القسم الثاني من البحث

الوعي الإيكولوجي والإنسان الإيكولوجي

 

هنريك سكوليموفسكي

 

1

الوعي الإيكولوجي بوصفه مرحلة التطور التالية

1. من الوعي الديني إلى الوعي التكنولوجي

سوف نناقش في هذا البحث طلوع شكل جديد من أشكال الوعي، ألا وهو الوعي الإيكولوجي. ومع أن هذا الوعي الناشئ جديد في زماننا، فإنه مشبع بذَوْب الوعي القديم.

ولسوف أناقش بأن الوعي ليس غيمة عديمة الشكل تكتنف البشرية منذ أزمنة موغلة في القدم، بل هو يتخذ، في مختلف عهود التاريخ البشري، أشكالاً وكيفيات أو بُنى متميزة. تلكم أيضًا النتيجة التي توصَّل إليها مؤلِّفون آخرون في الموضوع، أمثال: كارل غوستاف يونغ، مرشا إلياده، جان جبسر، كِنْ ولبر، إلخ، ممَّن سعوا، في كتب ومنشورات متنوعة، إلى إعادة بناء الوعي البشري منذ أزمنة ما قبل التاريخ حتى الأزمنة الراهنة.

ولأشدِّدنَّ على نقطة، ألا وهي أن الوعي البشري، فيما هو يعمل ضمن الثقافات، رفيع البناء أو دقيق التوالف. فنحن لسنا نملك وعيًا بما هو كذلك، إنما بالأحرى نحيا ونعمل ضمن كيفيات وعي معينة. وهذه الكيفيات مرتبطة بالثقافة على أحد المستويات، ومرتبطة بالنوع على مستوى آخر.

لن أسعى إلى استعراض تاريخ أشكال الوعي البشري في مقام ضيِّق كهذا، إنما سوف أركِّز، بدلاً من ذلك، على جدلية الوعي التي طرأت إبان القرون الستة الأخيرة، وخصوصًا على الجدلية التي طرأت إبان العقود القليلة الأخيرة.

منذ حوالى ستمائة عام، كان الوعي الديني سائدًا في العالم الغربي. وقد كان هذا الوعي مقترنًا بالكوسمولوجيا المسيحية، بل كان واقعًا تحت سلطانها. فكلُّ شكل من أشكال الوعي، كما سنرى فيما بعد، يرتبط بكوسمولوجيا ما، ويشكِّل انعكاسًا لها – ينشأ منها وينطق عنها. وقد سار الوعي الديني والكوسمولوجيا المسيحية يدًا بيد، وعرَّف كلٌّ منهما بالآخر ودعمه.

لقد كان الناس، يقودهم الوعي الديني، مؤتلفين مع الكون الذي كان الله يشرف عليه ويسيِّر أموره. وكانت شؤونهم اليومية منظومة بشعورهم بكلِّية حضور الله، وبحضور خلفائه – رجال الدين. والنقطة التي ينبغي التأكيد عليها هو أن حقل وعي إنسان العصر الوسيط بكامله كانت تشكِّله وتتخلَّله صور الله، وفكرة المسؤولية أمام الله، والرغبة في الخلاص والافتداء في فردوس الله. ثم بدأت الأمور تتغير. فبعد النهضة Renaissance الفوضوية والمضطربة الفائرة، جمع عهدٌ جديد زخمًا في القرن السابع عشر، ومورِيَ على الكوسمولوجيا المسيحية. وفي سياق ذلك تقوَّض الوعي الديني وانثقب في مواضع عديدة.

وهكذا انبثقت الدهرية secularism [= العلمانية] بوصفها مظلة جديدة يتبلور تحتها وعي جديد. وإننا لنشهد نشأة بطيئة لوعي علماني في تلك الفترة – بمعارضته البارزة للوعي الديني السابق. ولسوف يتشكل هذا الوعي العلماني على هيئة وعي تكنولوجي. وقد تلمَّس هذا الوعي، طوال القرن السابع عشر، طريقه إلى التشكل، إلى اتخاذ هيئة متميزة.

لقد كان مذهب النهضة الإنساني أولى الخطوات باتجاه وعي لاديني. وقد بدأ الإنسان يُحسَب مقياسًا للأشياء كلِّها. وكان صلف الإنسان شديد الزخم إبان فترة النهضة، وعباقرة النهضة غالبًا ما كانوا يمتلكون أنا في ضخامة الجبال. إذ إن المذهب الإنساني عنى إعادة توكيد الفرد، وبالتالي توكيد الأنا. وعندما تفرط الأنا في النمو، فإن الصلف البشري يبرز. لكن صلف النهضة كانت في الواقع تلطِّف منه حكمةُ الأقدمين والقيود الدينية التي ما تزال شديدة السطوة في القرنين الخامس عشر والسادس عشر.

بيد أن الخطوة الحاسمة الجديدة في انبثاق الوعي التكنولوجي كانت تكميم الكوسموس. ولم يتغير الوضع تغييرًا دراميًّا إلا مع حلول النظرة الآلاتية إلى العالم mechanistic worldview. وأثمرت جهود بيكون وغاليليو وديكارت (وغيرهم كثير، بالطبع) مجتمعة عن حِواء كوسمولوجي جديد، عن نظرة جديدة إلى العالم، تتصور الكون كآلية أشبه بالساعة. وقد جرت التطورات، من هذه النقطة فصاعدًا، سريعة وبعيدة المدى وذات عواقب مذهلة.

يتطلب الحِواء الكوسمولوجي الجديد وجوب كون جميع الظواهر – كي يُعترَف بصحتها – فيزيائية في طبيعتها، أو قابلة للإرجاع إلى ظواهر فيزيائية. وعلى العلاقات الهامة الخاصة بهذه الظواهر الفيزيائية أن يعبَّر عنها بقوانين كمية. وبهذا رُقِّيَ الفيزيائي والكمي إلى مقام التقديس. وقد أدى هذا مع الوقت إلى:

-       عبادة المعرفة الموضوعية؛

-       التكميم المتزايد للظواهر كلِّها؛

-       تضييق بؤرة رؤيتنا وبحثنا؛

-       استبعاد الحرام [المقدَّس].

ومن العواقب الأخرى لذلك سيرورة الانسلاب المتنامية – وهي نتيجة مباشرة لسياق الذرذرة atomization والتكميم. ففيما نحن نجزئ كلَّ شيء إلى ذرات منفصلة، تتفكَّك كلِّيات أوسع. لم يعد لدينا إحساس بالكلانية، بل إحساس بالعزلة والانفصال والانقطاع، وباختصار – انسلاب alienation. والانسلاب النفسي نتيجة للانسلاب المفهومي.

ومن العواقب الأخرى للمقاربة الآلاتية للكوسموس العبادة المتنامية للسلطة المادية، لا بل السكر بالسلطة، واللهج بها. وفساد السلطة – وأعني به تحولها إلى سلطة مادية قسرية – عاقبة من عواقب الكوسمولوجيا الآلاتية التي تُثني، باتساق مذهل، على الفيزيائي، الكمِّي، المتحكِّم، والمسيطر.

في هذا الشوط بالذات تتشرب الثقافة برمتها – وأعني الثقافة الغربية – الكوسمولوجيا الآلاتية. ومن ثمَّ فإنها تبلغ حدَّ التسيُّد على العقول، وتقود إلى ظهور شكل متميز من الوعي أدعوه الوعي التكنولوجي.

وعلينا أن نشدد، بما ينبغي من الجدية، على أن التكنولوجيا يجب ألا يتم تصورها صندوقًا من الأدوات، حيادية في حدِّ ذاتها، إنما طالحة أو صالحة بحسب استخدامها. فهذه نظرة إلى التكنولوجيا ذرَّانية وساذجة بعض الشيء، تسعى التكنولوجيا ذاتها إلى الترويج لها. والتكنولوجيا،عند هذا الشوط من التاريخ، تحظى من كلِّية الانتشار ما يجعلها شكلاً من أشكال الوعي. وعندما تخطر التكنولوجيا في بالنا فإن أول ما يتبادر إلى أذهاننا هو "السيطرة والتلاعب". فالتكنولوجيا رؤية للواقع، وليست مجرد استعمال لأدوات.

عندما نتفاعل مع العالم بواسطة التكنولوجيا فإننا لا نفكر أبدًا كيف نكون رفيقين ورحماء ومحبين، إنما نفكر دومًا كيف نكون أكفاء ومسيطرين وجازمين. وموقف السيطرة والتلاعب هذا بات الآن جزءًا من التركيبة الذهنية للناس في الغرب.

من السمات الأخيرة المثيرة للعجب – أو هل نقول المبهرة؟ – للتكنولوجيا أن الوعي التكنولوجي، على الرغم من الظن بعلمانيته من أوله إلى آخره، يحوي برنامجه التجاوزي الخاص به، أو إذا شئت، شكله الخاص من الألوهية. إنه يطلب ألوهية الإنسان هاهنا على الأرض – بعتقه من الأنيار القديمة، ومنحه الكرامة والحرية، وبخلقه (أو خلقها) على صورة الإله المجتهد الذي يستطيع أن يفعل كلَّ شيء بنفسه ولنفسه.

إن طلب الكمال والتحقيق هاهنا على الأرض، عبر مجهودنا الخاص، هو مشروع جدير بالإعجاب. لكن المشكل يبدأ حين نحوز من السلطة على ما ندمر به المَواطن الطبيعية وما نصير به من السكر بحيث ننسى موضعنا على هذا الكوكب. ففي غياب القيم العليا وشكل من أشكال الحكمة فيما يخص المصير البشري، تصير حيازة السلطة أمرًا شديد الخطورة، لأنه يقود إلى غرور مطلق العنان، وإلى العنجهية في آخر الأمر.

هلم الآن نوجز خصائص الوعي التكنولوجي. حين ننظر إلى مجمل بنيته، إلى مجمل طريقة عمله، فإن الوعي التكنولوجي يتكشَّف عن كونه:

1.    مُمَوضعًا

2.    مذرذِرًا

3.    مستلِبًا

4.    متسيِّدًا على السلطة

5.    نازعًا للحُرمة

6.    مسخَّرًا لنشوريات الاستهلاك.

تحتاج النقطة الأخيرة إلى شيء من التوسع في شرحها. فما نشوريات الاستهلاك؟ النشوريات Eschatology هي المادة التي تُعنى بالغايات والأهداف القصوى للحياة الإنسانية. ففي غياب أهداف متجاوزة بعيدة المدى، وبينما تنهار القيم الدينية والروحية، أضحى الاستهلاك إلزامًا من إلزامات حياتنا، هدفًا إجماليًّا، ضربًا من ضروب التحقق، بؤرة الأشواق.

وفي طريقته الخرقاء غير المباشرة، بات الاستهلاك شكلاً من أشكال الخلاص، وبالتالي علم نشوريات. إن استهلاك لعب جديدة، وأطعمة معلَّبة جديدة، وسيارات جديدة، وتلفزيونات جديدة، ومساحيق جديدة للزينة، وكمبيوترات جديدة، ليس ضارًّا في حدِّ ذاته. أما الوخيم والضار بحياتنا النفسانية، فهو تحول عملية الاستهلاك إلى نوع من أنواع الباعث الديني، يعد بالسعادة وبالتحقق والخلاص. عند هذه النقطة تصير التكنولوجيا شكلاً من أشكال النشوريات.

وباختصار، فإننا قد أفرغنا الكون من حُرمته، من الروحي، من القيم الجوهرية. فمن بعد أن نصَّبنا الفيزيائي، الموضوعي، البارد العقلانية، آلهتنا الجديدة، ومن بعد أن تفكَّكت النماذج الثقافية النقلية في وبالة التفكير الذرَّاني، فإن ما برز بوصفه نشورياتنا الجديدة هو السعي الثَّمِل إلى السلطة وإلى الاستهلاك المخدِّر.

كما ظهرت أيضًا، في جملة ما قد ظهر، صورة جديدة عن الإنسان: الإنسان الفاوستي الذي يحتفل بيومه مفتشًا عن الإشباع هنا والآن. والإنسان الفاوستي يصر أن الإنسان لا يعيش إلا مرة واحدة؛ لذا فإن على المرء أن يحيا حياة خطرة، مهما يكن الثمن فادحًا ومهما يكن مَن يدفعه، حتى وإن نجم عن ذلك دمار الأجيال الآتية وخراب المواطن الإيكولوجية. الإنسان الفاوستي هو التجلِّي البشري للتكنولوجيا الجشعة الكاسرة؛ وهو إقرار رمزي لطلوع القوة المجردة وتزامنه مع انحطاط الروحانية الإنسانية.

لن ننسى، ونحن في صدد تحليل اجتياح الوعي التكنولوجي، الوجه الآخر للعملة: تحديدًا أن التكنولوجيا كانت حلمًا نبيلاً انقلب مَرارًا، وأن النظرة الآلاتية إلى العالم كانت ذات يوم سُلَّمًا إلى الحرية: حرية من قيود الوعي الديني وقمعه. كما أننا لا نبتغي التشكيك في السمات الجلِّيةِ الفائدة للتكنولوجيا: الرفاه، توطيد المعيار المادي للمعيشة، الإحساس بحرية الحركة (وإن كان وهميًّا)، القضاء على الأمراض السارية؛ وهي طريقة يسيرة لحلِّ العديد من مشاكلنا.

ومع ذلك، ونحن نستهل القرن الحادي والعشرين، يبدو الوعي التكنولوجي باطِّراد – بفعاليته البطاشة، وبازدياد قدرته المطلق العنان، وافتقاره إلى أيِّ حسبان للرحمة – منذرًا بالخطر. فالوعي التكنولوجي ببساطة لا يُرتجى منه؛ وهو يولِّد أمراضًا ملازمة له أكثر من أن تُحصى. وثمن الرفاه وغيره من مناعم العيش لا يساوي عواقب دفعَه. ذلكم هو الإدراك الذي توصَّلنا إليه، بما نحن مجتمع، إنما بالتدريج.

إنما التكنولوجيا قصة نجاح أضحى من الهول بحيث أمسى كابوسنا. لقد ناس النوَّاس نوسة شديدة البُعد في الاتِّجاه المخالف للوعي الديني. لذا فإننا نسعى إلى إعادة توطيد توازن جديد، وفي سياق ذلك، نسعى إلى موازنة حياتنا نحن.

إن الوعي الإيكولوجي، الموضوعة خطوطه العريضة في هذه المقالة، جميعة. فقد كان الوعي الديني هو الطريحة thesis؛ وكان الوعي التكنولوجي هو النقيضة antithesis؛ أما الوعي الإيكولوجي فهو الجميعة synthesis بينهما، بما أنه يشير إلى العودة إلى الروحاني، بدون الانصياع للسُّنَن والعقائد الدينية، وبما أنه يسعى إلى التحسين الاجتماعي والعدالة للجميع، من غير تعبُّد للسلطان المادي وبدون الاحتفال بالطبيعة العدوانية للشخص البشري.

لسنا ندَّعي أن الوعي الإيكولوجي قد حلَّ، وصيغ صياغة تامة، وبات مقيمًا فينا هانئًا. وإنما بالحري نقترح بأننا، إذ لا نألو جهدًا في التطاوُل نحوه، نتفتَّح عما يرقد هاجعًا فينا ويريد أن يصحو ويفصح عن ذاته. وإن إسقاطنا لهو جزء من صوغنا للوعي الإيكولوجي وجزء جوهري من إبداعه. فكما نحلم كذلك يصبح الواقع.

2. طلوع الوعي الإيكولوجي

لكلِّ كيفية من كيفيات الوعي جذورها في التاريخ وتتصف بطابع تاريخي. فهي تبزغ عند نقطة معينة من التاريخ وتختفي، أو تُعدَّل تعديلاً عميقًا، عند نقطة أخرى. كذا يتعيَّن الوعي بالتاريخ؛ لكنه، بدوره، يعيِّن التاريخ. ففي زماننا، بتنا شهودًا على اخضرار الوعي. فبالتزامُن مع سيرورة الاخضرار هذه تتواصل سيرورةٌ أخرى: هي سيرورة اخضرار الأديان العالمية، رغم أن إدراك ذلك يبدو أقل سهولةً. فلنعِ بأن التأويل الإيكولوجي للديانات العالمية، منذ مؤتمر أسِّيزي (1986) الذي مُثِّلَتْ فيه خمسة أديان كبرى، شرع في الحصول على زخم كبير.

ولقد كانت الحركة الإيكولوجية، من جهة، ومختلف مدارس علم النفس الإنساني، من جهة أخرى، بشيرًا ببزوغ الوعي الإيكولوجي. فقد كانا، كلٌّ على طريقته، مناوئين لمزاج العصر الآلاتي. كلتا الحركتين شددت على الكلانية وعلى تعذُّر اختزال الكلِّيات المعقدة إلى المركِّبات التي تقوم عليها: المواطن الإيكولوجية والبشر. وكلتاهما كانت تحديًّا في وجه عقلانية المنظومة الآلاتية. وكلتاهما جاهرت بنمط جديد من العقلانية الكلانية.

وفضلاً عن ذلك، فإن كلتا هاتين الحركتين اتَّصفت، بمعنى ما، بنكهة دينية، فلم تقدِّما أمداءً فكرية وحسب، بل شكل من أشكال التحرر. لقد كان المقصود من هذا التحرر – مع أنه لم يكن دومًا صريحًا – أن يمنحنا الحرية من العُقالات الجبرية والآلاتية. لقد كانت الكلانية، التي شددت عليها الحركتان، أولى الخطوات إلى الحرية.

فما الخصائص الرئيسة للوعي الإيكولوجي؟ سنعدد ستًّا منها ونقابل بين كلٍّ منها وبين ما يوازيه من خصائص الوعي التكنولوجي. لن ندَّعي أن هذه الخصائص الست تعرِّف بمدى الوعي الإيكولوجي وبطبيعته تمامًا؛ إذ علينا أن نبسِّط. فالفهم هو التبسيط.

الوعي التكنولوجي

مقابل

الوعي الإيكولوجي

ذرَّاني

مقابل

كلاني

كمِّي

مقابل

نوعي

دهري [علماني]

مقابل

روحي

موضوعي

مقابل

إجلالي

آلاتي

مقابل

تطوري

انسلابي

مقابل

تشارُكي

ولعل أنسب شكل للتعبير عن طبيعة الوعي الإيكولوجي قد يكون من خلال طارة، بما أن جميع خصائصه يغذي بعضُها بعضًا ويتغذى بعضُها ببعض، كما أن كلاً منها يعرف بالخصائص الأخرى:

 

كلاني

تشارُكي

 

نوعي

الوعي الإيكولوجي

تطوري

 

روحي

إجلالي

 

هلم الآن نناقش هذه الخصائص ونرى ما يعنيه ذلك كله فيما يتعلق بحياتنا وبإدراكنا للكون.

إن شخصًا بشريًّا معافى وتامًّا هو كونٌ صغير كلاني ونوعي – ذلك أمر لا ريب فيه. ولا ريب كذلك في أن إنسانًا يفتش عن معنًى فيما يتعدى تفاهة الاستهلاك هو امرؤ يسير على درب روحي ما. فنُشدان المعنى مطلب روحي ما في ذلك شك.

أما فيما يتعلق بموقف الإجلال، فإن كلَّ مَن يحترم الآخرين بحق، ويوقِّر بحق خيمياء alchemy الكون المدهشة، لا يستطيع إلا أن يكون إجلاليًّا حيال مشهد الخليقة المهول. بذا يكون الإجلال مظهرًا من مظاهر رؤية الكون وفهمه، عمقيًّا وبشعور حقٍّ بالتوقير.

إن الحياة في النعمة هو الإقامة في كيفية متواصلة من الفهم الإجلالي؛ والحياة في النعمة هي التفكير تفكيرًا إجلاليًّا[1]؛ والحياة في النعمة هي السير في الجمال، كما تعلن أغنية للهنود الحمر.

الفهم الإجلالي، كما والموقف الإجلالي سواء بسواء، ليسا ابتكارين جديدين من ابتكارات الوعي الإيكولوجي؛ فلقد وُجِدا في الثقافات والديانات النقلية منذ أقدم الأزمنة. وما نقوم به إنْ هو إلا الإفصاح عنهما من جديد.

إن الشرط الطبيعي للشخص البشري هو الافتتان بالعالم. والإجلال هو إقرار بهذا الافتتان.

قد يجيب مشكِّك عقلاني على هذه النقطة: «من الظريف أن تعامِل الشخص البشري معاملة كلانية وإجلالية وروحانية – وبخاصة إذا كنت سهل الانقياد للمفاهيم الإنسانية – ولكن كيف لك أن تبيِّن، كيف لك أن تبرهن على أن الكون الفيزيائي كلاني وإجلالي وروحاني؟»

من حسن طالعنا، إلى حدٍّ ما، أن نَصْل العلم، عند هذه الآونة الحرجة من التاريخ، يُمِدُّنا ببيِّنات صريحة على الطبيعة الكلانية للكون. وإن كتاب ديفيد بوهم الكلِّية والنظام المنطوي مثال في هذا الصدد. ونظرات بوهم معروفة جيدًا إلى حدٍّ ما؛ لذا لن نبسطها هنا. حسبنا القول إن في الوسع الزعم على نحو متماسك ومشروع بأن الكون الفيزيائي، في تطوُّره المذهل، كلٌّ واحد متواصل، يشارك كلُّ جزء فيه في مجد الكل، ويعرِّف على نحو ما بوجود الأجزاء الأخرى. وبوهم ليس عالم الفيزياء الوحيد الذي يفترض بأن الكون بطبيعته نفسها كلاني، بما أننا جميعًا أتينا من الكرة النارية عينها.

ولا تقل عن ذلك أهمية – وإنْ لم تفقه روعةً – البيِّنات الصادرة عن الأستروفيزيائيين الذين ما برحوا يتفكرون لماذا بنيان الكون هو ما هو. فالتوازنات في البنيان الإجمالي للكون بديعة التآلُف. ومن الواضح الآن أنه لو كانت للكون كثافة وأبعاد وأجَل مختلفة، لما تمكَّنت الحياة من النشوء. ولقد أُجرِيَ مؤخرًا حسابٌ يبيِّن أنه لو بُدِّل تركيب بعض العناصر الأساسية في الكون بمقدار لا يتجاوز 10%، لما تمكَّن نسيج الكون ككل من توليد الحياة. وبذا يبدو أن هذا المختبر المسمَّى بالكوسموس قد أُعِدَّ إعدادًا فريدًا لتنشئة الحياة. فكما يكتب فريمان دَيْسُن: «يكاد يلوح لنا، ونحن ننظر إلى الكون ونتعرَّف إلى حوادث الفيزياء والفلك العديدة التي تآزرت لصالحنا، وكأن الكون كان، بوجه من الوجوه، على علم بأننا قادمون.»

بذا برزت النتيجة ببطء... لِمَ الكون على ما هو؟ لأننا هنا. والكون على ما هو لأن المقصود منه توليد الحياة العاقلة. ولقد قاد هذا الاستبصار إلى صوغ "المبدأ الأنثروبي" Anthropic Principle (في العام 1981) الذي يعلن بأن الكون منزل الإنسان. فتركيبه وبنيته وديناميَّته بديعة التوازن بحيث تتمكَّن الحياة من النشوء. وكلما فتشنا أعمق فأعمق في البنية المبطونة في التطور الكوني، نزداد اقتناعًا بأن "المصادفات" لم تكن بذلك القدر المفترض من المصادفة.

لقد تمخَّض الكون عن الحياة ليحتفل بذاته، ونحن جزء من مجده. ونحن لا نرغب في إنكار موضعنا الخاص ولا في أن نكون صلفين بما يفوق المعقول. لقد اتفق لنا أن نكون جزءًا من تفتح الكون. وإنكار هذا الموضع الخاص على الإنسان العاقل Homo sapiens باسم إيديولوجيا المناوءة للمركزية البشرية anthropocentrism حماقة تقوم على ضرب جديد من ضروب بُغض البشر؛ بل هو في الواقع ضرب من الصلف المقنَّع.

أما من منظور الوعي الإيكولوجي، فإن المبدأ الأنثروبي يعاود التأكيد على كلانية الكلِّ ووحدته، ويطمئننا بأننا السكان الشرعيون للكوسموس، ولسنا فلتة من فلتات الكون الشَّوْهاء. نحن، بوجه من الوجوه، التبرير لطبيعة الكون: فقد اعتملت التغيرات الكونية الهائلة لتبدع الحياةَ الموهوبةَ العقلَ. وعلى مستوى آخر، ينطوي تصوُّر الكون بوصفه منزلاً للإنسان على أننا قوَّامون عليه، ومسؤولون عن كلِّ ما هو موجود، بما في ذلك مصيرنا.

3. من المبدأ الأنثروبي إلى إجلال الحياة

ويهز متشككنا العقلاني الآن رأسه قائلاً: «على الرغم من أننا نستطيع أن نوافق نوعًا ما على أن الكون كلاني في طبيعته، أنَّى لنا أن نبرهن على أنه إجلالي وروحاني في طبيعته؟ هل من بيِّنة على ذلك؟» وعليه نجيب: إنما البيِّنة في عقلنا. إن التفكير في الكون تفكيرًا جميلاً هو التفكير فيه تفكيرًا إجلاليًّا، هو معاينته بإجلال. وقد يعترض المتشكك على أن هذا ليس بنوع البيِّنة الذي كان ينتظره. عندئذٍ سوف نقول إن المتشكك لم يفقه حذاقة حجَّتنا. إذ لسنا نقول إن الإجلال واحد من المظاهر الفيزيائية للكون، ينبغي وجوده بين الصفات الفيزيائية الأخرى. ونحن لم نُلزِم أنفسنا أبدًا بمثل هذه الفرضية. نحن، بالأحرى، نقول إن الإجلال صفة من صفات العقل. فإذا عاينَّا الكون بإجلال، فإننا نقيم حينئذٍ في كون إجلالي. أما إذا عاينَّاه معاينة آلاتية، فإننا سوف نقيم في كون آلاتي.

بالوسع إثبات الطبيعة الآلاتية للكون بوجود العلم والتكنولوجيا الآلاتيين الراهنين. أما كيف يمكن للطبيعة الإجلالية للكون أن يُبرهَن عليها – فذلك ما قد يلح عليه المتشكك. ونجيبه: بوجود العلم والتكنولوجيا – مع أنهما لم ينمَّيا كثيرًا بعد. إلا أنه لا يصح أن نقول إنهما غير موجودين.

إن طُرُق اليوغا، على اختلاف أنواعها، تمثل تكنولوجيا إجلالية. وحري بنا ألا نبدي الاستغراب والشك أو نصرف الفكرة عن بالنا لأننا معتادون على التفكير في التكنولوجيا بوصفها أدوات فيزيائية نتعامل بها مع العالم الفيزيائي. فتفاعلاتنا مع الكون عديدة وحاذقة، وأية أداة أو تقنية نتفاعل بها مع الكون شكل من أشكال التكنولوجيا. فطرق اليوغا هي تقنيات الروح؛ والصلاة شكل من أشكال التكنولوجيا – إذا فعلت فيك ويسَّرت تفاعلاتك مع الكون – إلهيًّا كان أو غير إلهي.

هلم الآن نواصل التفكر في طبيعة الكوسمولوجيا. تقدِّم الكوسمولوجيا افتراضات حول الكون بكليِّته. ومن بعدُ، عَمَلاً بهذه الافتراضات، تجد في الكون ما افترضتْ أن الأمر عليه. تلكم كانت قصة معظم الكوسمولوجيات المعروفة تاريخيًّا. فالكوسمولوجيات لا تبرهن على وجود هذه الصفة أو تلك التي تفترضها عن الكوسموس؛ إنها تمضي وكأن هذه الصفة قائمة في جبلَّة بنية الكون، ثم لا تني تبني أنساقًا واسعة من الإدراك والمعرفة تشفع للوجود المفترَض لصفة معطاة.

لا شيء يكشف عن ذاته في الكوسموس ما لم نفترض أن الأمر على هذا النحو. فإذا لم نفترض أن الكون فيزيائي في طبيعته، لن نتمكن أبدًا من استدرار هذه الصفة من الكون. علينا أن نبدأ من نقطة ما. فالكوسمولوجيا لعبة الافتراضات. وهذه الافتراضات لا يُبرهَن عليها، إنما تُصنع، ثم يتم العمل بها.

إن سيرورة صنع الافتراضات أو وضع الكوسمولوجيات هذه سيرورةٌ قبلعلمية، سواء بالمعنى التاريخي أو بالمعنى الإبستمولوجي. وليس لدى العلم إلا القليل يدلي به حول هذه السيرورة لأنها تسبق العلم. لذا فإن هذه السيرورة تقع خارج نطاق سلطة العلم. والعلم الغربي يولد حين يفترض كوسمولوجيا ما، ألا وهي الكوسمولوجيا الآلاتية في حالتنا هذه. على هذا الأساس، يبقى العلم عاجزًا، ضمن فلك الكوسمولوجيا العامة، عن أن يكون فيصلاً في صحة كوسمولوجيات أخرى، لأنه ممالئ ممالأة خاصة لكوسمولوجيا واحدة دون غيرها.

بذا، ليس لنا أن نقلق بشأن حكم العلم ونحن ننخرط في إبداع كوسمولوجيات غير آلاتية. فإذا حاول العلم أن يتدخل في مخططاتنا الكوسمولوجية الجديدة، ففي وسعنا أن نقول له بأن يذهب إلى جهنم، أو بأن يعود إلى الكوسمولوجيا الآلاتية التي ينتمي إليها. فالعلم الآلاتي، في محاولته التدخل في الكوسمولوجيات الأخرى، يتخطَّى مجاله وأهليته.

وبالعودة إلى النقطة المتعلقة بالطبيعة الإجلالية للكون، لا حاجة لنا إلى أن نكون معادين للعلم، أو نتجاهل وجود العلم في هذا الشأن. لا بل علينا أن نلحظ أن لا شيء في بنيان العلم ولغته ينهانا عن النظر إلى الكون بإجلال.

إن شأن الكوسمولوجيات شأن إرادة ورؤيا. فإذا نمَّينا الموقف الإجلالي حيال الكون، إذا قمنا بصوغ هذه الأشكال من التفكير والإدراك والسلوك التي تمكِّننا من السير في الجمال، فلسوف نقيم في الكون إجلاليًّا لأننا نكون قد صنعناه على هذا النحو. بذا يكون الكون إجلاليًّا إذا كانت لنا المقدرة على التفاعل معه تفاعلاً إجلاليًّا. وهذا هو لبُّ الوعي الإيكولوجي. إنه يُعنى بتنمية هذه المقدرة التي تمكِّننا من الإقامة في كون إجلالي والإفصاح عنها، والحياة، في مآل الأمر، في النعمة.

الكوسموس، في نظر العقل الإلهي، إلهي؛ وهو في نظر العقل الغليظ، غليظ؛ كما أنه، في نظر عقل القرد، قردي. وعلى هذه الطروحات أن تؤخذ على محمل الجد. فإن العقل هو الذي يسود على الكوسموس المستعصي. وكلُّ نظام وجدناه في الكون هو نظام من ابتكار العقل. وكل الصفات التي وجدناها في الكون هي الصفات التي تصوَّرها العقل. الكون ليس كبيرًا ولا صغيرًا، ليس جميلاً ولا قبيحًا. إنما بريق العقل هو الذي يملأ الفراغ ويجعل فضاءه إلهيًّا.

فمنذ أن والفتْ بعض العقول بينها وبين النسق القدسي أو الإلهي، صار بالوسع اختبار الكون بوصفه إلهيًّا. فلدى ظهور عقول عبقريةِ الموالَفة كهذه في الهند، أبدعت الأوبنشاد. لدى ظهور عقول كهذه في بلاد الرافدين، أبدعت ملحمة جلجامش. أما في اليونان القديمة فيمثَّل لمثل هذه العقول بفيثاغوراس وأفلاطون، اللذين تحدثا عن الألوهة.

بيد أن هذه العقول التي خلعتْ ألوهيتها الأصلية على الكوسموس ابتهجت بإبداعها إلى حدِّ أنها قررت أن تنسب هذه الألوهية إلى الكوسموس عينه، وبذا جعلت الكوسموس إلهيًّا، مدَّعية أن الألوهية هي في الكوسموس نفسه، وخصوصًا بعد أن أبدعت بْرَهْمَن وإيل والله الذي تمثَّلتْه ينبوعًا مطلقًا للوجود تنبجس منه الموجودات كلُّها.

أما ما أطرحه، من جانب آخر، فهو التصور الطبيعي أو العقلي Noetic للألوهة، بما أن العقل Nous هو مبدع كلِّ النُّظُم، بما فيها النظام الإلهي أو الروحي. ومرشا إلياده محق كلَّ الحق في قوله إن المقدس [الحرام] عنصر من عناصر بنيان الوعي، وليس مرحلة في تاريخه. القدسية صفة من صفات العقل، وليست صفة من صفات الكوسموس. ونحن لا نجد الكون قدسيًّا إلا حين نقاربه بالموقف الإجلالي ونعاينه بالعقل القدسي.

ينطبق كلُّ ما قلناه عن الإجلال على الروحانية (العنصر الرابع في طارتنا) . فإذا افترضنا أن الكون لا يحوي شيئًا سوى المادة الصماء،[2] وأن الطريقة الوحيدة لمعرفة الكون هي بواسطة المعرفة الفيزيائية، فمن الواضح أننا لن نجد أثرًا واحدًا للروحانية في هذا الكون لأن افتراضاتنا ولغتنا قد أسقطتاها من الحساب.

أما إذا افترضنا، من جانب آخر، أن الكون حي روحيًّا وأننا عملاء روحيون، وإذا عملنا بهذه الافتراضات، فسوف نجد بيِّنات وافرة بأن الكون عبرفيزيائي trans-physical وعبربيولوجي trans-biological أو ببساطة روحي، كما وجد العديد من الناس من ذوي المنازع الروحية في التاريخ، المتحلِّين بالشجاعة على الافتراض بأن الكون مكان روحي.

4. عن التطور والأمل

هلم نناقش بإيجاز الخصيصتين الأخيرتين، أو المظهرين التطوري والتشارُكي للوعي الإيكولوجي. إن لجمال كوننا صلة حميمة بجمال التطور – تلك السيرورة الرهيبة التي تكافلت فيها قوى مذهلةُ الإبداع لإحداث المعجزة من معجزات الحياة تلو الأخرى. ولقد اكتنه الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون جوهر هذه السيرورة بنحت عبارة "التطور المبدع". أما مُواطنه بيير تلار دُه شاردان، فكان شاعرًا صبًّا، غنَّى التطور المبدع بأناشيد لا عدَّ لها. لقد بذل تلار الكثير ليقنعنا بأن التطور ليس سيرورة داروِنية موحشة، تزحف من مصادفة إلى أخرى، ومن ضرورة مستغلقة إلى أخرى.[3] كلا، فإن التطور ليس سيرورة غبية واتفاقية من ضربات الحظ، يتوالى فيها التعثُّر بتغيير مفيد تلو التعثُّر. فالتطور من الروعة في طريقة عمله بحيث يمكن أن يُدعى إلهيًّا. وإني، من جانبي، لا أجد صعوبة في قبول فكرة أن الله هو التطور، وأن التطور هو الله.

وباختصار، فإن الوعي الإيكولوجي وعيٌ تطوري بامتياز. فما وجه أهمية قبول التطور المبدع بخصوص البنية الإجمالية للوعي الإيكولوجي؟ وفوق ذلك، ما وجه أهمية الفهم السليم للتطور من أجل إحساسنا بالمستقبل وبمصيرنا؟

يعود ذلك إلى أسباب ثلاثة: تخبرنا قراءة حساسة للتطور بأن الكون من حيث اللُّباب غير مكتمل، وبأننا من حيث الجوهر غير مكتملين. ويتفرع عن ذلك بوضوح أننا سنتفتَّح مزيدًا بتفتُّح الكون. من النتائج الهامة الأخرى المتفرعة عن ذلك أن ثمة مكانًا نمضي إليه، أن ثمة مستقبلاً مذهلاً أمامنا. فمازلنا أطفالاً نحبو في الملعب الكوني. غير أننا سننضج، وسنمسك بزمام مصيرنا بيدنا بعزم أشد؛ وسنصبح أقل غباءً، أقل جلافةً، أقل استهلاكًا، وأكثر اقتصادًا وحكمةً. هذا ما تخبرنا به قراءة ذكية للتطور أول ما تخبرنا به.

كما وتخبرنا قراءة ذكية للتطور، ثانيًا، بأن التطور عامل مؤلِّه divinizing، يحوِّل المادة إلى روح. فعلى الرغم من أن بعضهم يزعم بأن الوعي كان قَطْعًا ماثلاً في المادة وفي الكون بأسره منذ البدء (وإلا فأنَّى له أن يوجد؟) – فإني لا أقبل بهذه النظرة. فالوعي مُحْدَث، وقد أتى إلى الوجود عند نقطة معينة من تفتُّح المادة. وحتى لو كان لي أن أوافق على أن في وسع الوعي أن يكون موجودًا – مختبئًا بعمق في الطبقات الداخلية للمادة، ينتظر إطلاق سراحه، للبثتُ أحاجِج بأن سيرورة إطلاق سراحه من ربقة المادة كانت من الروعة والإبداع بحيث يسهل علينا التحدث عن إبداع الوعي، وليس عن مجرَّد الإسفار عنه. بذا، ولد الوعي الخافت عند عطفة معينة من التطور (ربما مع الأميبات amoebas الأولى). ثم ظهرت أشكال أفصح من الوعي. ثم ظهر الوعي الذاتي self-consciousness. ثم ظهرت الروحانية والألوهة – بوصفهما شكلين بديعين من الوعي الذاتي، يعكسان إمكانات بنيته نفسها. الحُرمة والروحانية – كيما نشدد على هذه النقطة – عنصر في بنية الوعي، يتشذَّب، ويتخطَّى الفيزيائي والبيولوجي. بذا يكون التطور سيرورة التألُّه الحاذقة هذه، سيرورة تحويل المادة إلى روح، تحويل الوعي إلى وعي ذاتي، والوعي الذاتي إلى وعي قدسي.

وإن قراءة ذكية للتطور هامة لسبب آخر أيضًا. فهي تمكِّننا من صوغ ما يطيب لي أن أدعوه "الطريق الوسطى"، التي تتوسط بين الوعي الديني والوعي التكنولوجي أو المادي. فالأول يزعم أن كلَّ ألوهية وروحانية هي من لدن الله وتمثل انعكاسًا لألوهية الله؛ ويزعم الثاني بأن الوعي وظيفة من وظائف المادة (الماركسية) وبأن الروحانية والألوهية وهمان أو خيالان من أخيلة الذهن البشري. أما نحن فنزعم أن الروحانية مظهر من مظاهر التطور المتفتح. (ولنُشِر، ونحن نعرج على هذه النقطة، بأن الداروِنية – وهي امتداد للنظرة المادية إلى العالم – لا جواب لديها فيما يخص نشوء الوعي الذاتي وكيفية تفسير الروحانية والحرام.)

وفي تقدُّمه على الطريق الوسطى، لا يختلف الوعي الإيكولوجي عن البوذية، التي لا تأتي على ذكر أيِّ مفهوم عن إله، لكنها، مع ذلك، تفترض بأننا كائنات روحانية وإلهية، وبأن في وسعنا، من خلال عملنا، من خلال كَرْمانا Karma، أن نبلغ أعلى مستويات الإشراق الروحي. وهذا الإشراق يأتي عبر جهود متضافرة، عبر الموالفة الصحيحة للعقل، وعبر تطوير المرء مقدراته النفسانية. كلنا مالكون لألوهيتنا، لكن إطلاق سراحها من عقالها يتطلب منَّا النهوض بعمل جبار من تنقية النفس، ثم موالفة أنفسنا مع أكثر أشكال الوعي الإنساني تطورًا.

وباختصار، فإن التطور المبدع، بوصفه مركِّبة من مركِّبات الوعي الإيكولوجي، هام لأسباب ثلاثة على الأقل: فهو يمكِّننا من التغلب على فظاظات المفهوم الداروِني للتطور؛ ويجعلنا نفقه مغزًى ما من الماضي العجَّاج، ونحن نتطلَّع إلى الوعد العظيم للمستقبل؛ وهو يمكِّننا من اتِّباع الطريق الوسطى للألوهية الطبيعية التي نتصور أنفسنا ضمنها بوصفنا جسمانيين وروحانيين معًا، عقلانيين وسرَّانيين معًا – وذلك كله ضمن حدود التطور الطبيعي.

يبقى لنا مظهر آخر، هو المظهر الهام السادس للوعي الإيكولوجي: إنه الإقرار بالعقل التشارُكي، أو الإقرار بأنه، في حدِّ ذاته، وعي تشارُكي، مُشارِك في الإبداع. فلقد كتب الأستروفيزيائي جون أرشيبالد ويلر: «الكون غير موجود "هناك" وجودًا مستقلاً عنَّا. فنحن منخرطون لا محالة في إحداث ما يبدو أنه يحدث. نحن لسنا راصدين وحسب؛ نحن مشاركون. وهذا الكون كون تشارُكي بوجه عجيب من الوجوه.»

ولقد أعاد التأكيد على هذا الاستبصار العديد من الفيزيائيين والفلاسفة غيره. بل إن فكرة الكون التشارُكي كانت ستبقى فارغة وعديمة المعنى لو لم تبدع العقل المشارِك بوصفه شريكها في الإبداع المشترك. «لا عقل، لا عالم»، كما كان يقول بارمنيدس.

إن تصور العقل التشارُكي يعني حضور العقل في جميع نواتج معرفتنا وفي جميع صور العالم. وكلُّ ما نستقبله من العالم يترشَّح من خلال العقل. فإذا لم يكن يترشَّح، فإنه لا يُستقبَل. ولو كنَّا نوعًا مختلفًا، وكنَّا ممتلكين بنية ذهنية مختلفة كليًّا، فإن صورنا عن العالم، ومفاهيمنا عنه كلَّها، سوف تكون مختلفة. بهذا المعنى حصرًا يكون وعينا مرتبطًا بالنوع.

إننا لا نصف الكوسموس أبدًا كما هو، بل نشارك دومًا فيما نصف. وعقلنا يستمدُّ على منوال واحد وبلا كلل (عبر تلك الملَكات والحساسيات التي في حوزتنا)، من المعطيات البدئية عديمة الشكل للكون. فالمُعطى ليس أبدًا مُعطى بما هو كذلك؛ فالعقل دومًا يعالجه، يقولبه، يشكِّله، ويعيَّنه.

لقد سبق لنا أن ناقشنا أهمية العقل التشارُكي ونحن نقدِّم للتصور العقلي للألوهية، كما ونحن نشير إلى أن العقل (أو الوعي البشري) هو مبدع النُّظُم كلِّها، بما فيها النظام الروحي. كما ذكرنا أيضًا أننا، إن كنَّا نفترض الطبيعة الآلاتية للكون، سوف نقرأ الكون قراءة آلاتية. أما إذا أخذنا بالطبيعة الإجلالية للكون، من جانب آخر، فسوف نقرؤه قراءة إجلالية ونتفاعل معه تفاعُلاً إجلاليًّا. وجلي أن هذه المفاهيم تنطوي على الطبيعة التشارُكية والمشترِكة في الإبداع للعقل الذي يشارك الكون في إبداعه.

أما وقد اكتملت طارتُنا الآن، فإننا قد بينَّا ستًّا من الخصائص الأساسية للوعي الإيكولوجي. وهذا الوعي كلاني، نوعي، روحاني، إجلالي، تطوري، وتشارُكي. وهذه الخصائص تشكِّل كلاً واحدًا متماسكًا، كما أنها تشارك في صنع الكوسمولوجيا الإيكولوجية: فهي نتائج لهذه الكوسمولوجيا، من ناحية؛ كما أنها مكوِّنات هذه الكوسمولوجيا، من ناحية أخرى.

ثمة الآن عنصر واحد من عناصر الوعي الإيكولوجي لا يظهر في الطارة، لكنه ذو أهمية حيوية. هذا العنصر هو الأمل. ولقد واحد دانتي بين الأمل والنعيم، وبين اليأس والجحيم. وبالفعل، فإن الكتابة على بوابة الجحيم تنص على "انقطاع الأمل"[4].

الأمل عامل حاسم في حياة نحياها في الجمال. وهو من الأهمية لتصورنا عن الكون الكلاني وموقفنا الإجلالي من الحياة، بحيث إنه لا بدَّ أن يكون جزءًا من الوعي الإيكولوجي. فمتى تهافت الأمل تهافت كلُّ شيء.

لقد أوجد وعينا المصدوع والذرَّاني الخواء الروحي الذي يتسلَّل اليأس في أعقابه بصورة طبيعية. وهذا ضرب من ضروب الجحيم نفسه – الحياة في العالم بلا أمل. والوعي التكنولوجي عاجز عن إمدادنا بأيِّ بنيان للأمل. ولهذا السبب وحده يدين نفسه بوصفه وعاءً للعيش غير كافٍ.

الأمل ليس تعليلاً للنفس بالأماني، بل مجال للتجاوز المتواصل. الأمل جزء من بنيان وجودنا. الأمل جزء من بنياننا الأونطولوجي. الأمل أكسيجين لنفوسنا. الأمل إعادة التوكيد على إيماننا بمعنى الكون. الأمل هو الشرط المسبق لكلِّ معنى، لكلِّ كفاح، لكلِّ عمل. واعتناق الأمل ضربٌ من ضروب الحكمة. أما التخلِّي عنه فضرب من ضروب الجحيم. وبمعنى جوهري من المعاني، يتخلَّل الأمل بنية الوعي الإيكولوجي برمَّتها.

5. خاتمة حول الرياضات العملية التي تقود إلى حيازة الوعي الإيكولوجي

إن سيرورة اخضرار الوعي في تَواصُل. غير أن كلمة تحذير قد تكون مستصوبة. فهذه السيرورة لن تتم من تلقاء ذاتها، بل سوف تتطلب طاقة وقوة إرادة عظيمتين من جانبنا، مثلما أن التطور لن يمضي قدمًا من تلقاء ذاته ومن غير مجهود إلى نهايته السعيدة – نقطة أوميغا – بدون مساعدتنا. فنحن التطور وقد وعى ذاته. ذلك حق. ويضع هذا الإدراك على عاتقنا عبئًا هائلاً وجميلاً: تحمُّل المسؤولية عن كلِّ موجود، عن مستقبلنا وعن مستقبل التطور.

يُفترَض أحيانًا بأن التطور يعمل بيسر وبالضرورة، وبأنه سيسلمنا إلى أرض موعودة ما، مهما يكن عليه الأمر. ويُفترَض أيضًا أن التطور يقوم باختراقات هي من الإذهال بحيث إن الأمر لن يتعدى سنوات قبل أن يصبح جمهور البشرية مستنيرًا، ونكون جميعًا سائرين على طريق الحق. غير أني أعتبر هذه النظرات متفائلة إلى حدِّ السذاجة.

إن تغيير الوعي البشري، العالق حاليًّا في الضوابط الآلاتية، سوف يتطلب مشقة هائلة. ولسوف يتطلب نوعًا من الثورة. وبالفعل، يتصور إيونسكو الثورة هكذا: «الثورة تغيُّر في حالة الوعي.» وللمناسبة، فإن الثورات التي لم تفلح، بما فيها الثورة السوفييتية، هي تلك الثورات التي أخفقت في إبداع وعي جديد.

فلننظر الآن في نقطة حاذقة أخرى، لكنها هامة. ما وجه صعوبة تغيير في الوعي على المستوى الفردي؟ ذلك لأن المتعضِّية ترى فيه تحديًّا لهويتها. فالوعي هو الهوية. وحين يكون الوعي في طور التغير، نكون في طور التغير. كلُّنا مرتاح في زاويته القديمة الوثيرة – أية كانت. فالزوايا القديمة بمثابة استقرار. أما الوعي الجديد فينطوي، أول ما ينطوي، على التقلقل، وإنْ هو أدى إلى التحرر وإلى حرية جديدة على المدى البعيد.

فكيف لنا أن نغير وعينا، أو جزءًا منه على الأقل؟ أود عند هذه النقطة أن أُدخِل مفهوم لولب الفهم spiral of understanding. إن كلاً منا يفكر ويدرك من خلال لولب فهمه (أو فهمها) الفريد والفردي. وهذا اللولب، إن صحَّ التعبير، منظومة الدارَّات أو جملة البرمجيات software المؤلِّفة للعقل الفردي. (أما نظام المعالجة hardware فهو الخلايا السنجابية – التي ينبغي مواحدتها مع المخ). بذا فإن لولب الفهم الفردي يكون مشروطًا بالثقافة السائدة، لكنه لا يتعيَّن بها كلَّ التعيُّن – وإلا لما كنَّا قادرين على النهوض بأية تغييرات مرحلية أبدًا.

علينا، في سعينا إلى حيازة وعي جديد، أن نعمل على لولب الفهم الفردي.[5] وهذا العمل يعني القيام بتمارين منهجية، صنف من أصناف اليوغا، نستبطن به المبادئ وكيفيات الفهم والإدراك التي نريد أن نصبح تجسيدًا لها. فالرحمة والإجلال والتفكير الكلاني لا تُعطى لنا منزلَّة، إنما تتطلب عملاً منهجيًّا دؤوبًا. وإني أدعو هذه التمارين الخاصة التي تقود إلى حيازة الوعي الإيكولوجي بـاليوغا الإيكولوجي. وليس هاهنا موضع شرح مبادئ اليوغا الإيكولوجي، وخصوصًا أن على كلِّ يوغا أن يمارَس، لا أن يكون موضوع حديث وحسب. وقد تقدِّم الرياضات الروحية الخاصة بالمنقولات القديمة الجليلة عونًا لا يستهان به. كما أن العديد من المنظومات المنطقية المتوفرة حاليًّا قد يقدِّم عونًا هامًا أيضًا، إذا مورِسَ ممارسة حصيفة.

على كلٍّ منا أن يجد تمارينه/تمارينها الخاصة التي ستقود إلى تغيير في الوعي – إذا حُسِبَ مثل هذا التغير أمرًا مرغوبًا فيه. فما من أحد في وسعه أن يحمل غيره على حيازة شكل من أشكال الوعي لا يحسبه مرغوبًا فيه. والوعي الإيكولوجي يتقدم بنفسه مرشحًا مرغوبًا فيه لأنه يعد بحلِّ المشكلات الأساسية التي نعاني منها اليوم في أسبابها الجذرية. وإنه ليمنحنا رغد معرفة أن الكون منزل للبشر، وأننا سكانه الشرعيون – وربما سكانه الرفيعو المقام.

خلاصة

إن تغييرًا في طبيعة الوعي يعني تغييرًا في وصف العالم. ونحن في الوقت الحاضر نقف عند منعطف مثل هذا التغيير. ونحن، من خلال حيازة الوعي الإيكولوجي، نغير طبيعة إدراكنا، ونغير طبيعة معرفتنا، ونغير طبيعة الواقع الخارجي. فبمقدار ما نرشِّح الواقع وننحته بصورة مختلفة، نتلقَّاه تلقِّيًا مختلفًا.

لقد حاججنا بأن الوعي الإيكولوجي يستلزم سلفًا ويقتضي وجود كوسمولوجيا أدعوها الكوسمولوجيا الإيكولوجية.[6] والصلة بين الوعي الإيكولوجي والكوسمولوجيا الإيكولوجية وثيقة جدًا؛ فكلٌّ منهما يعرف بالآخر. ووجود كلٍّ منهما يعتمد على وجود الآخر. وقد يقال إن الوعي الإيكولوجي يمثل استبطان مبادئ الكوسمولوجيا الإيكولوجية. أما الكوسمولوجيا الإيكولوجية، من ناحية أخرى، فتحتاج إلى الوعي الإيكولوجي كناطق بها وممثِّل لها في عالم الوعي. فالكوسمولوجيا لا توجد بمفردها، إنما توجد حين تنطق بها كيفيات الوعي المناسبة. وتلك الكيفيات المناسبة من الوعي يتعين علينا أن نحصِّلها فرديًا – بالعمل على أنفسنا. فقط عندئذٍ يكون للوعي الإيكولوجي أن يصبح وعيًا اجتماعيًّا.

نحن بمفردنا، إنْ ونحن نولد أو ونحن نموت. ونحن وحدنا أيضًا في صنعنا للاختراقات التاريخية. ونحن متَّحدون مع نسيج الحياة والتطور العظيم من وجوه شتَّى. بيد أننا حين نصارع بذاتنا الباطنة، حين نسهر على أنفسنا ونسعى إلى جعلها أكثر تشربًا للنور، غالبًا ما نكون بمفردنا.

الوحدة أم الإتقان.

الشجاعة نار الروح.

الأمل ربيع قوام الحياة الأبدي.

الصراط المستقيم هو التعرف إلى حكمة

العُقالات الكونية.

الوعي الإيكولوجي هو إيجاد بنيان

جمال رحيم، معيل،

يكتنفها جميعًا.

***

القسم الثاني من البحث


[1] من أجل المزيد من مناقشة التفكير الإجلالي، راجع الفصل في هذا الموضوع في كتابي:

The Theatre of the Mind (1985).

[2] كلما ازداد الذهن حساسية ازدادت حساسية المادة. وبعض الاختصاصيين يتكلَّم على حساسية المادة. لكن هذه الحساسية لا تكشف عن نفسها إلا للأذهان الحساسة – الحساسة بما يكفي لكي تفترض أن المادة ليست هذا "الشيء الأصم هناك".

[3] أنا أشير هنا إلى كتاب Jacques Monod, Le hasard et la nécessité، الذي حاول فيه أن يشدد على النظرة المادية إلى العالم وعلى المفهوم الداروِني للتطور.

[4] Dante Alighieri, The Divine Comedy, Part I – “Hell,” Canto III.

[5] للمزيد من المناقشة راجع:

H. Skolimowski, “The Participatory Mind in the Interactive Universe,” The World and I, Vol. 2, Feb. 1986.

[6] للمزيد من المناقشة حول الكوسمولوجيا الإيكولوجية راجع:

H. Skolimowski, “Ecocosmology as the Foundation of the New Cultural Reconstruction,” in Voices of Eco-philosophy.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود