السرُّ

 

محاسن الجندي

 

كنت شاهدةً خفية على كلِّ شيء. لا أحد يعرف ما عرفت. لذا ترونني حائرة: ماذا أفعل بهذه الحقيقة التي باتت ملك يدي؟!

وإذ هدَّني التعب، ولم أعد أحتمل، قررت أن أروي لكم ما حدث. فلتقرِّروا أنتم، ولتقدِّروا مدى عذابي بامتلاكي ذلك السرَّ الذي ما فتئ يعذبني ويلحُّ عليَّ، كمسمار طويل داخل دماغي.

تعرفت إليهما في الجامعة، وصرت صديقة مشتركة لهما. كان كلٌّ منهما نقيض الآخر في شتى المناحي – حتى في المظهر.

كامل أبيض اللون، ذئبي العينين، طويل القامة، ساحق التأثير، تتبعثر خصلات شعره السوداء على جبينه وكأنها تعكس، دون أن يدري، ذلك الترف واللامبالاة والفوضوية في سلوكه. إضافة إلى صفة أخرى تميِّزه عن الآخرين: تلك النظرة البعيدة التي تُشعِرُك أنك أمام كهلٍ في السبعين. ما كان يرعبني حقًا في شخصيته فلسفتُه ورؤيته للوجود. وإن الرجفة لتسري في جسدي كلما أتذكر عباراته. كان يهمس لي:

-       نمير! أنا إنسان معذب، قلق... أريد أن أنجو من هذه التفاهات. إني أشبِهُ أسطوانةً تتسرب منها الحياة كفقاعات... يتملكني شعورٌ دائم لا يفارقني، أنني في صحراء قاحلة والصمت يطوِّقني، والشوك ينبت من حولي... ماذا يعني لكِ ذلك؟

أجيب بحيرة وتلكؤ:

-       لست أدري!

-       طيب، أنا أجيب. يعني أنني في حرب لا نهاية لها... حرب وجود مع عدوٍّ ليس من هذا العالم... هناك لحظات نادرة أشعر فيها أنني أمتلك العالم... ثم فجأة ينزلق من يدي كصابونة، فلا أرى غير الهواء الفارغ من كلِّ شيء... إلا الصمت... و كأن الكون يتحول إلى ضباب وسديم وعدم.

أقول محاولة أن أسرِّيَ عنه وأبعث شيئًا من الأمل في نفسه:

-       لكنك شاب في مقتبل العمر، ولا ينقصك مالٌ ولا جمال ولا ذكاء... والمستقبل أمامك.

يُسكِتُني بصوته الخافت المخيف:

-       عن أيِّ شيء تتحدثين؟ أنا روحٌ يابسة... خلاياي من ثلج... لا شيء يُفرِحُني، ولا شيء يُحزِنُني... قولي – بربِّكِ – أهناك طريقٌ أبعد من هذا الموت؟!

أجيب ببلاهة:

-       لا أعرف. ولكنك إن استطعت أن تحب... أن تحب أسرتك، أصدقاءك، المرأة... ألا تحب ربيعًا؟ كم تبدوان رائعين حين تلتقيان!

يقاطعني ساخرًا ثم يضحك بألم:

- هذا هو الجحيم بعينه! إنه لعذاب أكتوي بناره كلَّ يوم. إنني عاجز... كففت عن الانفعال منذ أمد بعيد. قَسَمًا إنني حاولت أن أرتدي عباءة الحب، ولو كانت مدججة بالدبابيس! أتوق للاحتراق بأية نار...

كنت أتلقى كلماته في خوف وألم وقلق. حاولت مساعدته لكني فشلت.

في إحدى المحاضرات قاطع الأستاذ، مدهشًا إياه بفلسفته:

-       دعني أقول لك شيئًا عن تاريخ البشرية يا أستاذي العظيم. نحن البشر عبارة عن نمل يداس بحذاء غير مرئي لإلهٍ لسنا ندري ما هو. كل ما في الأمر أننا أمام شاشة سينما... حروبنا، معاركنا، سِلمنا، سعادتنا... ليست سوى أطياف ترقص وراء هذه الشاشة اللعينة. إننا من الهشاشة بحيث لا نملك أن نرى ما وراء هذا العالم. قل لي: ألم يتعب فان كوخ من البحث عن الحقيقة، فضرب صدره برصاصة!

أجابه الأستاذ معجبًا:

-       لكنه مضى جسديًّا، وبقي فنُّه أثرًا خالدًا عبر الأجيال.

أجابه متبرمًا:

-       وهم الخلود! يا للكارثة! وماذا أفاده فنُّه في أثناء حياته؟! لقد مات وهو يتضور جوعًا للخبز، للحب، للرأفة الإنسانية.

أصدقكم القول، كنت في تلك اللحظات أزداد إعجابًا به وبفلسفته. لم أكن أعلم أنها هوة عميقة يحفرها ليغيب في أعماقها دون عودة. كثيرًا ما كان قدوم ربيع يعدِّل الجو المأساوي.

ربيع! ما زلت أذكره وغُصَّة تملأ فمي. كان أسمر اللون، رياضي البدن، بريء الملامح كوجه طفل، نقي السريرة، عفوي السلوك، محبوبًا من الجميع. شعاره في الحياة: "الدنيا جمال وخير ومتعة لا تنضب"! عاشقٌ لها متصوف بجدارة. علاقته بالكون علاقة تفاعل وحب ورقة. الحيوية والعطاء سرُّ وجوده.

ما كان ينغصُّ عليه هو سوءُ أحواله المادية، اضطرارُه إلى العمل في أحد المصانع لساعات طويلة، مما يُشعِرُه بأن وقته يُغتَصَبُ منه، فيخترع المعجزات ليعيش مع الجميع لحظات رائعة، كثيفة.

كان حضورُه ضرورةً لا غنى عنها بالنسبة لنا. فمرحُه وبساطتُه ينشران عبق السعادة، وفكرُه جاهز دومًا لحلِّ أزماتنا، وحيويتُه الخارقة حاضرة لاختراع المناسبات والنزهات. كأني أراه الآن أمامي في إحدى الرحلات الجامعية التي أعدَّ لها بنفسه...

كنا نجلس متحلِّقين بعد الغداء، نروي أحاديث طريفة، ونتسامر... فإذا به يظهر، فجأة، ممسكًا عودًا ودفًّا، فيناولهما إلى صديقنا رعد موبِّخًا:

-       يا للرعب! يا للبلادة! انظروا إلى أنفسكم كيف تجلسون كالعجائز!

ثم يتوسط الجميع ويلتفت إلى رعد:

-       هات يا رعد! عودك رنَّان! عودك رنان يا علي...

ثم يأخذني من يدي، ويخاطب الجميع:

-       أيها الأصدقاء! الرقص لغة الروح التي تمنحها العطر والشذا... لغة أذكى من الكلام، الكلمات فيها أشرس! سنرقص كخيل أيقظها القمرُ في قلب المراعي، كالعصافير التي تندفع إلى جريان الأشياء التي لا تُضبَط... سنندفع هكذا...

و بقفزةٍ واحدة يصير إلى جانب فتاةٍ منزوية شاردة... يقترب منها ويقول لها:

-       لو أطبقتْ كلُّ كهوف الحياة على رأس الإنسان فإن الحب سيكشف عن جذوره، حتى في أعمق أعماق الجحيم! إذا كنتِ تحبينه فاجعلي الحبَّ يُلهِبُ الإله في أعماقك، فيخرج ويتنفس بحرية. انظري إلى الأغصان والأزهار: إنها ترتجف شوقًا لمبادلتنا الحب... إنها كالأنثى التي لا تعيش إلا بالحب والحنان.

ثم يركع بحركة مسرحية، ويقدم لها زهرة قائلاً:

-       من الطبيعة الأم إلى الابنة البارة...

يشرع في الرقص معها... متأججًا، ملتهبًا كنار تشتعل. يقترب من كامل ويصرخ:

-       أيها النذل، أيها المعقد! ليسقط الحزن واليباس! انظر إلى الشمس الذهبية كيف تدعونا لشهوة الحب والانخطاف... للانعتاق...

يقاطعه كامل:

-       تناديك وحدك! لا أشعر أن أحدًا يناديني. لا شيء يناديني... وإذا كنتَ سعيدًا فاتركني وعفَّ عني، يا أخي!

إذا سألتموني، أيها السادة، ما هي أجمل الأيام التي عشتُها في حياتي فسأقول: تلك هي قضيتُها برفقتهما... أحب اثنين إلى قلبي، وأصْدَق من عرفت... لكن لا شيء يستمر... ليس هناك يوم يشبه الآخر، ولا ساعة كسابقتها.

في يومٍ من أواخر الصيف رأيت كاملاً يخاطب شخصًا مريبًا، يعطيه رزمة من النقود، ثم يلتفت حوله بارتباك، فتقع عيناه عليَّ. يلوِّح لي، يقترب مني. يبادرني:

-       مرحبًا نمير... أخيرًا سأرتاح...

لم أدعه يكمل:

-       من هذا الرجل؟

-       لا تأبهي... زميل قديم من أيام الثانوية، رفيق الحارة... وسوف يساعدني. كلُّ ما في الأمر أنه سيعدُّ لنا نزهة جميلة إلى البحر قبل أن يأتي الخريف.

وبضحكة صفراء يتابع:

-       ألا تتذكرين قول ربيع: "البحر ينادينا لنغوص في غموضه الرائع!" وها نحن نلبي النداء... هل أنا مخطئ؟

ويصرُّ قائلاً:

-       ستذهبان... وإلا سنغضب – أنا والبحر – عليكما!

عندما غادرني خالجَني شعورٌ مبهم، وساورتني الشكوك حول الرجل الغامض.

جاء يوم الثلاثاء. كانت بداية الخريف. قضينا يومًا، لكنه ليس كالأيام. مازالت آثار علقمه عالقة في حلقي إلى الآن.

كنت أراقبهما، وهما في لباس البحر يقتحمان الموج. يغيبان تحت الماء الفضي، ثم يظهران بعد قليل في مكانٍ آخر، وقد التمع جسداهما تحت أشعة الشمس التي تبارك تدفق نبض الحياة فيهما. يطفوان، يغوصان، يعبثان، يتضاربان، يتسابقان سباحةً، تراشقًا، كدلفينين في استعراض سيرك عالمي. يصل صوتُهما إلى أذني عابرًا الأثير، جاهلاً ضجيج الحياة، كإلهين حقيقيين من آلهة الجمال والنقاء.

فجأة غاب صوتُهما، وعلا صوتٌ آخر... صوت طلقات نارية. طاخ... طاخ... طاخ... لم أميِّز في البداية شيئًا. ثم رأيت كاملاً يصرخ ويدعوني إليه بإشارات جنونية. وصلت إلى طرف الشاطئ، فشاهدت ربيعًا مسجًّى أمامه، ودمُه ينزف بغزارة. يا إله السماوات!‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‌‌‌‍‍‍‍‍‍‍‍‍ إنه مصاب برصاصة! عصفت بي الدنيا ساعتئذٍ، وضربتني كالمطرقة على أمِّ رأسي. صرخت، عويت كذئبة مجروحة. احتويت جسده بين ذراعي، خاطبتُه، وأنا أضرب وجهه:

-       لا تمتْ... أفِقْ... أرجوك... لا تغمض عينيك!

نظر إلي نظرات زائغة، وبابتسامة شاحبة تمتم:

-       لا تحزنا... قلت لكما إنها الحياة... حلوة، ماكرة، وقصيرة...

ثم أطبق عينيه وسكت... إلى الأبد.

كان كامل إلى جانبي يرتجف ويهذي، مصفرًّا، شاحبًا كالموتى.

-       أنا قتلته، قتلته... لا، لا، أنا بريء! قلت لذلك السافل أن يقتلني أنا، قلت له أن يقتلني وأنا أتعمد في مياه البحر، لأنني جبان! أنا جبان، رعديد مجنون... أنا مجنون...

عندئذٍ هجمت عليه بكلِّ قوتي، وبدأت أضربه بجنون صارخة:

-       لماذا؟ لماذا فعلت ذلك؟ جبان... وغد... حقير...

أخذ يبكي ويصرخ، ممرِّغًا وجهه في دماء ربيع تارةً، وفي الرمال تارةً أخرى.

-       أيها الإله! لقد سمعتَني... نعم، كنتَ موجودًا، وسمعتني... سخرتَ مني... سخرتَ مني...

لم أعد أسمع شيئًا من هذيانه. فقد اكفهرَّت السماء، وهاج البحر واصطخب، وأخذت أمواجُه تلطم جسد كامل. امتلأ الأفق بالنوارس الغاضبة المرتعدة التي حطَّتْ حول جسد ربيع. شقَّ البرق أفق السماء، وهطل المطر بغزارة، حزنًا ودموعًا مدرارة. إنها الطبيعة تعزف سيمفونيَّتها الجنائزية، مشحونة بالغضب والرعب، لموت عاشقها الكبير.

لم أدرِ كم مضى من الوقت وأنا أضم الاثنين، صارخةً نادبة. لكن الوقت فات، ولم يعد للبكاء معنى. وها أنا ذا أجلس وحدي – معهما وبدونهما. أستعيد ما جرى، ولا أصدق. أهو كابوس؟ أم حقيقة؟ أم خيال؟ بل هي الحقيقة كما جرت معي.

بقيت وحدي أحمل ما كانا يحملانه عبئًا فوق كاهلي، وسوسًا ينخر. أيهما كان على حق؟ أيهما المخطئ؟ من أدار ظهره للحياة؟ ومن فتح صدره لها؟ أم أن شخصًا مزيجًا من الاثنين هو المحق... أو ربما شخص مختلف عنهما.

ما رأيكم أنتم في هذا السرِّ الذي ما انفك يعذبني... كمسمار طويل في دماغي؟

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود