|
مستقبل البشرية
في عصر
الشك والقلق الذي نحيا فيه، يعاين عالِم
أنثروبولوجي قدير تاريخ الإنسان الطويل
والمؤلم، ويعلن إيمانه بمصيرنا *** في
منتصف سباق الحياة، أضعتُ
الطريق الحق، وتهتُ
في غابة مظلمة. هكذا تُستهَلُّ كوميديا
دانتي الإلهية. وبمقدور الإنسان – ذلك الحاج
الأبدي – أن يقول ذلك اليوم أيضًا، لأنه
صادف، على طريق تطوره، ما يفزعه... صادف شبحه
الذي ظهر له بغتة من قلب العتمة. منذ مدة، بُعَيْد أن نشرتُ
مقالاً حول التاريخ المغرق في القِدَم للحياة
على كوكبنا، تلقيت رسالة من أحد القراء. لقد
قلبتُ تصوره عن الزمن رأسًا على عقب، فألقى
عليَّ هذا السؤال: "هل كنتَ موجودًا
وقتئذٍ، يا ذا الظريف؟" إيه! أجل، فكرت متنهدًا وأنا
أقرأ رسالته، لقد كنتُ موجودًا، ربما مختلفًا
بعض الشيء؛ وكذلك أنت، يا صديقي، كنتَ
موجودًا في وجه قد لا تتعرف إليه اليوم. إنه
ماضٍ يمكن له أن يُقرأ في قلب الصخور؛ وفي
مقدور الفيزيائيين الذين يدرسون النشاط
الإشعاعي للمادة أن يقيسوا مدَّته. الحياة
مرتبطة بالتاريخ، وخيط الاستمرارية الوراثية
يعود، مرورًا بالرئيسات Primates والطيور والأسماك، إلى بِرَك
ماء يغلي، خلَّفها انحسارُ المدِّ عن وجه
كوكب لم يكن بعدُ قد تزيَّا بالأشجار
والأعشاب الحية. هذا التاريخ مدوَّن في
عظامنا حتى، وملحُ دمائنا مصدره بحرٌ يضيع في
ليل الأزمنة. هكذا يواصل الماضي حياته فيما
بيننا. لِمَ شعر مراسلي بهذا الفزع؟
لأن كثيرين ممَّن يقبلون بنظرية التطور
مرارًا ما يُتَّهَمون بارتكاب ما يمكن له أن
يسمَّى "غلطة الحيوان". عندما ننظر إلى
هيكل أجدادنا العظمي، يضاعف الخوفُ المتنامي
الذي يثيره فينا التقدم العلمي من قلقنا،
فنقرأ في الجبين الواطئ والأسلحة الفظة
للإنسان البدائي قسوةً متعمَّدة ووحشية. نحن واقفون على نقطة معطاة من
سلَّم الزمن الجيولوجي ونعلن، كما قال مؤخرًا
كاتب موهوب، أن الإنسان الأحفور ليس مدفونًا
في كهف كلسي، بل في قلوبنا. ويضيف هذا
الكاتب أنه "إذا كان الإنسان كائنًا
استثنائيًّا، إذا كانت روحه قد خُلقَتْ
خصيصًا، وإذا كان مستقبله يتعيَّن بطيبته
ونبله وحكمته المتأصِّلة فيه، فعليه أن يجد
مخرجًا". لست هاهنا في صدد مناقشة ما
يكوِّن طبيعة الإنسان الأرضية؛ إنما سألفت
الانتباه فقط إلى أنه ابتداءً من اللحظة التي
نتساءل فيها عن طبيعتنا (لأننا كائنات عاقلة،
حساسة، قادرة على دراسة نفسها)، تشرع هذه
الطبيعة في التطور تطورًا غير محسوس.**
"إن التاريخ الطبيعي للإنسان، كما يقول
إمِرسون لم يُكتَب قط، لكن كلَّ ما يقال عن
الإنسان يتم تجاوزه على الدوام". لقد احتفظ جسمُنا – وليس لأيِّ
عالِم أن ينكر ذلك – من تركيب تشريحي قديم،
يعود إلى الأزمنة البدائية، بعناصر تلاءمت
تلاؤمًا حاذقًا مع غايات جديدة. إن تعقيدات
الحياة وقدراتها المنظِّمة التي لم تفسَّر
بعدُ مذهلة لو أننا فكَّرنا في أن سَمْعنا يتم
بواسطة عظيمات تعود بأصلها إلى ما كان ذات يوم
يشكِّل فكَّنا الزاحفي. وبالمثل، ليس لأيِّ
عالِم أن ينكر أن المخ البشري هو ثمرة تطور
طويل عومِل إبانه معاملة شديدة القسوة. ومناط
الخطأ هو الاعتقاد بأن الزمن يتوقف، هو
التفكير بأن الإنسان، إذا اتَّكل على الطيبة
والنبل والحكمة، فهو ضائع لا محالة. فماذا
نمَّى فينا حقًّا هذا الشوطُ الضئيلُ من رحلة
الحجِّ الإنسانية – إن لم يكن الطيبة والنبل
والحكمة؟ لئن كان الإنسان هو دكتور جيكل
الطيب، فهو كذلك مستر هايد الشرير. كان الشراب
السحري الذي يتعاطاه بطلُ قصة ستيفنسون يفصل
بين العنصرين المتناوئين في الشخصية
الإنسانية، فيُمِدُّ مستر هايد بقدرة مطلقة.
ومن الممكن أيضًا الفصل بين جيكل وهايد
بواسطة علاجات عصرنا الإيديولوجية الرهيبة.
لقد شهدنا ذلك في ألمانيا القومية–الاشتراكية
[النازية]. لكن ثَمَّ حدثًا هامًّا آخر أيضًا
يمكن لنا أن نشهده: هذا النبل الذي طالما
احتُقِر، هذه الطيبة التي يُسخَر منها، هما
اللذان قادا البشر إلى تحمُّل أسوأ ألوان
التعذيب، وإلى موت شنيع حتى، من أجل أن تنجو
الطيبة، من أجل أن يُحترَم النبل، ومن أجل أن
تحظى صورةٌ عن أنفسنا مدوَّنة بأحرف من نار
على ظلماتنا الجَّوَّانية بأهمية أكبر من
أهمية الحياة نفسها. إن جريان الزمن ظاهرة خلاقة،
غنية بالوعود وبالإمكانات. فالحياة تبثُّ في
المادة نوعًا من مستقبل لا يمكن التكهن به.
وفي هذا تكمن معجزتنا جميعًا – نحن الذي
خرجوا من ليل الأزمنة. نحن نحتمل جيلنا لأننا
لا ننتمي إلى الماضي وحسب، بل إلى المستقبل
أيضًا. لهذا (وأعتبر هذا الموقف بندًا من بنود
معتقدي العلمي) لا أقبل على نفسي أن أسجِّل
الإنسان في الإطار المطلق للماضي، حتى وإن
كان هذا الماضي يحوي روائع وعظمة مثلما يحوي
عارًا. الإنسان ينتمي دومًا انتماءً
جزئيًّا إلى المستقبل. إنه يمتلك القدرة على
تجاوز هذه الطبيعة التي يعرفها. منذ زمن بعيد،
انطلقت مخلوقات مسلَّحة بعصي وحجارة في
الرحلة التي قادتها إلينا. ولو لم تكن لديها
شرارة صغيرة من الشرف والمحبة – مهما تكن
ضآلتها – لما كنَّا هنا اليوم. فلنلتقط هذه
الشرارة من جديد، بدلاً من أن نكدس الأسلحة
التي حلَّت اليوم محلَّ حجارة جدودنا،
ولننطلق إلى الأمام، مثل المسيحي في رحلة
الحاج لجون بانيان. فلو كنَّا نعرف تأويلها
التأويل الصحيح، لكان المأثور الكبير للرحلة
نحو "مدينة الله"، التي نصادفها عند كلِّ
خطوة في أدبنا كلِّه، يشكِّل لوحة فسيفساء
أغنى وأكثر تنوعًا، لو نظرنا إليها ضمن إطار
التاريخ البديع لتيار الحياة العظيم الذي
يجري، ويتفرع، ويتلوَّى في أشكال قبيحة
حينًا، جميلة حينًا آخر، لكنها متنوعة دومًا.
إن توقًا واحدًا مبعثه القلب، كما كتب
بانيان، من شأنه أن يرقى بالإنسان إلى الله.
آلاف من البشر أمثاله سيتكالبون عليه لمنعه،
وستذهب جهودُه أدراج الرياح. لكنْ، في غياب
هذا التوق، سيكون "كل شيء كالمطر على الحجر".
إذا لم نكن نؤمن بهذه الرحلة، فهذا يكافئ
قولنا اليوم إن الرحلة انتهتْ؛ سيلحق بنا
الشبح الذي يتعقبنا ويصير شبحنا نحن. هكذا،
إذن، مع أنني من أنصار التطور ومهتم بالماضي،
فأنا أومن بالمستقبل. فحتى في هذه المستحاثة
المكسوة بالكلس، التي نتوهم أنها تهددنا،
يمكن لنا أن نقرأ المستقبل بقدر ما نقرأ
الماضي. إن الإيمان هو الذي يسمح للرحلة بأن
تستمر. وهذا الإيمان وهذه الرحلة ليسا خارجين
عن أنفسنا: إنهما يتحققان في قلوبنا.
غلاف
كتاب لورِن إيسِلي الرحلة الهائلة لست أقبل على نفسي أن يتملَّكني
الفزع لمجرد أننا وجدنا أنفسنا، في منتصف
طريقنا، أمام أنفسنا، في غابة حالكة. أرفض
الإقرار بأن الرحلة قد انتهت أو بأن الحيوان
هو الذي سينتصر في النهاية. أعتقد بأننا يجب
أن ننطلق إلى الأمام، حتى لو كنَّا نرى قناع
الليل الذي لا وجه له بين الأوراق المتساقطة
تحت شمس أخيرة قارسة البرودة. لقد خرجنا من
ليل أعمق بكثير، ليل حضَّرنا لهذه الرحلة،
شكَّل أرواحنا لهذه الغاية، وأعطانا عصا
الحاج وجعبة سفره. إذا كان صحيحًا أننا نواجه
شبحًا أمام بابنا فقد وصلنا إلى أشد مفترقات
الطرق التي تردَّد أمامها البشر في تطورهم
هولاً. ومع ذلك، هل لنا أن ننتظر شيئًا آخر؟
لقد وُجِدَت قبلنا أرواح متوحدة على عتبة هذا
الباب نفسه، وهذا الشبح نفسه تراجع من أمامهم. إلى الذين يبحثون عن حلول
نهائية، ليس لي أن أقدِّم إلا هذه المقولة
التي قرأتها منذ أيام وأنا أحقِّق سيرة جون
وولمان، أحد كويكرز القرن الثامن عشر. لقد
تمتم وهو على فراش الموت: "أومن بالله... أما
عن الحياة والموت فلا أعرف شيئًا." أما أنا فأومن بالله كلما مات
إنسان مؤديًا شهادة لحياة آتية. أومن بالله
كلما آمنت بأن الإنسان وضع، من حيث لا يدري،
أسُسَ تكهنات رائعة عن التطور الآتي، الذي لا
يستطيع إلا قلة من البشر – لأنهم نادرون
جدًّا – أن يستشفوا قدرته وإمكاناته. لقد رُمِيتُ بالسذاجة لأني
مازلت مستمسكًا برجائي في الإنسان. لن أجيب
إلا بأنه، في الظلال المخيفة لفجر الإنسانية،
لا شك أن المخلوق البدائي الذي بدأ متلعثمًا
يتهجَّى الكلمات التي تشير إلى الرحمة
والمحبة قد أثار، هو الآخر، قهقهات صاخبة حول
نار مشتعلة. ومع ذلك، فهنالك من أصغى لأن
هاتين الكلمتين وصلتا إلينا. *** *** *** ترجمة: ديمتري
أفييرينوس * كان البروفيسور ل. إيسِلي
(1907-1977) عالمًا أنثروبولوجيًّا مرموقًا. وقد
ألقى الكلمة التي تنشر معابر مقاطعها
الأساسية في العام 1961، يوم تسلُّمه جائزة
بيير لوكونت دُه نوي الأمريكية. وهذه
الجائزة تُمنَح كلَّ عامين لمؤلِّف "كتاب
استثنائي يشدِّد على الحياة الروحية
لعصرنا وعلى الدفاع عن الكرامة الإنسانية".
(المحرِّر) ** "منذ قرن، كان يُنظَر إلى
الإنسان أولاً كراصد بسيط، ثم، بعد داروِن،
كغصين بسيط من غصينات التطور. غير أنه الآن
يبدأ في إدراك أن الساق الرئيسة لشجرة
الحياة الأرضية تمر به. الحياة لا تخضع في
تمايزها للمصادفة وللعشوائية؛ لكنها تسمح
لنا برؤية اتجاه مطلق للسير نحو قيم وعيٍ
متفتِّح؛ وعلى هذا المحور الأساسي، يكون
الإنسان هو الحد الأكثر تقدمًا الذي نعرفه. "منذ غاليليه، كان يبدو
ممكنًا أن الإنسان فَقَدَ كلَّ موقع متميز
في الكون. لكنْ هو ذا، تحت التأثير المتعاظم
للقوى المتضافرة للابتكار والمشاركة،
يعاود تبو ُّأ
مكان الصدارة: ليس بعد الآن في الثبات، لكن
في الحركة؛ ليس بوصفه مركزًا، لكنْ على شكل
رأس سهم العالم المتفتِّح." (بيير تلار
دُه شاردان، رؤية الماضي)
|
|
|