|
ذكرى مع ناسك الشخروب
الهارب من الحاضر له الماضي والمستقبل. والمستقبل يعبق نحوه الضبابُ والدخانُ وأحلامُ الشباب الأبرياء. يبقى لي أن أروي جفاف الحاضر بماء من جداول الماضي، البريء أيضًا – ويا ليت الذاكرة تصون براءة الماضي وتقدِّمها على سواها! يمرُّ في بالي هذه الأيام "ناسك الشخروب" ميخائيل نعيمه، وأسأل: هل أصغى إلى هذا الكبير وطنُه لبنان؟ – كما يجب أن يكون الإصغاء. التقيت به في موسكو ضيفًا على الحكومة السوفييتية، وأنا ضيفة على خال والدي – وكان سفير لبنان هناك. تشرفت واغتنيت بالتحادث معه، وتشرفت أيضًا بمرافقته في بعض جولاته في الاتحاد السوفييتي آنذاك. طليق هو في التعبير باللغة الروسية. تعلمت منه الحروف الأبجدية وبعض التعابير، وأصغيت إليه يحدثني عن مكسيم غوركي وتولستوي ودوستويفسكي وسواهم من كبار الحرية والحق. رافقتُه إلى المتاحف، وخاصة متحف الكرملين. تسمَّرت أمام أحجار الزمرد الضخمة التي ترصِّع سرج الفارس بطرس الأكبر؛ وكان يبتسم ويقول لي: "الزمرد هذا من أسباب الثورة الكبيرة!" ورافقتُه إلى مسرح البولشوي الرائع، وتمتعت معه بتذوق الباليه والأوپرا الروسية. وهمس في أذني، بعيدًا عن مسمع سالا السكرتيرة، قصةَ حبِّه الكبير عندما كان تلميذًا شابًّا يتلقى العلم في پولتافا (أوكرانيا). قلت له "ألست مشتاقًا إلى معرفة أخبار هذه الحبيبة؟" قال لي في خَفَر: "سألت عنها، ومازلت أنتظر الجواب!" وزرت مع هذا الكبير ياسنايا پوليانا، مقرَّ تولستوي في ضواحي موسكو: قصر ريفي حيث مازالت ساعة الحائط تسجِّل وقت ترك هذا الكاتب الكبير قصره هربًا من أجواء منزلية وتَّرتْه – ولم يعد إلى القصر إلا ميتًا! ومدفن تولستوي بسيط للغاية؛ إنه، كما أراده، عبارة عن مرتفع صغير من التراب في أحد جوانب القصر. كان دليلنا في القصر أحد أنسباء الكاتب العظيم. روى لنا قصصًا وطرائف من حياة عمِّه الكونت، – هو الذي تحرَّر من قيود نبله وعاش للفلاحين ومعهم، – وروى لنا أن رواية آنا كارينينا هي رواية شبابه. كان اتصال تولستوي بأحرار الغرب قويًّا، من علماء وسياسيين وكتاب. كانت زوجته تساعده في تدوين نصوص كتاباته، تنقلها أو يمليها عليها، وكانت تتحمل في صبر ومرارة "التشطيب" الدائم في هذه النصوص وإعادة كتابتها من جديد. وقد بقي الجو متوترًا بين الزوجين حتى وفاة تولستوي. وحدَّثني أديبنا الكبير ميخائيل نعيمه عن أيامه في البلاد الروسية، في الجليد والصيف معًا، وعن صداقاته وحبِّه لهذا الشعب الطيب. كان يُفرِحني أن أسمع قهقهته وهو يضحك لطرائف أرويها له، – وهو المعروف بالجدية والرصانة حتى العبوس، لكنه بلا شك يحمل قلب طفل، متوقِّد الوجدان، يحب الحياة الصادقة، وله بين البسطاء والفلاحين أصدقاء. ولكم شرفني تكريم الدولة السوفييتية له وشدة احترامها لأدبه الذي نُقِلَ معظمُه إلى الروسية. وعدت مع نعيمه في الطائرة لأحطَّ في باريس. كان الطقس باردًا، وكانت حقيبتي منتفخة لا تتحمل زيادة في الوزن، وقد حشوتها بالكتب والأسطوانات والصور، فلم يبقَ فيها مكان للأغراض الصغيرة الحجم. لبنانية مقيمة في موسكو مع زوجها نصحت لي أن أتحمل البرد وأن أحمل معطفي بيدي وأملأ جيوبه الكبيرة بالأغراض الصغيرة الغالية عليَّ وأغلق الجيوب الملآنة بالدبابيس. أقبلت على نصيحتها في اندفاع تام، وحملت المعطف وأنا أتعثَّر في السير لثقله. قال لي أستاذنا الكبير: "دعيني أحمل المعطف عنك، فيسهل عليك الصعود إلى الطائرة." فوجئ بثقل المعطف غير المعقول. وعندما أقلعت بنا الطائرة، سألني في جدية عن سرِّ هذا الثقل وعن أسبابه. أجبته في صدق أنني توخيت تخفيف وزن حقيبتي الكبيرة، فلا يكون وزنها فوق الشرعي المطلوب. التفت إليَّ، فطلع عليَّ وجهُه بعبوس أربكني، وقال لي ثلاث مرات، كأنه قول الطلاق: "هذا، يا ابنتي، اسمه غِش – هذا اسمه غش – هذا طبعًا اسمه غِش!" خجلت ونسيت البرد من حرِّ الخجل. وغرق سفري معه من موسكو إلى باريس في حديثه عن الغِشِّ ومساوئه وعيوبه وأخطاره ومفاسده. قال لي في حدَّة: "الغِشُّ عيب هدَّام." وقال لي: "المثقف لا يغش – الحرُّ لا يغش، والمؤمن لا يغش!" ودَّعته في مطار باريس. قبَّلت جبينه وقلت له: "لن أغشَّ بعد اليوم، وستبقى جيوب معطفي فارغة إلا من الدفء!" أتذكر هذا وأضحك! لو كان ميخائيل نعيمه بيننا اليوم، ماذا عساه يقول للغشَّاشين وللغِش الذي جعل الجيوب مسكنًا للفساد ومخبأ للأيادي السود؟! *** *** *** |
|
|