العلم والروحانية

هل يحصل الطلاق بين السماء والأرض؟*

 

ديمتري أفييرينوس

 

يدعونا البحث في مسألة حسَّاسة كهذه إلى إلقاء بصيصٍ من ضوء على المضمون أو المدلول الذي ينطوي عليه كلٌّ من لفظتي "علم" و"روحانية".

كلمة "علم" (التي تقابلها كلمة science بالإنكليزية والفرنسية) تتضمن معنى "المعرفة" knowledge, connaissance، أو تشير إليها على الأقل؛ لكنها، بمدلولها العام ومفهومها الشائع، تحمل معنى أضيق بكثير. فهي، وفقًا لهذا المنظور (الشائع)، منهج معرفي منظَّم موضوعُه العالم الذي تضعُه الحواسُ في متناول ملكتنا العارفة.

ثمة اعتقاد عام بأن وضع أسس العلم الحديث، كما نعرفه اليوم، تم في القرن السادس عشر حين أعلن كوبرنيكوس أن الأرض والكواكب السيارة الأخرى تدور حول الشمس. والواقع أن عملية بناء الصرح العلمي عرفت انطلاقة متواضعة في بادئ الأمر. فمع أن كتاب رسالة في دوران العوالم السماوية نُشِر فعليًّا عام 1543 فإن قبول وجهة النظر المطروحة فيه استغرق حوالى 150 سنة. ذلك أن العلماء واجهوا مقاومة شديدة من السلطة الدينية المتمثِّلة في كنيسة العصور الوسطى التي كانت مهيمنة على أوروبا؛ فقد كانت الكنيسة آنذاك، بما هي التعبير عن المسيحية المنظَّمة كما تفهمها روما، "أنا عليا" سلطوية ضاغطة، بحسب التعبير الفرويدي، أرغمت الناس في أوروبا على الخضوع لعقائدها، وجعلت مخالفةَ هذه العقائد من قبيل الإثم، بحيث يعاقَب عليها بالموت حرقًا، أو بالاضطهاد، أو بالحرمان في أحسن الأحوال.

أما المشرقان، الأوسط (الهند) والأقصى (الصين واليابان)، فقد ظلا عمومًا بريئين من سيطرة السلطة الدينية التي شنت على العلم في الغرب حربًا شعواء استمرت مئتي عام ونيف، فلم ينل العلم حريته كاملة إلا في القرن العشرين... وصار بدوره سلطة! ولعل هذا هو سبب أزمة الثقة بين العالِم ورجل الدين التي مازلنا نلمس آثارها إلى اليوم. فـالتأخير في قبول أطروحات كوبرنيكوس لا يعود إلى الشك في دقة أرصاده ورياضياته بقدر ما يعود إلى زعزعة النتائج التي توصَّل إليها للعلاقة الفريدة الموهومة بين الخالق والإنسان بتجريدها الأرض من مركزيَّتها للكون – وهي العقيدة التي تشبثت بها الكنيسةُ واعتبرتْها غير قابلة للطعن فيها![1] فعندما ينغرس الفكر البشري في فكرة متحجِّرة قلما يتجشم المرءُ عناء الاستيقان من صحتها، فيستميت في الدفاع عنها انطلاقًا من أسس سلطوية، وليس عن قناعة حقيقية بها.

لكن الحقيقة يجب أن تظهر دومًا، بصورة أو بأخرى. وهذا ما جرى في أوروبا في القرن السابع عشر وأطلق عليه المؤرخون اسم "الثورة العلمية" التي تُعدُّ بحق بداية "عصر العلم" الذي يمكن تلخيص روحه ببساطة كما يلي: يستحيل الجزم في كيفية عمل الطبيعة بمجرِّد الجلوس على كرسي وإطلاق أحكام اعتباطية، قاطعة ونهائية. في ضوء هذا، لا يأتينا اليقين إلا من مصدر أوحد، ألا وهو الرصد الدقيق والتجربة. فبعد صياغة الموضوعات والفرضيات، يمكن الخروج منها باستنتاجات توضع على محكِّ الرصد والتجربة للمصادقة على صحَّتها، بحيث يتم الحصول، في خاتمة المطاف، على نظريات موثَّقة تصلح لتفسير وتصنيف جميع المعطيات الواقعة في مجال الرصد. وتدعى هذه السلسلة من العمليات بـ"المنهج العلمي".

ما تزال تصلنا إلى الآن أصداءٌ من النزاعات التي أثارها في الغرب في القرن الماضي نشرُ داروِن أفكاره عن "تطور الأنواع" و"الصراع على البقاء" و"الانتخاب الطبيعي" و"بقاء الأنسب". لكن هذه النزاعات لم تكن بين العلم، من جانب، والروحانية، من جانب آخر، إنما كانت بين نظرية، أو بالأصح فرضية في التطوُّر، مبنية على تطبيق المنهج العلمي كما كان معروفًا آنذاك، من جهة، وكتاب قديم – ونعني التوراة – قد يُقبَل بإمكانية تأويل أحداثه الأسطورية تأويلاً روحيًّا وقد لا يُقبل، من جهة ثانية.

تقودنا الملاحظة الأخيرة إلى الحديث عما نقصد بكلمة "روحانية" spirituality. الروحانية، على حدِّ فهمنا، تجربة روحية أو اختبار داخلي حيٌّ قوامه شعور عميق، أصيل في الإنسان، بوجود حقيقة سامية أو نظام كلِّي منبثٍّ في عالم الظاهرات ومتعالٍ عليه في الوقت نفسه. وتعي الروحانية، في هذا الصدد، أن الإنسان تجلٍّ لهذا النظام الكلِّي، وغصن من أغصان الشجرة الكونية على مستوى الوجود الأرضي، يتعيَّن عليه أن يحيا في عالم الظاهرات، يملؤه هذا الشعور الحيُّ بارتباطه بكلِّ شيء ارتباطًا متواصلاً، فيحقق المُثُل الأزلية التي تستمد قيمتها من ذانك النظام، كالحق، والجمال، والخير، والمحبة، والحكمة، باذلاً قصارى جهده لترجمة هذه المُثُل إلى عمل ووضعها موضع التطبيق في حياته اليومية.

واليوم، في الغرب والشرق على حد سواء، نجد العديد ممَّن يدعون أنفسهم "ماديين" يضربون بهذه المُثُل عرض الحائط، مثلما نجد كذلك من يحدس وجود النظام الكلِّي ويسعى مخلصًا ليحيا على هديٍ منه. وبالإضافة إلى الفريقين السابقين، نجد أيضًا، في الشرق كما في الغرب، تلك الفئة المستنيرة من أبناء البشر التي لا تقول "أومن" وحسب، بل تقول "أعرف"!

لا ينفي ما أتينا على ذكره وجودَ اختلاف بيِّن في المعالم أو السمات العامة التي يشدِّد عليها كلٌّ من المنقولين الروحيين الشرقي والغربي. ففي حين ليس في الشرق ثمة نشاط من النشاطات البشرية العديدة إلا ونجد له جذورًا في الحقيقة السامية قلما نجد للدين اليوم أسهمًا رائجة في الغرب؛ إذ إن عقائد الدين وطقوسه وشعائره فَقَدَتْ سمعتَها نظرًا لظهور "الروح العلمية"[2] على مسرح الفكر، الأمر الذي قلَّص عدد المتديِّنين بالمعنى العميق لكلمة "تديُّن" religiosity. وعندما نقول هذا لا نعني أن الشرق روحاني والغرب مجرَّد من الروحانية – فمثل هذا التقويم ساذج للغاية –، بل نعني بالدقة أن تطبيق الروحانية في خطوطه العريضة يختلف في الشرق عنه في الغرب. فمن جانب، نجد الإنسان الشرقي ميالاً في "روحانيته" إلى اعتزال الحياة الاجتماعية وتكريس حياته للتأمل؛ ومن جانب آخر، نجد الإنسان الغربي يمارس في روحانيته (التي تتصف بطابع عقلاني) ما يُعرف في الهند باسم كرما يوغا karma-yoga، أي التحقيق الروحي في العمل.[3] ولا يساورنا شك البتة في أن روحانيي الشرق والغرب متفاهمون ويعون الوحدة الجوهرية لجهودهم الرامية إلى التحقيق الروحي في خدمة الإنسان، بصرف النظر عن جنسه ولونه ومعتقده.

لكن ما يشغل بال الكثيرين هو تلك الهوة الفاصلة بين العلم وتطبيقاته التكنولوجية – أو بالأحرى بين العقلية الضيقة والنظرة المحدودة إلى العالم التي تحصر قيمة العلم في تطبيقاته – من جهة، وبين الروحانية بمعناها الأشمل، من جهة أخرى. لقد لخص الأستاذ خوان لوبيز–إيبور، الطبيب النفسي الإسباني الكبير، محنة العلم الحالية كما يلي:

كان رجل الشارع فيما مضى ينتظر من العالِم تفسيرًا للكون وللحياة البشرية. أما الآن فهو لا يطلب منه إلا أن يساعده على الحياة، وعلى تخفيف جهوده وأوجاعه. لقد صار العالِم تقانيًّا أكثر فأكثر وحكيمًا أقل فأقل. أما العلم فلم يعد موجودًا، إذ لم تعد توجد إلا العلوم. وهذا التبدد في المعرفة، هذا الافتقار إلى صورة واضحة لما يجري على الكرة الأرضية، هو أحد أسباب الكرب البشري في يومنا هذا.

لطالما كانت خطوات العلم الوليد في الغرب بطيئة نسبيًّا ومنتظمة بحيث كانت القوى الأخلاقية قادرة دومًا على مواكبته (أو اللحاق به على الأقل) وإحداث التوازن المطلوب. لقد كانت الدوافع التي حَدَتْ بالكثيرين من رجال العلم إلى البحث – والحق يقال – نبيلة وأصيلة؛ إذ كان هؤلاء يبحثون عن الحقيقة لوجه الحقيقة ذاتها، وكانوا يريدون فهم عالم الحواس من أجل غبطة المعرفة وحدها، فأقاموا التوازن الذي طالب به الشاعر الإنكليزي تِنِّسون إذ قال:

فلتَنْمُ المعرفة أكثر،

وليُقِمْ فينا المزيد من الخشوع.

أما اليوم فلا تخفى مأساوية الوضع الراهن على أحد. ففي حقلي الفيزياء والإلكترونيات تقوم الحكومات بتوظيف مبالغ طائلة لتسخير طاقات الطبيعة لأغراض عسكرية، ويتخلَّى علماء عديدون عن نزاهة دوافعهم ويعملون في خدمة من يدفع أكثر، وليس في خدمة الحقيقة العلمية. يتمثَّل الخطر المرعب في عصرنا في أن قوة هائلة من شأنها إبادة الجنس البشري عن بكرة أبيه (عشرات المرات!) هي رهن إشارة حفنة من المتنفِّذين. وكلنا يتساءل، ورعدة تسري في أوصاله: أين الحكمة التي ستضمن استخدام قوة كهذه لغايات نبيلة وليس لأغراض أنانية؟! تلكم مشكلة عصرنا وكلِّ عصور الانحطاط الإنساني: الاغتراب عن جذور الكينونة والتلهِّي بالنفوذ والهيمنة على مقدَّرات الخارج. لقد حاولنا من جانبنا أن نفكر في المسألة؛ وها نحن الآن نحاول مشاركة قارئنا الافتراضي بعض ما توصلنا إليه بجهودنا المتواضعة.

الفهم السليم للمشكلة

كلُّ من يدَّعي حيازة الحقيقة "المطلقة"، ويوصد، في الوقت نفسه، أبواب التواصل مع الحقائق الأخرى "النسبية" للاستفادة منها والاغتناء بها، مشكوك في سلامة نواياه. نحن اليوم، أكثر من أي يوم مضى، أحوج ما نكون إلى التفكير السليم في المسائل التي نواجهها. لذلك نجد الإنسان "الروحاني" بحق يحترم المنهج العلمي ويميل، بالتالي، إلى التشديد على وحدة الحقيقة ووحدة الإدراك.[4] فمثل الحقيقة، في نظره، كمثل الحجر الكريم المصقول بوجوهه العديدة: فالعلم بفروعه، والفن بوسائله التعبيرية اللانهائية، والخبرات الروحية بأنواعها، تشكِّل جميعًا مظاهر للحقيقة الواحدة أو تجلِّيات لها يطلق عليها البشر أسماء متعددة من قبيل تيسير الفهم. ويشبِّه أحدهم وضع عالمنا اليوم بجبل شاهق تُحفَر فيه أنفاق متعددة. فمن أحد الجوانب، نجد السرَّانيين وأصحاب الرؤيا وعظماء الفنانين – على ندرتهم في عصرنا! – يشقُّون نَفَقَهم نحو مركز الجبل، ومن جانب آخر نجد العلماء يحفرون. فهل سيتم التلاقي؟ أم أن العلم حاد عن جادة المعرفة حيادًا لم يعد بالإمكان افتداؤه؟!

إن حقيقة السرَّانية، مثلها كمثل حقيقة العلماء، تقبل التحقق منها، لكن وسيلة هذا التحقق مختلفة بين الحقيقتين؛ إذ ليس بالإمكان قياس الحقيقة الروحية أو وزنها للتحقق من صحتها؛ لكن الاستيقان هو ما يقوم به السرَّاني في دخيلة نفسه عبر خبرته الروحية الخاصة التي تقلِّص مركزية الأنا عنده إلى الحدود الدنيا. فالحقيقة تملأ وجدانه بيقين لا يتطرق إليه أيُّ شك فكري. ذلك لأن الاعتقاد والشك ينتميان إلى المستوى الفكري أو الذهني الأدنى، بينما المعرفة الروحية تقع في مستوى آخر يكون فيه المرء نفسه هو الراصد والمرصود في آن معًا. السرَّاني أو الصوفي هو بحق عالِم الحقائق العلوية، على أن يكون مستعدًا لاقتبال هذا النوع من الحقائق عبر تنقية داخلية وتطهير جَوَّاني لا هوادة فيهما. فحتى يتم له ذلك، تبقى رؤيا هذه الحقائق شبه متعذرة، شأن رؤية النجوم عبر تلسكوب ملطخ المرآة!

نعتقد بهذا الخصوص أن هناك مأخذين على العالِم الذي يتمسك بالمنهج العلمي الوضعي الذي لا تزال تهيمن عليه النظرة الإوالية–التجزيئية إلى العالم mechanistic worldview، ألا وهما أنه يفترض، أولاً، المادية (بالمفهوم التقليدي) في جميع وقائع التجربة، وأنه، ثانيًا، يعمِّم – وهو المختص في حقل ضيق – وجهة النظر هذه متكلِّما باسم العلم، وبعبارة أخرى، يرتدي جبَّة الفيلسوف! ومع ذلك، يجدر بنا من جانبنا مجانبة التعميم، والقول إن جميع علماء اليوم ليسوا ماديين بالمفهوم السابق، وأن ما يحدث اليوم على صعيد الفيزياء النظرية الطليعية يشير إلى تناقص عدد الماديين من العلماء، وإلى تبنِّي نظرة دينامية–تفاعلية–كلِّية إلى العالم.[5] لكن هذا لا يعني أن الفلسفة المادية لا تؤثر على حياة الكثيرين في الغرب وعلى نظرتهم إلى الوجود – وإن كانوا "مؤمنين".[6] فهؤلاء يعتقدون أن العالم الذي تطاله حواسُهم ويتعاملون معه مباشرة هو العالم الواقعي الأوحد، وأن المعلومات الواردة إليهم عن طريق هذه الحواس هي الحقيقة كلُّها، وأن كلَّ ماعدا ذلك، أكان يقع في نطاق الفكر أم في نطاق الشعور بالقيم، يتَّكئ أيسيًّا (= أنطولوجيًّا) على هذا النظام المادي وحده.

إن السبب الأوحد الذي يضطرنا أحيانًا إلى الحديث عما يدعى اتفاقًا "خوارق"، تندرج اليوم فيما بات يسمى بـ"البارابسيكولوجيا" Parapsychology، هو التذكير بوجود قوى في الطبيعة، لا تطالها أجهزة العلم وأدواته، قد تظهر في المختبرات لدى بعض الناس ممَّن تقترب قدراتهم النفسية psychic powers الكامنة من "السطح" أكثر من غيرهم.[7] فالإقرار بوجود مثل هذه القدرات يزعزع قليلاً الموقف المادي المتصلب الساذج القائل بأن الدماغ يفرز الفكر كما تفرز الكبد الصفراء!

أما المأخذ الثاني فهو أن العالِم المادي كثيرًا ما يعمِّم التصريحات التي يدلي بها، فيقدِّم لنا فلسفة في الحياة والوجود لا تؤهِّله دراساتُه العلمية الضيقة للتنظير لها. فمع أنه اليوم بات "يعرف أكثر فأكثر عن أشياء أقل فأقل"، على حد تعبير أحد المفكرين، فهو لا يألو جهدًا في التمسك بأفكاره المسبقة. وينجم عن المنحى الاختصاصي الذي اختطَّه العلمُ لنفسه تقليصٌ متزايد لمنظور رؤية العالم وفهمه. فالعالِم المختص الذي لا يبصر "الكلِّية" في الدقائق التي يُعمِل فيها فكره وأدواته يقتطع من مجال إبصاره أشياء بالغة الأهمية في الحياة. فهو، إذا كان عالمًا في البيولوجيا أو الفسيولوجيا، يدرس بنية الخلية أو بنية الجسم البشري وطبيعة وظائفهما، متجاهلاً الفروق في خصائص الطيبة والفطنة والرأفة والشعور الإنساني التي تميِّز إنسانًا عن آخر؛ وإذا كان عالِمًا في فيزياء القسيمات فهو يأمل بمعرفة المزيد عن القسيمات الأولية، ويركز اهتمامه على العالم ما تحت الذري وحده مختزِلاً انتباهه، إن صح التعبير، إلى مستوى البنية ما تحت الذرية، ومتجاهلاً البنية أو البنى الفوقية للعالم.

غير أننا نحيا في عالم هو شبكة من العلاقات المتداخل بعضها في بعض.[8] وهذا العالم غني بالخصائص ويدين بتنوُّعه للعلاقات اللانهائية المشتبكة فيه. عندما يمعن العالِم في الغوص في بنية العالم المادي مستعينًا بالمنهج التحليلي وحده فهو ينسخ بالتدريج هذه الخصائص الناتجة عن التداخل المبدع بين هذه العلاقات؛ كأنْ يؤدي عزل خلية حية ودراستها بمعزل عن المتعضِّية organism التي كانت تشكِّل جزءًا لا يتجزأ منها إلى إحداث تغيير غير عَكوس في خصائصها الأصلية. إن هذا هو ما يجعل العالِم التحليلي الذي يتجاهل إمكانية نظرة كلانية holistic إلى العالم أقل الناس قدرة على التفلسف حول الكل – أي الإجابة عن أعمق تساؤلاتنا حول معنى الحياة والمغزى من وجودنا. فإذا كان لابد لهذه الإجابات من أن تجانب الخطأ ينبغي أن تصدر عمَّن بلغوا حدًّا معينًا من القدرة على إلقاء نظرة شمولية إلى الكون والحياة والوعي. وهؤلاء، في شرعنا، هم إما الحكماء الذين ألَّفوا في كيانهم الإنساني بين صفتيْ المعرفة والمحبة اللانهائيتين، وإما العلماء الذين يستلهمون النظرة الكلانية في حقل اختصاصهم. إن بوسع هذين الفريقين أن يحدِّثانا عن معنى الحياة ككل لأنهم يبصرون الحياة وجهًا لوجه في كلِّيتها، ويشيرون بإصبعهم إلى الطريق المؤدي إلى الحياة.

كلُّ ما في الكون يستمد معناه وقيمته من كلِّيته، وتجزئتُه، أو بالأحرى، رؤيته مجزَّءًا، تجرِّده من صداه في أعماق الوعي الإنساني. لذا نجرؤ على القول: إن على العلم اليوم أن يستلهم منبعًا أعلى منه، يستمد منه القدرة على التجدد – وإلا فسوف يؤول إلى الزوال. وهذا المنبع برأينا هو ملكة الوعي الكلِّي الأصيلة في النفس الإنسانية.

لنعد الآن، ونحن نتلمس طريقًا لبلوغ التفكير السليم في كلٍّ من مجالي العلم والروحانية، إلى هذه الأخيرة.

من هو "الروحاني"؟ هو امرؤ حقَّق التجربة الروحية. لكن السؤال المشروع الذي ينطرح علينا الآن هو الآتي: إذا لم يكن بالوسع التحكُّم في "تحريض" التجربة الروحية هل لنا أن نقول إن الروحانية ظاهرة نادرة، عصيَّة على الفهم، وبالتالي عديمة الفاعلية في عالم كعالمنا؟ لو كان الأمر على هذا النحو فبئس العالم عالمُنا! لكن العديد ممن لم يحن لديهم بعد أوان التحقيق الفعلي يشعرون أحيانًا – بشهادتهم – بحدوس قوية تدل على الحقيقة – لعلها خبرة مختزنة في النفس من التجارب السابقة لها في أعمار ماضية![9] ولكن أيًّا ما كان مصدر هذه الحدوس علينا أن نقر بأن معرفتنا إنما هي "تذكُّر" reminiscence، كما يؤكد أفلاطون. أما إذا شاء المرء أن يكون الحدس وظيفة قائدة في حياته عليه أن يبدأ الساعة بتنقية نفسه من الشوائب العالقة بها عبر تفتح وئيد يعود بالإنسان إلى تشكُّل الخلية الحية الأولى!

ويلوح لنا، في هذا الصدد، أن الروحانية، في جوهرها، هي الإخلاص لأسمى ما يعطى لنا أن نحدسه والامتثال له لحظة بلحظة. وليس بمقدور العالِم المادي حينئذٍ أن يبرهن لنا أننا من "المهوِّمين" أو من "الحالمين الخياليين" لأن بوسع كلِّ فرد مخلص أن يقيم الدليل على تحقيق الطاقة الروحية الكامنة فيه بالسير على طريق الروح بحسب خصوصيته الذاتية. والمرء الذي يلتزم بالعهود التي قطعها على نفسه يكون هو نفسه البرهان الحي على وجود الحقيقة عبر اختباره الفعلي لها، المتجدِّد في كلِّ لحظة.[10]

ثمة فرق شاسع بين قولي "أعرف الشيء" وقولي "أعرف عن الشيء": معرفتي الأولى مباشرة وآنية، ومعرفتي الثانية غير مباشرة ورمزية. والرمز، مهما دقَّ، يبقى مجرَّد تعبير عن الحقيقة، لكنه لا يكونها أبدًا.

الروحاني هو من تقوده أسمى حدوسه – مستلهِمًا كلاً أعظم يستقي منه كلَّ المعاني الممكنة – إلى احتضان الحياة برمَّتها، حتى في أبسط تجلِّياتها، في محبة موحِّدة، خارقة، ورأفة شاملة لا يشوبها رياء. وقد يتحقق هذا الشرط حتى إذا كانت رؤياه، أي معرفته، ما تزال غير مكتملة بعد.

تلكم هي الخلاصة التي توصَّلنا إليها. لقد وجدنا أن العلم يحاول، من جهته، التعبير تعبيرًا منظَّمًا، من خلال رموزه الخاصة، عن فهم الإنسان للعالم الفيزيائي الذي يشكِّل محيطه المادي. ومن جهة ثانية، عبَّرنا بكلمة "روحانية" عن علاقة الإنسان بنظام كلِّي تُعتبَر الطبيعة تجلِّيًا أو فيضًا عنه. وباعتقادنا أن العالم لن ينعم بالسلام ما لم يتم ردم الهوَّة الفاصلة بين هذين المعسكرين – معسكر العلم ومعسكر الروح – وبناء جسر متين يُسهِّل حركة المرور بينهما لمصلحة الطرفين. ولقد عبَّر الشاعر روبرت براوننغ عن ذلك بقوله:

أنا كذلك سعيتُ إلى المعرفة،

كما سعيتَ أنت إلى المحبة.

إذا أقصيتُ المحبة كما رفضتَ أنت المعرفة،

أفلا نكون نصفَيْ عالم لا ينقسم

يوحِّده هذا القدر العجيب من جديد؟

دعنا لا نفترق، حتى تعرف، أنت المحبُّ،

وحتى أحبَّ، أنا العارف – إلى أن نخلص معًا.

اقتراحنا العملي الأول، إذن، من أجل التوصُّل إلى حلٍّ لأزمة العالم، هو فهم المشكلة السليم. فإلى أن يكون لنا أن نبصر الوحدة في كلِّ فعل معرفة – وكلُّ معرفة وظيفة من وظائف كينونتنا – سيلازمنا إحساسٌ بالتوتر وبوجود عنصرين متصارعين في النفس.

التأليف بين خصائص الشرق والغرب

يتضمن اقتراحنا الثاني ضرورة تعزيز الصلة بين الشرق والغرب في فهم متبادل متنامٍ. قد يصح قولنا إن النمط الغربي للحياة أكثر علمية وتقنية، في حين أن ثقافة الشرق أكثر روحانية في توجُّهها. من هنا فإن الشرق في حاجة إلى رفع مستوى الصحة والتعليم وتحسين شروط المعيشة ودعم القوة الاقتصادية – وعلى الغرب أن يمد يد المساعدة للشرق في هذه الحقول، دون أن ينطوي ذلك على إشعاره بالدونية وبالتبعية. أما الغرب فهو في حاجة إلى النهوض من حمأة النمط المادي للمعيشة الاستهلاكية ووعي افتقاره إلى القيم النابعة من الحياة الروحية. وبوسعه من أجل ذلك أن يستلهم روحانية الشرق – وهو فاعل ذلك الآن –، على أن ينزِّه جهوده من تلك النزعة الرامية إلى استغلال روحانية الشرق لأغراض "مادية". على الغرب أن يعي أن المادية، كنظرة إلى العالم وطريقة معيشة، نظرة ضيِّقة، غير "مستدامة"، وأن الجزء ليس الكلَّ إلا إذا أُعطِي للإنسان أن يبصر الكلَّ في الجزء. وعليه أن يتعلَّم أيضًا أن كنوز الإنسان الحقيقية ليس الثروة التي يخلِّفها وراءه عندما يداهمه الموت، إنما تلك التي ترافقه إلى الأبد لأنها جزء منه.

لا ريب أن بعض التقدم أُحرِزَ في هذا المضمار وخطا الجانبان عدة خطوات؛ لكن عقبات عديدة ما تزال ماثلة. والمهمتان اللتان أتينا على ذكرهما لتوِّنا محصلة نظرة عدائية قديمة تتمثل في عبارة الشاعر روديارد كبلنغ: "الشرق شرق والغرب غرب، ولن يلتقيا أبدًا."

لقد لمسنا مؤخرًا توجُّهًا متزايدًا نحو الآداب المقدسة الشرقية. والغرب اليوم – بصرف النظر عن محاولات التشويه العديدة – منهمك في دراسة الفيدنتا واليوغا والبوذية والزِنْ والطاوية والتصوف والقبالة. ولقد ساعده ذلك على رؤية المسيحية – وهي الديانة الشرقية الرئيسية التي اعتنقها منذ أكثر من 1500 سنة والتي ظلت في القرون الأخيرة عاجزة تمامًا عن تنويره نظرًا لسيطرة التفسير الحرفي الشالَّة على الروحانية الصافية – وعلى تقصِّي أبعادها السرَّانية والعرفانية التي تنطوي على عمق الحياة.[11]

نترك لغيرنا هنا تحديد أيِّ المهمتين أعظم: تحريض المزيد من اليقظة الروحية في الغرب، أم تحقيق مستوى اقتصادي وتعليمي أرقى في الشرق.[12] بيد أن من المؤكد أن الغرب لم يخلُ يومًا من النساء والرجال ذوي التوجُّه الروحي في حياتهم العملية؛ مثلما لم يخلُ الشرق قط من النساء والرجال ذوي التوجُّه العملي في حياتهم الروحية. ويصحُّ قولنا أيضًا إن عظيمات النساء وعظماء الرجال، في الغرب كما في الشرق، هم الذين يزاوجون في أنفسهم بين الروحانية الرفيعة والاهتمام العملي العميق. إن العالم اليوم لفي أمس الحاجة إلى أمثال هؤلاء. فمادام علينا أن نحيا حياة الروح ههنا على الأرض، من واجبنا أن نستنزل عليها أسمى الطاقات الروحية بما يعين النساء والرجال أن يحيوها بالحق وبكلِّ تفانٍ وإخلاص. على الأعلى أن "يفتدي" الأدنى بالمعنى المسيحي للكلمة، وعلى الحياة المادية، الآن هنا، أن تتسامى وتتوهَّج بالطاقة الروحية بحيث تصير تعبيرًا كاملاً عن الأبدي اللازمني.[13]

على كلِّ روح أن تحقق كَرْمـاها، أي قدرها. لكن يلوح لنا أن عصرنا يمثِّل تحديًّا غير مسبوق في هذا الدور من أدوار الكرة الأرضية يتطلب التوفيق بين العلم والروح العملية من جهة، وبين الطاقة الروحية وعالم الرؤيا من جهة أخرى. ومستقبل الإنسانية متوقف على نساء ورجال، من الشرق والغرب، يؤلِّفون في أنفسهم بين هاتين الخصيصتين.

التنظير والتطبيق

البحث المعمَّق في الإنسان نفسه دعامة أساسية من دعامات الجسر الممدود فوق الهوَّة بين العلم والروحانية. لذا يقوم اقتراحنا الثالث على ضرورة تشجيع نمو المؤسَّسات الثقافية والعلمية المعنِيَّة بدراسة طبيعة الكون والإنسان ككلٍّ واحد لا يتجزَّأ. ويتوجَّه نداؤنا إلى العلماء، من جهة، لكي يعود العلم بهم محاولة مخلصة للمعرفة قبل أن يكون مجرد خادم للآلة التكنولوجية؛ وإلى الذين يدعون أنفسهم "متصوِّفة"، من جهة أخرى، لكي ينفتحوا على معطيات العلم – ولاسيما الفيزياء والبيولوجيا – وعلى مختلف الفلسفات والأديان والمدارس الروحية، ولكي يضعوا ما يؤمنون به موضع التطبيق في عالم الواقع والحياة اليومية، لا أن ينكفئوا على أنفسهم في أبراج عاجية! فالخبرة "الروحية" التي لا تجعل دم صاحبها "يغلي" أمام ألم الإنسان، ولا تستحثه على فعل المستحيل لترجيح كفة العدل على كفة الظلم، ولا تهيب به أن يحترم المعرفة – كلَّ معرفة – هي خبرة لا طائل فيها، وأغلب الظن أنها من قبيل الوهم.

والواقع أن إرهاصات ذلك بدأت متمثلة في ظهور علماء–حكماء[14] وإجراء لقاءات دورية تضمُّ ممثلي مختلف فروع المعرفة الإنسانية من فلاسفة وعلماء وفنانين وأساتذة تأمل (كلقاء "جماعة برنستون" ومؤتمري قرطبة والبندقية وغيرهما)، دأبَ المشاركون فيها على إقامة الدليل على الوحدة الجوهرية للعالم وعلى صحة القول المنسوب إلى هرمس المثلث بالحِكَم (النبي إدريس): "ما هو تحت مقايِس لما هو فوق، وما هو فوق مقايِس لما هو تحت."

يبقى أن نشدِّد على أن التنظير بمعزل عن التطبيق لا قيمة له. لذا يجب على حياة المرء أن تكون سبرًا متواصلاً لنفسه، وولوجًا إلى محراب سرِّها، يعقبه خروج إلى العالم... ولوج ليكتشف في أعماقه ذلك الحاجَّ الأزلي التائق إلى "كعبته"، يعقبه خروج لبثِّ الروح والحياة في جوِّ الكرة الأرضية.

المُثُل تنحدر إلينا من عالم لازمني؛ لكن تحقيقها يجب أن يتم في عالم الزمن. فكما يقول ميخائيل نعيمه في كتاب مرداد: "ما لم تصلوا القمة بالقاع ابتليتم بالدوار في الأعالي وفي الأعماق بالعمى."

إن عالم الزمن، في جوهره، عالم مليء بالخير. فإذا لم نسدِّد إليه الديون المستحقة علينا لن تصله رسالتنا وسيحصل الطلاق بين الأرض والسماء!

*** *** ***


* صياغة نهائية لمحاضرة شبه مرتجلة قُدِّمتْ ضمن فعاليات حلقة "أصدقاء المحبة" في الثمانينات ونُشِرَتْ صياغةٌ أولية لها في آذار 1989 على أربع حلقات في صحيفة الأنوار. (المحرِّر)

[1] يعود ذلك برأينا إلى أن تمسُّك الكنيسة بقدسية كتاب العهد القديم (التوراة) الذي جاء فيه أن "يهوه"، إله اليهود، امتثل في سفر يشوع (10: 12-15) لصلاة يشوع وأمر النيِّرين بالتوقف!

[2] الأصح أن نقول "العلموية" scientism. وأصحاب هذا المذهب يقولون بقدرة العلم الوضعي على معرفة كلِّ شيء وتعليل كل شيء على الإطلاق؛ ويذهب غلاتهم إلى أن سعادة الإنسان مرهونة فقط بتطور العلم.

[3] لنا في الدكتور ألبرت شفايتسر في أفريقيا، وراوول فولرو الذي كرس حياته للعناية بالبرص، والأم تيريزا في كلكتَّا، والأب بيار الذي أسَّس حركة إنقاذ لمن لا مأوى لهم في فرنسا، وجان فانييه الذي نذر نفسه للعناية بالأطفال المعوقين ذهنيًّا، أمثلة رائعة على ما نريد قوله.

[4] يقول سوامي فيفيكانندا: "عندما يؤكد العالِم أن كلَّ الأشياء إنما هي تجلِّيات لقوة واحدة، ألا يذكِّركم هذا بالإله الذي تسمعون به في الأوبنشاد؟ "كما النار الواحدة الداخلة في الكون تعبِّر عن نفسها في أشكال متنوعة، كذلك تلك الروح الواحدة تعبِّر عن ذاتها في كلِّ نفس، على كونها أكثر من ذلك بما لانهاية له." ألا ترون المنحى الذي يتخذه العلم؟ لقد سلكت الأمة الهندوسية عبر دراسة الذهن، عبر الميتافيزياء والمنطق. بينما تنطلق الأمم الأوروبية من الطبيعة الخارجية، وهي الآن تتوصل إلى النتائج نفسها. إننا نجد أننا بالبحث بواسطة الذهن نتوصل أخيرًا إلى تلك الواحدية، إلى ذلك الواحد الكلِّي، الروح الداخلية لكلِّ شيء، ماهية كلِّ شيء وحقيقته، المطلق أبدًا، المغتبط أبدًا، الموجود أبدًا. وعبر العلم المادي نتوصل إلى الواحدية نفسها. يخبرنا العلم اليوم أن كلَّ الأشياء ما هي إلا تجلي طاقة واحدة هي محصِّلة كل ما هو موجود؛ وإن منحى البشرية يتجه صوب الحرية، وليس صوب العبودية. لِمَ على البشر أن يكونوا أخلاقيين؟ لأن الأخلاق هي الدرب إلى الحرية، وعدمها يقود إلى العبودية."

Swâmi Vivekânanda, Jnâna-Yoga, « L’Absolu et la manifestation », Albin Michel, Paris, 1972, pp. 110-1.

[5] راجع: ندره اليازجي، المبدأ الكلي: لقاء الحكمة القديمة والعلم الحديث، طب 2، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1989.

[6] من الممكن أن يكون المرء مثاليًّا من حيث الاعتقاد، ماديًّا من حيث المسلك الحياتي؛ والعكس بالعكس. ولا عبرة في "إيمانه" إذا لم يجعل منه إنسانًا أرقى، أرحب، وأجمل!

[7] راجع فصل "الإدراك الحسي الزائد والبسيكوترونيك" في كتاب ندره االيازجي المادة والروح: تأليف جديد، دار الغربال، دمشق 1978، وكذلك مقال د. جمال نصار حسين ولؤي فتوحي "الباراسايكولوجيا تبرِّر ذاتها: صراع الفيزياء، العلم، والظواهر الخارقة"، المنشور في مجلة كتابات معاصرة، العدد 33 (ص 6-21)، للوقوف على بعض هذه القدرات النفسية.

[8] يقول كريشنامورتي: "الوجود هو العلاقة."

[9] راجع: ديمتري أفييرينوس، مقالة في التقمص، سلسلة الحكمة 2، دمشق، 1989.

[10] ننوِّه هنا إلى أمور أخرى يصحّ فيها هذا المبدأ: الحب مثلاً! قد يعرف المرء نظريًّا كل شيء عن الحب، وقد يكون من فلاسفة الحب، فيعرف منشأه و"أعراضه" ونتائجه؛ لكنه إذا لم يهب نفسه بكلِّيتها لإنسان آخر لن يعرف الحب إلا بقدر ما يعرف مذاقَ الكرز بدون أن يتذوق حبة كرز واحدة في حياته!

[11] لا يخامرنا شك في أن المسيحية إناء تاريخي لطاقة روحية قادرة على السموِّ بالإنسان إلى أعلى المراتب على سلَّم الروح؛ لكن نورها الساطع خبا تحت "مكيال" المؤسسة الدينية التي حصرت همَّها في ديمومتها واستمرارها الدنيويين، مغفلة بذلك الخبرة الروحية السامقة التي هي جوهر الدين والتي نقلها يسوع إلى تلاميذه، ولاسيما الرسل يوحنا وتوما وبولس. بيد أننا، في الوقت نفسه، لا ننكر على هذه المؤسَّسة دورها الفاعل في الخدمة الاجتماعية، بوسائلها المتعددة، فيما يُعرَف بـ"دولة الرخاء".

[12] يلوح لنا أن اليابان بين دول الشرق هي الأقدر على الاستمرار في تحقيق هذا التوازن الدقيق – على أن يتواصل فيها بذل الجهود للحفاظ على تراثها الروحي ويتم الحدُّ من اجتياح النمط الاستهلاكي للمعيشة.

[13] إن عظمة البوذا سِدهرتا غَوْتاما تكمن في أنه، وهو واقف أمام باب النيرفانا المفتوح على مصراعيه، عزف عن الدخول ليحيا مع الناس ويساعدهم في تفتحهم الروحي، وإن سموَّ يسوع يتمثل في تحقيقه لفعل الفداء الكوني ههنا على الأرض، "بين العشارين والخطاة"؛ ولنا في سيرة المهاتما غاندي أسوة حسنة في التوفيق بين حياة الروح وترجمة هذه الحياة إلى عمل في معترك السياسة.

[14] يقف العلامة الأب تيار دُه شردان والفيزيائي الكبير ديفد بوهم في طليعة هؤلاء.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود