|
الفنُّ صراعٌ مع الكتلة ينتهي بالتصالح مع العمل الفنِّي أجمل شيء تتقمَّصه الشجرةُ أو قطعةُ الخشب هو شكل المرأة!
ألكسندر حداد من مواليد الشرق الدافئ، المقمَّط برحيق غربة هذا الزمان، لكنه مقيم في السويد منذ العام 1988. درس التصوير والغرافيك والسيراميك–الخزف في أحد معاهد نورشوبنغ في السويد، ثم تخصص مدة سنتين في "المدرسة الفنِّية" (قسم النحت)؛ وقد تضمَّن تخصصُه النحت في الحجر والخشب والطين والبرونز وصناعة قوالب السليكون والجبس. وهو الآن، بالإضافة إلى عمله الفنِّي، يعمل كمدرِّس لمادة النحت والسيراميك في "المدرسة الفنِّية" بنورشوبنغ وفي جامعة نورشوبنغ. وقد شارك في عدة معارض في سوريا ولبنان والسويد والدانمرك.
محور مواضيعه تدور حول الإنسان وعلاقته مع الطبيعة الذاتية والتقلبات النفسية والطبيعة الموضوعية. له خصوصية فنية راقية في تشكيل الكتلة الفنِّية التي يتعامل معها. يجد المُشاهد نفسه أمام حالات إنسانية حالمة، مبدعة، معطَّرة بالماء الزلال، كأنها متهاطلة من أرخبيلات الأساطير القديمة، وهي تنشدُ أنشودة الزمن الآتي مع بزوغ شهقات الكون! ينحتُ حداد رؤاه عبر مواد عديدة. فهو، إذا لم يرتوِ من عطش المواد التي يتفاعل معها عبر إزميله الحنون، يمسكُ قلمه بعد أن ينام الليل، فيكتب لنا شعرًا من وهج الحياة. ص.ي. ***
أهلاً وسهلاً بالفنان النحات ألكسندر حداد! لنبدأ حوارنا من خمائل الزهور، من توهج الذاكرة البعيدة، من عوالم الطفولة، التي تُعَد من أهمِّ ركائز الإبداع. هل تبرعمتْ طفولتُك على إيقاعات الفن؟ حبذا لو تكلِّمنا عن طفولتك الغافية بين ثنايا غربة هذا الزمان! لا أستطيع الادعاء بأن طفولتي كانت مميَّزة عن غيري ممَّن كانوا في سنِّي. كنت ولدًا كثير الحركة، أحب اللعب وأكره المدرسة، أحب الحرية والانطلاق. منذ طفولتي، كانت تستوقفني التماثيل المصنوعة من الزجاج أو البلاستيك أو المعدن، حتى التي كانت موجودة في البيوت للزينة. كنت أنظر دائمًا إلى هذه الأشكال "الفنية"، بانبهار أولاً، ثم بعين الناقد ثانيًا، محاولاً استكشاف الصورة الفنية الأجمل. بعد ذلك انتقلتُ إلى مرحلةٍ "تقنية" من خلال محاولات رسم الصور التي كانت موجودة في الكتب المدرسية، ثم دخلت مرحلة الابتكار والخلق أخيرًا. كانت تستوقفني طويلاً الصور أو الأيقونات الموجودة في الكنيسة، ومازلت أحتفظ بتلك الألوان الرائعة في قدسية الذاكرة. تنساب أصابعك الماهرة على خشونة الحجر، فتطوِّع بإزميلك الحنون خشونتها وتحوِّلها إلى بسمة مضيئة أشبه ما تكون ببسمة القمر. ما سر هذه الصداقة الدافئة بينك وبين الحجر؟ صَمَمُ الحجر وشكلُه قد يقيِّدان الفنان. ولكن عين الفنان تعرِّي الكتلةَ الحجرية الموجودة أمامه من الفراغات. فالفنان يحفر على الحجر بعينه أولاً، ثم بإزميله، حتى تتطابق الرؤيتان، فيكون العمل مكتملاً. أنت تعجن الطين بطريقة حميمة، ثم تفرش وداعة الغربة بين شهقات الطين، إلى أن تكوِّن أوجاع الإنسان على همهمات الليل الطويل. ما سر هذا الشوق كلِّه إلى طراوة الطين؟ الطين يمتاز بليونته وإمكانية تشكيله. ولا ننسى أن الطين هو مادة الخلق الأولى، بحسب الكتاب المقدس والكثير من الأساطير. والطين، كمادة أولية، يشترط على الفنان حجم العمل الفني وشكله. لكن للفنان الحريةَ كلَّها في عملية الخلق؛ وله، كذلك، إمكانية التعبير وإعادة التشكيل في كلِّ لحظة في أثناء التعامل مع الطين – حتى الوصول إلى "نقطة اللارجوع"، وهي المرحلة التي يقرِّر فيها الفنان أن العمل اكتمل وآن أوانُ أن يتطهَّر من "الخطيئة الأصلية"، وذلك بوضعه في الفرن كي يأخذ شكلاً متصلِّبا ثابتًا لا عودة عنه.
ألكسندر حداد: "الحالم"، خزف السيراميك، الخزف، كيف تصوغ هذه المادة العصيَّة على الانصياع؟ يتكوَّن الخزف في الأصل من مادة شديدة الحساسية، وهي الطين. وأرى في استخدامه حريةً أكبر. والسيراميك يمنحني ارتياحًا جميلاً، حيث أشم صوت لغتي ورائحة حريتي. والطين لا يصير سيراميك إلا إذا دخل قدسية النار مرتين. عندما تحفر جذع شجرة وأنت تشكِّل، مثلاً، وجنة امرأة، هل تتخيَّل اخضرار الشجرة، فتغدو خدودُ المرأة أكثر اخضرارًا من أغصان الشجرة عندما كانت في أوج الربيع؟ صورة شعرية جميلة! المرأة كانت – وما تزال – ترمز في كثير من الأحيان إلى الطبيعة. المرأة هي العطاء في مراحل حياتها كلِّها. غير أن الفنان يتعامل مع الخشب بعد أن تموت الشجرة؛ وعمل الفنان هو إعادة الحياة إلى قطعة الخشب أمامه – نعم، إعطاء حياة أخرى ليست الحياة السابقة نفسها، بل هي تقمص لحالات حياتية أخرى. وأجمل شيء تتقمَّصه الشجرة أو قطعة الخشب هو شكل المرأة. وأستطيع أن أقول: التشابه كبير بين شكل المرأة وشكل الشجرة. نعم، تعود جذوع الأشجار للاخضرار ثانية، بل تغدو أشد اخضرارًا!
ألكسندر حداد: "تحولات تموز"، خشب حتَّى البرونز لم ينجُ من مطرقتك وإزميلك! بِمَ تفكِّر وأنت تتصبَّب عرقًا على البرونز؟ هل يراودك أن إرادة الإنسان أحيانًا أقوى من صلابة البرونز؟ العمل البرونزي هو عملية إذابة شكل سابق بواسطة النار لكي يصير سائلاً قابلاً للتشكيل. والقالب يحدِّد هذا الشكل. وإن مهارة الفنَّان تكمن في مراحل العمل كلِّها. الإزميل، المشرط، أجيج النار... هل تعمل على إيقاع موسيقيٍّ عندما تصوغ كتلةً ما؟ أم أنك تعمل على إيقاع المخيِّلة الهائجة بأحلام متعانقة مع أمواج البحر؟ تشبيه جميل! الإزميل والمشرط والنار هي الأدوات الفنية للعمل على إيقاع الروح وإبداع المخيِّلة والوحي. فالعمل الفني، كالقطعة الموسيقية، يحتاج إلى أدوات عديدة لتنفيذه.
ألكسندر حداد: "عند أسوار المدينة"، برونز وخشب تتعامل مع مواد طرية وخشنة وصلبة وتطوِّعها. كيف فاتك أن تتعامل مع انسيابية موشور اللون؟ ألا يستهويكَ أن ترسم لوحة من وهج تلاوين الحياة؟ المادة الخام المستعملة في العمل الفني تختلف في خشونتها وقساوتها. بمعنى آخر، تحتاج كل مادة خام إلى أسلوب خاص للتعامل معها. في البداية، تتكون الفكرة. ثم يتم صب الفكرة في تصميم أو esquisse معين. بعدئذٍ يأتي دور اختيار المادة الخام لتنفيذ العمل. كيف تولد مواضيعُك؟ هل تحدِّد المادة التي تصوغ منها أفكارَك قبل البدء في العمل؟ أم أن المادة تفرض نفسها على صياغة موضوع ما يتعانق مع خصوصيتها؟ غالبًا ما يبدأ العمل الفنِّي بالفكرة. ولكنْ، أحيانًا، تفرض الكتلةُ نفسَها، فتحرِّض الفنان على تنفيذ فكرة محدَّدة بعينها. فالكتلة، أي المادة الخام، قد تساهم أحيانًا في إيقاظ الفكرة. هل تتصارع مع الكتلة التي تتعامل معها، ثم تتصالح معها عندما تشهق أخيرًا شهقة الاكتمال؟ كيف تتنامى رؤاك مع الكتلة التي تصوغها؟ تنفيذ العمل الفني يحتاج إلى تدخل الفنان لإعادة صياغة الكتلة أو تجريدها من بعض أجزائها كي تصبح مرئية. فالفنان يزيل الحجاب عن العمل الفنِّي من خلال تعامُله مع الكتلة. هو، إذن، صراع مع الكتلة، ينتهي بالتصالح مع العمل الفنِّي. هل تحنُّ إلى دفء الشرق، إلى مرابع الطفولة؟ أم أنك غائص في غربة مكتنفة بالضباب؟ كيف تستطيع أن تُزاوِج ما بين وهج الشرق وصقيع الغرب؟ الحنين إلى الماضي صفة إنسانية؛ وكل إنسان يعاني من حنينه. ولكن ذلك لا يعني رغبة في الرجوع إلى عبثية الطفولة. فكما قال هيراقليطس: "لا تستطيع الاستحمام في مياه النهر مرتين"، لأن المياه تجري. كذلك الطفولة: فمكانها وزمانها لم يعودا كما كانا، ونحن لم نعُدْ كما كنَّا – تغيَّرنا كثيرًا! كيف تترجم انكساراتِ الروح كلَّما نامت الشمس بين أحضان الغسق؟ بين شروق الشمس وغروبها ساعات قد تكون حافلة بانتصارات أو انكسارات. فساعة الغروب تمنحك لذة الانتصار أو مرارة الانكسار. ولكن، في كلِّ الأحوال، بعد الغروب هناك شروق، وغدًا يوم جديد يحمل آمالاً جديدة وتحدياتٍ جديدة. القلب، الروح، الغربة، الموسيقى، الحب، الطبيعة، البحر، المسافات، ضجر الحياة، صراع الإنسان مع أخيه الإنسان... كيف تَعبُر متاهاتِ عوالم الفن في زمن يزداد حماقةً وقساوةً – أقسى من غلاصم الحجر؟! العالم يبدو أقسى فعلاً! والفنان أو الشاعر أكثر الناس تأثرًا بذلك، لأن قساوة هذا الزمن قد تؤدي إلى الإحباط. و لكن المحاولة قد تؤدي أيضًا إلى خلق جديد. الفنان يقدِّم دائمًا رؤيته لعالم أفضل. الفنَّان يمتلك حساسيةً شعرية راقية. فهناك من الفنانين مَن يتذوَّق الشعر، وهناك مَن يكتبه. وعندما يترجم الفنانُ مشاعرَه اللونية عبر نداوة الكلمة، تأتي القصيدةُ متلألئةً بتلاوين الحياة! الشعر وسيلة من وسائل التعبير. فالكلمة والكتلة وسيلتا تعبير. وأحيانًا تمنحك الكلمةُ أجنحةً توصلك إلى نضارات أرحب تعجز عن بلوغها الكتلة. أقول في إحدى قصائدي المترجمة عن السويدية: في داخلي تنمو شجرةٌ زرقاء أغصانُها تفتحُ حيزًا في مساحات بياض الوقت وتلقي فاكهةً وحشية ربما في ذاكرتي ... ببطء ووضوحٍ مُجلَّل تفتحُ الجذورُ لنفسها فرحًا في ازرقاق الرماد تفتح وشايةً ثانيةً للنار توقظ من خلالها الخيولَ في دمي ... شجرةٌ زرقاء تنمو في داخلي أغصانُها تمزِّق مساحاتِ الهواء المكثَّف بالضباب وترمي بثمارها المتحجِّرة في الظلِّ ... ... ... كيف تتعامل مع الكتلة التي تصوغها؟ التعامل مع الكتلة يتحدَّد من خلال شكلها وقساوتها وحجمها. ولكن، في شكل عام، التعامل مع الكتلة هو أشبه ما يكون بحالة حبٍّ أو عشق. فكما يرى العاشقُ حبيبتَه في أجمل صورة، كذلك يتخيَّل الفنانُ الكتلةَ في أجمل هيئة، ويحقِّق ذلك من خلال إعادة صياغتها. *** *** *** التقى به صبري يوسف، ستوكهولم [*] Website: http://www.alexanderhadad.com; email: hadadalex@hotmail.com. |
|
|