|
مستعمرة السَّمَادِل إن اكتشاف النار جد قديم، حتى
يستحيل تحديد تاريخ لها في الإطار الشامل
للتطور الإنساني. لكن ما لا شك فيه أن
الإنسان، منذ استوقد النار ساعة يشاء، تناءى
عن الحيوان. ولشدة انبهاره بها تعبَّد لها.
لكنه أمضى ألوف السنين كي يألفها تمامًا. وكان
للسحرة، أي "مثقفي" تلك الأزمنة
السحيقة، الفضل في تلقينه الدرس الأول في
مقاربتها. بعد
دهر طويل – وربما قصير، لا نعرف – وجد
الإنسان أن ثلاثة من عناصر الطبيعة الأربعة،
التراب والماء والهواء، آهلة، فيما النار
خالية. ورأى في ذلك عدم تكافؤ يلفظه منطقه،
فأسكنها حيوانًا عجيبًا شبيهًا بالعظاية –
ومنهم من قال طائرًا – سمَّاه السَّمَنْدَل
أو السَّمَنْدَر، وهو على قدر الرخمة. وما لم
يَرْوِه بليني في تاريخه، ما ذكره
رحَّالة عربي، أغفله المؤرِّخون، هو أبو سهل
البغدادي (القرن الثاني عشر)، عن مشاهدته في
بلاد الهند جبلاً من نار، قيل له إنه يؤوي
طائرًا يعشِّش فيه ويفرخ ولا يحترق. وتُصنَع
من ريشه مناشف؛ فإذا اتسختْ تُرمى في النار
فتنقى. وتُصنَع منه كذلك فتائل للسِّراج،
فيستضيئون بها ليالي طويلة ولا تنطفئ. وقيل
له، لو طلى الإنسان بدنَه بدهنه ودخل النار لا
تضرُّه. ويقرب هذا من وصف سيرانو دُه برجوراك (القرن
السابع عشر) لسَمَنْدَله في التاريخ الهزلي
لولايتي الشمس والقمر، حيث عيناه، حتى لو
انتُزعتا منه، تظلان تنيران الليل كشمسين
صغيرتين أو كمصباحين أزليين.
وروى
نسيبٌ لي، كان يتنقَّل بين بيروت ونيودلهي
بحكم عمله في حقل الاستيراد والتصدير، عن
معمِّر هندي، كان كبير العائلة التي يتعامل
معها، ما أسردُه لك الآن على ذمَّته: "زعم
هذا المعمِّر – واسمه موهَن – أنه منذ حقبة
سلطنة دلهي (1206-1526)، والناس يتناقلون، خَلفًا
عن سلَف، رواية عن مواطن يدعى سَمْجايا،
حَظِيَ في إحدى رحلاته برؤية جبل ناري في
إقليم دِكَّن جنوب الهند (لعله جبل البغدادي،
ولكن مع اختلاف في الوصف، كما سنرى)، كانت
تخرج منه وتدخل مخلوقات مجنَّحة بهيئة البشر.
ولاحظ أنها حين كانت تحط على النار تنزع عنها
أجنحتها وتأخذ تمشي بقامة منتصبة، ولكن
قزميَّة. ولاحظ أيضًا أن لإناثها جمالا
رائعًا. فسأل أهل الجوار، فأخبروه أنه في حضرة
مستعمرة السَّمَادِل، ولم يزيدوا. وعندما
استوضحهم أجابوه: يؤسفنا أن نخذلك. نحن لا
نعرف أكثر مما تبصر ونبصر. أفقنا وهذا الجبل
المشتعل بقاطنيه ماثل أمامنا. وكذا كانت حال
الآباء والأجداد. مرة اجترأ بعضنا على
التوجُّه إليه. ساروا أيامًا مديدة من دون أن
يبلغوا سفحه – مع أنه، كما يبدو لك، على بعد
أمتار معدودة منك. ظلت قمته تتراءى لنا على
المسافة نفسها. فحار حكماؤنا حتى أصابهم
اليأس القاتل. فمنهم من قعد على عتبة داره،
وراح يوزع مقتنياته على المارة، ثم ارتحل
وطُوِيَ ذكرُه. ومنهم من اعتزل في كهف يشرف
على جبل النار، مُقْسِمًا على مراقبته ليل
نهار، لعله يلتقط إشارة – وإلا لا يبرح حتى
النَّفَس الأخير. ومذ ذاك كفَفْنا عن أية
محاولة. وذات
يوم، شاع في بلدتنا أن رجلاً عجوزًا محنيَّ
الظهر، تتدلَّى على صدره مخْلاة بيضاء أهملها
الزمان، شوهد يتسكَّع في الليل، ولاسيما حول
أماكن العبادة، ويختفي عند طلوع النهار،
فترصَّدناه. كان يتنقل في خفَّة رغم كِبَره.
اقتربنا منه. لم تقلْ لنا ملامحُه شيئًا. أخذ
ينظر إلينا بعينين جامدتين، كأنهما ركامان من
الفراغ الفظ. "من
تكون، أيها الشيخ؟" سألناه. فتح فمه وأخرج
أصواتًا حادة كصُئي طائر. أعطيناه ورقة
وقلمًا، فكتب حروفًا لا معرفة لنا بها. ذهبنا
بها إلى عالم باللغات الهندية[1]
يدعى كشيتي، فلم يستطع أن يفكَّّها، لكنه رغب
في أن نسير به إليه ليَخْبَر حقيقته بنفسه عن
كثب. ولم يتمكَّن أيضًا من فهم شيء منه، لا
بالإشارة ولا بالكتابة، حتى الفجر، وقت
استعداد العجوز للانصراف كالعادة والتواري
عن الأعين. وهنا اقترح كشيتي أن نتأثَّره
مسْتَخْفين في حذر تام. كان
العجوز الغريب يخطو في سرعة مذهلة لم تُعهَد
لدى نظرائه في السن، ولا حتى لدينا عامة كبشر!
(هل تنبَّه لنا؟) وكلما طال تتبُّعنا له،
اتسعت المسافة بيننا وبينه، حتى لاح لنا
أخيرًا نقطة صغيرة في البعيد ما لبثت أن تلاشت." إذ
ذاك، قال لي نسيبي: "توقف محدِّثي موهَن،
واستأذنني ريثما يُحضِر نسخة قديمة من مجلة
يحتفظ بها، اسمها New Delhi Magazine،
ضمَّتْ مقالاً عن هذه الظاهرة العجيبة. حيث
إنه وصل معي، كما قال، إلى نقطة تصعب عليه
متابعة السرد بعدها." وسحب
نسيبي ظَرْفًا من جيبه وألقاه أمامي قائلاً:
"وأنا أيضًا عاجز عن المتابعة. وبما أني
أعرفك تميل إلى الغرائب، استنسخت لك صورة عن
المقال. وإليكها." وها
أنا ذا، بدوري، أنقل للقارئ ما وَرَدَ فيه، من
حيث توقف موهَن: "بعد
عودتنا الفاشلة من ملاحقته، دعانا كشيتي إلى
داره، حيث تداولنا وإياه سرَّ هذا العجوز.
فاتفقنا جميعًا على أنه مخلوق لغزي. ونظرًا
إلى أن منطقتنا تقع في القسم الشمالي من
دِكَّن، وهو من الأغنى بالجبال والغابات ذات
الماضي الحافل بالأساطير – حيث لا تزال تعيش
جماعات على هامش الثقافة الهندية – تصور
أحدنا أنه قد يكون جنِّيًّا شاردًا من تلك
البقاع. ولفتنا إلى حركاته غير المألوفة،
ولاسيما إلى عينيه اللتين كانتا تطلقان نظرات
حارقة تُرغِم على غضِّ البصر والانحراف
تلقائيًّا. ثم لِمَ لا يكون – أضاف –
سَمَنْدلاً من سَمَادِل الجبل الناري
المقابل لنا؟ وكان الرد سريعًا: لم يسبق أن
جاءنا أحد من هناك على مرِّ العصور. فعلاقتنا
مع الجبل وساكنيه لم تتجاوز متعة الرؤية.
والمحاولات الأخرى كلُّها لم تُجْدِ –
وآخرها منذ أكثر من قرن. وعلى أثرها، هجرنا
حكماؤنا من قهرهم إلى تلك الجبال النائية،
كما أخبرنا الآباء؛ وهم يلعنون معارفهم
وأشياءَها التي لم تكن لهم غير مَخْيَبة. وهنا
نهض كشيتي من مكانه، وكأنه فَطِن لشيء مهم،
فدخل حجرة جانبية، وعاد منها بكتاب عتيق
قائلاً: "أصغوا إليَّ في تروٍّ." وقرأ
الآية السادسة من الفصل الثامن من البـهـغـفـدْغيتا،
خلاصة كلِّ العلوم الفيداوية وجوهرها: "كلُّ
مَن يترك جسمه في آخر العمر، وهو يفكر في أيِّ
شكل من أشكال الكينونة، يصل إلى الشكل الذي
كانت تنمو فيه النفس داخليًّا، في كلِّ لحظة،
إبان حياته الطبيعية." من
المحتمل، إذن، تابع كشيتي، وقد لمع في رأسه
خاطر مفاجئ، أن يكون أحد أولئك الحكماء الذين
غادروا بلدتنا منذ زمن بعيد، كما يُحكى، رجع
إلينا في صورة هذا العجوز بعد عمر أمضاه، ولا
هاجس له، حتى ساعة احتضاره، غير الكشف عن
مستعمرة السَّمادِل. وعلَّق
برهمي من الحضور قائلاً: "احتمال معقول.
أضاع أجدادنا سنين عديدة حتى أنطقتْك الآلهة.
إن تأويلاتهم الخاطئة حجبت عنهم وعنَّا
طويلاً ذلك الكشف – وكلُّ تأويل حجاب." ثم
تفرَّقوا على أمل اللقاء عند مجيء الليل،
موعد قدوم الرجل الغريب. لكنه لم يأتِ. ومرت
أيام ولم يأتِ. فملُّوا الانتظار. ومضى كلٌّ
في سبيله، إلا كشيتي: ظلَّ يتردد إلى الأمكنة
التي كان يجيئها الغريب، لعله يحظى بأثر منه
قد يكون علامة هادية. إلى أن عثر يومًا على
ريشة متوسطة الطول ذات ألوان برَّاقة،
فاعتبرها لقيَّة ثمينة. وأسرع إلى منزله
المنعزل، ومكث يتأملها ويقلِّبها بين يديه،
فلم تَبُحْ له بشيء. وقال لنفسه: لِنَرَ هل
تصدق الأسطورة؟ فأحضر إناء نحاسيًّا ووضع
الريشة فيه، ثم أشعلها. فنفَرتْ منها نارٌ
رهيبة كادت تُعشي عينيه. ورغم صغر حجمها، كانت
تعجُّ بعوالم لا تُحصى، تدعوه إلى مشاركتها
في وليمتها. فشاهد جبل النار يتمدد على ظهر
سلحفاة، وأغني[2]
ينفث اللهب من فمه، واللهب ينفث أغني وهو
يمتطي كبشًا ويرقص بين الحوريات، وأيديه
السبع تحوش الهدايا إلى الناس، وفشنو[3]
وزوجه يطفوان على ظهر كوبرا بألف رأس في وسط
محيط حليبي يندفق من سرَّته. ومن هذه السرَّة
ترتفع زهرة لوتس نحو السماء حاملة براهما وهو
يتلو أسفار الفيدا الأربعة بأفواهه
الأربعة، أو يتغلغل في الساق اللوتسية صعودًا
ونزولا بحثًا عن جذورها وعن الغاية من جلوسه
فوقها، أو منطويًا على ذاته في صمت مطبق، لعل
هذه الذات تملك الجواب، إن لم تكن هي
الجواب. وشاهد أيضًا بيضة الكون الذهبية
منفلقة إلى نصفين: سماوي وأرضي، حيث تبدَّى
له، في آنٍ واحد، ما كان، وما هو كائن، وما
سيكون، في حركة دائرية. فلمح حكماء البلدة
الذين هجروها في ولادتهم الأولى واللاحقة –
وبينهم العجوز الغريب الذي أربك ظهورُه
الجميع – يدخلون جبل النار ويخرجون منه فلا
يتأذَّوْن. وانتبه إلى أنهم يمرقون من الصخر
والمعدن وجذوع الغاب، ويتجوَّلون في الماء
والنار، كأنهم على انسجام تام مع كلِّ
الكائنات، لا شيء يحول بينهم وبينها، أو
كأنهم، كما خُيِّل إليه، يجهلون ما الصخر
والمعدن وجذوع الغاب والماء والنار وسائر
الأسماء التي تشغل أذهاننا.[4]
السَّمندل كرمز لشوط
من أشواط تدبير الإكسير في الكيمياء القديمة وكان
ردُّ فعله عظيمًا. فخفَّ إلى بني قومه يصرخ
كالمجنون. فتألَّبوا حوله يسألونه ما به. فلم
يستطع أن يخرج من فمه غير أصوات حادة كصُئي
طائر، وكاد يُصعَق. إلا أنه تمالك وأشار إليهم
أن يتبعوه إلى منزله. وفوجئوا به كتلةً من نار.
فهبُّوا يدًا واحدة إلى إطفائه. لكنهم عجزوا
عن الوصول إليه، مع أنه على بعد أمتار معدودة.
أمضوا أيامًا وقطعوا مسافات، وكتلة النار على
حالها، وهم على المسافة نفسها منها، حتى
حسبها بعضهم من تجلِّيات جبل النار. وقَفِلوا
يجرون يأسهم وفشلهم، إلا كشيتي: لم يعرف أحد
ما ألمَّ به. وكثرت الأقاويل. وتعاظمت أكثر
أشياء الأسطورة. لكن يبقى أهمها، وهو أن البعض
لمَحَهُ يهرول في الطريق المجهول الذي سلكه
العجوز الغريب، تلك الصبيحة التي تأثَّره
فيها مع زمرة من أبناء البلدة." *** *** *** عن
النهار، 12 آب 2004 [1]
في الهند أكثر من مئتي لغة؛
وأهمها نحو 38 لغة بحسب التدوينات الفرنسية
في العام 1970. [2]
إله النار في الميثولوجيا الهندية. (المحرِّر) [3]
الإله "الحافظ" في الثالوث الكوني
الهندوسي، المؤلَّف من برهما (الباري)
وشيفا (المدمِّر) وفشنو. (المحرِّر) [4]
ألفت هنا إلى التشابه الواضح – وربما
التأثر – بتعليم فيلسوف الطاويَّة لي تسو Lie-tseu
في الفصل الثاني عشر من الجزء الثاني من
كتابه أصول الفراغ الكامل (Bibliothèque de la Pléiade) حيث يقول: "إن من
يحقق الانسجام يتطابق كليًّا مع الكائنات،
فلا يمكنها إذ ذاك أن تقاومه أو تؤذيه، مما
يخوِّله دخول المعادن والصَّخر والتجوُّل
في الماء والنار. وذلك من طريق تحرره من
العقل، واطِّراح المعرفة."
|
|
|