كتاب يتحدث بصوتين:

من مانهاتن إلى بغداد

أركون في كتابه الجديد، بالاشتراك مع مايلا، ينتقد الانغلاق المزمن داخل التراث الإسلامي وسياسة القوة الغربية المنفلتة من عقالها

 

هاشم صالح

 

كما يدل عنوان كتاب محمد أركون وجوزيف مايلا، – من منهاتن إلى بغداد: ما وراء الخير والشر[*]، – على الرغم من صدوره متأخرًا عن موعده، فإنه يقدم تحليلاً معمقًا للوضع الراهن وللأزمة الرهيبة التي تشغل العالم اليوم؛ وهي أزمة تمتد من مانهاتن في قلب نيويورك إلى بغداد – وما أدراك ما بغداد! – في ظلِّ هذه الظروف العصيبة والمصيرية التي تتسارع فيها حركةُ التاريخ. وبالتالي، ربما كان تأخر الكتاب من حظِّه، لا ضده، لأنه صدر في أوج المعركة أو في زحمة الأحداث.

هذا الكتاب يتحدث بصوتين، ويمكن القول إنه مكتوب بقلمين: القلم الأول هو قلم محمد أركون، أحد كبار الاختصاصيين في شؤون الفكر الإسلامي، قديمًا وحديثًا؛ وأما القلم الثاني فهو قلم الباحث اللبناني الأصل جوزيف مايلا، عميد كلِّية العلوم الاجتماعية والاقتصادية في المعهد الكاثوليكي في باريس والاختصاصي أيضًا في شؤون الشرق الأوسط والإسلام. وبالتالي، فإن الباحثين يكمِّل أحدهما الآخر: فالأول، أي أركون، يركِّز على الجانب الفكري أو الفلسفي العميق للأحداث؛ والثاني يركِّز على الجانب السياسي والجيوپوليتيكي، دون أن يعني ذلك أنه لا يطرح أسئلة فلسفية هامة.

هدف هذا الكتاب الأساسي هو: فهم هذا الحدث الرهيب الذي يدعى 11 أيلول، وفهم انعكاساته الضخمة على السياسة الدولية ومصير العالم. فمن الواضح أننا لا نزال نعيش في مرحلة 11 أيلول وفي خضم التفاعلات والأزمات التي ولَّدها. وبالطبع، فقد ظهرت كتب عديدة عن 11 أيلول طوال الشهور الماضية، وذلك في مختلف اللغات، من إنكليزية وفرنسية وألمانية وسواها؛ ولكن ربما كانت ميزة هذا الكتاب أنه لا يكتفي بالتحليل الصحافي أو السياسي السريع للحدث، وإنما ينبش عن جذوره وأعماقه التاريخية. فحدث ضخم من هذا الحجم والمستوى لا يمكن لنا فهمه إلا إذا موضعناه ضمن منظور «المدة الطويلة للتاريخ»، كما يقول أركون.

من المعلوم أن المؤرخ الفرنسي الشهير فيرنان بروديل كان قد تحدث عن ثلاثة مصطلحات أساسية: الأول هو مصطلح المدة القصيرة للتاريخ، والثاني المدة المتوسطة، والثالث المدة الطويلة. وبما أن أركون من تلامذة بروديل والمدرسة التاريخية الفرنسية الكبيرة المدعوة بـ«مدرسة الحوليات»، فإنه طبَّق منهجيتها ومصطلحاتِها على دراسة بن لادن والظاهرة الأصولية المتطرفة في شكل عام. فهذه الظاهرة لا يمكن لنا فهمها إلا إذا عدنا في الزمن «طويلاً» إلى الوراء؛ وبالتالي، فإن التحليل الصحافي الذي يكتفي بقراءة الحدث من خلال منظار المدة «القصيرة»، التي لا تتجاوز العشر سنوات أو العشرين سنة على أبعد تقدير، لا يمكن له أن يفهم الأسباب أو الجذور الحقيقية لحدث من هذا النوع. وحتى منظور المدة «المتوسطة» الذي يشمل مئة سنة، فيربط حدث 11 أيلول بالصراع الجاري بين العالم الإسلامي والغربي منذ أيام المرحلة الاستعمارية، لا يكفي.

إنما يلزمنا أن نموضع الأمور ضمن منظور المدة «الطويلة» التي تصل إلى ألف سنة، وربما أكثر، لكي نستطيع أن نتلمس الجذور العميقة للمشكلة. فالفكر الأصولي المتشدد له جذور عميقة لا يمكن التوصل إليها إلا عن طريق المنهجية الأرخيولوجية، على طريقة فوكو، أو الجنيالوجية، على طريقة نيتشه – وهي المنهجية التي يطبِّقها أركون منذ سنوات طويلة، مع إضافة المنهجيات الأخرى كلِّها، كالمنهجية الألسنية، والسيميائية الدلالية، والأنثروپولوجية، والسوسيولوجية، فضلاً عن منهجية «مدرسة الحوليات» التاريخية كما أسلفنا.

وفي اختصار، فإن الرجل يجيِّش منهجياتِ العلوم الإنسانية والاجتماعية كلَّها لفهم هذا الحدث الضخم: 11 أيلول. وفي أثناء ذلك، يستعرض العلاقات الكائنة بين العالم الإسلامي والعالم الغربي على مدار القرون. وهذا ما يفعله جوزيف مايلا أيضًا، لكن مع حصر الأمور ضمن منظور المدة «المتوسطة» التي لا تتجاوز المئة سنة في معظم الأحيان.

لكن هل يعني ذلك أن أركون ينتقد الجهة الإسلامية فقط ويحمِّلها وحدها مسؤولية الحدث؟ بالطبع لا. فالرجل ينتقد الغرب أيضًا، فلا يعفيه من المسؤولية أبدًا. فمنذ الصفحة الأولى من مقدمة الكتاب يقول صاحب نقد العقل الإسلامي:

بعد حصول الحدث، قلت فورًا إنه ينبغي على حكومة الولايات المتحدة أن تتفهم هذه الكارثة على أساس أنها نداء يائس صادر من الأعماق. إنه نداء يدعو إلى توليد فكر جديد وممارسة سياسية جديدة على مستوى العالم كلِّه. ووحدها أمريكا قادرة على ذلك حاليًّا. فالمطلوب هو تحويل هذا الحدث المأساوي إلى حدث تدشيني: أي يدشن تاريخًا جديدًا من التضامن، لا التصارع، بين شعوب الأرض قاطبة.

ويرى المفكر الجزائري بأن 11 أيلول يكشف كشفًا دراميًّا صارخًا عن ذلك الصراع الطويل الذي اندلع في حوض البحر الأبيض المتوسط منذ ظهور الإسلام قبل خمسة عشر قرنًا تقريبًا. فالعالم المسيحي الأوروبي اعتبر أن توسع الإسلام تم على حسابه في الدول الواقعة على ضفاف المتوسط. فمنذ ذلك التاريخ ابتدأت الخصومة، ثم تعمَّقت أكثر بسبب الحروب الصليبية، فالحروب العثمانية–الأوروبية، فالحروب الاستعمارية في القرنين التاسع عشر والعشرين، انتهاءً بالصراع العربي–الإسرائيلي الجاري حاليًّا، الذي لا يمكن فصله عن الصراعات السابقة كلِّها، على الرغم من خصوصيته. وبالتالي، فالقصة طويلة، و11 أيلول لم يولد من العدم؛ فالواقع أن زخم التاريخ والعداء المستحكم بين الطرفين منذ قرون عديدة هما اللذان قادا إليه بشكل مباشر أو غير مباشر.

على هذا النحو، يمكن أن نموضع الحدث داخل منظور المدة الطويلة جدًّا للتاريخ، دون أن يعني ذلك إهمال أسبابه القريبة أو المباشرة. والمسؤولية تقع على الطرفين في الواقع، لا على طرف واحد: فمن جهة الغرب نلاحظ أن «سياسة القوة» المستخدَمة تجاه العالم الإسلامي والعربي، منذ زمن الاستعمار وانتهاءً بشارون، مسؤولة عن استثارة ردِّ الفعل العنيف للعرب والمسلمين. ومن جهتنا نحن، نلاحظ أن الجمود الفكري المزمن والتعليم المتزمت للدين مسؤولان أيضًا عن توليد ظاهرة الأصوليين المتطرفين الذين لا يتورعون عن ارتكاب أعمال التفجير والعنف العشوائي الأعمى؛ فهم يعتقدون، بسبب من جهلهم وضيق أفقهم، بأن الدين يبرِّر ذلك – والدين الحق من ذلك براء!

وبالتالي، فإن أركون يدعو إلى تغيير جذري في كلتا الجهتين، لكي تستطيعا معًا تجاوُز مناخ العداء المشحون الذي سمَّم الأجواء ووصل بنا حاليًّا إلى حافة الهاوية، أي إلى حافة الحرب بين مانهاتن وبغداد، بعد الحرب على «القاعدة» وأفغانستان – والحبل على الجرار! فلا أعمال العنف والتفجيرات الإرهابية تنتهي، ولا أعمال الانتقام الغربية أو الأمريكية تنتهي.

ولكي نتوصل إلى ذلك، – إذا ما توصلنا إليه يومًا ما! – فإن المفكر الجزائري ينخرط في نقد جذري للانغلاق المزمن داخل التراث الإسلامي، وفي نقد جذريٍّ أيضًا لانحرافات الحداثة والمدنية الغربية. وفيما يخص النقطة الأولى، نلاحظ أنه يولِّد مصطلحين جديدين ما كانا معروفين سابقًا في قاموسه النقدي، على الأقل في هذه الصياغة: الأول هو «التاريخ الأسطوري» والثاني هو «التاريخ الأسطوري–الإيديولوجي». فماذا يعني ذلك؟

إنه يعني أن على المسلمين أن يفككوا التصورات الأسطورية العذبة التي تهيمن على عقولهم فيما يخص النظرة إلى تاريخهم التأسيسي القديم. فهذا التصور الأسطوري الذي يهضم بعض العناصر التاريخية كان قد تشكَّل في القرون الأولى، ثم ترسخ بعدئذٍ في الذاكرة الجماعية العربية والإسلامية عمومًا. ولهذا السبب، فإننا لا نزال نحنُّ إلى تلك العصور الأولى، بل ونتمنى العودة إليها. والمشكلة هي أننا نتوهم أن ذلك أمر ممكن، في حين أنه وهم أو سراب.[†]

وأما التصور الأسطوري–الإيديولوجي للتراث فهو أسوأ، وقد سيطر على عقلية الشبيبة العربية أو الإسلامية بعد الاستقلال؛ وهو عبارة عن خليط هجين من الإيديولوجيا التراثية الماضوية وبعض العناصر الترقيعية للإيديولوجيات المستوردة استيرادًا رديئًا وناقصًا، كالماركسية والاشتراكية والقومية والليبرالية إلخ، وذلك كله مُنتزَع من سياقه التاريخي ومزروع في بيئتنا بشكل غير واضح، وغير مقنع أصلاً.

هذا يعني أننا، بعد خمسين سنة على الاستقلال، لم نتقدم خطوة واحدة في اتجاه تفكيك التراكمات التراثية وتشكيل صورة صحيحة وعقلانية وواقعية عن تراثنا العربي–الإسلامي؛ لم نستطع أن نخرج من الصورة المضخمة أو المثالية التبجيلية! وسبب ذلك يعود إلى انعدام العلوم الإنسانية والاجتماعية في جامعاتنا و/أو عدم تطبيق مناهجها على تراثنا. ثم نستغرب بعد ذلك ونتساءل: لماذا يهيمن التصور السلفي التقليدي على عقلية شبابنا أو على قسم كبير منهم؟! ينبغي ألا نستغرب هذا الوضع على الإطلاق، كما ينبغي ألا نستغرب حتى 11 أيلول، على الرغم من طابعه المباغت والصاعق. فهو مسجَّل في أحشاء الزمن العربي–الإسلامي، بل ويكاد يتخذ صفة الضرورة المنطقية! إنه عاقبة عقلية متحجِّرة، رهيبة، جبروتية، لا يجرؤ أحد، حتى هذه اللحظة، على الاقتراب منها مجرد اقتراب. لماذا؟ لأن ذلك يعني المساس بـ«المقدسات» أو بـ«ثوابت الأمة» – فكأن الأمة تستطيع أن تتقدم دون أن تطرح أيَّ سؤال على نفسها!

لا ريب في أن الجامعة العربية، بقيادة عمرو موسى، اتخذت مبادرة نادرة من نوعها، إذ دعت حشدًا من المثقفين العرب إلى الاجتماع لمناقشة 11 أيلول وكيفية إمكان تحاشي انعكاساته السلبية على صورة الإسلام والعرب في العالم – ويبدو أن أركون كان من بينهم. لكن المبادرة، على الرغم من طابعها الاستثنائي ومن بعض التساؤلات الجريئة التي طُرِحَتْ في أثناء النقاش، لم تستطع أن تؤتي أُكْلَها. لماذا؟ لأن سياسة شارون الاستئصالية داخل فلسطين تشغل النفوس والعقول كلَّها، فلا يعود ثمة مجال لطرح أيِّ تساؤل آخر. فمن الترف أن تتحدث عن نقد التراث والناس يُقتَلون في مدنهم وقراهم ومزارعهم!

وهنا تتجلَّى مسؤولية الغرب، وبخاصة أمريكا. فهذه لا تستطيع، من جهة، أن تطالب المثقفين العرب بتحجيم الأصولية، ثم تطالبهم، من جهة أخرى، بالسكوت عن جرائم شارون، بل واعتباره رجل سلام! هنا تكمن نقطة الضعف الأساسية في الاستراتيجية الأمريكية الخاصة بالعالم العربي والإسلامي. وربما لهذا السبب اختار المؤلِّفان عنوانًا ثانيًا لكتابهما، وهو عنوان مستوحى من كتاب لنيتشه: «فيما وراء الخير والشر». فبوش لا يستطيع أن يدَّعي بأنه يمثل «الخير المطلق»، بينما يمثل العالم العربي أو الإسلامي «الشر المطلق»! لا ريب في أن الحق معه في الرد على جريمة 11 أيلول وعلى القوى الظلامية المتعصبة التي ارتكبتْها؛ وكذلك معه الحق في لجم صدام حسين ومنعه من ارتكاب حماقات أخرى. لكن الحق ليس معه، إذ يسكت على ما يحصل في فلسطين. الخير هنا أصبح في الجهة الأخرى، لا في جهته هو. وحتى فيما يخص العراق، يمكن له أن يجد وسيلة أخرى غير الحرب والضرب وسياسة العصا الغليظة. فالعراق كفاه دمارًا وعذابًا!

وبالتالي، فالمقصود من «ما وراء الخير والشر» (إذا كنت قد فهمته جيدًا) ليس القضاء على فكرة الخير والشر في العالم، – فهذا شيء متعذر، بل ويشكل خطرًا على مفهوم الحق والعدل في العالم أو التاريخ! – لا، فالمقصود به هو أن الأمور أعقد، وأن هناك أسبابًا تقف خلف الأعمال الإرهابية التي حصلت أو قد تحصل؛ وبالتالي، فإن على القوة العظمى الأولى في العالم أن تأخذ هذه الأسباب بعين الاعتبار، لا أن تكتفي باتباع سياسة القوة ومنطق الحرب. وأخذ هذه الأسباب بعين الاعتبار لا يعني تبرير الإرهاب أو جريمة 11 أيلول النكراء، وإنما يعني النبش عن الجذور العميقة لهذه الجريمة ومحاولة معالجتها لكيلا تتكرر مرة أخرى. ومن هذه الأسباب: الوضع البائس واليائس الذي تعيشه المجتمعات العربية حاليًّا، وكذلك سوء التنمية والفقر والاستبداد والكبت والقمع، ثم بالطبع: مأساة فلسطين الكبرى.

يقول أركون ما معناه: إن المعركة الجارية حاليًّا غير متكافئة على الإطلاق: فهي تتم بين مجتمعات مسحوقة، تعيش أسوأ ظروفها التاريخية والانتكاسية، من جهة، وبين مجتمعات قوية متقدمة، تفرض خياراتِها الفلسفية والسياسية على العالم كلِّه، من جهة أخرى. فالرد الأمريكي عسكري وحربي، هذا في حين أن المشكلات التي تستثيره ذات طابع فلسفي وروحي، بالإضافة إلى ما ذكرناه للتو.

وهذا يعني أن الردَّ ليس صحيحًا، ولن يؤدي إلى حلِّ مشكلة الخصومة التاريخية المندلعة بين الإسلام والغرب، بل إلى تعقيدها أكثر! فهناك طريقة أخرى للرد: هي الطريقة القائمة على معالجة المشكلات من جذورها معالجة إنسانية متضامنة مع آلام البشر – كلِّ البشر. فالناس ينفجرون في العالم العربي والإسلامي لأنهم جائعون، مكبوتون، معذبون، لا أفق لهم على الإطلاق.

وأما جوزيف مايلا، فيختتم الكتاب بصفحات مضيئة عن الوضع العالمي الراهن في مجمله، ويركِّز فيه على تحليل الاستراتيجية الأمريكية الجديدة التي تبلورت بعد 11 أيلول كنتيجة لذلك اليوم الموعود. فكل ما تفعله أمريكا حاليًّا ناتج عن تلك الصدمة الرهيبة التي أصابتها في الصميم. ومصطلح «الحرب الوقائية»، الذي يمثل حجر الزاوية في هذه الاستراتيجية، لا يمكن لنا فهمه إلا إذا أخذنا هذه المسألة بعين الاعتبار؛ وهو مصطلح سوف يغيِّر العلاقات الدولية برمَّتها إذا ما طُبِّقَ حرفيًّا. فالأمريكيون يقولون، جهرًا أو سرًّا، بأنهم لا يستطيعون انتظار أن يُضرَبوا مرة أخرى لكي يتحركوا، وأن من حقِّهم أن يضربوا قوى الإرهاب قبل أن تضربهم. ولهذا السبب فإنهم لن يتوقفوا عند العراق، بل سوف يترصدون للبلدان أو المناطق أو الجماعات الفردية التي قد تشكِّل خطرًا عليهم كلِّها، وسوف يحاولون تحييدها الواحدة بعد الأخرى إذا أمكن. وهذا يعني أننا دخلنا في سيرورة طويلة لا يعرف أحد نهايتها.

والقيادة الأمريكية تعتقد بأنها تجسد الآن قوى الخير والحق والعدل في صراعها ضد أشخاص من نوع بن لادن وصدام، وتجسِّد قوة السلاح، بالمعنى الحرفي للكلمة؛ وبالتالي، فهي تحقق التطابق النادر بين السياسة والأخلاق (ولكن ماذا عن فلسطين؟!).

في الواقع أننا، لكي نفهم الاستراتيجية الأمريكية السائدة حاليًّا، ينبغي أن نأخذ بعين الاعتبار فلسفة التاريخ كما بَلْوَرَها أرسطو العصور الحديثة، أي هيغل. فهذه الفلسفة تقول لنا ما معناه: في كلِّ حقبة من أحقاب التاريخ ينبثق شعبٌ مسيطر على العالم؛ وهذا الشعب يعتقد أنه مكلَّف بحمل رسالة إلى البشرية وبقيادة جميع الشعوب، وتكون قيمُه عندئذٍ هي القيم المهيمنة عادةً على تلك الحقبة. ففي العصور الماضية، مثلاً، كان الشعب اليوناني هو الذي يجسِّد هذه الروح الحضارية؛ ثم تلاه الشعب الروماني، بكلِّ إمبراطوريته الكبيرة؛ ثم جاء دور العرب الذين حملوا رسالة الإسلام الحضارية إلى العالم؛ ثم جاء بعدئذٍ دور الغرب، حيث «حلَّت الروح» في أوروبا، كما يقول هيغل. والآن جاء دور أمريكا. وبعد أمريكا ربما سيجيء دور الهند والصين والعرق الآسيوي.

وفي كلِّ حقبة، كان المضمون الفكري للرسالة يتنوع ويختلف. ففي عصرنا الراهن، أصبحت قيم العقلانية والحرية والديموقراطية والتعددية الدينية والسياسية وحرية الصحافة وحقوق الإنسان والمواطن هي المهيمنة. وأمريكا تشعر بأنها مكلَّفة بحمل هذه القيم إلى شتى أنحاء العالم لإخراجه من تخلفه وتزمته. لكن هل تستطيع أن تفرضها بالقوة على البشر؟ وهل سيتحول العرب إلى «ديموقراطيين» بقدرة قادر بعد قصفهم بالقنابل؟!

هذا هو السؤال الذي يطرح نفسه حاليًّا. وسوف يزداد طرحه إلحاحًا كلما اقتربنا من لحظة الحسم!

*** *** ***

عن موقع محمد أسليم


 

horizontal rule

[*] Mohammed Arkoun & Joseph Maïla, De Manhattan à Bagdad : Au-delà du Bien et du Mal, Desclée de Brouwer, Paris, 2003.

[†] نجد هنا نقدًا للموقف السلفي الذي لا يأخذ تقدم التاريخ أو حركته بعين الاعتبار؛ ولهذا السبب يمكن نعته بـ«الأسطوري» أو «الغيبي» أو حتى «الاستلابي». وأكبر مثال عليه الحركات الأصولية المعاصرة، «المزدهرة» في مناطق شتى من العالم العربي والإسلامي.

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود