|
حنة أرندت
ودولة إسرائيل
عفيف
عثمان
كانت
حنة أرندت (1906-1975) – فيلسوفة السياسة والتاريخ
– شاهدًا حيًّا على أحداث عصرها: طالبة في
مدينة هايدلبرغ الألمانية في العام 1925،
تلميذة وعشيقة للفيلسوف الألماني العظيم
مارتن هايدغر، "امرأة يهودية، لكن غير
ألمانية". شاركت في بعض
المنظمات الصهيونية التي انفصلت عنها
لاحقًا، عندما وجدت الدولة اليهودية تغرق في
مستنقع "السياسة الواقعية" Realpolitik،
بحسب ما تقول. أرسلتْها مجلة النيويوركر
لتغطية محاكمة أيْخْمَنْ في القدس (1961)، فأتت
تحليلاتُها صدمة للصهاينة الذين قرأوا فيها
محاولة للتبرير والقول إن اليهود قادوا
أنفسهم بأنفسهم إلى التهلكة. حين كتبت أرندت
مقالها إعادة فحص الصهيونية عام 1946 أثارت
حنق صديقها كورت بلومنفِلد، الرئيس الأسبق
للمنظمة الصهيونية الألمانية وذلك الشخص
الذي فتح عينيها على المسألة اليهودية حين
كانت في ألمانيا، ودفعتْه إلى القول بأن
ربيبته "لا تعرف شيئًا عن الصهيونية"
وأنها تقارب هذه المسائل بلامبالاة ووقاحة؛
وما ذلك سوى تعبير جلي عن "كره يهودي للذات"
و"رغبة جارفة في الاندماج". وأضاف
بلومنفِلد أنه لم يؤمن يومًا بصهيونية أرندت،
والمقال الآنف الذكر خير شاهد على ذلك! لم توجِّه أرندت
نقدها إلى زعماء الصهيونية فحسب، ولكنها
أنكرت كلَّ شرعية يمكن أن يدعيها أو يتظلَّل
بها المشروع الصهيوني. وهي، إذا كانت تعاونت
في الثلاثينات والأربعينات من القرن الفائت
مع بعض المنظمات الصهيونية، فإنها في العام
1948 كانت من الأصوات المعارضة لإقامة دولة
يهودية في فلسطين، بالإضافة إلى الخلاف
السياسي مع الحركة الصهيونية في كيفية
التعامل مع "المسألة العربية" في فلسطين. والحال إن أرندت لم
تُخْفِ يومًا أنها تأثرت بما أشاعته
الصهيونية من "نظر نقدي، وتحديدًا النقد
الذاتي في أوساط الشعب اليهودي". وقيمة
الصهيونية، في رأيها، "أخلاقية في الدرجة
الأولى"، بمعنى أنها تحرر الأفراد اليهود
من الضرورة المستمرة لتقديم الدليل على
نيَّاتهم الحسنة، ومن هُجاس اليهودي المندمج
"في أن يكون يهوديًّا أو لا يكون". وعلى هذا النحو
التقطت إحدى السمات الأساسية في الحركة
الصهيونية الألمانية التي ولدت في القرن
التاسع عشر، باعتبارها "حركة لإعادة
الافتخار بكون المرء يهوديًّا أكثر منها
لإقامة قومية يهودية". وهي تشير في
كتاباتها إلى اليهود بصفة "الشعب اليهودي"؛
ومن رأيها ضرورة إعطاء "وضع" statut
له، من "دون الوقوع في الجوهرانية" – تلك
الخاصية الموروثة من إيديولوجيات القرن
التاسع عشر – وذلك بمنح مقولة الشعب معنى سياسيًّا
في المقام الأول. وكانت أرندت تقدِّر
للصهيونية عدَّها اليهود "شعبًا مضطهدًا"،
بمعنى الوجود خارج حدود السلطة ودائرتها؛
لكنها لم تكن تؤيد المطالبة الصهيونية بتحوله
إلى "شعب مثل الشعوب الأخرى" بوصوله إلى
السلطة السياسية، أي الدولة، وتاليًا إمكان
استخدامه للوسائل العنفية التي تستخدمها
الشعوب، مع ما يرافق ذلك من ظلم وعسف. وفي
رأيها أن مقولة "مثل الآخرين" ليست مسألة
مضمون: فلا يتعلق الأمر بمشابهة كائن من كان،
ولا في التخلِّي عن التاريخ الخاص – ومن ضمنه
التراث الديني؛ إنما المطلوب الانتهاء من "الوضع
السياسي الاستثنائي لليهود". وعلى هذا
النحو، "مثل الآخرين" تعني القول "بين
الآخرين": شعب مساوٍ في الحقوق والواجبات
لشعوب الأرض الأخرى. إبان الخلاف الذي نشب
داخل الحركة الصهيونية حول التحالفات التي من
الممكن عقدها بين ما أُطلِقَ عليه أنصار "الواقعية
السياسية" (هرتزل) وأنصار "المثالية
الأدبية" (ب. لازار)، وقفت أرندت بجانب
الأخير، لأن السياسة الواقعية الوحيدة
تنحصر في سياسة تحالف مع الشعوب المتوسِّطية
الأخرى التي تعزز الوضع المحلِّي اليهودي في
فلسطين والتي تؤمِّن تعاطفًا حقيقيًّا مع
الجيران. ورأت أرندت أن أحد
مصادر العمى الصهيوني الخاص بما تسميه "المسألة
العربية" يكمن في الاتجاه نحو الواقعية
السياسية، أي الاندراج في لعبة القوى
العظمى. وبهذا المعنى لا تكون هذه السياسة سوى
سياسة تُلغي معناها بسبب تقريبها ممَّن يمتلك
قوة أكثر؛ لذلك فهي "غير مبصرة للواقع"
الضروري للفعل. فالسياسة، بحسب
أرندت، هي مسؤولية في شكل أساسي، وردٌّ
على نداء الحاضر الذي يفترض أننا نلتقط "الفرص
التي تعرضها الظروف". وإمكان الفعل نفسه
يفترض مفهومًا للتاريخ في كلِّ مرة لا يكون
فيها الحاضر محددًا تمامًا، ولكنه يترك
دائمًا، ولو على نحو ضئيل، فرصة صغيرة، لا
يمكن استغلالها إلا إذا جرى اتخاذ مبادرة
سياسية. فمسألة الحاضر المباشر ليست الضرورة،
بل الإمكان؛ والإمكان، أي الواقع، "لا يقع
دائمًا في مرمى بصرنا". وعلى هذا النحو، فإن
الواقعية السياسية تخطئ في إدراك الواقع؛ إذ
إنها تأخذ الماضي على أنه الواقع وتفوِّت
الواقع الوحيد الدال: الممكن. فأرندت، كما هي حال
مارتِن بوبر وجودا ماغنس، أدركت أن العرب لا
يرون في وعد بلفور إلا تحالف اليهود مع
الإمبريالية البريطانية. ورأت أن تحالف شعب
صغير مع قوة إمبريالية تحالفٌ هشٌّ بالضرورة:
"فالأمان الذي يظن الشعب الصغير أنه وجده
بجانب القوة الحامية غير مستقر بحكم الضرورة؛
إذ يكفي أن تتغير مصلحة هذه القوة حتى تتفلَّت
من تحالفاتها كافة." وتلتقي أرندت في وجهة
نظرها مع ماغنس الذي لم يُفرِحُه إعلان "وعد
بلفور"، بل قدَّم له كل أسباب القلق،
بالاستناد إلى فهمه لحقائق الشرق الأوسط
والحذر الشديد من الوعود التي تقدمها القوى
الإمبريالية. فبدلاً من الكلام على "الخلاص"
يجب، من وجهة نظره، التمعن في "الحالة
الراهنة للعالم" أوان خروجه من الحرب
العالمية الأولى: السيطرة الإمبريالية
الاقتصادية، الشروط الهشَّة ليهود أوروبا
الوسطى والشرقية، المشكلات المعقدة للشرق
المسلم. رأى ماغنس أن "وعد
بلفور" لا يستطيع أن يقدم أية شرعية للوجود
اليهودي في فلسطين؛ والتعلق بالشرعية التي
تعطيها الإمبريالية سيخلق مناخ عداء مع
الشعوب الأخرى في المنطقة. وفي رأي أرندت وماغنس
أن "إنجازات" les
réalisations
اليهود في فلسطين هي مصدر الشرعية ونقطة
التقاء محتمل مع العرب. فإذا كان هناك بُعدٌ
"تاريخي" لاختيار فلسطين بدلاً من أية
بقعة أخرى في العالم – بحسب الزعم الصهيوني –
فهذا لا يضفي وحده شرعية على الوجود اليهودي
فيها. فالشرعية لا يمكن أن تتأتى إلا من مبدأ
يمكن الآخرين الاعتراف به. وبالنسبة إلى
العرب، رفض ماغنس أن يُبرِّر شرعية الوجود
اليهودي في فلسطين استنادًا إلى الوعد المعطى
لإبراهيم، لأنه لا يمكن أن يعني لهم (أي للعرب)
سوى الطرد أو وضعهم في أسفل السلَّم
الاجتماعي. ولكنه، في المقابل، يُقرُّ أن
الحق المعترف به لليهود هو في "جعل الأرض
التاريخية بلدًا لهم، لا بالقوة، ولكن بعملهم
labor وبثمرة work رؤوسهم وأيديهم".
والأمر نفسه، بطبيعة الحال، ينطبق على العرب. عند أرندت، أيضًا، أن
من الضروري الاتفاق على "بعض المطالب
الرئيسية"؛ ومنها أن حقَّ الشعب اليهودي في
فلسطين "مماثل لحقِّ كلِّ إنسان في حيازة
ثمرة عمله"، سواء أكان يهوديًّا أم عربيًّا.
هذا الإقرار، برأي أرندت، يستبعد مبرِّرين:
"أن الماضي بصفته كذلك يمنح حقوقًا، أو أنه
يمكن شراء بلد بواسطة النقود، أو أن يستطيع
لورد نافذ بكرم أن يبيع وطنًا لأحد آخر." والحال إن أرندت رفضت
قيام دولة يهودية لأن شكل الدولة–الأمة كان
دائمًا يتمحور في نظرها حول مسألة غالبية/أقلية:
فالعرب كانوا يشكِّلون غالبية سكان فلسطين؛
وقد عمل اليهود على قلب المعادلة
الديموغرافية، التي ستنقلب يومًا ما مرة أخرى.
وهذه هي الحلقة المفرغة في ظنِّها. ومن هنا
معارضتها برنامج بلتيمور الذي استخدم عبارة
"قلب الميزان الديموغرافي". وأمام إصرار اليهود
على دولة ورفض العرب لها، كان ضروريًّا، في
نظر أرندت، الحفاظُ على روح "التسوية" compromis. فالخطر عندها هو
سياسة "الكل أو لا شيء" التي لا تقود سوى
إلى الحرب. *** *** *** عن
النهار، الأحد 23 حزيران 2002
|
|
|