتفية كلَّ مساء لمتابعة أمور العمل، التي لم تكن لتخلو أحيانًا من بعض السياسة.

-       "لقد كان وزير الدفاع [مصطفى طلاس آنذاك] عندنا في العشارة، وقد ألقى كلمة وَعَدَهم فيها مجددًا ببناء جسر هناك. هل سمعت بهذا، يا أبو الخير؟"

-       "طبعًا سمعت... لذلك أسرع وأرسل مباشرة الـ"بينوتو" [آلة حفر الأوتاد] التي انتهيتم منها إلى أنور في قره قوزاك، قبل أن يُصدِر في حقِّها أمرًا عسكريًّا يقضي بمصادرتها، مما قد يعيق عملنا هناك..."

-       "سأرسلها غدًا، وأرافقها بنفسي حتى الموقع..."

-       "لكنْ لا تسرع على الطريق. لا أريد مشاكل!"

وأتفكر في السياسة في تلك الأيام... السياسة التي كنت أتابعها عبر إذاعة لندن، وخاصة عبر مجلتين كنت حينذاك أواظب على شرائهما كلَّ أسبوع من حلب، وكانتا مجلة المستقبل لنبيل خوري، وLe Nouvel Observateur لابن عمِّنا اليساري الفرنسي جان دانييل، حيث كنت ابتدأت منذ ذلك الحين بـ"تجاوُز" ما كان يصلني من الحزب من أخبار، بدأت ألاحظ مدى سطحيتها. ومن خلال هذه المصادر...

كنت أتابع أنباء وتطورات تلك الحرب الأهلية الدموية المجنونة المستعرة في لبنان، الذي دخله الجيش السوري، بناءً على طلب من رئيس جمهوريته سليمان فرنجية، في الأول من حزيران 1976 لمساعدة الطرف المسيحي المتقهقر، وكيف اصطدم الجيش السوري آنذاك بالتحالف "الفلسطيني الإسلامي–اليساري" بقيادة ياسر عرفات وكمال جنبلاط. وأتذكر أن عواطفي يومئذٍ كانت مع التحالف "التقدمي" طبعًا؛ ولكن، في أعماقي، كانت تتفاعل تساؤلات لم أكن أتجرأ على طرحها علنًا: تساؤلات تتعلق بما كانوا يسمونه "حق المقاومة الفلسطينية في البقاء والعمل من لبنان"، تساؤلات كانت تلتقي كلها عند نقطة واحدة تقول: لماذا في لبنان و/أو منه؟ لماذا ليس من سورية مثلاً و/أو من مصر، ليس حصرًا؟ حينذاك لم أكن قد فهمت بعد أن القضية الفلسطينية كانت أضحت مجرَّد "قميص عثمان"، يستعمله مَن يشاء من الحكام والسياسيين العرب لتحقيق مآربهم السلطوية غير المنزَّهة، وأن لبنان – هذا البلد الصغير، الديموقراطي والتعددي، وأرقى الدول العربية على الإطلاق! – كان أضحى مرتعًا لصراعاتهم الهمجية.

خاصةً أيضًا وأني، خلافًا لرفاقي في الحزب، كنت معجبًا (لم أكن أخفي ذلك) بشخصية كمال جنبلاط وبعمقه الروحي والفلسفي. لذلك كنت أتابعه باهتمام دائمًا؛ ما جعلني أتأثر جدًّا حين اغتيل (في آذار 1977، على ما أذكر)، كما تأثرت خاصة بتلك الشائعات الملحة التي كانت تقول إن السلطات السورية كانت من وراء اغتياله. لكن الأخبار المتلاحقة للحرب الأهلية اللبنانية وتطور الأحداث غطَّتْ على هذا الأمر الذي سرعان ما طُوِيَ. وأيضًا...

حينذاك، على الرغم من ابتعادي المباشر عن التنظيم، كنت ألتقي كلَّ أسبوع بالرفاق في حلب. وعلاقتي المباشرة كانت مع مروان صقال (الذي أضحى يعمل في الشركة) ومع عضو اللجنة المركزية وعضو منطقية حلب الرفيق خلوف قطان. وأيضًا في دمشق، كنت أجتمع مع "أبو محمد" (عمر السباعي، عضو المكتب السياسي ووزير المواصلات)، وخاصة مع "أبو سعيد" (عبد الوهاب رشواني، عضو اللجنة المركزية وعضو منطقية دمشق) – لأني كنت حينذاك، عن قناعة كاملة، مع "الاتجاه المبدئي"، المتمثل بالرفيق خالد، الذي كان بدأ يتمايز عن ذلك الاتجاه "المبدئي حتى إشعار آخر" الذي بات يتحول إلى اتجاه "لا مبدئي"! – أقصد ذلك الذي كان يمثله مراد يوسف. فالرفيق خالد، الذي بدأ يضيق ذرعًا، على ما يبدو، بسماجة مراد وجماعته، صار يلتقي (تكتيكيًّا) مع "الاتجاه غير المبدئي"، المتمثل بالرفيق يوسف فيصل وجماعته والثلاثي دانيال وإبراهيم وظهير... أو هكذا كانت تقول ظواهر الأمور التي قد تبدو اليوم، لِمَن يقرؤها، كحديث حشاشين! خلاف جديد لم أكن أفهم آنذاك حيثياتِه كلَّها؛ لكنه كان يتطور بعمق وبسرعة، ليقود الحزب، برعاية "الرفاق الكبار"، إلى انشقاقه الثاني. وأيضًا...

أهم من هذا كلِّه، وإبان العام 1977، كانت منى قد حملت من جديد، وكان منتظرًا أن تضع مولودها مع نهاية العام...

ذاك العام الذي كان أهم ما تميَّز به، على الصعيد الدولي والعربي، زيارة الرئيس المصري أنور السادات إلى إسرائيل وإلقائه خطابًا من على منبر الكنيست. وأتذكر أني كنت في الميادين في ذلك المساء من أوائل تشرين الثاني 1977 أتابع إذاعة خطاب السادات في مجلس الأمَّة المصري، حين لفت انتباهي ما جاء في كلمته من أنه "... مستعد للذهاب إلى آخر العالم للبحث عن السلام، وحتى إلى الكنيست نفسها..."

وتتسارع الأحداث. فسرعان ما دعا مناحيم بيغن السادات لزيارة إسرائيل، وسرعان ما لبَّى الرئيس المصري الدعوة، وحصل ما حصل، وأدى في نهاية المطاف إلى اتفاقية كامپ ديفيد واستعادة كامل سيناء وإلى ذلك "الصلح المنفرد" بين مصر وإسرائيل.

كنت في حلب، في منزلي، عندما كان السادات يلقي كلمته أمام الكنيست في العشرين من تشرين الثاني 1977، تلك الكلمة التي تابعتها في اهتمام كبير، ذلك "الخطاب التاريخي" الذي كانت جميع وكالات الأنباء تنقله حيًّا. وأتذكر كيف بكت زوجتي تأثرًا وحزنًا حين سمعت الخطاب الذي رفضتْ متابعته حتى النهاية. أما أنا فقد تابعتُه في صمت حتى نهايته، خاصة وأن تساؤلاً مهمًّا وجوهريًّا كان بدأ يتفاعل في أعماقي، تساؤلاً مفاده: "ماذا لو كان على حقٍّ فيما فعل؟ وحتى متى، نعم، حتى متى يا ترى ستستمر هذه المأساة التي أضحت مبكية ومضحكة معًا؟!" حينذاك، سألني جمعة عبد القادر، الذي كان وزوجته يتابعان الخطاب من منزلي، وقد لاحظ صمتي ومدى تأثري:

-       "ما رأيك بهذا، يا أكرم؟" وأتذكر أني أجبته في تأثر:

-       "لا أعرف، يا جمعة، لا أعرف!"

ويشارف العام على الانتهاء. وأعود في تلك الليلة، ليلة الثامن والعشرين من كانون الأول 1977، إلى حلب من الميادين، لأكون إلى جانب منى في ولادتها ولنحتفل معًا بذلك الحدث السعيد وبأعياد رأس السنة الجديدة، فأجد المنزل خاويًا، وأفهم أن الإرادة الإلهية سبقتْني وأن الولادة قد حصلت. وأسارع إلى تبديل ثيابي، قبل أن أتصل بأحد، حين يصلني اتصالٌ هاتفي من شذى، ابنة فيوليت شقيقة منى، التي قالت لي في تأثر:

-       "مبروك، يا أكرم، مبروك! لقد ولدت منى وأصبح عندك الآن ثلاثة أطفال!"

-       "ثلاثة؟! ما الذي تقولينه، يا شذى؟ هل وضعتْ منى توأمين؟"

-       "نعم، لقد ولدت توأمين مساء البارحة، صبي وبنت. لنا الآن عندنا في المنزل. أما منى فمع تيتا [حماتي] في مستشفى الدكتور أسود. وهم ينتظرونك."

وأسارع في الذهاب إلى هناك، لأرى زوجتي التي كانت تنتظرني، ولأرى، للمرة الأولى، طفليَّ الجديدين، طارق ونورا. وتتملَّكني رغبةٌ في البكاء من شدة التأثر، لأني لم أجترأ حتى على ملامستهما نظرًا لصغر حجمهما. وأبقى وحماتي مع منى في المستشفى حوالى ساعتين، ثم أدعها لتنام. وأخرج من المستشفى مترنحًا عند منتصف الليل، لأطرق باب بيت مروان، الواقع قبالة المستشفى، فيفتح لي الباب وهو في ثياب النوم، متسائلاً في تعجب عما جاء بي، بلا موعد، في مثل هذه الساعة المتأخرة من الليل، فأقول له ضاحكًا:

-       "لقد جئتك لنشرب معًا كأسًا من الفودكا، لأني غادرت منى لتوي، وهي الآن في مستشفى الدكتور أسود. لقد وضعت توأمين!" ونغرق معًا في الضحك!

وأتفكر في حزن هنا أن شقيقتي إكرام وضعت وحدها في المكسيك، قبل سنة تمامًا من ذلك تاريخ، كما أخبرتْنا، طفلها الوحيد مروان. وتمر الأيام بسرعة...

حيث سرعان ما جاء أهلي (أبي وأمي وريما) للتهنئة، وسرعان ما كانت معمودية طارق ونورا في منزلي في حلب في حضور الجميع، وخاصة في حضور طاقم الخبراء الروس في جسرَي الميادين وقره قوزاك – وقد كان اشبينهما هذه المرة أناتولي تولبيغين، رئيس الخبراء، وزوجته أولغا.

وتمر كذلك أحداث هذا العالم التي كانت تتفاعل من حولنا، كذلك الانقلاب المجنون الذي قام به شيوعيو أفغانستان في 17 تشرين الثاني 1977 على النظام الملكي المستنير هناك، "تلبيةً لنداء الواجب"، كما قالت آنذاك نضال الشعب، صحيفةُ حزبنا الشيوعي، وأنباء تلك الثورة السلفية التي كانت تتفاعل في إيران، كما كانت تتحدث وكالات الأنباء.

لكن... في الداخل السوري، وأهم من هذا كلِّه، كنتيجة لتراكمات واحتقانات داخلية، أهم أسبابها الديكتاتورية وما يرافقها دائمًا من فساد، كانت الأنباء تتحدث عن اغتيالات مروعة وغامضة لبعض الشخصيات الحزبية والسياسية المهمة في البلاد، من بينهم وأهمهم رئيس جامعة دمشق (وصديق عمِّي رزق الله) الدكتور محمد الفاضل، الذي اغتيل في شباط 1977، والدكتور إبراهيم نعامة، نقيب أطباء الأسنان، الذي اغتيل في آب 1978. ولم تُذَعْ حينذاك هوية مَن كان يقف وراء هذه الحوادث التي لم يتبنَّاها أحد!

وينتهي العمل في الجسر في أواخر العام 1978. وقد غادرتُه في هدوء متوجهًا إلى حلب، فدمشق، لمقابلة هاشم وتحديد مكان عملي الجديد. غادرتُه في هدوء، نعم، حيث مازلت أتذكر بألم أنه لم يودعني أحدٌ من الرفاق في الورشة يومذاك، لأن علاقتي بهم هناك، كما سبق وبيَّنت، أضحت فاترة جدًّا، وخاصة في الفترة الأخيرة. لم يودِّعني أحدٌ منهم يومذاك، لكن – ولسخرية الأقدار – ودَّعتْني قيادةُ فرقة حزب البعث في الميادين، الذين دعوني إلى كأس من الشاي، كما ودَّعني محافظ دير الزور، الذي مررت لأخبره بذهابي، فضمَّني إليه وقبَّلني وهو يقول:

-       "موفَّق، يا أكرم! لقد كنت أتمنى لو بقيت هنا إلى جانبي. لكن وفَّقك الله! سلِّم لي كثيرًا على هاشم."

وأتفكر بأني لم أعد إلى الميادين، ولا حتى مرة واحدة، منذ ذاك الحين...

***

 

2

البقيعة أو حمص-عكاري

(1978-1979)

لماذا لم أعد إلى الميادين؟ ربما لأن عُرْف المهنة يقضي بألا ينظر المهندس إلى الخلف فور انتهائه من أيِّ عمل ينجزه. وأتفكر في أنه أمرٌ طريف فعلاً ألا يفكر المرء بأيِّ شيء وهو يمر عادة أمام أيِّ بناء أو منشأة، سوى أنه كان دائمًا في هذا المكان، حيث يبدو وكأنه من الطبيعي أن يوجد كما هو عليه. نعم، من الطريف فعلاً ألا يفكر أحد بما قد تعنيه وتمثِّله عملية بنائه التي تمضي دائمًا وكأنها لم تكن ويطويها النسيان. وأتفكر أن هذا أمر طبيعي وبشري، حتى في نظر مَن ساهم في بنائه، إن لم أقل خاصةً في نظر هؤلاء. وكان هذا ما حصل معي بخصوص جسر الميادين، الذي لم أعاود زيارته منذ أن غادرت المنطقة، أو بخصوص طريق القنطري–تل تمر، أو خاصة بخصوص المستشفى التعليمي لجامعة دمشق. ولكني، على الرغم من كلِّ شيء...

لا أستطيع أن أمنع نفسي، في كلِّ مرة أمر فيها من المكان الواقع على الطريق الواصل بين حمص وطرطوس عند نهاية سهل البقيعة (وهي تلك المنطقة الواقعة ما بين سورية ولبنان، شمال سهل البقاع)، عندما تدنو واسطة النقل التي أستقلها من المفترق المؤدي من هناك إلى قلعة الحصن ومرمريتا أو إلى طرطوس – أقول: لا أستطيع أن أمنع نفسي، في كلِّ مرة، من التمعن في ذلك الجسر الصغير الأخير الواقع على خطِّ سكة الحديد ومن التبسُّم...

لأني أتذكر إلى الآن ظهيرة ذلك اليوم من صيف العام 1979، عندما كنَّا نحتفل بإنجاز العمل في أساسات هذا الجسر (وهذه كانت ثمانية أوتاد تم إنجازها بآليتنا الروسية العتيقة المهترئة في غضون أقل من ثلاث ساعات!) – أتذكر كيف رفعت يومذاك كأس الخمر وخاطبتُ فيتالي (رئيس المجموعة السوفييتية في المشروع هناك):

-       "كأس الأوتاد الثمانية التي أُنجِزَت اليوم، يا فيتالي!"

فيحدِّق فيَّ بعينيه الزرقاوين الباردتين ويجيبني:

-       "وهل تعني بهذا أننا من قبل كنَّا لا ننجز إلا وتدًا واحدًا في اليوم؟" فأجيبه بلؤم:

-       "بالضبط، يا فيتالي، بالضبط... هذا ما كنت أعنيه!"

وأتذكر أنه حاول أن يقول شيئًا، لكن الحديث بيننا انقطع فجأة، وتوجَّه كلٌّ منَّا إلى مكان آخر. وكشريط سريع، تمر أمامي صور تلك الأيام التي قضيتها في ذلك المشروع الذي بدأت العمل فيه في أواخر العام 1978، فور انتهائي من جسر الميادين.

-       "ستكون رسميًّا نائبًا لمدير المشروع، يا أكرم. لكنْ، فعليًّا، ستكون صلاحياتُك هناك صلاحياتِ مدير مشروع، لأن مديره الحالي، وهو صديقي في الدراسة [المهندس عزمي الكسم]، ناعم جدًّا، فلم يتمكن من إدارة هذا العمل كما يجب. وأنا لا أريد أن أجرح شعوره وأُبعِده عن المشروع..."

-       "طيب، يا أبو الخير، سأبذل قصارى جهدي... لكني في حاجة إلى دعمك كلِّه للانطلاق بهذا المشروع الذي أفهم أنه في مأزق، حيث العمل، كما أخبرتَني، شبه متوقف..."

-       "سأدعمك أكثر مما تتصور. فالمهم هو أن نخرج من هذا المأزق."

وأباشر عملي هناك، لأتعرف إلى ظروف تختلف تمامًا عن الظروف التي عملت فيها في الميادين. وكان أول صِدام لي هناك، على ما أذكر، مع رئيس طاقم الخبراء الروس، "الرفيق فيتالي"...

حيث لاحظت، منذ الأيام الأولى، أنهم لم يكونوا يباشرون عملهم قبل الحادية عشرة صباحًا. فأتجه إلى مكتب رئيسهم الذي أسأله عن أسباب هذا التأخير، فيجيبني بكلِّ عنجهية:

-       "نحن نعرف عملنا... وفي كلِّ الأحوال، نحن نوجد دائمًا على رأس العمل قبل مهندسيكم!"

فأضبط أعصابي، وأقول له في برود، وأنا أنهي أول حديث (صِدامي) بيننا:

-       "بدءًا من الغد، رفيق فيتالي، ستجدني وجميع العاملين السوريين في الموقع على رأس العمل في تمام الساعة السابعة صباحًا. وأرجو من كلِّ قلبي أن أجدك هناك في نفس الوقت، أنت وجماعتك!"

وكان هذا ما حصل، وحدَّد منذ البداية علاقة القوة بيننا... لأن الرفاق السوفييت هنا كانوا (في معظمهم) مختلفين جدًّا عن أولئك الذين عملت معهم في الفرات. فالفرق كان شاسعًا جدًّا بين فيتالي، الموظف الحزبي والمسؤول الأمني المتعجرف، وبين سلافا كوزنتسوف، المهندس والمعلِّم والإنسان. وأتذكر...

كيف توقفتُ أول ما توقفت، لدى أول زيارة لي للموقع، أمام دقاقة الأوتاد الروسية القديمة العاملة هناك، التي كان مسؤولاً عنها أحدُ الخبراء الروس وأحدُ رفاقنا من حمص، يعاونهما أربعة عمال، وكيف كان جميع العمال يومذاك نيامًا تحت إحدى الأشجار، وكيف كان رفيقنا المسؤول عن الآلية مستلقٍ هو أيضًا تحت شجرة أخرى يدخن الپايپ! – لأنه وحده كان يعمل يومذاك، وإنْ بحركة بطيئة slow motion، الخبيرُ الروسي الذي كان يغسل بالبنزين بعض القطع المعدنية. وأسأل عن أسباب توقف الآلية، فيجيبونني بأنها متعطلة لنقص في بعض القطع الضرورية لإصلاحها. وأسأل رفيقنا الحمصي المسؤول عن الآلية:

-       "ولم لا تذهب إلى حلب بنفسك لإحضار هذه القطع من المستودع المركزي أو لتصنيعها هناك؟" فيجيبني في وقاحة:

-       "هذه ليست شغلتي... ثم إني أتلقى تعليماتي من الخبير الروسي."

-       "من الآن فصاعدًا ستتلقَّى تعليماتك منِّي مباشرة."

فيرد عليَّ في تحدٍّ، على الرغم من أنها كانت المرة الأولى التي نلتقي فيها:

-       "أفضل عند ذاك أن أستقيل!"

وأجيبه، تحت أنظار العمال والخبير الروسي، الذين كانوا يتابعون "حوارنا الودِّي" مذهولين:

-       "على راسي! سأخبر الأستاذ هاشم الليلة باستقالتك."

وأخبر الخبير أني سأضع تحت تصرفه، بدءًا من الغد، أربعة عمال فنيين آخرين، وأطلب منه التوجُّه مباشرة إلى مركز الشركة في حلب لإحضار القطع المطلوبة.

-       "لكن فيتالي قد لا يوافق على ذهابي، رفيق أكرم." فأجبيه:

-       "أخبره أن هذا أمر مباشر من الأستاذ هاشم."

وكان هذا ما حصل: ذهب إلى حلب، وصُنِّعَتِ القطع، وأُصلِحَتْ الآلية، التي سرعان ما عادت إلى العمل، ولورديتين، كما قررت بالاتفاق مع هاشم. وكان أن أنجزنا في البدء وتدين في اليوم، ثم ثلاثة أوتاد، ثم أربعة، وأخيرًا... ثمانية أوتاد، خلال ثلاث ساعات!

ولكن الأمور لم تكن بهذه البساطة. فقد كلَّفتْني إعادة تسيير الورشة الكثير الكثير من العناء...

-       "لأن بؤرة الفساد في ورشتنا، يا أستاذ، هو موقع السد الركامي، حيث تعمل معظم آلياتنا."

كان هذا ما أخبرني به يومئذٍ أحد مهندسي الورشة الجُدُد، الذي أبدى منذ البداية رغبةً صادقة في التعاون معي.

-       "غدًا سأذهب إلى هناك لأستطلع الأمر. فهل ترافقني؟"

ويأتي الغد، ونتوجه معًا إلى ذلك الموقع الذي وصلتُه عند الساعة الحادية عشرة صباحًا، لأجده خاويًا! وأسأل الحارس:

-       "ما القصة؟" فيجيبني:

-       "لقد أنهى العمال والسائقون عملهم المقطوع وانصرفوا."

أكتم غيظي، وأقول للمهندس الذي كان يرافقني:

-       "سنرى غدًا!"

وفي اليوم التالي، أتعمَّد الوصول إلى الورشة في التاسعة صباحًا، فأجد الجميع موجودًا في انتظاري. أدعو المهندس المسؤول عن الموقع والخبير الذي يساعده إلى اجتماع لمناقشة الأوضاع. لكنْ، ما أن جلسنا حول المنضدة حتى فتح باب المكتب بقوة ثلاثة عمال (سائقين) ملتحين (افهم: أصوليين!)، قال لي كبيرهم، بلا مقدمات وبكلِّ تحدٍّ:

-       "يا أستاذ، نحن الذين نحدِّد هنا مواعيد العمل وساعات الدوام!" فأجبته:

-       "على حدِّ علمي، الإدارة هي التي تحدد مواعيد العمل وساعات الدوام! اخرجوا الآن من هنا، ولاقوني غدًا في الكامپ لنتحدث في الأمر."

فينظر إليَّ أحدهم في تحدٍّ ويقول متهكمًا:

-       "الكامپ؟ ماذا يعني "كامپ"؟! إنه لا يعرف عربي!" فأكتم غيظي وأجيبه:

-       "قلت لكم إني سأقابلكم غدًا في الموقع، وسنرى."

ويخرجون ببطء وهم يتمتمون كلمات لم أفهمها. وكان ما يجب عليَّ أن أفعل قد توضح في ذهني. فأسأل الخبير ومهندس الورشة أن يعطياني مباشرة أسماء عشرة عمال وسائقين هم الأسوأ في الموقع، وعلى رأسهم هؤلاء الذين كانوا هنا الآن، فأحصل على ما أريد. وأتجه مباشرة إلى حمص لأتصل على الفور بهاشم الذي أخبره بما حصل، وأطلب منه أن يصدر أمرًا إداريًّا بتسريح هؤلاء من العمل مباشرة أو بنقلهم إلى دمشق إنْ لم يكن تسريحهم ممكنًا. فيجيبني، بعد أن أمليت عليه الأسماء، أن هذا الأمر سيصلني برقيًّا خلال ساعتين، ويطلب مني تأمين حراسة لنفسي، تحسبًا لما قد أتعرَّض له من مخاطر، معيِّنًا لتلك المهمة السائق الذي كان معي والذي كان فيما مضى سائقه الخاص.

ويأتي الغد من جديد، وعلى باب مكتبي يقف "حارسي الشخصي" الذي اعتمدته – لأول وآخر مرة في حياتي! الجميع في الورشة كان مستنفَرًا في ذلك اليوم توقعًا لأيِّ حادث وللاتصال بالشرطة في حال حدوث أيِّ شغب. ويأتي "الفرسان" الملتحون الثلاثة، ليتبلَّغوا من لائحة الإعلانات قرار تسريحهم الفوري من العمل. وأتذكر أنهم تفوَّهوا بصوت عالٍ ببعض الكلمات النابية التي سمعتها من مكتبي، قبل أن ينصرفوا وقد لاحظوا الأجواء المعبأة ضدهم، وتلمَّسوا عمليًّا أننا كنَّا على وشك استدعاء الشرطة. وأعود مباشرة إلى موقع السد برفقة مهندسه لتفقُّد الوضع ومتابعة العمل من جديد – هذا العمل الذي سرعان ما بدأ شيئًا فشيئًا في التحسن وأصبح من بعدُ شبه طبيعي.

ولكن الأمور لم تمر، على الرغم من هذا، بهذه البساطة! فقد بقيت أتلقى رسائل وهواتف تهديد بالقتل طوال فترة بقائي هناك. كذلك، روَّجتْ بعضُ الأوساط في الحزب أنباءً تتهمني بالعداء للسوفييت؛ كما كُتِبَتْ ضدي حينذاك مقالةٌ في صحيفة نقابات العمال في حمص تتهمني بالتعسف لتسريحي أبناء الطبقة العاملة المساكين! ثم جاء وفدٌ من منطقية الحزب الشيوعي في حمص ليقابلني وليطلب مني التراجع عن قراري – وكان صديقي عطية مسوح من بين أعضاء هذا الوفد. لكن السيف كان قد سبق العذل. وأتساءل اليوم عن تلك الشجاعة التي تملَّكتني حينذاك، فجعلتْني أتصرف كما تصرفت؛ ولا أجد جوابًا سوى أني كنت مازلت شابًّا، وأن هذا كان ما فرضتْه الأوضاع، وخاصة أن هاشمًا، بكلِّ جبروته، كان إلى جانبي. وأيضًا...

وألتقي في الورشة بمعارف قديمة لي من القامشلي: النجارين الأرمنيين كوكو ويروانت، اللذين كانا يعملان هنا في قسم الجسور والعَبَّارات، فيرحبان بي ترحيبًا حارًّا. وألاحظ في ورشتهما وضعًا طريفًا، أحاول أن أفسِّره بنفسي فلا أستطيع: كانت مساند القوالب – وعددها ست جوائز معدنية – التي يُفترَض (كما كنَّا نفعل في القامشلي) أن تكفي لصبِّ فتحتين معًا، تُستعمَل استعمالاً منقوصًا، أي أربعة جوائز للفتحة الواحدة، مما يترك مسندين بلا عمل، ولا يسمح، بالتالي، إلا بصبِّ فتحة واحدة في كلِّ مرة. وأسأل كوكو عن الأمر، فيجيبني:

-       "هكذا قرَّر كبير الخبراء فيتالي، على الرغم من أن الأستاذ هاشم كان يرى عكس ذلك. فالأستاذ هاشم كان يرى رأيك، يا أستاذ."

وأطلب منه التريث إلى الغد للاتصال بهاشم، وأبلِّغه من بعدُ ماذا سيكون القرار. وفي المساء اتصلت بهاشم كالعادة وحدَّثته عن الموضوع، فأجابني:

-       "افعل ما تراه مناسبًا، يا أكرم، وأنا معك. هذا رأيي منذ البداية. لكن، هذا الـ... فيتالي لا يتصرف إلا بما يعيق العمل."

في اليوم التالي، طلبت من كوكو أن يستعمل الجوائز المعدنية الست جميعًا لنصب الكوفراج لفتحتين عوضًا عن فتحة واحدة، فيضحك ويجيبني:

-       "سأنفذ، يا أستاذ. فأنت والأستاذ هاشم على راسي. لكن فيتالي سيغضب جدًّا، وستحصل مشكلة."

وكان هذا ما حصل. وصل الخبر إلى فيتالي، الذي سرعان ما رأيته يقتحم عليَّ مكتبي غاضبًا وهو يقول:

-       "أأنت الذي أعطى الأمر إلى كوكو باستعمال الجوائز الست لتركيب فتحتين؟" فأجيبه:

-       "نعم، يا رفيق فيتالي، أنا أعطيت الأمر."

-       "إذن، بدءًا من الآن، لن نكون نحن مسؤولين عن هذا العمل!" وأجيبه بكلِّ برود:

-       "كما تريد!"

وتُجهَّز الفتحتان للصبِّ خلال يومين، ويتم الصب في اليوم الثالث. وأتذكر أني اتخذت يومذاك كلَّ الاحتياطات لقياس الهبوط، بحيث كان بوسعي، إنْ حصل أي طارئ فنِّي، إيقاف الصب مباشرة، لأن الجو كان متوترًا، ولأني كنت خائفًا فعلاً. ويتم الصب، الذي أشرفت عليه بنفسي، بشكل طبيعي وبكلِّ هدوء، ولكنْ – وهذا هو الأهم – في غياب كامل للخبراء الروس. وأتذكر أني أخبرت بذلك هاشمًا، الذي كان مسرور جدًّا من النتيجة، فطلب مني التوجه مباشرة لمقابلة فيتالي وإخباره بأن الأستاذ هاشم الذي حدَّثته منذ لحظات يفكر في الاستغناء عن خدمات بعض "خبرائكم" الذين يشرفون على الجسور. وكان هذا ما فعلت. وفي اليوم التالي، كان الجميع على رأس عمله في شكل طبيعي!

نعم، في شكل طبيعي... كما أصبح طبيعيًّا جدًّا أيضًا ألا يمر الخبراء الروس بعد الآن ذهابًا وإيابًا، عبر الأراضي اللبنانية، لشراء المهرَّبات، وذلك بعد أن هدَّدتُهم برفع الموضوع إلى هاشم وإلى سفارتهم.

وتنضبط الأمور في الورشة التي أصبح هاشم، الذي كنت أكلِّمه كلَّ مساء، يأتي بتواتر أكبر لزيارتها؛ لا بل أصبح صديقه المهندس عزمي الكسم، مدير المشروع، يستمتع بمرافقتي في أثناء جولاتي اليومية على مواقع العمل – عزمي، المهندس العجوز الطيب، الذي انتحى بي ذات يوم جانبًا ليخبرني بما يلي:

-       "يا أكرم، أخبر الأستاذ هاشم بهذا مباشرة، أرجوك. فقد سمعت البارحة من صديق لي يعمل في رئاسة مجلس الوزراء أنهم قرروا الاستغناء عن خدمات هاشم واستبدال مهندس آخر به لم أسمع باسمه من قبل، ويدعى غسان ف."

وأُصعَق للخبر الذي صدَّقته على الفور. فعزمي الكسم كان قريبًا عائليًّا لرئيس وزرائنا الجديد، المهندس عبد الرؤوف الكسم. وأنا كنت أعرف جيدًا المهندس غسان ف. الذي كان رفيقًا لنا ويعمل في الإسكان العسكري. أعرفه، نعم، لأني كنت مسؤوله الحزبي إبان فترة الخدمة العسكرية. وأخبر هاشمًا عند المساء بما سمعت، فيجيبني بأنه لم يسمع شيئًا من طرفه، لكنه سيستفسر ويأتيني في الغد بالنبأ اليقين. وكان النبأ اليقين الذي أخبرني به أبو الخير في اليوم التالي حزينًا، لأن ما نقلتُه له على لسان عزمي الكسم كان صحيحًا!

وأتذكر أن النوم لم يداعب جفوني إبان تلك الليلة. وأتفكر، في حزن وغضب، بأنه كان عليهم فعلاً التخلص من هاشم الذي لم يعد، بحُكْم شخصيته المستقلة ونزاهته اللامتناهية، مناسبًا – لا لرفاقه في الحزب الشيوعي ولا للبعث الحاكم... لأن مَن بات يناسبهم جميعًا، في كلِّ مكان، وخاصة في مواقع العمل، كانوا شخصيات على شاكلتهم: أشباه انتهازيين و/أو أشباه لصوص! فالقطاع العام في تلك الأيام، وعلى رأسه تلك الشركة–الأخطبوط التي كان اسمها "الإسكان العسكري" – تلك التي أضحت "دولة ضمن الدولة" – بات يتحول إلى بقرة حلوب يجنون من خلالها المكاسب، ويعقدون من خلالها الصفقات، ويعيِّنون فيها الأزلام والندماء. وغسان ف. كان يعمل في الإسكان العسكري، وكان أحد المقرَّبين من خليل بهلول، مديرها العام، من جهة، وأحد معتمَدي رفيقنا يوسف فيصل، كما تأكدت لاحقًا، من جهة أخرى. وأتفكر بكلِّ برود بأن أيامي في الشركة أضحت معدودة، وبأنه بات عليَّ التفكير بالبحث عن عمل آخر في مكان آخر.

وأتذكر أني اجتمعت بهاشم في منزله عشية تَرْكِه الشركة. أوصاني بالتروِّي قدر المستطاع، لأن الشركة هي شركتنا في النهاية. ووعدته بأن أبذل قصارى جهدي. لكني كنت أعلم، في قرارة نفسي، كما كان هو يعلم، أن هذا بات مستحيلاً.

وسرعان ما جاء غسان ف. لزيارتي في موقع حمص–عكاري بعد أيام من تسلُّمه لإدارة الشركة. وأتذكر أنه كرَّر عدة مرات أمامي يومذاك أنه يعتمد عليَّ كثيرًا لمساعدته في مهمته الجديدة، وأنه لم يأتِ كبديل لهاشم، إنما كاستمرار له... قبل أن يسألني عن رأيي في الانتقال إلى ورشة حمص–دمشق (التي كان مركزها جيرود)، لأكون قريبًا منه، من جهة، ولأن مدير الموقع هناك، صديقي المهندس جورج جبور، طلب منه أن ينتقل إلى حمص–عكاري ليكون قرب عائلته، من جهة أخرى. ويخبرني أيضًا أنه قرَّر الموافقة على استقالة عزمي الكسم، لأنه لم تعد هناك فائدة تُرجى من استمراره معنا في الشركة. وأفكر: "هي ذي النقلات قد بدأت، وبأسرع مما كنت أتوقع!" وأوافق على الفور على اقتراحه. وأتذكر أيضًا أني...

باشرت بعد أيام، في أواسط حزيران 1979، مسؤولياتي كمدير لمشروع إنشاء خطِّ سكة حديد حمص–دمشق الذي كان موقعه الرئيسي في بلدة جيرود الواقعة على بعد حوالى 40 كم من دمشق – ذلك المشروع الذي لم أستمر فيه طويلاً والذي غادرتُه كما غادرتُ الشركة في أواخر العام 1979 – ذلك العام الذي كان حافلاً بالأحداث، على ما أذكر.

ففي مطلعه، كان انتصار الثورة الإيرانية بقيادة الإمام الخميني... وفي 26 آذار 1979، كان السادات يوقِّع في واشنطن على اتفاقية كامپ ديفيد... وفي سورية، كان الأصوليون يقومون في حزيران 1979 بمجزرة مدرسة المدفعية ويدشِّنون دخول البلد في دوامة العنف المجنون والمنفلت من عقاله.

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] « … La vie m’a doublé. / Ce n’est pas régulier / Pour un pauvre lézard / Qui vit par hasard / Dans la société. / Moi, la société, / Je ne veux pas m’en mêler. / Je suis un type à part, / Une graine d’ananar… »

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود