ثقافة الحوار في الإسلام:

حرية الاختيار وحق الاختلاف

 

محمد السماك

 

في الأساس، لا يكون الحوار إلا مع الآخر؛ وتحديدًا مع الآخر المختلف. إن هدف الحوار هو شرح وجهة النظر وتبيان المعطيات التي تقوم عليها؛ وفي الوقت نفسه الانفتاح على الآخر لفهم وجهة نظره ثم للتفاهم معه. ذلك بأن التفاهم لا يكون من دون فهم متبادل. والحوار هو الطريق إلى استيعاب المعطيات والوقائع المكوِّنة لمواقف الطرفين المتحاورين، ثم إلى تفاهمها.

في ثقافتنا الإسلامية، كما يقول أبو الوليد الباجي، أن من اجتهد وأصاب الحق فقد أُجِرَ أجرين: أجر الاجتهاد وأجر الإصابة للحق؛ ومن اجتهد وأخطأ فقد أُجِرَ أجرًا واحدًا لاجتهاده، ولم يُؤثَم على "الخطأ". نفهم من ذلك أن الاجتهاد، كأيِّ عمل فكري إنساني، مفتوح على الخطأ والصواب. فهو ليس مقدَّسًا، ولا مطلقًا، ولا ثابتًا، بل هو إنساني، محدود، ومتغير.

وفي ثقافتنا الإسلامية أيضًا أن "رأيي صحيح يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب". نفهم من ذلك أيضًا أنه ليس لأحد أن يدَّعي الحقيقة المطلقة. وليس له أن يخطِّئ الآخرين لمجرَّد اقتناعهم برأي مخالف. فالحقيقة نسبية؛ والبحث عن الحقيقة، حتى من وجهة نظر الآخر المختلف، طريق مباشر من طرق المعرفة. وهو، في الوقت نفسه، أسمى أنواع الحوار.

وفي ثقافتنا الإسلامية، كذلك، أن الحوار يتطلب، أولاً وقبل كلِّ شيء، الاعتراف بوجود الآخر المختلف، واحترام حقِّه ليس في تبنِّي رأي أو موقف أو اجتهاد مختلف فحسب، بل احترام حقِّه في الدفاع عن هذا الرأي أو الموقف أو الاجتهاد، ثم واجبه في تحمل مسؤولية ما هو مقتنع به.

ولأن الحوار يحتِّم وجودَ الآخر فلا بدَّ من تعريف "الآخر". وهو تعريف لا يمكن أن يتم في معزل عن "الأنا". إن فهم الآخر، ثم التفاهم معه، لا يتحقَّقان من دون أن تتسع الأنا له. وبالتالي، كلما سما الإنسان وترفَّع عن أنانيته، أوْجَدَ في ذاته مكانًا أرحب للآخر. إن الحقيقة ليست في الأنا. إنها تتكامل مع الآخر، حتى في نسبيَّتها. وهي لا تكتمل في إطلاقيَّتها إلا بالله. والحوار مع الآخر اكتشاف للأنا وإضاءة ساطعة على الثُّغُر والنواقص التي لا تخلو منها شخصية إنسانية. ولذلك يقول الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر: "الآخر هو وسيط بيني وبين نفسي، وهو مفتاح لفهم ذاتي والإحساس بوجودي."

الآخر قد يكون فردًا وقد يكون جماعة. وفي الحالين، قد يكون مؤمنًا، وقد يكون كتابيًّا، وقد يكون كافرًا. الآخر المؤمن هو للمؤمن كالبنيان المرصوص يشدُّ بعضُه بعضًا. والآخر الكتابي في المجتمع الإسلامي هو في ذمة المسلم،[1] والرسول يقول: "من آذى ذميًّا فقد آذاني." أما الآخر الكافر فالعلاقة معه مبنيَّة على قاعدة "لكم دينكم ولي ديني". وفي كلِّ الحالات فإن العلاقة بين المسلم والآخر يختصرها الحديث الشريف الذي يقول فيه الرسول محمد: "المسلم من سَلِمَ الناسُ من يده ولسانه."

يقرِّر الإسلامُ الاختلافَ كحقيقة إنسانية طبيعية، ويتعامل معها على هذا الأساس. "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا" (سورة الحجرات، الآية 13). خلق الله الناس مختلفين، إثنيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا ولغويًّا؛ ولكنهم في الأساس "أمة واحدة"، كما جاء في القرآن الكريم: "وما كان الناس إلا أمةً واحدة فاختلفوا" (سورة يونس، الآية 19)؛ أي أن اختلافاتهم، على تعددها، لا تلغي الوحدة الإنسانية.

تقوم هذه الوحدة على الاختلاف، وليس على التماثل أو التطابق؛ ذلك أن الاختلاف آية من آيات عظمة الله، ومظهر من مظاهر روعة إبداعه في الخلق. يقول القرآن الكريم: "ومن آياته خلقُ السماوات والأرض واختلافُ ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين" (سورة الروم، الآية 22). والقاعدة الإسلامية، كما حددها الرسول محمد، هي أن "لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى"؛ وبالتالي فإن الاختلاف العرقي لا يشكل قاعدة لأفضلية ولا لدونية. فهو اختلاف في إطار الأمة الإنسانية الواحدة، يحتِّم احترام الآخر كما هو على الصورة التي خلقه الله عليها.

إذا كان احترام الآخر كما هو، لونًا ولسانًا (إي إثنيًّا وثقافيًّا)، يشكِّل قاعدة من قواعد السلوك الديني في الإسلام فإن احترامه كما هو، عقيدة وإيمانًا، هو احترام لمبدأ حرية الاختيار والتزام بقاعدة عدم الإكراه في الدين. فالقرآن الكريم يقول: "ولكلٍّ وجهةٌ هو مولِّيها" (سورة البقرة، الآية 148). وفي إشارة واضحة إلى تعدد التوجُّهات يقول أيضًا: "وما بعضهم بتابع قِبلةَ بعض" (سورة البقرة، الآية 145).

ذلك أنه، مع اختلاف الألسن والألوان، كان من طبيعة رحمة الله اختلاف الشرائع والمناهج؛ وهو ما أكَّده القرآن الكريم بقوله: "لكلٍّ جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا. ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة، ولكن ليبلوكم فيما أتاكم. فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون" (سورة المائدة، الآية 48). و"ثم إليَّ مرجعكم فأحكم بينكم [يوم القيامة] فيما كنتم فيه تختلفون" (سورة آل عمران، الآية 55). و"لو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين، إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم" (سورة هود، الآيتان 118-119).

أرسى القرآن الكريم، إذن، قواعد واضحة للاعتراف بالآخر وبوجهة نظره إجلاءً للحقيقة، بما في ذلك – بل في مقدمة ذلك – الحقيقة الإلهية.

حوار الله والشيطان

في حوار الله والشيطان، كما ورد في سورة الأعراف (الآيات من 11 إلى 25)، يقول القرآن الكريم: "ولقد خلقناكم ثم صوَّرناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلاَّ إبليس لم يكن من الساجدين. قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك. قال أنا خير منه خلقتَني من نار وخلقتَه من طين. قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبَّر فيها فاخرج إنك من الصاغرين. قال انظرني إلى يوم يُبعثون. قال إنك من المنظرين. قال فبما أغويتَني لأقعدَنَّ لهم صراطك المستقيم. ثم لأتينَّهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجدُ أكثرهم شاكرين. قال اخرج منها مذءومًا مدحورًا لمن تبعك منهم لأملأنَّ جهنم منكم أجمعين" (11-18). من خلال هذا الحوار الإلهي مع الشيطان، تبرز حقيقة الثواب والعقاب، الخير والشر، الإيمان والكفر. وما كان لصورة هذه الحقيقة أن تكتمل من دون هذا الحوار؛ وما كان لهذا الحوار أن يقوم من دون وجود الآخر.

وفي حوار الله مع الأنبياء، تبرز حقيقة الإعجاز الإلهي: "وإذا قال إبراهيم ربِّ أرني كيف تحيِ الموتى؟ قال أولم تؤمن؟ قال بلىَ ولكن ليطمئن قلبي. قال فخذ أربعة من الطير فصُرهُنَّ إليك ثم اجعل على كلِّ جبل منهن جزءًا ثم ادعهنَّ يأتينك سعيًا واعلم أن الله عزيز حكيم" (سورة البقرة، الآية 260).

وفي حوار الله مع عباده، تبرز حقيقة العدل الإلهي، حيث ورد في الآية الكريمة: "قال ربِّ لِمَ حشرتني أعمى وقد كُنتُ بصيرًا. قال كذلك أتتكَ آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى" (سورة طه، الآيتان 125-126).

وفي حوار الأنبياء مع الناس، تبرز حقيقة التربية الإلهية، حيث ورد في الآية الأولى من سورة المجادلة: "قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير." كما تبرز حقيقة الهداية الإلهية: "ألم ترَ إلى الذي حاجَّ إبراهيم في ربِّه إن أتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيِ ويميت. قال أنا أحيِ وأميت. قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فآتِ بها من المغرب. فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين" (سورة البقرة، الآية 258).

وفي حوار الناس مع الناس، تبرز حقيقة الجشع الإنساني: "فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالاً وأعزُّ نفرًا" (سورة الكهف، الآية 34).

تبيِّن الآيات الكريمة السابقة أن الحوار يتطلب وجود تباينات واختلافات في الموقع وفي الفكر وفي الاجتهاد وفي الرؤى. وفي ذلك انعكاس طبيعي للتنوُّع الذي يُعتبَر، في حدِّ ذاته، آية من آيات القدرة الإلهية على الخلق ومظهرًا من مظاهر عظمته وتجلِّياته.

إن وحدة الجنس أو اللون أو اللغة ليست ضرورة حتمية لا يتحقق التفاهم من دونها. لذلك لا بدَّ، من أجل إقامة علاقات مبنية على المحبة والاحترام، من الحوار على قاعدة هذه الاختلافات التي خلقها الله، وأرادها أن تكون، والتي يتكشف للعلم أنها موجودة حتى في الجينات الوراثية التي تشكِّل بعناصرها شخصية كلٍّ منا وتمايزاتها.

إن للحوار قواعده وآدابه؛ ولعل من أبرز هذه القواعد والآداب ما ورد في سورة سبأ. كان الرسول محمد يحاور غير المؤمنين شارحًا ومبيِّنًا ومبلِّغًا. ولكنهم كان يصرُّون على أن الحق إلى جانبهم؛ فحسم الحوار معهم على قاعدة النص: "وإنَّا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين" (سورة سبأ، الآية 24). لقد وضع الرسول نفسه في مستوى من يحاور، تاركًا الحكم لله؛ وهو أسمى تعبير عن احترام حرية الآخر في الاختيار، وعن احترام اختياره، حتى ولو كان على خطأ. وذهب إلى أبعد من ذلك عندما قال القرآن الكريم في الآية التالية مباشرة: "قُلْ لا تُسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون." فكان من آداب الحوار – بل من المبالغة في هذه الآداب – أن وصف اختياره للحق – وهو على حق – بأنه "إجرام" (في نظرهم)؛ ووصف اختيارهم للباطل – وهم على باطل – بأنه مجرد "عمل". ثم ترك الحكم لله: "قل يجمع بيننا ربنا، ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتَّاح العليم." إن احترام حرية الاختيار هنا ليس احترامًا للخطأ. فتسفيه وجهة نظر الآخر ومحاولة إسقاطها ليسا الهدف الذي لا يكون الحوار مُجدِيًا إلا إذا تحقَّق.

إن من أهداف الحوار تعريف الآخر على وجهة نظر لا يعرفها، ومحاولة إقناعه بالتي هي أحسن بموقف يُنكِرُه أو يتنكَّر له – وهو أمرٌ يشكِّل، في حدِّ ذاته، أحد أهم عناصر الاحتكاك الفكري والتكامل الثقافي والتدافع الحضاري بين الناس. ومن دون ذلك يركد الذهن ويُفقَد التعطشُ إلى المعرفة عودَ الثقاب الذي يلهبه، وتتحولُ مساحاتُ الفكر إلى بحيرات آسنة. وفي ذلك يقول القرآن الكريم: "ولولا دفعُ الله الناس بعضُهم ببعض لفَسُدَتْ الأرض" (سورة البقرة، الآية 251). إن الاختلاف بين الناس، وما يشكِّل الاختلاف من تَدافُع، يشكِّلان أحد أهم موجبات عدم فساد الأرض.

هناك فوارق كثيرة بين علاقة الإرادة وعلاقة الفرض: العلاقة الأولى هي نتيجة حوار وثمرة تفاهم، وهي، بالتالي، فعل إرادي تحقق المحبة والاحترام والثقة؛ أما العلاقة الثانية فهي حال تنكُّر لحقِّ الآخر وتجاهُل لتمايُزاته ولخصائصه، وتجاوزٍ للحوار كوسيلة لفهمه وللتفاهم معه، وهي، بالتالي، حالٌ مفروضة. وكلُّ ما هو مفروض مرفوض من حيث المبدأ، ومن حيث الأساس؛ ولذلك فإنها لا تحقق سوى البغضاء والكراهية وعدم الثقة.

أرسى مجتمع المدينة المنوَّرة في عهد النبي محمد قاعدة لإقامة نَسَقٍ تعاوني بين فئات الناس، من مؤمنين وأهل كتاب، في أمة واحدة. الوثيقة النبوية أقرَّتْ أصحاب الآراء على آرائهم وتكفَّلتْ بحمايتهم كما هم. قام مجتمع المدينة على قاعدة نشر الدعوة مع احتضان الاختلاف، وليس مع تجاهله ولا مع محاولة إلغائه.

حاور النبي نصارى نجران في بيته في المدينة المنورة وأحْسَنَ وفادتهم. وعندما حان وقت صلاتهم، لم يجد النبي أيَّ غضاضة في دعوتهم، كما تذكر رواياتُ ثقة، إلى أداء صلاتهم. إن العقيدة، في الإسلام، تستقرُّ بالفكر اختيارًا ولا تُلْصَقُ باللسان قهرًا وإجبارًا. والقرآن الكريم يقول "لا إكراه في الدين" (سورة البقرة، الآية 256) – والـ"لا" هنا نافية وليست ناهية؛ أي أنها لا تعني "لا تكرهوا الناس في الدين"، ولكنها تعني أن الدين لا يكتمل، وهو لا يكون أساسًا، بالإكراه.

على قاعدة هذه السابقة النبوية في دولة المدينة الأولى فإن الإسلام لا يضيق بتنوع الانتماء العَقَدي، ولا يؤمن بالنقاء العرقي ("لا فضل لعربيٍّ على أعجميٍّ إلا بالتقوى"). فإذا كان التنوع من طبيعة تكوين المجتمع فإن الحوار هو الطريق الوحيد الذي يؤدِّي بالاختيار الحرِّ وبالمحبة إلى الوفاق والتفاهم والوحدة. ذلك أن البديل عن الحوار هو القطيعة والانكفاء على الذات وتطوير ثقافة الحذر والشك والعداء للآخر.

إن من مقومات الحضارة العربية–الإسلامية احترام الآخر والانفتاح عليه والتكامل معه، وليس تجاهله أو إلغاؤه أو تذويبه. ويشهد تعدد الأقليات الدينية والإثنية في العالم الإسلامي، ومحافظة هذه الأقليات على خصائصها العنصرية، وعلى تراثها العَقَدي والديني، وعلى لغاتها وثقافاتها الخاصة، على هذه الحقيقة وأصالتها. إن اعتراف الإسلام بالآخر، ومحاورته بالتي هي أحسن، وقبوله كما هو، لا يعود بالضرورة إلى تسامح المسلمين، بل إلى سماحة الإسلام وإلى جوهر الشريعة الإسلامية.

فالحوار – كالصداقة – لا يولد بالضغط ولا بالترغيب. علينا (كما جاء في وثيقة المجمع الفاتيكاني الثاني بشأن الحوار مع الإسلام) "أن نعمل تدريجيًّا على تغيير عقلية وذهنية إخوتنا المسيحيين لأن المهم بالنسبة إلينا، كما هو مهم بالنسبة للآخرين، محاولة اكتشاف الإنسان كما يعيش وكما يأمل أن يكون؛ ولا يهمُّنا الماضي بقدر ما يهمُّنا هذا الإنسان المتَّجه نحو آفاق المستقبل للحصول على عدالة أكثر، وحقيقة أكثر، وحبٍّ أكثر. هذا هو الرجل الذي يجب أن نعرف؛ ومع هذا الرجل فقط يمكن أن نشيد ونبني حوارًا أصيلاً وحقيقيًّا". ويستشهد النص الفاتيكاني بما قاله المستشرق ماسينيون من أنه "لكي نفهم الإنسان الآخر يجب أن لا نستولي عليه وندمجه فينا، بل يجب أن نكون ضيوفه".

إن للحوار أهدافًا مختلفة. فهو إما أن يكون وسيلة لتنفيس أزمة ولمنع انفجارها، وإما أن يكون سعيًا لاستباق وقوع الأزمة ولمنع تكوُّن أسبابها، وإما أن يكون محاولة لحلِّ أزمة قائمة ولاحتواء مضاعفاتها. في هذه الحالات الثلاث تكون مهمة الحوار هي العمل على:

1.    إبراز الجوامع المشتركة في العقيدة والأخلاق والثقافة.

2.    تعميق المصالح المشتركة في الإنماء والاقتصاد والمصالح.

3.    توسيع مجالات التداخل في النشاطات الاجتماعية الأهلية (كالأندية الرياضية والجمعيات الكشفية والمؤسَّسات التعليمية والاستشفائية).

4.    التأكيد على صدقية قيم الاعتدال وتوسيع قاعدتها التربوية.

5.    إغناء الثقافة الحوارية التي تقوم على عدم رفض الآخر، والانفتاح على وجهة نظره واحترامها، وعدم التمترس وراء اجتهادات فكرية صدئة من خلال التعامل معها – أي مع هذه الاجتهادات – وكأنها مقدَّسات ثابتة غير قابلة لإعادة النظر.

التفاهم

إن أي حوار يستلزم، من حيث المبدأ، تحديدًا مسبقًا لأمرين أساسيين: الأمر الأول هو التفاهم على ماذا نتحاور؛ والأمر الآخر هو التفاهم لماذا نتحاور. أي أنه لا بدَّ من تحديد منطلقات الحوار وقواعده.

ينطلق الحوار من قواعد منطقية وعلمية تعتمد على الحجة والبرهان، ويتوسل الجدال بالتي هي أحسن والموعظة الحسنة. فالله خاطب موسى بقوله: "اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري، اذهبا إلى فرعون إنه طغى. فقولا له قولاً ليِّنًا لعله يتذكر أو يخشى" (سورة طه، الآيات 42-44). ويأمر باتباع الحكمة في الدعوة: "ومن أحسنُ قولاً ممَّن دعا إلى الله وعمل صالحًا وقال إنني من المسلمين. ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالَّتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوةٌ كأنه وليٌّ حميم" (سورة فصلت، الآيتان 33-34).

وتأكيدًا لهذا المنهج ينهى الله المؤمنين عن اتباع أساليب السُّفهاء ومجاراتهم في السبِّ والتسفيه لمعتقدات الآخر: "ولا تسبُّوا الذين يدعون من دون الله فيسبُّوا الله عدوًّا بغير علم" (سورة الأنعام، الآية 108). و"لا بد لكي يبدأ الحوار أن يمتلك أطرافُه حرية الحركة الفكرية التي ترافقها ثقةُ الفرد بشخصيته الفكرية المستقلة، فلا ينسحق أمام الآخر لما يحس فيه من العظمة والقوة التي يمتلكها الآخر، فتتضاءل إزاء ذلك ثقتُه بنفسه، وبالتالي، بفكره وقابليته لأن يكون طرفًا للحوار، فيتجمد ويتحول إلى صدى للأفكار التي يتلقَّاها من الآخر."[2]

لذلك أمر الله رسوله أن يحقق ذلك ويوفِّره لمحاوريه: "قُلْ إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليَّ" (سورة الكهف، الآية 110)؛ "قل لا أملك لنفسي نفعًا ولا ضرًّا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرتُ من الخير وما مَسَّني السوء إنْ أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون" (سورة الأعراف، الآية 188).

فإذا امتلك أطرافُ الحوار الحرية الكاملة فأوَّلُ ما يناقَش فيه هو المنهج الفكري – قبل المناقشة في طبيعة الفكر وتفاصيله – في محاولة لتعريفهم بالحقيقة التي غفلوا عنها، وهي أن القضايا الفكرية لا ترتبط بالقضايا الشخصية. فلكلٍّ مجالُه ولكلٍّ أصولُه التي ينطلق منها ويمتدُّ إليها: "وإذا قيل لهم اتِّبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتَّبع ما ألفينا عليه آباءنا أوَلَوْ كان آباؤهم لا يعقِلون شيئًا ولا يهتدون" (سورة البقرة، الآية 170).

كما لا بدَّ، لكي ينجح الحوار، من أن يتمَّ في الأجواء الهادئة ليبتعد التفكير فيها عن الأجواء الانفعالية التي تبتعد بالإنسان عن الوقوف مع نفسه وقفة تأمل وتفكير. فإنه قد يخضع للجوِّ الاجتماعي ويستسلم لاشعوريًا، مما يُفقِدُه استقلالَه الفكري: "قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكَّروا ما بصاحبكم من جنة إنْ هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد" (سورة سبأ، الآية 46). فاعتبر القرآن اتهام النبي بالجنون خاضعًا للجوِّ الانفعالي العدائي لخصومه، لذلك دعاهم إلى الانفصال عن هذا الجو والتفكير بانفراد وهدوء.[3]

والمنهج القرآني في الحوار يرشد إلى إنهائه بمهمة وأداء رسالة يبقى أثرها في الضمير، إن لم يظهر أثرُها في الفكر؛ إنه أسلوب لا يسيء إلى الخصم، بل يؤكد حريته واستقلاليته، ويقوده إلى موقع المسؤولية، ليتحرك الجميع في إطارها وينطلقوا منها ومعها في أكثر من مجال".[4]

إن في ثقافة الحوار في الإسلام آدابًا وقيمًا ومنهجًا أخلاقيًّا يحترم الإنسان وحريَّته في الاختيار، كما يحترم حقَّه في الاختلاف وفي المجادلة. وفي النتيجة أن "من اهتدى فلنفسه، ومن ضلَّ فعليها وما ربك بظلام للعبيد".

*** *** ***

عن النهار، الأحد 17 تشرين الثاني 2002


[1] راجع، د. عمر مسقاوي في مقالة له في جريدة النهار بتاريخ 19/5/2001 حيث يقول في مفهوم الذمية: "والذمة هنا ليست ذمة حماية فوقية كما هو أسلوب الحضارة الغربية المعاصرة، بل هي وعاء الذاكرة الإبراهيمية. وتعبير "لهم ما لنا وعليهم ما علينا" هو تكملة مفهوم أهل الذمة. وهذا يعني أن السلطة حين تأخذ بعدها التنظيمي في المفهوم الإسلامي وتنتقل إلى صيغة جديدة في مفهومنا الحديث يصبح وعاء الذمة هو الوعاء الوطني. والوعاء الوطني هو الذمة المتبادلة بين الذين هم في إطارها."

[2] عبد الرحمن حللي، حرية الاعتقاد في القرآن الكريم، المركز الثقافي العربي، المغرب، 2001، ص 94-96.

[3] عبد الرحمن حللي، مرجع سابق.

[4] أنظر: فضل الله (محمد حسين)، "الحوار: أبعاد وايحاءات ودلالات"، مجلة المنطلق: ص 16، عدد 105، ربيع الأول 1414 هـ.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود