|
أي معنى للأخلاق خارج مصلحة النوع في البقاء؟ بعض القيم الإيكولوجية التأسيسية
لم تعد "القضية البيئية"، كما تُطرَح في العالم اليوم، قضيةً جزئية ضمن قضايا أخرى سياسية واقتصادية وفكرية أشمل، بل أصبحت قضية حضارية شاملة، تعبِّر عن مأزق إنساني وحياتي خطير يتمثل في تهديد أسُس الحياة على كوكب الأرض، وفي تهديد النوع الإنساني في بقائه، وذلك نتيجة سوء تفاعل الإنسان نفسه مع الطبيعة، عبر مدنيته ومنظوماته الإنتاجية والاستهلاكية ومنظوماته الأخلاقية والقيمية، وليس لأسباب "طبيعية"، كما يشاع مرارًا. فإذا كانت المدنية، عبر "تطورها" وطرائق تقييمها وتقويمها، هي المسؤولة عن إحداث اختلالات عميقة في توازنات الطبيعة، وبالتالي عن "القضية البيئية"، وجب أن نبحث عن أخلاقيات بديلة أو عن "عقد اجتماعي" جديد وبديل. فما الذي تقترحه القضية أو تتطلَّبه؟ – قضية "الأخلاق البيئية البديلة" (إذا صح التعبير). يجب التنبه، بدايةً، إلى أن قيمنا كلَّها، في جوهرها، هي قيم "إنسانية"[1]، وأن هذه القيم "الإنسانية"، التي عظَّمت من شأن الإنسان وألَّهته ومنحته سلطانًا على بقية الكائنات، هي المسؤولة عن تفاقُم "القضية البيئية" (كما وعن تأزم بقية القضايا الاجتماعية والاقتصادية إلخ) المتمثلة، في اختصار، في تهديد أسُس الحياة على هذا الكوكب، ولاسيما حياة النوع الإنساني، وأن النوع الإنساني، بحسب العلوم الإيكولوجية، جزء لا يتجزأ من شبكة الحياة التي تضم عددًا غير معروف ومصنَّف من الأنواع والكائنات الحية الأخرى[2]، المتصل بعضها ببعض اتصالاً في غاية التعقيد. انطلاقًا من ذلك، وجب علينا أن نعيد النظر في قيم النوع الإنساني كي تصبح أقل "إنسانية" وأكثر تواضعًا، أقل تمايزًا وتفردًا وأكثر اندماجًا في الحياة وتشارُكًا مع بقية الكائنات – "أقل إنسانية"، بمعنى عدم مَرْكَزَة القيم كلِّها حول الإنسان على حساب بقية الكائنات، وحول الإنسان الحالي على حساب الأجيال القادمة، بما يسوغ إضفاء القيمة على الفرد على حساب النوع الإنساني أيضًا! لعل أهم المبادئ التأسيسية التي لا مناص من أن تتبناها الأخلاق البيئية الجديدة هي التواضع، – التواضع في المكانة بالنسبة إلى باقي الكائنات، والتواضع في المعرفة بالنسبة إلى حجم الأشياء التي لا نزال نجهلها، والتواضع تجاه باقي أفراد وجماعات النوع الإنساني، – لأن الجميع يشترك في وحدة الحياة والمصير، – وعدم الاعتقاد بأن الإنسان هو مركز الكون والكائن "الأرقى" والأقوى بين الكائنات، بما يعطيه الحق في التسلط عليها (بغضِّ النظر عن أيِّ اعتقاد حول مصادر هذا الحق). هنا لا بدَّ لنا من أن نؤكد أن النوع الإنساني يشكل الحلقة الأضعف في شبكة الحياة، لناحية كونه الأقل عددًا بين كائنات حية كثيرة، والأقل توزعًا جغرافيًّا قياسًا إلى مساحة الكوكب، والأقل قدرة على التأقلم ومقاومة الأمراض[3]. وهو يكاد ألا يتجاوز الكثير من الكائنات في متوسط عمره قياسًا إلى أعمار بعض أنواع الحيوان والأشجار التي تعمِّر آلاف السنين. هو نوع "اتكالي"، يحتاج إلى فترة زمنية قياسية لبلوغ سنِّ النضوج قياسًا إلى كائنات كثيرة تستقل بعد بضعة أسابيع على ولادتها. هو كائن عنيف وعدائي وغير أخلاقي (بالمعنى الإنساني)، يمكن له أن يقتل لغير دافع البقاء، قياسًا إلى غالبية الكائنات المعروفة التي "تقتل" لتأكل وتستمر في العيش ضمن سلسلة غذائية محددة، إلخ. هذا التواضع في المكانة والمعرفة يمكن له أن ينعكس إيجابًا على العلاقات الإنسانية نفسها، ويخفف من حدة التنافس الذي يُعتبَر المسبِّب الأساسي لاختلالات ومشكلات كثيرة ومتعددة بين البشر أنفسهم وبينهم وبين الطبيعة. نحو تنظيم التنافس نتعلم من علمَي البيولوجيا والإيكولوجيا أن التنافس علاقة حياتية طبيعية تنشأ بين الأفراد ذوي الاحتياجات المعيشية المتماثلة، سواء كانت تنتمي إلى نوع واحد أم إلى أنواع مختلفة. التنافس بين أفراد النوع الواحد هو إحدى الآليات الكبرى في حدوث "الانتقاء الطبيعي"، بحسب داروِن. أما التنافس بين الأفراد المنتمية إلى أنواع مختلفة، فهو من بين العوامل التي تؤدي إلى انقراض أحد الأنواع المتنافسة. التنافس بين الحيوانات يكون عادة على الطعام، وبين نباتات الغابات على الضوء؛ أما بين الكائنات المستقرة في قيعان المسطحات المائية الضحلة، فقد يكون التنافس على المكان (على سبيل المثال). والقاعدة، في العادة، هي أن حدة التنافس تزداد كلما تناقصت الموارد أو زادت كثافة "نسل" الأطراف المتنافسة. وهذا ما يعبِّر تمامًا عن أزمة النوع الإنساني أو "القضية البيئية": تناقُص الموارد واستنزافها عبر طرائق غير ملائمة من الإنتاج والاستهلاك، وزيادة سكان الكوكب عبر طرائق غير ملائمة من التحكم بالأمراض والنسل، إلخ. وهذا ما يهدد النوع الإنساني في وجوده وبقائه. ويلاحظ المشتغلون بالبيولوجيا التطورية أيضًا أن التنافس لا ينشأ مادام المسكن الطبيعي عامرًا بالاحتياجات المعيشية بالقدر الذي يكفي جميع الأفراد و/أو الأنواع الموجودة في المكان الواقع في نطاق هذا المسكن. وهذا "التعايش" مألوف بين معظم آكلات العشب. ويصبح التنافس واردًا إذا زاد نسل هذه الكائنات عن الحدِّ الذي يتناسب مع ما تمنحه الموارد المتاحة. هل يعني ذلك أننا يجب أن نحمل شعار "وقف التنافس" بين أفراد النوع البشري وجماعاته إنقاذًا لوجوده؟ قد يبدو شعارًا ساذجًا، بل مناقض للطبيعة، كما يبيِّن علم البيئة. ولكن، كان من السهل ملاحظة أن هناك حالات توازن تشكل حدود هذه المنافسة بالقدر التي تنجم عنها أيضًا. ولعل أقصى ما نسعى إليه في هذا المجال هو في حسن تنظيم هذا التنافس وإدارته بالمحافظة على نوع من التوازن، وذلك عبر إيجاد ديناميَّة جديدة للحدِّ من نمو الكثافة السكانية وترشيد استخدام الموارد والتحكم في تأثير البشر في الوسط المحيط بهم، عبر تغيير أنماط السلوك والقيم والنموذجين الإنتاجي والاستهلاكي. لا بدَّ للحديث عن التنافس في الطبيعة والمجتمع من أن يحملنا أيضًا على بحث مسألة التنوع في الطبيعة وفي المجتمع البشري أيضًا. وكما ارتبطت مسألة التنافس بالتوازن، يمكن الافتراض أيضًا أن مسألة التنوع مرتبطة بدرجة الاستقرار. ولا تحسم النظريات البيئية هذه المسألة. وقد لاحظ بعضهم أنه كلما زادت درجة تنوع الجماعة الأحيائية أصبحت أكثر استقرارًا، في وقت لاحظ بعضهم عكس ذلك. ويبدو أن الجواب الصحيح يخضع "للتعددية"، بمعنى عدم وجود قاعدة تسري على الحالات كلِّها. ولعل التعددية في التأويل والتفسير تساهم أيضًا في الرفع من قيمة التواضع الإنساني، وفي التخفيف من مستوى الادعاء والتعصب للأفكار والمعتقدات، وفي إعادة التوازن بين الإنسان والطبيعة. لطالما طُرِحَ الموضوع الأخلاقي والقيمي عند الشعوب من منظار الفصل بين الخير والشر. انطلاقًا من ذلك، يغدو السؤال المطروح على البيئيين، بكل بساطة، هو: ما هو الخير الذي يجب أن نسعى إليه؟ – الخير المطلق والأعم. الجواب البديهي هو أن الخير لدى النوع، أيًّا كان، هو في بقائه أولاً: الخير الأعظم للبشرية هو في بقائها وديمومتها. وإذا كانت حياة النوع الإنساني لا تنفصل عن شبكة الحياة ككل، يغدو الخير الإنساني في بقاء الحياة بعامة، عبر بقاء أسُسها و توفر شروطها. ولطالما تم تبرير عنف الإنسان، كونه نتيجة طبيعية لعنف الطبيعة نفسها ولمقولتي "الصراع من أجل البقاء" و"الانتقاء الطبيعي". وكنَّا نعتقد أن "العلم الإنساني"، في جوهره وفي أهدافه الرئيسية والنهائية، كان يطمح دائمًا، بالإضافة إلى تطوير فهمنا للحياة، إلى حلِّ عقدة الخوف من قوى الطبيعة وتفكيك هذه العقدة، وليس إخضاعها وإحكام السيطرة عليها واستغلالها حتى الاستنزاف. كما كنَّا نعتقد أن "الحضارة الإنسانية" هي في كيفية ترقية الذات الإنسانية وإيجاد الطرق والسبل للعيش والبقاء بسلام خارج إطار الصراع الدائم. وإن "العقلانية" هي غاية في ذاتها، وليست وسيلة للاحتيال والتذاكي أو للتعالي على الطبيعة والآخر؛ وهي في الاتكال على الذات الإنسانية دون سواها، وعلى عقل الإنسان للتقييم والتقويم وتأسيس المعرفة ولحفظ التوازن الشخصي لكلِّ فرد والتوازن بين الإنسان والطبيعة، وليست وسيلة سيطرة وأداة إخضاع وتحكُّم واستغلال واستقواء. وإذ لم ينجح العلم ولا الحضارة ولا العقل حتى الآن في تحقيق الغايات الأساسية المذكورة، فلا يعني ذلك أننا نطالب الآن بالعودة عن هذه المقولات الثلاث إلى ما قبلها أو إلى ما يناقضها، بل إلى إعادة تفكيكها وتركيبها من جديد، إلى إعادة "عقلنة" العقلانية بعد أن أفلتت من عقالها، بالعودة إلى مفهوم العقل[4] الأولي؛ بالعودة إلى تمثيل دور الرابط بين القضايا والموفِّق فيما بينها، والتخفيف من الادعاءات، كمثل منح الإنسان دور المبدع الخلاق الذي يشارك الله في الخلق، ولاسيما إذا اعتُبِر مفهوم الخلق أو الإبداع بمعنى ابتداع الحقيقة وتأسيسها وإضافة شيء إلى الطبيعة وتحويرها وتحويلها بقصد تملكها – مع العلم بأننا لا نؤمن (نلاحظ) أن هناك في الطبيعة عملية خلق شيء من لاشيء؛ وبالعودة عن مفهوم "التقدم" الذي اعتُبِرَ بمعنى إحكام السيطرة على الطبيعة وتطويعها (بدافع حب السيطرة!)، وليس التقدم في فهم الطبيعة (الطبيعية والبشرية) بدافع تأمين سُبُل العيش والعيش في سلام واستقرار إلخ. والسؤال الذي يُطرَح هنا هو: هل دوافع ورغبات حبِّ التملك والسيطرة هي دوافع طبيعية وأصلية أيضًا؟ أم هي مجرد ردود فعل ودفاع عن نفس الإنسان من تقلبات الطبيعة وقواها؟ – حيث لم ينجح "العلم" في معرفة هذه الطبيعة، ولم تستطع "العقلنة" أن تساهم في فكِّ عقدة الخوف منها و"التقدم" في زيادة مدى القدرة على التناغم معها. نتعلم اليوم من علم ظواهر الطبيعة و"كوارثها" أن الإنسان هو ملك الطبيعة، وليس العكس؛ هو جزء من نسيجها، وليس سلطانًا عليها؛ وهو يشترك معها في وحدة الحياة والوجود والمصير: فما يصيبه يصيبها، وما يصيبها يصيبه. فعليه أن يستبدل بعلاقة السيطرة والاستغلال التي يمارسها عليها تاريخيًّا علاقة الاحترام والتهيب. وإذا كان لا يمكن له إنكار حقِّه الطبيعي في استثمار الطبيعة (بدافع البقاء أصلاً)، فذلك يجب أن يكون على قاعدة احترام متطلبات – كي لا نقول "حقوق" – الطبيعة للبقاء والتجدد أيضًا. القيمة الذاتية ليست القيمة حكرًا على ما هو بشري فقط، ولم يعد مقبولاً اعتبار أن قيمة كلِّ ما هو غير إنساني هي قيمة أداتية فقط (لمصلحة الإنسان) – فكل شيء، في حدِّ ذاته، له قيمة وجودية وحياتية. وإن ازدهار ما هو حي على الأرض ذو قيمة جوهرية وذاتية: فقيمة الأشكال غير البشرية للحياة مستقلة عن النفع الذي تقدمه للأغراض البشرية الضيقة. وإذن فلا يجوز للنوع الإنساني، ضمن مفهوم الحق الطبيعي المستند إلى مصلحة الحياة للبقاء والتجدد (كونه كائنًا يقيِّم ويقوم)، أن تكون له قيمه الخاصة على حساب باقي الكائنات. أما عن ادعاء الإنسان أنه يتميز عن غيره من الكائنات المعروفة بأنه كائن "عاقل" وبأنه كائن أخلاقي "يقيِّم"، أي لديه سلَّم قيمي، فهذا يجعله مسؤولاً أكثر من غيره – وعن غيره ربما. ولعل نسبية القيم بين المجموعات البشرية التي توحي بأنها غير مطلقة، عبر التاريخ وفي التاريخ، هي مدعاة للتواضع الإنساني أيضًا. والمسؤولية في القضية البيئية مسؤولية متعددة الأوجُه: 1. مسؤولية أيِّ فرد تجاه نفسه وتجاه باقي الأفراد؛ و 2. مسؤوليته تجاه باقي الكائنات التي يشترك معها في وحدة الوجود والمصير وعليه، بالتالي، أن يحافظ على بقائها؛ و 3. مسؤوليته تجاه الأجيال القادمة، حيث لا يستطيع أن يُلزِمَها بقراراته ويحمِّلها في المستقبل مسؤولية تصرفاته الحالية. نحو تعزيز حبِّ الامتلاء، لا الامتلاك الكرة الأرضية ومواردها كافة، من معدنية ونباتية وحيوانية، تشكل ميراثًا (بمعنى الوديعة) مشتركًا يخص البشرية جمعاء، وليست ملكًا لأحد في الوقت نفسه؛ إنها بمثابة ميراث لا يجوز لأحد التصرف فيه. وتسعى الأخلاق البيئية الجديدة إلى تعزيز حبِّ الامتلاء الداخلي الذي يعتمد على الغذاء الروحي عند الإنسان، وإلى التخفيف من وهم حبِّ الامتلاك المادي، – حب الامتلاء الفكري، لا حب الاستهلاك المادي، – لأن في ذلك سعادة أعمق. فالزيادة المادية في الاستهلاك لا تعني بالضرورة تحسينًا لنوعية الحياة، بل قد تعني تهديدًا جديًّا لشروط هذه الحياة ومقوماتها. ثم إن وهم السعادة وحبِّ التملك والاستهلاك لا يقتصران على الأغنياء فقط. الفقراء أيضًا متوهمون، ويساهمون في دفع العالم إلى حافة الهاوية. فلا وجود لفقراء لا يملكون شيئاً، ولا بدَّ من أن تكون لديهم ملكيات صغيرة؛ ومهما تكن هذه صغيرة، فهم يحرصون عليها ويتعلقون بها، كالأغنياء وأكثر؛ وهم، كالأغنياء أيضًا، لديهم رغبة شديدة في المحافظة على ما يملكون وعلى زيادة ممتلكاتهم. وربما تكون لديهم متعة أكبر في امتلاك الأشخاص، لا امتلاك الأشياء المادية فقط؛ وهذا ما يفسر، ربما، زيادة نسبة الولادات في المجتمعات الفقيرة.[5] وقد تتوسع دائرة حبِّ الملكية وأوهامه لتشمل، بالإضافة إلى المقتنيات والأدوات، الأحبةَ والأصدقاءَ والصحةَ والعقيدةَ والفكرةَ إلخ؛ وقد تصل إلى الأسماء والمواقع الاجتماعية والألقاب والمهنة والمركز والصورة التي لدينا عن أنفسنا أو التي نحب أن يرانا بها الآخر – وباختصار، إلى كلِّ ما من شأنه أن يملكنا بدلاً من أن نملكه، وأن يضلِّلنا ويسلبنا ذاتنا الحقيقية، فلا نعود "نحن" بصفتنا كائنات تتوق إلى التحرر. على أية حال، ليست السعادة، عند الإيكولوجيين العميقين، في الغنى الذي يعني الزيادة في الملكية أو في الاستهلاك. فليس الغني هو الذي يملك كلَّ شيء، لأن لا أحد يستطيع أن يملك كلَّ شيء؛ ولا هو الذي يستطيع أن يستهلك الكثير (لا بدَّ من أن يظل الشعور بالنقص وعدم الاكتفاء يلازمه إذا كان الاستهلاك هدفه). الغني هو الإنسان المستغني، هو الكائن الحر، المتحرر من سيطرة الأشياء الخارجية ومن أوهام الحاجات الكاذبة. إنه المستغني عن كلِّ ما هو غير ضروري للحياة. من هنا، فقد أضحى مطلب المساواة مطلبًا بالغ الخطورة اليوم إذا كان على قاعدة تحقيق الثراء لجميع الناس والوصول إلى مجتمع الرفاهية والبحبوحة التي تعني القدرة المتعاظمة على الاستهلاك. ويكمن وجه الخطورة في طبيعة المجتمع الاستهلاكي واقتصاد السوق، وفي كلِّ ما من شأنه أن يقوم على تعاظُم قوى الإنتاج والاستغلال حتى الاستنزاف، وعلى التنمية اللانهائية التي لا تتناسب مع كوكب محدود الموارد. من هنا ضرورة إعادة النظر في علم الاقتصاد اليوم، الذي يجب أن يستند إلى علم البيئة ونتائجه وإلى إعادة النظر في طريقة الاستهلاك التي يجب أن تلبي الحاجات الضرورية فقط. والأسئلة الإضافية التي لا بدَّ أن نطرحها على أنفسنا هي: لماذا أمسى الاقتصاد هو الهم الأساسي في الحياة؟ ومتى أصبح كذلك؟ لماذا لا نعطي أنفسنا الوقت الكافي للتأمل في ما نحن، لا في ما نملك، وللتفكير في وجودنا، لا في الموجودات؟ نشأة الأخلاق وحب البقاء من الطبيعي أن تتبنى الإيديولوجيا الإيكولوجية التفسير الطبيعي لنشأة الأخلاق أكثر من التفسير الغيبي. فمع أن الداروِنية قد اعترفت بوجود فارق جوهري بين النوع الإنساني والنوع الحيواني في مسألة الأخلاق، وذلك في ما يتعلق بوجود ما سُمِّي بـ"الضمير"، الذي يتميز به النوع الإنساني، إلا أن داروِن لم يبحث عن نشأة هذه الفوارق خارج المعايير التطورية. وهذا يعني أن داروِن اعتبر أن الأخلاق تطورت تطورًا تدريجيًّا، وليس عبر قفزات نوعية. ويبقى السؤال: لماذا حصل هذا التطور عند النوع الإنساني حصرًا؟ الإشكالية الأخلاقية الثانية التي واجهتْها النظرية التطورية هي التالية: لو اقتصر دور "الانتقاء الطبيعي" على تحقيق المنفعة الفردية، حيث لا يهم كلُّ فرد إلا نفسه في صراعه مع الآخرين من أجل البقاء، لما وُجِدَت "الأخلاق" أصلاً! – لأن قوام الفضائل الأخلاقية وقمتها هما محبة الغير (أو "الإيثار"، كما يسميها بعضهم). وقوام هذه الفضيلة هو الإحساس بالمسؤولية تجاه تحقيق الصالح العام، – صالح النوع، أو صالح الحياة، – والقيام بأعمال تحقق نفعًا للغير على حساب القائم بها، بمعنى التضحية بالنفس من أجل الآخر أو الغير.[6] يرى بعضهم في "الإيثار الإنساني"، المعبَّر عنه بمحبة الوالدين (ولاسيما الأم) وتضحيتهما من أجل الأولاد، بالعواطف الأسرية، بالعواطف بين الأحبة، إلخ، نوعًا من الملذات الذاتية أيضًا، نوعًا من تحقيق الذات وتأمين خلود النفس عبر استمرار الذرية، إلخ. ويرى فرويد أن "الضمير الأخلاقي" قد تشكَّل حين شعر الأولاد بالإثم والندم من جراء قتل الأب بهدف الحصول على الأم وعلى كلِّ ما كان يملكه الأب وحده؛ أي الندم على القتل لغير دافع البقاء. كما ردَّ بعضهم الأخلاق في نشأتها و"القوانين" الأولى، مثل تحريم سفاح ذوي القربى، إلى أسباب طبيعية بحتة أكثر منها أخلاقية؛ إذ لوحظ وجود تشوهات في الولادات من جراء زواج ذوي القربى، إلخ، مما انعكس خوفًا على الحياة والبقاء الذاتي. إلا أن النتيجة على المستوى الاجتماعي واحدة. هناك نوع من التضحية والخروج من الذات للالتقاء بالذات الجماعية، أو اعتبار الذات جزءًا من الذات العامة الكلَّية وجزءًا من شبكة الحياة ودورتها. ويبدو أن الأخلاق، في نشأتها وجوهرها، هي غريزة الدفاع عن بقاء النوع – وهذه، في جوهرها، أخلاق بيئية. على المستوى الفردي، أن نكون "بيئيين" يعني أن نسعى إلى بناء الذات وتحقيقها وتثقيفها، كأولوية على أيِّ نشاط خارجي؛ إلى الاهتمام بحبِّ المعرفة لذاتها، والسعي إلى الفهم العميق والجوهري (بدلاً من حبِّ مجرد تداول المعلومات)، واعتبار أن المعرفة هي معرفة الذات أولاً، وليست أداة للسيطرة. الترشيد ليس الترشيد شكلاً من أشكال الفقر أو إنكار الذات أو حرمان النفس، كما يعتقد بعضهم، بل هو قيمة إيجابية: هو القيام بالمزيد بأقل ما يمكن؛ الأمر الذي تقوم به الحياة دومًا على نحو بديع. ففي الطبيعة توازنات دقيقة وأساسية تقوم عليها جميع العمليات الحية. فالنباتات تطرح الأكسيجين وتمتص غاز الكربون طوال فترات تعرُّضها للشمس، فتُغني الجو بالأكسيجين؛ والحيوانات والنباتات تمتص الأكسيجين وتطلق غاز الكربون في أثناء تنفسها؛ وكل عملية تخمير في الطبيعة تنتج غاز الكربون – وتتوازن هذه الظواهر الثلاثة جميعًا. وهنا تأتي عملية "إعادة الاستخدام" التي لا غنى عنها لإدامة التوازنات الإيكولوجية الكبرى ولاستمرار التوازنات الاقتصادية أيضًا. *** *** *** [1] بمعنى أنها خاصة بالنوع الإنساني دون سواه من الأنواع المتعددة الموجودة على هذا الكوكب. [2] يتحدث بعض البيولوجيين عن وجود 30 مليون نوع؛ وإن معرفتنا الحقيقية لا تتجاوز الـ5% منها! [3] النوع الإنساني يحتاج إلى آلاف السنين كي يتكيف، مثلاً، مع سمٍّ من السموم، في حين تستطيع البكتيريا أو الحشرات أن تتكيف معه في بضع سنوات. [4] في اللغة، "عقل" الشيء يعني ربطه. [5] تفتح هذه الظاهرة موضوعنا على مشكلة جديدة لن ندخل فيها في هذه العجالة. [6] يعرف المتابعون للعلوم البيئية معنى تلك الصيحات التحذيرية التي يطلقها قائد مجموعات بعض الحيوانات عندما يشعر باقتراب أحد المفترسات (ما يسمى بالعدو الطبيعي) للفت انتباه المجموعة، ولكنه، في الوقت نفسه، يكون أول مَن يتعرض لخطر الافتراس. |
|
|