|
أخلاقيات العلم قانون الأخلاق بديلاً عن أخلاق القانون؟
يبدأ كتاب أخلاقيات العلم: مدخل[*] ببحث "العلاقة بين العلم والأخلاقيات"، وهو ما عُنْوِنَ به الفصلُ الأول، حيث يعرض المؤلِّف د.ب. رزنيك لعواقب افتقار العلم إلى الأخلاقيات ولأثر ذلك على سلامة البحث العلمي واستقراره. ويعرض رزنيك مجموعة من عوامل متأتية من بيئة البحث العلمي ذاتها، بتعبيره، ومساهمة في موضوعات الانحراف الأخلاقي في العلم، وهي: 1. مهنية العلم: تعامُل بعض العلماء مع العلم كمهنة. 2. انخفاض التمويل الحكومي للبحث العلمي. 3. المكافآت الاقتصادية المتحصَّل عليها من البحث العلمي. 4. أثر التربية في تشكيل السلوك اللاأخلاقي. وإنْ كان في استطاعتنا هنا أن نقرأ العاملين الأول والرابع – وخصوصًا الرابع – من منظار أوسع من بيئة البحث العلمي، بحيث ينسحب على البيئة الاجتماعية والأخلاقية بعامة، فإن الكاتب قد حصر الموضوع، من خلال الشرح والأمثلة، في البيئة العلمية تحديدًا. ونلحظ انحرافًا قليلاً عن هذا الحصر في قول الكاتب: إن الدراسات والمناقشات الأخلاقية يمكن أن تثار في العلم، لأن العلم نشاط تعاوني يحدث داخل سياق سياسي واجتماعي أكبر. إن العلماء لا يمكن لهم الهرب من المعضلات والمسائل الأخلاقية التي يمكن لها أن تنشأ في المسالك الأخرى للحياة. لذا فإن العلم الوضعي البحت أسطورةٌ خلَّدها هؤلاء الذين يفرون من التساؤلات الضبابية والخلافية المحيرة. (ص 18-19) يترافق هذا الفصل بمجموعة من الأمثلة التي تثير تساؤلاتٍ عديدةً حول ضرورة تناوُل أخلاقيات العلم بجدية أكبر وأهميته – وهو ما لم يحقِّقه الكتاب برأينا. يتحدث الفصل الثاني عن "النظرية الأخلاقية وتطبيقاتها"، بحيث يبدأ من ثلاثة أسئلة أساسية هي (ص 31): 1. ما هي الأخلاق؟ 2. ما هو العلم؟ 3. كيف يرتبط العلم بالأخلاق؟ يطرح رزنيك هنا مسألة على غاية من الأهمية، ألا وهي "المعيار الأخلاقي وانتهاكه"، ويميز في استخدامه للمصطلحات بين المعايير الاجتماعية المعنية بالمعنى الإرشادي، والعادات الاجتماعية المعنية بالمعنى الوصفي. كما يميز بين "الأخلاقيات النظرية"، أو علم الأخلاق، من حيث إنها معايير لمهنة أو لوظيفة معينة داخل مجتمع ما، وبين "الخُلُق العام"، من حيث هو المعايير شديدة العمومية في المجتمع. ويتابع الكاتب في شرح نظرية الخُلُق العام وموضوعاتها الفرعية والاختيارات الناشئة عنها، كما يعرض لما سمَّاه "آفة مباحث الأخلاقيات النظرية والخُلُق العام" (ص 51)، وهي النسبوية. وتوخيًا للشرح، يعود الكاتب إلى التمييز بين ثلاثة أنماط مختلفة من النسبوية (ص 52): 1. النسبوية القانونية: المعايير القانونية الخاصة بأمَّة معينة أو مجتمع بعينه. 2. نسبوية أخلاقية خاصة: المعايير الأخلاقية النظرية الخاصة التي تتعلق بمؤسَّسة اجتماعية محددة أو بمهنة بعينها. 3. نسبوية أخلاقية عمومية (أو نسبوية الخُلُق العام): معايير السلوك كافة التي تخص مجتمعًا بعينه أو ثقافة بعينها. ونعتقد هنا بعدم توفيق الكاتب في مختلف التصنيفات والتمييزات السابقة، وبأنها وُجِدَت لتدعيم وجهة نظره الضيقة حول أخلاقيات العلم؛ ومنها ما يساعد على انتقاله إلى فكرته التالية، عنوان الفصل الثالث، "العلم من حيث هو مهنة". إذا كان الكاتب في الفصل الأول، كما رأينا، قد صنَّف مهنية العلم كأحد العوامل المساهمة في قضايا الانحراف الأخلاقي في العلم، فهو يعود هنا ليتوسع في الموضوع، وليقول بمهنية العلم وأخلاقيات هذه "المهنة". وهو يعتمد في ذلك على توضيح طبيعة العلم ومعاييره من خلال مجموعة من الاعتبارات، وهي: الهواية والاحتراف العلمي، تقديم العلم لخدمات وأشياء ذات قيمة اجتماعية واعتبار هذه الخدمات والأشياء هدف العلم، بيئة البحث المعاصر التي هي المؤسَّسة الراعية للبحث العلمي ومدى التوافق أو اللاتوافق بين أهداف هذا المؤسَّسة وأهداف العلم، التواصل وأثر نظام تحكيم النظراء[†] في العلم، وأخيرًا، المنهج العلمي ودوره في التحكم في السلوك العلمي وفي أهداف العلم. يتحدث الكاتب في الفصل الرابع عن "معايير السلوك الأخلاقي في العلم"، ويعددها كالتالي: الأمانة، الحذر واليقظة، الانفتاحية، الحرية، التقدير، التعليم، المسؤولية الاجتماعية، المشروعية، تكافؤ الفرص، الاحترام المتبادل، الفعالية، واحترام الذات. ويخرج من ذلك بمجموعة من الاستنتاجات التي لا تخرج، بدورها، عن إطار الشكل المدرسي السابق في طرح معايير السلوك الأخلاقي. "الموضوعية في البحث" هو عنوان الفصل الخامس، وهو يعرض فيه عددًا من الأمثلة الهامة عن أثر الانحراف الأخلاقي في العلم، بالإضافة إلى عدد من المؤثرات، مثل سوء السلوك، التحيز، الخطأ وخداع الذات، صراع المصالح، الانفتاحية، وإدارة البيانات، ليتنقل الكاتب إلى "المسائل الأخلاقية في النشر العلمي"، موضوع الفصل السادس، حيث نقرأ التناقضات القاتلة بين العلم كمهنة وبين العلم كسعي إنساني إلى المعرفة. ويطرح رزنيك في هذا الفصل – وإنْ على استحياء – مسألة على غاية من الأهمية، ألا وهي العلاقة بين الجمهور والعلم، وخصوصية العلم من حيث كونه شديد التخصص، بما يقف عائقًا أمام إمكان تقييم الجمهور أو القرَّاء للبحث العلمي المقروء. يُعنى الفصل السابع بالمسائل الأخلاقية في المختبر، المضايقات، التدريس وعلاقة الأستاذ الناصح بالباحث متلقِّي النصح، بالإضافة إلى أخلاقيات إجراء الأبحاث العلمية على البشر ومعضلاتها. أما الفصل الثامن، "العالِم في المجتمع"، فمخصَّص لبحث المسؤولية الاجتماعية للعلماء، بالإضافة إلى تطرُّقه إلى العلم العسكري وخصوصيته. يصل رزنيك في الفصل التاسع إلى منظوره الاستشرافي: "نحو علم أكثر أخلاقية". وفيه نقرأ: وهذه المقاربة ربما تترك لدى القراء انطباعًا بأن آرائي لم تكن قوية بشأن كثير من هذه المسائل. بيد أن لي فعلاً آراءً محددة. لقد احتفظت بها جانبًا. وسوف يتضح أن لي آراءً قاطعة فيما يتعلق بأهمية الأخلاقيات في العلم. (ص 249) ويبدو لنا أنه ما من داعٍ هنا للاحتفاظ بأية آراء جانبًا! كما أن القطعية هي إحدى أهم ثغرات الكتاب؛ بالإضافة إلى أن المشكلة ليست في الإجابة بنعم أو لا عن أهمية الأخلاقيات في العلم، بل في كيفية الطرح وسويته. أما عن "المنظور الاستشرافي"، فهو لا يتعدى مجموعة من التوصيات التي، على أهميتها من حيث الجانب القانوني للتعامل مع المسائل الأخلاقية في العلم، فهي غير قادرة على تعدِّيه إلى عمق المسألة الأخلاقية وتشعبات علاقتها مع العلم. ومن هذه التوصيات نقرأ، على سبيل المثال: والواقع أن التعليم أهم أداة لضمان سلامة العلم. وما لم ندرِّس للعلماء معايير معينة للسلوك فليس من المحتمل أن يتعلَّموها. (ص 250) وهذا يقود إلى سؤال عن المعايير المقترَحة للمعلِّمين الأخلاقيين أنفسهم! يُختتم الكتاب بتذييل يضم حالات دراسية تهدف إلى تحريض الأسئلة حول موضوعه. *** *** *** [*] ديفيد ب. رزنيك، أخلاقيات العلم: مدخل، بترجمة عبد النور عبد المنعم ومراجعة يمنى طريف الخولي، سلسلة "عالم المعرفة" 316، يونيو 2005. [†] نظام تحكيم النظراء هو نظام تقويم الأبحاث ومشاريع الأبحاث التي يقدمها العلماء والأساتذة لإجازة نشرها في مجلة علمية أو عرضها في مؤتمر علمي، أو للحصول على منح التمويل، إلخ. |
|
|