|
رؤية
الماضي موضع
الإنسان في الكون في
منظور تلار
دُهْ شاردان في
كتابه الصغير موضع الإنسان في الطبيعة[1]
يحدِّثنا العالِم الحكيم تلار دُه شاردان،
الاختصاصي بعلم الباليونتولوجيا، عن الذروة
التي بلغها التطور بظهور الإنسان في الوجود
الأرضي. لقد بلغ التطور قمة ديناميَّته
وغايته. وفي كتابه الأشهر ظاهرة الإنسان[2]
تبلغ نظريته التطورية أوجها، إذ يؤلِّف بين
الخطَّين اللذين تفاعَل ضمنهما التطور، وهما:
الباطن، أي الخصائص النفسية والعقلية، والظاهر،
وهو الشكل، ليلتقيا، التقاءً متكاملاً
ومشتركًا، في الإنسان. وهكذا يتحقق كمال
التعقيد الأرضي في الإنسان.
في كتابه رؤية الماضي[3]
– وهو موضع هذا الحديث – يتحدث تلار دُه
شاردان عن موضع الإنسان في الكون. ويكشف، في
حديثه هذا، عن الموقع الذي يحتله الإنسان في
الكون، بحيث إنه يمكننا أن نتصور، أو ندرك،
غاية التطور بعد وجود الإنسان: التطور في
نطاقه العقلي والنفسي والأخلاقي والروحي. أعتقد أن الأهمية الكامنة
في هذا البحث تكمن في السؤال التالي: ما هو
موضع الإنسان في الكون؟ يتأمل الإنسان القضية
الهامة الماثلة في هذا السؤال، ويدرك أن
أهمية هذه القضية تتأكد على صعيدين: أ.
صعيد المعرفة، الذي يتمثل، من جديد،
في الأسئلة التالية: ما أنا؟ من أنا؟ ما
حقيقتي؟ ب.
صعيد الأفعال، الذي يتردد فيه السؤال
ذاته في أبعاده الثلاثة التالية: ما هي قيمتي؟
إلى أين أمضي؟ كيف أوجِّه حياتي؟ ظل الاعتقاد بأن الإنسان هو
مركز الخليقة سائدًا حتى القرن السادس عشر.
وإذا ما سعينا إلى تفسير هذه المركزية، أجبنا:
الإنسان، الذي هو المركزُ الهندسي والقيمةُ
المركزية لكون مؤلَّف من نطاقات، صُمِّم على
نحو متمركز، أي متَّحدِ المراكز، حول الأرض.
والحق أن الأمر لم يكن يحتمل غير هذا التفسير. في غضون القرون الثلاثة
التالية، التي بلغت نهايتها في القرن التاسع
عشر، رأى العلماء، وهم يختبرون تجاربهم، عبثَ
هذا المعتقد أو المنظور. فنتيجة لذلك، بدأ
الإنسان يرى نفسه مقلَّصًا إلى حدِّ اللاشيء
في ضخامة كونٍ تُعتبَر الأرضُ، في داخله،
ذرةً من الغبار وسط مجموعة كبرى من النجوم.
وفي هذا المنظور، لم يعد الإنسان يحتل موضعًا
هامًّا في الكون. في الوقت الحاضر، يُعيد
العلماء النظر في موضع الإنسان. فهم يدركون
أنه لا يمثِّل مركز عالم سكوني، بل مبدأ هام
في عالم ديناميٍّ متحرك. *** تعتمد
هذه القراءة على اكتشاف الإنسان للإنسان –
الإنسان يكتشف نفسه في المعرفة. وتتمثَّل هذه
الدراسة في المبادئ الثلاثة التالية: أ.
اللانهاية الكبرى، واللانهاية الصغرى،
أو "الوجود قبل ظهور الحياة"؛ ب.
اللانهائي
المعقَّد، أو "الحياة تظهر في الوجود"؛ و ت.
الكون يتمثَّل بلانهايات ثلاث، أو "كون
يتألق فيه الإنسان برفعته وتفوقه". أولاً. الكبير
اللانهائي والصغير اللانهائي، أو "الوجود
قبل ظهور الحياة" تقضي ضرورة البحث باعتبار
مناطق الكون وأبعاده ومستوياته، وفق ما
تحدِّده الفيزياء الحديثة، وذلك في سبيل
إحياء وإعلاء شأن القيمة الإنسانية التي
قلَّصتْها بعض النظريات العلمية لدى مقارنة
هذه القيمة الإنسانية بالقيمة الكونية
الشاملة. وتتمثَّل هذه المناطق
والأبعاد والمستويات في النقاط التالية: أ. البنية
الجسيمية للعالم:
تكشف المادة عن ذاتها على نحو عناصرَ
معايَرةٍ أو مدرَّجةٍ ذات حجم متزايد؛
وتشكِّل هذه العناصر كثرة في كلِّ مستوى أو
نطاق أو حالة. ب. وجود ثلاثة
أنظمة أو نطاقات من الحجم أو المقدار داخل
العالم: وفق مصادفة فريدة من
نوعها، يقف الإنسان، على نحو تقريبي، في
الوسط من المجموعات الكلِّية، بحيث إن
اللانهائي الصغير يقع تحته، واللانهائي
الكبير يقع فوقه. ت. وجود
اختلاف كبير، أو فرق كبير، بين الجسيمات أو
الدقائق الخاصة بهذه النطاقات الثلاثة:
يحيا الإنسان بين اللانهائي الكبير
واللانهائي الصغير؛ ويعبِّر باسكال عنهما بـ"هوَّتي
الوجود". وهكذا، توجد لانهايات ثلاث، هي: 1.
لانهاية
الصغير؛ 2.
لانهاية
الكبير؛ و 3.
الإنسان
الذي يمثِّل تشابك اللانهايتين. الإنسان، إذن، يمثل الموضع
الذي تلتقي فيه اللانهاية الكبرى مع
اللانهاية الصغرى. ث.
تُعَدُّ هاتان اللانهايتان، وفق تعبير تلار
دُه شاردان، أو هاتان "الهوَّتان"، وفق
تعبير باسكال، قطبين متقابلين، ليس على نحو
كمِّي وحسب، وفق مفهوم الاتساع أو الضخامة
والصغر، بل أيضًا وفق مفهوم الخاصية أو
النوعية التي تشير إلى أن غالبية الخصائص
الأساسية للكون تصبح مختلفة في النطاق الكبير
وفي النطاق الصغير عمَّا هي عليه، في
ظهوراتها، في النطاق الأوسط الذي هو الوسط
الإنساني، أي تشابكُ اللانهايتين وتعقيدُهما.
وهكذا، يُعتبَر الإنسان لانهاية ثالثة، يبلغ
فيها التعقيد الأرضي أقصاه، ويتسنَّم الوعي
المرافق لهذا التعقيد أعلى درجاته. ويتمثَّل
هذا التعقيد في لقاء اللانهايتين، الكبرى
والصغرى. ويمكننا تشبيه هذا اللقاء بشجرة
أرضية، تتعمَّق جذورُها في المادة، وتمتد
أغصانها وتتَّسع في الفضاء اللانهائي،
تلتقي، في نقطة وسطى، مع شجرة كونية تتعَّمق
جذورُها في اللانهاية، وتمتد أغصانها
وتتَّسع أو تنتشر في المادة الأرضية. في هذا التعقيد، يتجلَّى
التغايُر المتبادل والودِّي الملازمُ
للاَّنهايتين. وفي هذا المنظور، نشاهد
الهوَّة التي يتَّصف بها الكون الذي يقع
فوقنا وتحتنا. وإذ نجد أنفسنا مستغرقين في هذا
الوضع الكوني، نطرح على أنفسنا السؤال التالي:
ما هو التأثير الأول الذي يخلِّفه ظهور أعماق
هذه الهوة أو التشابك على عقولنا؟ في هذا الوضع الكوني، نرى
أنفسنا مستغرقين في العمق الذي يحتجزنا بين
اللانهائي الصغير واللانهائي الكبير.
وعندئذٍ، تبدو لنا الحياة – والإنسانية
برمَّتها – وكأنهما قد تجرَّدتا من القيمة
والمعنى نتيجة للتيه في هذه الهوة العميقة أو
التشابك المعقد. والحق أن ردَّ العقل
الإنساني على هذا العمق، الذي يؤدي به إلى
الشعور بالتفاهة وهو ماثل في الوسط بين
لانهايتين، يجعله يعتقد بأنه يبحث عن ملجأ أو
ملاذ في ثنائية تشير إلى استحالة توحيد العقل
والمادة في كونين منفصلين يمتدان في
اللانهاية دون أن يُسهِما في تحقيق بُعْد
واحد مشترك.
يعتقد تلار دُه شاردان بأن
الخلاص من هذا الوضع الظاهريِّ التناقُض بين
العقل والمادة، بين الفكر والموضوع، أو بين
الروح والمادة، لا يتحقق إلا بإضافة لانهاية
ثالثة إلى لانهايتَي الصغير والكبير، هي، كما
ذكرتُ سابقًا، التعقيد اللانهائي، أو تشابك
اللانهايتين في الإنسان. ثانيًا.
التعقيد اللانهائي، أو "ظهور الحياة من
جديد" ماذا نقصد بكلمة "تعقيد"؟ بالتعقيد الذي يظهر على نحو
تجمُّع، لا نشير فقط إلى عدد العناصر
المكوِّنة لهذا التجمُّع وتنوعها، بل وإلى
ترتيبها أيضًا. والحق أن وضع النويات الذرية
الثلاثمائة وستين معًا بدون ترتيب هو مجرد
"تجميع" يشير إلى التغايُر وليس إلى
التعقيد. لذا يُعَدُّ التعقيد تغايُرًا
منظَّمًا ومركَّزًا في آنٍ واحد. وعلى هذا
الأساس، يقتضي تعقيد منظومة وجودَ عاملين أو
عنصرين مختلفين. في هذه الحالة، تصبح
الدقائق أو الجسيمات المادية أكبر فأكبر.
وإذا ما تساءلنا: كيف تصبح أكبر؟ أجبنا: إنها
تشكِّل تجمعات تتضخَّم تضخمًا متزايدًا،
وذلك نتيجة لاتحادها بعضها مع بعض اتحادًا
يؤدي إلى تشكيل "تعقيدات" حقيقية على نحو
تتجمَّع فيه الجواهر في ذرات بسيطة، والذراتُ
البسيطة في ذرات أكبر، والذراتُ الأكبر في micellae[4]
جسيماتٍ مكهربة في مادة شبه غروية،
والجسيماتُ المكهربة في خلايا، والخلايا في
نباتات وحيوانات. نحاول الآن أن نقيس درجة هذه
الجواهر والذرات، آخذين بعين الاعتبار عاملَ
"عددِ الجواهر والذرات المتجمِّعة". وفي
هذا الصدد، يقول تلار دُه شاردان: لم
يحسب العلماء، لحدِّ الآن، عدد الجواهر
المضمونة في أصغر خلية حيوانية. فإذا كان
الجسم الإنساني يشتمل على ألف مليار خلية
تقريبًا، فيمكننا أن نقول: إن عدد الجواهر في
هذا الجسم تتساوى أو تتعادل مع ترتيب أو نظام
المقدار العددي للمجرات. والحق أن الجواهر
ليست مقسَّمة تقسيمًا متجانسًا. فهي تشكِّل
منظومة تراتبية متصلة من الوحدات الجسيمية،
أو وحدات الدقائق، ذات أنظمة أو ترتيبات
مختلفة، بحيث إن الصلات أو الروابط
المكانيكية تتوضع على حلقات تنافذية تتوضع،
بدورها، على حلقات إلكترونية. وهكذا، يتمثَّل
الكون بلانهايات ثلاث، يفعل فيها الوعي
والحرية. ثالثًا. الكون
بلانهايات ثلاث، أو "رفعة الإنسان
وتفوُّقه" يُعَدُّ التماسك أو الترابط
والإنتاجية الاختبارَ الأعظم في نطاق العلم
وفي النطاقات الفكرية الأخرى. وبالنسبة
لعقولنا الباحثة، يتوطَّد اليقين الذي نعهده
في نظرية ويزداد ازديادًا أفضل وأكثر تأكيدًا
بمقدار زيادة النظام الذي تفرضه هذه النظرية
على النظرة التي تتبنَّاها عن العالم، وعلى
قدرتها على تعزيز الحركة المتقدمة لقدرتنا
على البحث والبناء وعلى توجيهها. في هذا المنظور، يحتل
الإنسان مركزه في كون يتميَّز بلانهايات ثلاث.
وسوف يتصرف، وفق هذا المنظور، وكأن هذا الكون
هو الكون الحقيقي، ويحاول أن يرى ويدرك ما
يحدث: أ.
تقوم علاقة طبيعية بين عالمي الفيزياء
وعلم النفس – علاقةٌ، هي، في نظر بعضهم، غير
قابلة للمصالحة. في هذه العلاقة، تتَّصل
المادة بالوعي. ولا تعني هذه الصلة أن الوعي
يصبح قابلاً للقياس قياسًا مباشرًا. وعلى غير
ذلك، تعني هذه العلاقة أن الوعي يعمِّق جذوره
وأصوله، فيزيائيًّا وعضويًّا، في عملية
كونية واحدة تمثِّل الاهتمام الأكبر
للفيزياء. ب.
في
هذا الواقع، يُعَدُّ الوعي حدثًا غير مألوف
ظاهريًّا واتفاقيًّا، أو تصادفيًّا، ويخرج
عن كونه مجرد مصادفة عشوائية في الكون. وعلى
غير ذلك، يُعَدُّ ظاهرة عامة ونظامية للاتجاه
أو للانتقال التدريجي العالمي والشامل
للمادة الكونية التي تنزع إلى تشكيل تجمعات
ذرية أعلى على نحو متزايد. وفي هذه الحالة،
تظهر الحياة حيثما تُتاح لها إمكانية الظهور
في الكون. ت.
تتَّجه ظاهرة الوعي إلى الإفصاح عن ذاتها
إفصاحًا أساسيًّا وجوهريًّا وهامًّا، بحيث
إنها لا تُعتبَر ظاهرة فيزيائية – وهذا،
لأنها الظاهرة ذاتها. نستطيع أن نخلص إلى نتيجة
تجعلنا ندرك أن الإنسان، وهو يقف على منحنى
التشكل الجزيئي أو منعطفه، لا يحتل المرتبة
الأولى بجسمه. وبحسب مقدار الجزيئات أو
الدقائق المتجمِّعة في جسمه أو كميتها، يقع
موضعه، على سبيل المثال، دون مستوى الفيل أو
الحوت. ومن المؤكد أن ملايين الخلايا
المتجمعة في دماغه تشير إلى أن المادة قد بلغت
ذروتها في نطاق التعقيد المتصل بالتنظيم
المركَّز. ومن حيث الترتيب الزمني والبنيوي،
يُعتبَر الإنسان الكائن الأخير المشكَّل أو
المكوَّن، والأكثر تعقيدًا وتركيزًا، بين
جميع الذرات والجواهر. وهكذا، يكون الإنسان،
في منظور جوليان هكسلي، الموضعَ الأعلى الذي
يحتل المركز الأول في سلسلة البحوث
الاختبارية. ففي كيانه، تسنَّم التطور الكوني
ذروة وعي ذاته. عندما نتأمل هذه الحقيقة،
ندرك أن النظرية التجسيمية أو التشبيهية[5]
anthropomorphic
القديمة أخطأت في تقديرها أن الإنسان مجرد
مركز هندسي كوَّنتْه الضرورةُ في كون ستاتيكي.
وعلى غير ذلك، يظهر الإنسان، من جديد، على
منحنى التشكل الجوهري والذري أو منعطفه وهو
يحمل العالم ويدفعه إلى الأمام. هكذا، يحتل كلُّ شيء
مكانًا، أي موضعًا، ويتخذ كلُّ شيء شكلاً،
انطلاقًا من الأدنى إلى الأعلى، في حاضرِ
وماضي كونٍ تنجح فيه الفيزياء، في وضوح يخلو
من التشويش، بتضمين ظاهرة الطاقة الإشعاعية
والظاهرة الروحية في حقيقة واحدة هي: التماسك
والترابط. بالإضافة إلى ذلك، نُشاهد
كلَّ شيء وهو يتألق وسط الضياء، متجهًا إلى
المستقبل: إنها الهناءة المنطوية في
السعادة العظيمة السامية. تؤكد الصفة المميِّزة
للتشكل الجوهري والذري الذي نتحدث عنه بأنه
لن يتعرَّض للتوقف أو للانغلاق. وفي الوقت
الحاضر، نشاهد موضع الإنسان عند نهايته. ومع
ذلك، نتساءل: هل نجرؤ على القول أو التفكير
بأنه يستطيع، أو يجب، أن يمتد ويتَّسع إلى ما
هو أبعد؟ كيف يمكنه أن يتجاوز الإنسان
الحالي؟ ألا يحتلُّ الإنسان، في وضعه الحالي،
ذروة الوجود والكون؟ أليس هو فرعًا أو غصنًا
قائدًا يؤكد، بنفسانيَّته الفائقة، انبثاق
الوعي في جميع الأشياء، ويوجِّه هذا الوعي
المنبث في كلِّ شيء؟ ومع ذلك، نتساءل مرة
ثانية: ألا يمكن أن يكون البرعم الذي ينبثق
منه كيانًا أعقد وأكثر تركيزًا ممَّا هو عليه
الآن؟ يُحتمَل أن يتحقق هذا
التساؤل الذي لا يقوم على براهين قاطعة. والحق
أن هذا المنظور يفترض هذا الانبثاق لكونٍ
بلانهايات ثلاث. تشير الدراسة العلمية إلى
أن العلماء، حتى الوقت الحاضر، لم يأخذوا
بعين الاعتبار إلا البنية الفردية للإنسان،
وأقصد: الجسم الذي يتألف من آلاف آلاف
الخلايا، والدماغ المؤلَّف من آلاف آلاف
النويَّات العصبية. وعلى الرغم من كون
الإنسان فردًا مركَّزًا في ذاته، لكننا مع
ذلك نتساءل: ألا يُعَدُّ عنصرًا يتسنَّم رتبة
أعلى في علاقته مع تأليف جديد أعلى وأسمى؟
وإذا كانت الذرات تتشكل من مجموعات
الإلكترونات والنويات، وتتشكَّل الجواهر من
مجموعات الذرات، وتتشكل الخلايا من مجموعات
الجواهر، فإنما لنسأل أنفسنا: ألا يُحتمَل
وجودُ كيان يتشكَّل فوقنا، هو إنسانية
تتألَّف من مجموع الأشخاص المنظَّمين؟ ألا
يُعَدُّ هذا التنظيم، الذي يتميَّز به أولئك
الأشخاص المنظَّمون، الطريقة المنطقية
الوحيدة للامتداد والتوسع، بالتكرار
والتواتر، باتجاه تعقيد أكثر تركيزًا ووعي
أعظم وأسمى ندعوه "منحنى التشكُّل الذري أو
الجوهري الشامل والكوني"؟ يمكننا أن نقول: إن الرؤيا
التي حلم بها علم الاجتماع بتحقيقها بدأت تجد
لها قواعد في العلم الذي بدأ، بدوره، يتيقَّن
من وجود اللانهايات الثلاث. يعتقد بعض العلماء أنه
مازال يستحيل علينا أن نشكِّل فكرة عن صيغِ أو
أشكال الظهورات التي يمكن للتشكُّل الذري
الفوقي العظيم الذي هو "دماغ الأدمغة" أن
يتبنَّاها، أو يتبنَّاه النطاق العقلي Noosphère
الذي تحيكه أو تنسجه جميع العقول المفكرة
الواعية على سطح الأرض. والحق أن كلَّ ما
يستطيع العلماء قوله، بهذا الصدد، هو أن
الحريات الفردية، في هذا النمط الجديد من
التركيب أو التأليف البيولوجي، تستطيع، كما
يمكننا أن نتصور، أن تبلغ أقصاها عبر العلاقة
الصميمة والودية القائمة والمتبادلة بين
التجمعات. وعلى الرغم من الخطورة المحدقة
بتصور وجود هذا التأليف البيولوجي المقبل
وأبعادِه، لكن العلماء، مع ذلك، بدأوا يفهمون
ما ينبغي عليهم أن يفعلوا خلال مليارات عصور
الحياة التي، وفق ما يقول علماء الفلك، تتوقع
تطورًا للبشرية. وبالتالي، يستطيع العلماء،
أن يحددوا، وهم يعتمدون على معرفتهم لمدى
اتساع الكون وكثافته، الخطَّ العام للتقدم
الذي ينبغي على الإنسان اتباعُه: على الطريق
الذي يؤدي إلى المزيد من الانطلاق باتجاه
وحدة أعظم. والحق أن مجرد السير على هذا
الطريق يعني عدم القدرة عن التوقف. يُعتبَر صعود الإنسان منحنى
التعقيدات وبلوغُه نطاقات الوعي قضيةً تشير
إلى أمرين: أ.
استيقاظ خصائص جديدة وانبثاقها إلى
الوجود؛ و ب.
ظهور شكل أو صيغة خاصة للطاقة، يُحتمَل أن
يكون أو تكون منحنى أو منعطفًا جديدًا يكشف عن
ذاته على نحوٍ تتآلف فيه أشكال الطاقة الأخرى. وإذ يبلغ الإنسان هذه
المرحلة، يصبح قادرًا على تأليف ما هو أبعد
وأعلى من ذاته. وبالمثل، يصبح قادرًا على
امتلاك الإرادة الحرة التي تؤهِّله
للقيام بهذا التأليف. وينبغي على الإنسان، في
هذه الحالة، أن ينجذب إلى الأعلى بفعل جاذبية
تفعل في داخله. وما لم ينجذب الإنسان إلى
الأعلى، باتجاه "كينونة أعظم وأسمى"،
فإنه، بالتأكيد، يحكم على نفسه بالفناء. في هذا المنظور، يلقي
الإنسان على نفسه السؤالين التاليين: أ.
ماذا يتطلَّب التأليف الكوني من الإنسان
الذي يوافق على التقدم في نطاق هذا العمل
الحافل بالصعوبة وبالتعقيد؟ ب.
ما هي الشروط أو الحالات التي يجب على
الكون إنجازُها ليكون الإنسان قادرًا على
الانجذاب باتجاه وعي يزداد على الدوام؟ يمكننا أن نجيب عن هذين
السؤالين بما يلي: تقتضي الإجابة ألا يتخيل
الإنسان توقفَ الحركة التي تدعوه إلى التقدم
إلى الأمام أو تراجعها – هذا لأنه يتعذر على
الطبيعة أن تكون عكوسًا، أي لا تقبل التراجع
أو التوقف، أولاً؛ ولا تقاوم، لسبب هو أن
منحنى التشكُّل الجوهري والذري أو منعطفه لا
يتوقف، ثانيًا. وهكذا، لا ينضوي التطور تحت
مقولة "الخلاَّق" أو "المبدع" فحسب،
بل نرى فيه التعبير عن الخلق والإبداع
اللَّذين نحياهما أو نكابدهما في تجربتنا عبر
الزمان والمكان. *** في
نهاية حديثي، أقول: في تكامله أو وحدة أبعاده،
يعاين العلم – وهو يسمو إلى عظمة الإنسان
المكتشفةِ حديثًا ويعلو فوقها – عظمةَ
البشرية المتجلِّية، الحقيقةَ السامية التي
تكشف عن ذاتها من جديد في المنظور الكوني
الحديث. في الوقت الحاضر، يتحدث
العلم عن آفاق جديدة ليحثَّ الإنسان على
التفكير الواعي. والحق أن التوازن، الذي
يعاينه الإنسان في العالم، لا يجد التعبير
الكامل في معادلات أينشتاين التي تَصْدُق في
عالم يتميز بلانهايتين بقدر ما يجد التعبير
عنه في عالم يتميَّز بلانهايات ثلاث: عالمٍ
يدعو إلى تعقيد أكبر ووعيٍ أعظم متى أفسح
الإنسان مجالاً لفعالية التوقير والإجلال
والأمل. ويشير هذا التوقير والإجلال والأمل
إلى حقيقة تشتمل على المبادئ التالية: أ.
اليقين، أي الوعي، الذي يدعو إلى التأكيد
على وجود حقيقة سامية تملأ الكون؛ ب.
اليقين،
أي الوعي، الذي يدعو إلى التأكيد على أوَّلية
الإنسان في الطبيعة؛ و ت.
اليقين، أي الوعي، الذي يدعو إلى التأكيد
على الحياة ضمن شموليةٍ تجمع أبناء البشر في
إنسانية واحدة، وتوحِّدهم في كيان كوني
واحد. يمكننا، كما يقول تلار دُه
شاردان، أن نؤلِّف هذا الوعي–اليقين
الثلاثي، الذي هو إيمانٌ واعٍ ومعرفي، أو
نجمِله على النحو التالي: أ.
وصال مع الحقيقة السامية؛ ب.
وصال
مع الأرض والطبيعة؛ و ت.
وصال مع الحقيقة السامية عبر الأرض
والطبيعة. ***
*** *** تنضيد:
نبيل سلامة |
|
|