القوَّة الروحيَّة للمَّادة

 

بيير تلار دُه شاردان

 

الإنسان – وكان لمَّا يزل راكعًا – كان يهمُّ بالنهوض، كما لو كان يحسُّ أن مهمازًا يَخِزُهُ. وما هو إلا أنْ وثب على قدميه، وجهًا لوجه أمام العاصفة.

كلُّ الروح التي ينطوي عليها النوعُ البشري أخذت تهتز وترتعش، – ذكرى غامضة للصحوة الأولى بين عجماوات أشد منه بأسًا وأمضى سلاحًا، – صدًى أليم للجهود المضنية التي بذلها في تأهيل الحنطة والسيطرة على النار، – الخوف والكراهية تجاه القوى الشريرة، – شهوة إلى المعرفة وإلى التملك... – وإنه لفي حلاوة أول وصال له مع الآخر، إذ تشهَّى غريزيًّا أن يغيب في غمرة حرارة الأنفاس.

هي ذي موجة الغبطة التي كادت أن تذيبه قد تكسَّرتْ عند عزمه على تجاوز وجوده. الإنسان كان تحسَّس عدوَّه والفريسة الوراثية... – لقد غرز قدميه في الأرض وطفق يكافح.

كافح أولاً لكيلا يستولي عليه شيءٌ آخر؛ – ثم صار يكافح من أجل لذة الكفاح، لكي يشعر أنه شديد البأس. ثم صار يكافح كلما شعر بفائض قدرة تخرج منه لكي يوازن بها العاصفة. ومن العاصفة كان يصدر دفقٌ جديدٌ يجري لهيبًا في عروقه.

وكما أنَّ البحر، في ليالٍ معيَّنة، يتضاوأ حول السابح، ويتلألأ في طيَّاته كلما أهاجَه خفقُ الأطراف الشديدة القوة، كذلك تشع القدرة المظلمة بألف نار حول الإنسان الذي كانت تحاربه.

الإنسان والقدرة الغامضة – وكلٌّ منهما يعي ما في الآخر من قدرة مضادة:

يقوم الإنسان بإعلاء شأن قوته لكي يتحكم بها، وتقوم القدرة الغامضة بالكشف عن كنوزها لكي تسلِّمها إليه.

-       "انغمِسْ في المادة، يا ابن التراب، واغمرْ نفسك في أغطيتها المتَّقدة – فهي ينبوع الحياة وشبابها. كنت تظن أن بوسعك التخلص منها، لأن الفكر اتَّقد فيك! – كنت تأمل أن تقترب من الروح أكثر إنْ أنت نبذت في وعي شديد ما يمسُّها ويقترب منها، – أن تتألَّه أكثر إن حَييْت في الفكر المحض، – أن تصير ملائكيًّا أكثر، على الأقل، إنْ أنت هربت من الأجسام."

-       "طيب، كدتَ أن تهلك جوعًا. يلزمكَ الزيتُ لأطرافك، – الدمُ لعروقك، – الماءُ لروحك، – الواقعُ لفكرك؛ – كلُّ هذا يلزمك بقوة قانون الطبيعة نفسه، أتفهم؟!...

"أبدًا، أبدًا، إن أردتَ أن تحيا وتربو، لا تستطيع أن تقول للمادة: "لقد رأيتكِ كفايةً، لقد كشفتِ عن أسراركِ، – لقد انتزعتُ منكِ ما يُرفد أفكاري على الدوام." مع ذلك، إن كنت تنوي، كما يفعل حكيم الحكماء، أن تحمل في ذاكرتك صورةً عن كلِّ ما يَعْمُرُ الأرضَ أو يسبح في الماء، فإن هذا العلم لا فائدة منه لنفسك، لأن معرفتك المجردة كلَّها هي من الوجود الذاوي؛ – لأنه، لكي نفهم العالم، لا تكفي معرفتُه؛ بل ينبغي رؤيتُه، لَمْسُهُ، عيشُهُ في الواقع الراهن؛ ينبغي احتساءُ الوجود ساخنًا في قلب الحقيقة.

إذن، لا تقلْ أبدًا كما يقول البعض: "المادة شيء مُسْتَهلَكٌ، المادة شيء ميت!" – حتى آخر لحظة من لحظات القرون، لسوف تظل المادةُ في ريعان الشباب، مفرطة الحيوية، متألِّقة لمن يخطب ودَّها.

كذلك لا تكرِّر القول: "المادة ذميمة، المادة سيئة!"، فقد جاءنا شخص ليقول: "تشربون السمَّ ولا يؤذيكم." – كذلك قال: "سوف تخرج الحياةُ من الموت." ثم قال كلمته النهائية من أجل خلاص الإنسان: "هو ذا جسدي!"

لا، ليس الطُّهر باعتزال العالم، بل بالشيوع فيه في أعمق أعماقه. إنما الطهر في حبِّ الجوهر الواحد، الذي لا يحيط به شيء، الذي يشيع في جميع الأشياء ويعمل فيها، من الداخل، – أبعد من المنطقة الفانية، حيث مُضطَّربُ الأشخاص والأعداد. – إنما الطُّهر في الوصال العفيف مع ما هو "نفسه في الكل".

يا ألله، ما أجمل الروح الصاعدة، التي ازَّيَنَتْ بكلِّ ثراء الأرض!

استحمَّ في المادة، يا ابن الإنسان.

انغمسْ فيها، حيثما كانت الأعنف والأعمق!

كافحْ في تيارها واشربْ موجها!

فهي التي رَعَتْ غيبتكَ، وهي التي سوف تنقلكَ إلى الله.

*** *** ***

ترجمة: نهاد خياطة

تنضيد: نبيل سلامة

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود