|
فسيفساء
[تجربة]
ألان
الصالحاني
(بوسورمان)
فسيفساء
الهذيان
المسرح
مقسم إلى خلايا صغيرة. الإضاءة مرسَلة بشكل
يسمح للمشاهد أن يرى خلية واحدة فقط يجري
ضمنها الحدث. عند الانتقال من خلية إلى أخرى،
أي من مشهد إلى آخر، تنقطع الإضاءة لوهلة،
ليسبح المسرح في الظلام؛ تليه ومضة تضيء
المسرح بالكامل، تدوم لوهلة، يليها الظلام،
ثم المشهد الجديد. * الفسيفساء
الأولى
باحة
مسجد قديم، ثلاثة رجال من المتصوفين، بحسب
لباسهم، يدورون حول بحرة يتدفق منها سائل
أسود. الدوران ثنائي: يدورون حول أنفسهم، وفي
نفس الوقت حول البحرة. حين ندقق في وجوههم لا
نرى أيَّ أثر لأية نشوة روحية؛ لا شيء سوى
الخوف ورغبة هيستيرية في الهرب بعيدًا. يظهر
شخص رابع: مهطعين
لاهثين كانوا، وكنت ألهث معهم. أنتقي اللحظة،
الإيقاع، وألهث، وأرقص، أدور حتى تنفرج
الأرضُ–السماءُ
وأصبحَ مركزًا يجذب ويدفع بالقوة ذاتها، ولا
أفهم أبدًا لماذا كل هذه العجلة... يتوقف
عن الدوران، يمد رجله. يتعثر بها الهارب
الأول، فالثاني، فالثالث. [ظلام.] * فسيفساء
الإيمان
صالة
في كنيسة بيزنطية منسية في مساء دائم، تحركها
الظلال وأصداء لكورال بعيد، بعيد... رجل
يقف وسط الصالة، لا نرى منه إلا ما يكفي لنجزم
بأنه يلبس مزقًا ملطخة بشيء غامق اللون
وصندلين. عند قدميه تتأوه ظلال مطروحة على أرض
غير مرئية. يضيء
وجه الرجل من تلقاء نفسه بضوء شاحب ونسمع: "يهوى تسجية الموتى، يبحث
عنهم، يقصدهم في بؤر الأوبئة، يلثم وجوههم
المتقرحة، ثم تغمره الغبطة، فيتلو صلاته،
جامعًا كفَّيه أمام صدره، مناجيًا ربَّه،
طالبًا منه المزيد، المزيد..." يعلو
الكورال البيزنطي، يصبح صوته، مائة، ألف صوت.
تختلط الأصداء، تُسمَع أصوات سيوف وصرخات
محتضرين. يُسمَع صوت باب يُخلَع، ثم صرخة بوم
كبير: يعلو،
يعلو الكورال البيزنطي الأخير وتسقط
القسطنطينية... * فسيفساء
الانعكاسات
عمودان
خشبيان – أو نصفا عمودين لأن النصف الآخر
مختفٍ في الظلام. مشنوقان معلقان بالعمودين:
أحدهما تتدلَّى ساقاه في اتجاه جاذبية الأرض،
والآخر تتدلَّى ساقاه في اتجاه جاذبية القمر؛
أحدهما خيال الآخر في مرآة غير مرئية،
تداعبُهما ريحٌ آتية من محيط غير مرئي يتلاطم
موجه، هناك بعيدًا... وجه
المشنوق الأول مضاء وساكن. قدما المشنوق
الثاني مضاءتان متحجِّرتان. المشنوقان
تداعبهما الريح. عينا المشنوق الأول مغمضتان
وساكنتان، يسيل من أنفه سائل أسود. يفتح
المشنوق الأرضي عينيه فجأة، فتختفي الإضاءة
لوهلة، ثم تضاء رجلاه المتحجرتان
والمداعبَتَان. ومقابلهما يضاء وجه المشنوق
القمري: عيناه مغمضتان وساكنتان، يسيل من
أنفه سائل أسود باتجاه القمر. يضاء
المشهد بالكامل. يتحدث كل وجه مع خياله: مع
القدمين. "لم ألتقِ به
أبدًا. حيث يكون لا أكون، وحيث لا أكون يكون.
لسنا شخصًا واحدًا – وإن كنت أشك في وجود أكثر
من شخص واحد. كلانا يقيم الصلاة لربِّ واحد؛
كلانا تبرَّأ له؛ كلانا تاب له؛ كلانا يسفح
الدمع ويرجم العاهرات: يكفِّر بالرجم عن
خطاياه، وبالدمع عن رغباته. كلانا الإله..." * الفسيفساء
الرابعة
ساعة
رملية ضخمة: في قسمها العلوي شمس كبيرة، تبدو
محرقة للغاية؛ في القسم السفلي على كثبان من
الرمل رجل يلبس لباس أهل الصحراء من الأعراب،
يبدو عليه الإعياء والعطش، يمسك كتابًا
كبيرًا بيديه الواجفتين، ويتلقى شلالاً من
الرمل على رأسه يأتيه من القسم العلوي... يقرأ: "أغسطس، العام
الأول بعد الهجرة وقبل الميلاد. أنا الرحالة
الأول والأخير. لن يأتي بعدي من هو أعظم مني
لأنه كان قبلي..." يبتسم بجنون، يرفع عينيه
إلى القسم العلوي بشيء من التحدي، يتلقى
الشلال الرملي الذي يملأ فمه وعينيه، يبصق
بشكل متكرر ويدعك عينيه بيديه. يصرخ: "لن
يأتي بعدي لأني لن أترك أي كتاب. سأحرق هذا
الكتاب [يلوِّح بالكتاب]. لن أنتظر اكتماله
حتى..." يخفض صوته، بيأس: "لأني لن أجد أية
نهاية." يصرخ: "لأنه ليس ثمة أية نهاية..."
يضرب زجاج الساعة الرملية... تنطفئ الأضواء.
نسمع صوت زجاج مكسور. * الفسيفساء
الخامسة
مقهى
صغير في المدينة القديمة. الوقت شتاء، الصالة
مشبعة بدخان نراجيل أزرق، صوت غرغرة وزجاجات
نراجيل مليئة بسائل أسود، حكواتي يجلس وسط
المقهى، قرب المدفأة الأسطوانية، يمسك
كتابًا لا يقرأ منه شيئًا، يجول بناظريه في
جمهرة المستمعين: "أغسطس،
العام الأول بعد الهجرة بانتظار الميلاد.
الحرُّ شديد والرمال تبتلع كل شيء: السماءَ،
الرمالَ، والشمسَ، وتلفظ القيظ، ويبدو
العالم مائلاً، مشوهًا وغير كامل..." مع
كلِّ كلمة يتلفظ بها الحكواتي تظهر في إحدى
زوايا المسرح خلية جديدة تتحقق فيها كلمات
الحكواتي: فنرى أغسطس، ونكاد نقسم بأنه رجل
الساعة الرملية ذاته، ونرى الساعة الرملية،
ولكنها الآن مكسورة وشلال الرمال توقف... * الفسيفساء
السادسة
مقهى
صغير في المدينة القديمة، وكأنه المقهى ذاته؛
لكن الوقت صيف. نوافذ المقهى مفتوحة،
والمراوح الكهربائية تئن وتزعج الذباب. رجلان
يجلسان إلى طاولة في زاوية المقهى. المقهى
فارغ لأن لا أحد يأتي إلى المقهى في مثل هذا
الوقت من النهار. يشربان زجاجتي مياه غازية
ساخنتين: -
البارحة جاءنا سفيه يدَّعي
المعرفة بأمور الفلك والرياضيات، وراح يؤكد
أننا في العام الأول بعد الهجرة وقبل الميلاد.
ولم يكتفِ بهذا الادعاء السخيف، بل وصلت
وقاحته إلى حدِّ التشكيك بالميلاد نفسه،
مفترضًا – هذا ما قاله – أن أصل الكلمة "الميعاد"،
وأنها حُرِّفَتْ، وأنه يحمل وثيقة تثبت
ادعاءه هذا. ثم تجاوز كلَّ حدود المعقول إلى
الافتراض بأن الهجرة تعني هجرة الطير، وأن
الهجرة قبل الميعاد حادثة طبيعية. هكذا قال:
طبيعية، وأنه راقب مثل هذه الحوادث في بلاد
الشمال. وأظنه كان سيصل إلى ما هو أخبث من هذا
وذاك، لو أن معاليهم لم يشيروا إليَّ بقطع
رأسه. -
وما رأيك في كل هذا؟ -
أنا لا رأي لي ولا شأن غير قطع
الرؤوس، بالإشارة. وليس الأمر سهلاً، كما قد
يبدو لك للوهلة الأولى. فلقطع الرؤوس أصول
وللإشارات أصول. تقع بعض الأخطاء أحيانًا: فمن
يعطي الإشارة إنسان – وإن كانوا معاليهم لا
يُقارَنون بسواد البشر، وقد يحدث أحيانًا أن
يشعروا بألم في الخنصر أو السبابة فيرفعوا
أحدهما بدل الآخر. أما أنا فلا أخطئ أبدًا. أحد
السفهاء جاءنا بآلة لقطع الرؤوس، مدَّعيا
أنها لا تخطئ أبدًا. ابن الزانية، كان سيفقدني
عملي. لكني أكَّدت لمعاليهم خطأ ادِّعائه هذا
حين رفعوا الإصبعين معًا، ها ها ها، ففقد رأسه. -
هل تشعر بشيء حين تقطع رأسا؟ -
هذا سؤال جميل... يبتسم
معبرًا عن جمال السؤال... [ظلام.] * الفسيفساء
السابعة
الساعة
الزجاجية، سليمة معافاة. تغيير طفيف: الرمل
موجود في كلا القسمين، كما في السابق، ولكنه
لا يتدفق من الأعلى نحو الأسفل، ولا يتدفق من
الأسفل نحو الأعلى. الرمل لا يتدفق لأن
الاختناق بين القسمين مسدود بشخص يجلس على
كرسي جلدي وثير وواسع، ويمسك بيدٍ عودًا
وباليد الأخرى ريشة، ونسمع أنغامًا مبهمة،
وإن كانت اليد لا تتحرك. الشمس
لم تعد مهيبة كما كانت، بل تقبع بشيء من
الحياء في القسم السفلي تحت كثبان الرمال،
ويعلو في القسم العلوي هلال أو بدر ربما. من
الصعب أن نجزم، إذ يكفي أن نحرك رأسنا قليلاً
ليصير البدر هلالاً أو الهلال بدرًا. لذا
سنكتفي بالتأكيد على ما هو أكيد، ألا وهو أن
ما في القسم العلوي هو قمر، أو ربما حتى هو
القمر بعينه... نسمع: القمر
لا يغيب هنا. لا يطلع القمر هنا ولا يغيب.
القمر بدر هنا وهلال، ثم بدر وهلال، وهلال
وبدر، ثم... القمر هنا إيقاع [صوت دَرْبُكَّة
لا نفهم ما علاقة القمر بها]، وهو تحت القمر.
هو فقط، لا سواه، تحت القمر، هو بالذات. يمسك
بيده عوده تحت القمر ويعزف [يحاول أن يعزف
لكنه لا يعرف العزف – وكان قد أخبر القائل
مائة مرة أنه لا يتقن العزف على العود ولا على
غيره من الآلات الموسيقية. نسمع صوت نشاز
يشوِّه الأنغام المبهمة] ويغني [يبقى صامتًا،
ثم يفتح فمه كسمكة، فنسمع صوت غناء يرافق
الأنغام المبهمة] للقمر، ربما،لأن القمر
إيقاع. كلنا بانتظار الميلاد؛ كلنا تحت الشمس
ابتلعتها الرمال؛ كلنا في أغسطس وأغسطس فينا؛
وهو تحت القمر بانتظار القمر والقمر بانتظاره... [ظلام.] * فسيفساء
المونولوج
ليل
في شارع مدينة كبيرة. يضيء المشهد مصباحُ شارع
مرتفع وقبيح، في أعلاه قط يتدلِّى معلقًا من
ذنبه، لا تبدو عليه سمات أيٍّ من حيواته
السبعة. تحت
المصباح يقف مرتجفًا من برد. لا نشعر به
كمشاهدين؛ لكن من الضروري أن نخمِّنه: فتى
جميل الوجه، في الرابعة أو الخامسة عشرة من
العمر، يلبس ثيابًا سوداء ضيقة، فتبدو جلية
تضاريس جسمه الرشيق. تنطفئ الإضاءة، ثم تظهر
دائرةٌ تتركز على قفا المراهق وإليتيه
المتحركتيْن بشكل دائم نظرًا لقرصات البرد
المستمرة. نسمع: "الليل
وأشياء أخرى... هل في هذا الليل أشياء أخرى؟
ليس لديه ما يفكر فيه حين يقف هنا، لذا يحاول
أن يفكر في أشياء أخرى، في الأشياء الأخرى،
ويخفق دومًا." تعود
الإضاءة، الصوت يلقِّن الفتى كل حركاته
والمشهدَ كل تغيراته: يتلمس
جيبه، يفعلها للمرة الألف، وللمرة الألف
يرتاح للملمس الذي يبدأ مقاومًا صادًّا، ثم
لا يلبث أن يصبح ناعمًا، يذوب بين الأصابع. لا
يعرف أيهما خلق الآخر: الليلُ الترياقَ؟ أم
الترياقُ الليلَ؟ أم الليلُ الليلَ؟ أم
الترياقُ الترياقَ؟ أم... تقف
السيارة [نسمع صوت توقف سيارة، لا نرى منها
إلا ضوئي المصباحين الأماميين]. السيارةُ
لأنها تقف دومًا. اللون ليس مهمًّا، الشخص على
الإطلاق، الجنس أيضًا، العمر؟! العمر... ظلام،
ثم قفا مضيء، عارٍ هذه المرة، له عينان
تبكيان، الدموع سوداء، الأنف مثبت في فتحة
الشرج. نسمع صوت أنَّات لا تترك أيَّ مجال
للشك. عينا القفا تتوقفان عن إفراز الدموع،
وتبدآن بإفراز الكلام: هؤلاء
ليسوا... ليسوا أناسًا؟! يا للغباء، لا يهم. ما
يحصل ليس مهمًّا. الجسد أقذر من أن يكون، أن
يُخلَق، أقذر بكثير... دوامة من الإفراز، من
الثغرات، من الأخطاء اللزجة، العمودية
الأفقية، السماوية، الحمراء المتداعية،
الكاذبة، الكاذبة [ترافق الكلمات الأخيرة
ومضاتٌ لمشاهد مشهورة. كلمة "السماوية"
تُرافَق بمشهد لطيران حرٍّ تنجزه قطرة سائل
أسود معروف المصدر]. يتمدد الأنف الأسود ويسقط... يضاء
وجه الفتى من جديد. الوجه لم يعد وجهًا، بل
قناع غير محدد الملامح، قناع يستوعب كلَّ ما
لا يمكن أن يستوعبه وجه الإنسان من حقدٍ
وتكشيرةٍ تمتد حتى الأذنين... يصيح
القناع ناظرًا إلى الساعة الرملية [التي تظهر
في إحدى الزوايا والتي تبدو الآن وقد اختفت
منها الرمال بلا فائدة تذكر]: أخرق،
خلقك أخرق. التمثال في الساحة الرئيسية أجمل.
لا يهم، أنت وعالمك وأخطاؤك وأجسادك نفاق،
يمحوه النفاق؟!!! كلا، ينبغي ألا يخدعني الشكل.
الصوت، يمحوه... يمحوه... الترياق!!! يُخرِج
من جيبه حفنة من مسحوق أسود يبتلعه. يسقط
القناع، فيظهر القفا. يتمدد الأنف، لا يسقط
هذه المرة، بل يستمر، يستمر، يستمر في التمدد... [ظلام.] * الفسيفساء
الأولى
سرير
أبيض – أو هذا ما نستطيع أن نخمِّنه لأن
الظلام تام في هذه الخلية أو شبه تام، تام بما
يكفي لنرى ما يجب أن نراه، ما يكفي أن نراه.
السرير من نمط أسرَّة المشافي: سرير يحب الصخب
والعنف، سرير يعيش حياة مستقلة عن حياة من
يستقله، له أحلامه وله أيامه ولياليه، سرير
يكره من يستقله ويحبه في آن واحد، لأنه بدون
من يستقله نظيف وأبيض، ممل وشاحب وكئيب...
مجرَّد. على
السرير رجل نائم. الظل لا يخبرنا بالمزيد.
أنين النوابض الصدئة لا يسمح بالحكم على نوم
المستلقي أو يقظته. على كلٍّّ فوضعية الظل
المستلقي تبدو أنسب للنوم لا لليقظة... فوق
السرير أحرف فوسفورية، تظهر ببطء، الواحد تلو
الآخر، تُمَّحى وتُصحَّح من وقت لآخر؛ فكأنما
يكتبها شخص لا خبرة له بفنون الضرب على الآلات
الكاتبة... نقرأ ونسمع: ........................................................................................... لا
تقلقي. النقاط لا تعني شيئًا. لم يَفُتْكِ شيء.
كان من المفترض أن تكون هناك بداية ما. كل
رسالة يجب أن تبدأ ببداية. لكني لا أذكر اسمكِ
ولا تاريخ هذا اليوم. نسيت حتى تاريخ السنة
التي نحن فيها. حاولت أن أتذكر صيغة ما لأبدأ
بها، لكني لن أنجح. طوال حياتي كنت أبدأ
رسائلي بصيغ تعلَّمتها في المدرسة. الآن نسيت
كل شيء. أظنني كنت قادرًا حتى على ابتكار صيغة
ما، غبية ربما، مليئة بالأخطاء اللغوية،
لكنني كنت قادرًا. أما الآن... لا أدرك تمامًا
سبب كتابتي لك. هل يكتب كل المرضى رسائل؟ ليس
الملل سببًا لرسالتي هذه. أكتب في الظلام،
أنتظر الظلام لأكتب، لأني لا أستطيع تصور
الحروف في النهار. لا أدري بماذا أشعر حين
أكتب لك. أشعر... أشعر بالسكون، ربما... نعم
بالسكون. الطبيب قال إنني من أفضل مرضاه.
سألني عنك. حاولت أن أتذكر شعورًا ما حيالك،
امتلكتُه ربما يومًا، لكني لم أنجح. أظنهم
يريدونني ألا أنجح، أن أدرك أنه ليس هناك ما
يثيرني، أن ما كان يثيرني لم يعد يثيرني.
تركوا لي شاهدًا، شواهد، فسيفساء من المشاهد
التي كانت تثيرني فيما مضى. أعرف هذا بكل
تأكيد، لا أعرف كيف، لكني واثق مما أكتب.
لكنها لم تعد تثيرني الآن، لم تفقد معناها،
كلا لأنها لم تمتلكه يومًا. لكني فقدت... فقدت...
القدرة على... على... الابتكار، على ابتكار
المعاني ومنحها للأشياء، للحوادث، للفراغ... الطعام
هنا لذيذ، ورائحته طيبة. جيراني يتهامسون
بأنهم يضعون لنا الأدوية في الطعام. لا أذكر
إن كنت قد كتبت هذا مسبقًا. لا أستطيع أن أعود
إلى الوراء بعد، أقصد لأقرأ ما كتبته مسبقًا.
جاري الذي إلى يميني أصبح قادرًا، وكثيرًا ما
يعود ليصحح خطأً إملائيًّا أو يضيف كلمة ما.
أعرف أن رسالتي ستكون مليئة بالأخطاء، ولكن
عليك بالصبر. فلا بدَّ أن أتعلم أنا أيضا هذه
التقنية. عندها سأعيد قراءة الرسالة حتى
أكتشف كل الأخطاء. لا أدري إن كنت ما زلت
قادرًا على اكتشاف الأخطاء. لا يهم، سأكتشف كل
الأخطاء. حين
أراك تكونين عارية على السرير – مع أنني لم
أركِ عارية يومًا؛ أنا واثق تمامًا من أنني لم
أرك عارية. وحتى لو رأيتك عارية كنت سأشيح
بوجهي فلا أراك. أما هنا فلا أستطيع أن أشيح
بوجهي، أشيح به إلى أين؟ إلى أين أشيح به؟!
أراك عارية وأرى شخصًا آخر. لست متأكدًا، لكني
أظنه رجلاً. وأحيانا أرى أكثر من شخص واحد. أنا
لا أرى جيدًا حين أقف بعيدًا، أظنه قِصَرُ
البصر وأظنني كنت ألبس نظارة فيما مضى، لكنهم
أخذوها مني، أو ربما سقطت عن أنفي في مكان ما. أذكر
كل شيء، كيف كنت أعود متعبًا، دومًا، أعود
مساءً ومتعبًا، متعبًا ومساءً وسعيدًا. كلا،
لا أذكر إنْ كنت أعود سعيدًا، لكني كنت أعود
على كل الأحوال، ولا أجدك أبدًا حين أعود. أجد
السرير مجعدًا وقذرًا ومليئًا ببقع من مختلف
الألوان والأشكال، أجده جاهزًا لاستقبالي.
كنت أحاول دوما أن أحصي عدد البقع، ثم عدد
الطيات. إحصاء الطيات كان صعبًا، صعبًا
جدًّا، لأني لم أكن أعرف عند أيِّ مستوى من
الدقة يجب أن أتوقف. لذا كنت أكتفي بإحصاء
الطيات الكبيرة، ثم كنت أنام. وكنت تكرهينني،
ليس فقط حين أنام، ولكنك كنت تكرهينني حين
أنام أيضًا. كنت تبصقين على وجهي حين أكون
نائمًا: تقفين وتبصقين عن بعد، وتفرحين حين
تصيب البصقة عيني اليمنى أو تدخل في فمي – مع
أنني أنام مغلق الفم دومًا، لكنني حين يصيبني
الزكام أفتح فمي. كنت تبدلين غطاء السرير كلَّ
صباح، كما لو كنت أنا من يُشبِعه بالعرق وبتلك
البقع اللزجة التي كانت تلطخ قدميَّ وثوب
نومي. رائحتها تسبب لي الغثيان حتى الآن حين
أتذكرها، أنا لا أعرق أبدًا، ولا أفرز أيَّ
نوع من تلك البقع المشينة ذات المصدر والمظهر
المريبين. لا أدري لماذا لم أكن أحاول أن أمسح
البقع قبل أن أستقل السرير، لا أدري لماذا كنت
أستقل ذاك السرير... [ظلام.] * فسيفساء
الانعكاسات
رجل
يقف في الحمام، يبدو عليه اليأس والغيظ
والحزن والألم. يريد أن يبكي، ألا يصدق، أن
يضحك لأنه لا يصدق، أن يبكي لأن – وإن كان لا
يصدق – ما يحصل يحصل بالفعل. يريد أن يكسر،
لكنه لا يستطيع أن يكسر، لأنه لا يملك ما
سيمكِّنه من تصليح ما سيكسره، ولأنه يدرك أنه
ليس ممثلاً في فيلم سينمائي. يقترب
من المرآة. تبدأ المرآة برسم خيال له، لكن
الخطوط تتشابك في المرآة: وجوه كثيرة تظهر،
ولكن أيًّا منها ليس وجهه. في بادئ الأمر، كان
يحاول التعرف على الوجوه التي كانت تنظر إلى
عُرْيِه عبر المرآة بنظرات جعلته يستحي –
لأول مرة – من عريه في حمام شقته ويتفكر فيما
إذا كان ثمة مكان أنسب ليتعرى الإنسان فيه.
لكنه مع تكرار المحاولات الفاشلة، لا في أن
يحصل على خياله في غرفة الحمام [وهو أقل ما
يمكن أن يتوقعه المرء من مرآة اقتُُنِيَت
حديثًا]، بل على الأقل في أن يجد نفسه بين
جمهرة الناظرين، لم يعد يحاول التعرف على أحد
ولم يعد يستحي من عريه... أخيرا
يقرر أن كلَّ ما بوسعه أن يفعله هو البكاء.
يهتز ظهرُه النحيل، الذي يسمح بإحصاء كل
أضلاعه، عدة هزات ونسمع عبر نحيبه الأجش: أرتد
عن المرآة. لا تقبلني فأرتد عنها... بل أردُّ،
وأعود إلى نفسي، وأحزن لأني، لأن المرآة
ترسمني... كانت ترسمني؛ إذ لم أعد قادرًا على
رسم نفسي. لكنها الآن ردَّتْني، مَحَتْني،
امَّحيت... [ظلام.] * فسيفساء
لورنس والمراهق الأعرابي
الساعة
الرملية متوقفة. القسم العلوي خاوٍ. في القسم
السفلي رمال وليل ونار وجملان... لورنس
مستلقٍ على الرمال، مسندًا ظهره إلى ناقته
الجاثمة قربه. يكتب مذكراته على ضوء النار.
فتى أعرابي رشيق القوام يحضِّر العشاء ويغني
بصوت عذب أغنية غزل حزينة... "النار...
الرمال... الأعرابي جاثٍ قربها. أعرابي كما
أتصوره تمامًا، مع الهمزة في البداية والألف
في الوسط، لأنه بدونهما لن يكون أعرابيًّا.
الشمس ما تزال هنا. أشعر بها فوق رأسي، تحت
قدمي، بين فخذي. ما تزال هنا. والوقت ليل،
والأعرابي قربي، وأنا قربه – وإذن؟!" أيُّنا
يا ترى سيبدأ؟ أأحدنا؟ كلانا ربما؟ لكن أحدنا
أو كلانا سيبدأ حتمًا. أيُّنا سيسيطر؟ أيُّنا
المتلقي؟ أينا الملقن؟ أمهم؟ أيما أهمية!
لماذا؟ لماذا لا تكون ثمة مساواة؟ عدل،
تعادل، تساوٍ، توازن، ألسنا من جنس واحد؟!
لماذا الملقن والمتلقي؟! لن
يكون ثمة فاعل ولا مفعول به. في هذي الصحراء
كلنا مفاعيل. الرمال هي الفاعل الأوحد..." [ظلام.] * فسيفساء
الدب الغبي
الوقت
نهار. هذا ما توحي به الإضاءة في غرفة المشفى.
نرى في زاوية الغرفة رجلاً يقف بوجهه نحو
الحائط ويهتز بشكل غريب. على أحد الأسرَّة
يجلس رجلان يبدوان أعقل من الباقين: أحدهما في
الثلاثين، والآخر في الخمسين. كلاهما، كما
الجميع، في بيجامات مخططة. -
انظر، يا دكتور. لا بدَّ أنه
يستمني من جديد، في زاوية الغرفة كالعادة، كي
لا يراه الممرضون فيهزؤوا من صغر عضوه
وغضاضته وهشاشته وعدم انتصابه. يبكي دومًا
حين يستمني، يبكي بصمت، أو يصدر أحيانًا
صوتًا رتيبًا شبيهًا بزئير محرك كهربائي صغير
– كالذي كان يحرِّك الدب الغبي في غرفة نومي.
في إحدى المرات، بينما كان في الزاوية،
فاجَأَه ممرضٌ بعضوه الضخم، وراح يهدده به.
ربما كان يريد أن يضربه به أو شيء من هذا
القبيل؛ لكن التلويح كان كافيًا ليجعله يتوقف
عن البكاء ويبدأ بتهشيم جبينه بمسمار صدئ كان
بارزًا من الحائط. أَتَرَى إلى هناك، يا
دكتور؟ مازال أثر الدماء واضحًا. أما المسمار
فقد اقتلعوه. لم نره طويلاً بعد تلك الحادثة.
لكنه عاد، وعاد معه زئير الدب الغبي في غرفة
نومي... [ظلام.] * فسيفساء
اللحية
غرفة
في المشفى: على باب الغرفة لوحة مكتوب عليها:
المنفردة أو فندق الاستجواب. داخل الغرفة
سرير لا يختلف عن أسرة الغرف العامة – أو هكذا
يبدو للوهلة الأولى – ولكن قليلاً من
الانتباه يكفي لنلحظ الضجر والتململ الذي
يخيم على سحنته المجعدة. لماذا عليه أن يحتمل
كل هذا؟ لماذا هو – لا سواه – اختير لهذه
المهمة الشاقة؟ إذ ليس هناك ما هو أقذر وأبغض
من بول المستجوَب وعرقه؛ ليس هناك، في العالم
كله، ما يثير اشمئزاز أيِّ سرير يحترم نفسه
أكثر من ملمس يدين ملطختين بالبراز والبول. في
النهاية فإن سرير مستشفى لا يحتاج إلى الكثير
ليشعر بالسعادة: قليل من النظافة، استمناءان
أو ثلاثة في الشهر، وإذا ما ابتسم الحظ،
مضاجعة بين رجلين أو بين مريض وممرضة – وإن
كانت الحادثة الأخيرة حكرًا على أسرة غرف
الممرضات... بعد
مونولوج سرير فندق الاستجواب، يُفتَح البابُ
ويدخل مريضٌ مريضُ الهيئة، قذرٌ، يلبس بيجامة
تشبعها بقع صفراء بنية، تحت الإبطين وبين
الفخذين، من الأمام ومن الوراء. مريض كالذي
يخشاه السرير تمامًا: عيناه جاحظتان
وحمراوان، فمه رطب باستمرار نظرًا لغزارة
إفرازات الغدد اللعابية وعجز الفم عن التحكم
بها؛ عدد الأسنان تافه إلى درجة يصعب معها أن
نحصيها بدقة، لذا سنكتفي بالقول إن الأسنان
الأمامية غائبة بشكل أكيد؛ وواسع، مما يجعل
الشفتان تختفيان تمامًا في الكهف الفموي الذي
يبقى مفتوحًا ويُظهِر لسانًا أضاع للأبد ألقه
الأحمر، ليَثبُت على نوع من البياض الشاحب،
الأسود قليلاً. يدخل
وراء الرجل دافعًا إياه إلى السرير – بعنف،
وبشيء من الاشمئزاز المرهق – رجل آخر، يلبس
بزة بيضاء، يبدو مريضًا قليلاً، ولكن بشكل
مختلف. يسقط
المريضُ المريضُ على السرير، ويجلس المريض
المختلف على كرسي يسحبه من الفراغ. هنا ننتظر
خمس دقائق نشعر خلالها كمتفرجين بملل فظيع. قبل
كل شيء، يبدأ المريض المريض بالبكاء. ثم يتحول
بكاؤه إلى نحيب مع صوت زقزقة غريبة ذات ترددات
عالية، كالتي نسمعها حين نمر بأظافرنا على
السبورة، حين يصرخ به رجل الكرسي الذي، على ما
يبدو، لا يحتمل هذا النوع من الزقزقات ويهدده
بقطع رأسه. يتكور في زاوية السرير، وتظهر بقعة
رطبة في قلب البقعة الصفراء بين الفخذين، من
الجهة الأمامية، ثم تبدأ بالتفشي. ومهما حاول
السرير أن يبعد هذه اللحظة، لكنها في النهاية
جاءت، وجاءت معها البقعة التي، كجميع البقع
السائلة، تتنزه برشاقة على أغطية الأسرة. رجل
الكرسي لا يبدي أية ردة فعل تجاه ما يحصل، بل
يفضل الدفاع السلبي، فيُخرِج بحذق من الفراغ
المظلم كمامة ويضعها على وجهه. ثم يخرج من جيب
بزته أوراقًا صغيرة، ويبدأ بقراءتها
وترتيبها. ومن وقت لآخر يَظهر قلم بين أصابعه،
فيضيف أو يشطب كلمة ما. يستمر كل هذا الهراء
خمس دقائق، ينتهي خلالها المريض من البكاء
والمريض من الكتابة. يوجِّه رجل الفراغ إلى
السرير سؤاله الأول عبر الكمامة، بشيء من
الضجر، كأستاذ يعيد درسه للمرة الثالثة أو
الرابعة: -
كانوا نائمين؟ يرد
عليه السرير بصوت المريض الذي بدأ الآن
بتسريح شعره بيديه المبلولتين، نظرًا
لتماسهما منذ قليل مع البقعة المفترسة، الأمر
الذي جعل التسريح أسهل والشعر أطوع: -
كانوا نائمين... نعم نائمين. -
أين؟ -
تعرف... هناك... في... -
في القبو. -
نعم، في القبو... في القبو. [يقولها
مبتسمًا بشيء من التشكر للمنقذ الفراغي.] -
لماذا في القبو؟ -
البرد... البرد كان شديدًا، وكنت
أملك قبوًا صغيرًا في منزلي. -
إذًا فقد كان المنزل منزلك؟ -
ليس... ليس تمامًا [يستمر في
التسريح]... أقصد... بلى، كان المنزل منزلي،
لكني كنت أؤجِّر معظم غرف الطابق الثاني... و... -
والطابق الأول؟ -
أنا... أنا كنت في غرفة منه... -
هل تعيش وحيدا؟ -
لا... نعم... لا معي قطتي سو... سوزي
موزي. -
أسوزي أم موزي؟ -
موزي... سوزي. أقصد اسمها سوزي
موزي أو موزي سوزي – لم أعد أذكر – لأني كنت
أناديها: سوزي موزي سوزي موزي، ثم أتوقف عند
سوزي أو موزي، أو أبدأ بموزي فأنادي: موزي
سوزي موزي سوزي، ولا أذكر متى أتوقف... -
إذا فاسمها ليس مجرد سوزي موزي؟ -
بلى، موزي سوزي موزي موزي سوزي
سوزي.... موزي سوزي موزي موزي سوزي سوزي.... موزي
سوزي موزي موزي سوزي سوزي... -
وباقي غرف الطابق الأول؟ -
هو ذو اللحية. [ يرسم على وجهه
لحية، ويمسك بها بكلتا يديه.] -
ماذا يعمل؟ -
كاذب، كاتب كاذب، كاذب كاتب...
هكذا كان يقول ويطقطق على الآلة الكاتبة. [يطقطق
على الآلة الكاتبة بكلتا يديه وبكل أصابعه
السبعة.] -
والنساء؟ -
أوه، كثيرات جدًّا!!! -
دفعة واحدة؟ -
لا، أقصد أحيانًا اثنتان... -
وماذا؟ -
لا أدري. -
تكذب! -
لا أدري، لم أرَ إلا القليل عبر
فتحة الحائط. -
ماذا؟ -
لا أذكر. -
تكذب! -
كبير جدًا... يصرخ، فتقفز سوزي
وتتشبث بأظافرها بظهري فأصرخ. لكنه كان يصرخ
بقوة. -
ما الكبير؟ [يشير
إلى البقعة الأمامية ويضحك. والضحكة تكمن في
فتح الفم أكثر من المعتاد وإخراج اللسان، مما
يجعل الفم يفقد السيطرة أكثر من المعتاد على
سيل اللعاب. الضحكة هي أن يحصل كل شيء بشكل
أسوء من المعتاد.] -
وماذا أيضا؟ -
يضربها بقوة. -
بيده؟ -
أو بالسوط. إذا كنَّ كثيرات
يضربهن بالسوط. -
لماذا لم تبلغ الشرطة؟ [يخفي
وجهه بيديه.] -
هل كان يضربك؟ [يومئ
أن نعم.] -
بالسوط. [يومئ
أن نعم.] -
وماذا أيضًا؟ [يومئ
أن لا.] -
تكذب يا كلب! [يومئ
أن لا لا لا.] -
أرني دبرك. [يبكي.
البكاء يجعل الأمور تحصل أفضل قليلاً من
المعتاد، نظرًا لأن فتحة الفم تتقلص قليلاً.
لكن الأمر ليس كذلك فيما يتعلق بالدموع
والمخاط، نظرًا لأن صاحبها لا يملك أيَّ
منديل ويفضل أن يمسح مفرزاته بغطاء السرير.] -
القبو! [يصرخ] [يتوقف
عن البكاء.] -
كم كان عددهم؟ -
خمسة: أربع فتيات، بينهن واحدة
أكبر من الباقين وفتى. -
لماذا في القبو؟ -
البرد كان شديدًا... كانوا في
الشارع... أحب الأطفال. -
وفي النهار. -
كانوا يجمعون الصدقات في
الشارع. -
كيف؟ -
كانوا يرقصون، ويمثلون مسرحية
جميلة جدًّا، ويغنون. الفتى كان يمشي على يديه.
[يصفق وتُعاد عملية الضحكة.] -
كم ليلة ناموا في القبو؟ [يُظهِر أصابعه السبعة
مرتين. يلاحظ أنه لا يملك إلا سبعة. يحاول أن
يحسب الستة الناقصة، يتمتم، يُظهِر رغبة في
البكاء، يبكي.] -
بقوا عشرين ليلة، أليس كذلك. -
بلى. [يصفق.] -
هو؟ [يومئ
أن لا.] -
تكذب! -
سألني عنهم، سألني إن كانوا
مرضى، أو يحكُّون أجسادهم ورؤوسهم كثيرًا. -
لماذا أخبرته أنهم في القبو؟ -
لا، لا، لا، أنا لم أخبره. هو...
هو رآهم. -
كانوا نائمين؟ -
نعم. كنت أراقب نومهم كل ليلة،
طوال الليل. -
كيف؟ -
عبر فتحة في أرض الغرفة. -
هل كانت الفتحة موجودة قبل أن
يأتوا؟ -
نعم كانت سوزي تذهب إلى القبو
حين تجوع. -
هل كانوا يتعرون قبل النوم؟ [
يومئ أن لا.] -
متى كانوا يتعرون إذًا؟ -
كانوا يستحمون أحيانًا. كنت
أعطيهم ماءً ساخنًا... -
لتراهم يتعرون؟! [يومئ
أن لا.] -
كاذب! [يومئ
أن نعم، ويهمُّ بالبكاء.] -
وماذا كنت تطلب من الفتاة
والصبي؟ [يهم
بالإيماء، لكنه يتوقف، ويبدأ بالبكاء، لكنه
يتوقف.] -
لماذا؟ -
أنا.... أنا لا أستطيع [يشير إلى
البقعة التي تحاول أن تُظهِر أنها لا تستطيع]...
هو صغير، وحين تَلمِسه لَه يستطيع. ليس الأمر
شريرًا، وأنا أحب أنا أرى... -
لماذا أريته إياهم عراة؟ -
كاذب! كاتب! قال إنه سيؤلمني إن
لم أفعل. كان يؤلمني جدًّا، كبير جدًّا. سوزي
كانت تختبئ لأني كنت أصرخ. -
كاذب! [يغطي
وجهه بلحاف السرير، الذي يحاول عبثًا أن
يتخلص من يديه القذرتين.] -
هددك بأنه سيتركك، هل كنت تحبه؟ -
[من تحت اللحاف] لا ... نعم... [وبكاء.] -
كنت تعرف ماذا سيفعل بالأولاد؟ -
لا... لا. -
تكذب. كنت تريده أن يفعل ذلك
وكنت تراقبه من الفتحة. [بكاء.
تظهر من تحت اللحاف عين واحدة لم تكن تبكي.] -
بمن بدأ؟ -
بالكبرى. -
والصبي؟ -
شنقه بربطة العنق. -
وطلب منك أن تمسك بها من فوق؟ -
نعم. -
هل بقيت ممسكًا بها طويلاً؟ -
نعم. قال أنه لا يحب صراخ
الصبيان. -
وماذا كنت تفعل أثناء ذلك؟ [يومئ
أن لا.] -
تكذب. -
كلا،أنا... أنا لا أستطيع. -
لكنك كنت تريد. [يخرج
يديه من تحت اللحاف ويمسك بقضبان السرير.] -
لماذا لم تنزل معه إلى القبو؟
هل منعك؟ [يومئ
أن نعم.] -
وبعد ذلك؟! ماذا فعل بالكبرى
بعد ذلك؟ -
لم... لم تكن تتحرك بعد ذلك. -
والصغار، خنقهم، أليس كذلك؟
كيف؟! قل يا كلب! -
كبير جدًّا، وهن صغيرات جدًّا.
أفواههن صغيرة جدًّا، وأسنانهن أيضًا. -
وماذا أيضًا؟ ماذا فعل بالفتى؟ -
قال إنه سيتركه لي كي أتلمسه كل
مساء، كما كنت أفعل. -
وبعد ذلك، ماذا حصل؟ -
طلبت منه أن... أن [يبتسم بشكل
غريب. نستطيع فقط أن نخمن أنه كان يحاول أن
يبتسم بحياء، وأن يجعل خدَّاه يحمرَّان؛ ولكن
عضويته لم تكن لتسمح له بإظهار مثل هذه
المشاعر المعقدة.] -
لكنه رفض وضربك. [يبكي.] -
... وحين تهجمت عليه قطَّع
أصابعك بأسنانه. [يمسكه
من يده ذات الإصبعين ويريه إياها. ينظر إليها
بتمعن، يقارنها مع يده الثانية ويضحك. ينظر
إلى وسط المريض المختلف. يمد يده محاولاً فك
البنطال، يتلقى ضربة قوية على رأسه، يرتطم
فكه السفلي بالأرض... دماء.] في
هذه الأثناء تضيء فسيفساء جديدة، ويبقى
المشهد السابق جامدًا بكل مكوناته، ما عدا
الدماء السوداء التي تستمر في السيلان. * فسيفساء
الفسيفساء
قبو
مظلم، تضيئه حزم أنوار متفرقة تأتي من أعلى.
حين تعتاد أعيننا على هذا الظلام بعد مشهد
فندق الاستجواب المنار بشدة، نلاحظ أن السقف
المنخفض مزين بغيوم بيضاء كرتونية، تخترقها
أنابيب المياه والغاز الملفوفة بالقماش.
السماء الكرتونية تقطر باستمرار، وصدى
القطرات ليس رتيبًا على الإطلاق، بل اللحن في
تغير مستمر. في
القبو خمسة أطفال نائمين على الفراش نفسه
المكوَّن من علب كرتون مكدسة بعضها فوق بعض.
ثلاث فتيات صغيرات، واحدة منهن في أحضان
الرابعة التي تكبرهن سنًّا والتي انكشف صدرها
عن نهدين حديثي النضج. إلى جانبها استلقى فتى
في العاشرة أو الحادية عشرة من العمر على ظهره.
الجميع نائمون. يدق
باب لا نراه. تستيقظ الكبرى. يدخل الوجه
المألوف المجرد من الأسنان، ومعه وعاء كبير
تتصاعد منه الأبخرة. -
ولكننا استحممنا البارحة. -
لا، اليوم أريد أن أراك معه. [يشير
إلى الصبي النائم.] -
ولماذا المياه؟! -
الجو بارد. يمكنك أن تجلسي معه
في الوعاء. يختفي
في الظلام، يغلق الباب خلفه. توقظ الفتى،
وتبدأ بخلع الثياب عنه بصمت، دون أن تنظر
إليه، دون أن ينظر إليها، دون أي سؤال، تخلع
ثيابها، يستقلان الحوض المليء بسائل أسود
يتبخر وينتظران. تنفتح
نافذة مستديرة في سماء الكرتون، ويظهر الوجه
المألوف، وضعية الرأس المتدلِّي نحو الأسفل
تجعل التحكم بفتحة الفم أصعب، مما يجعل
الأمور أسوء من المعتاد، فتنضم قطرات اللعاب
إلى قطرات المطر الأنبوبي. -
ابدئي! تقترب
الفتاة من الفتى وتقبِّله من شفتيه، ثم تجذب
رأسه إلى صدرها وتجعله يقبل نهديها. تصيب
الفتى رجفة، وتشعر ببرودة شفتيه الزرقاوين
على حلمتيها، فتضمه بقوة وتنظر إلى السماء
بشيء من التوسل: -
إنه مريض اليوم. لقد كان الطقس
باردًا جدًّا وقد عملنا طوال النهار. -
ولم تجمعوا شيئًا! -
أرجوك، إنه لا يستطيع اليوم. -
سنرى، هيا ابدئي واجعليه يقف.
أريد أن أرى ذلك بوضوح. -
أرجوك، اليوم لا يستطيع. يجب أن
ينام. إذا لم ينم سيموت. أمهله حتى الغد فقط.
خذني أنا، أنا لست مريضة. -
وما حاجتي إليك؟! هيا لم أعد
أستطيع الانتظار أكثر! تحمله،
توقفه، وتحاول سنده، وتهمس في أذنه ببعض
الكلمات، ثم تنحني إلى وسطه وتبدأ. تحاول
عبثًا أن تدفئ بطنه الصغير بيديها، لكن شيئًا
لا يحصل. يختفي الوجه اللعابي من القبة، فتدرك
أنها النهاية، وتبدأ بالبكاء بصمت، ثم تهمس: -
لقد تخلى عنا يا صغيري. لم
تعبأ للباب الخفي الذي فُتِحَ بعنف، ولا
لللحية السوداء الكالحة، ولا للصرخات
الوحشية: -
لا يستطيع إذًا؟! أنا أستطيع. لفتى
لم يبدِ أية مقاومة. ربطة العنق لم تجد أية
صعوبة في حمل جسمه النحيل، وهو لم يجد أية
صعوبة في الاختناق، لأنهم ماتوا – كلهم ماتوا
منذ أن تخلَّى عنهم... * فسيفساء
السقف
غرفة
في المشفى من نمط اللوكس ذي النجمة الواحدة –
وهو ما تشير إليه لافتة ذهبية معلقة على الباب.
الأسرَّة في غرف اللوكس لا تختلف عن مثيلاتها
في باقي الغرف من حيث التصميم: كلها من صنع
الشركة العامة للحديد والنوابض. لكن أسرة غرف
اللوكس ذات النجمة الواحدة، التي تعني وجود
سريرين في الغرفة، تنعم بالنظافة، لأن
الأغطية تُبدَّل مرة كل شهر، وتنعم بالأنس
أيضًا، لأن السرير الثاني موجود دومًا، وهو
ما لا نستطيع قوله عن أسرَّة غرف اللوكس ذات
النجمتين التي، وإن كانت بالغة النظافة، تكاد
تموت من شدة الملل والوحدة. على السريرين
رجلان مستلقيان بشكل كامل. أحدهما يربط كرار
خيط بخيط كيس الشاي، ثم يقذف بالكيس إلى السقف
فيلتصق به، فيمسك بالكرار. الآخر يداعب ذبابة
التصقت بلسانه ويضحك. ينتصب صاحب كيس الشاي
فجأة على سريره، فيتأوه السرير. يُخرِج من
جيبه عدسة، ويثبتها في عينه اليسرى، ويبدأ
بالمحاضرة، منجزًا ذهابات وإيابات متتالية
على السرير، وممسكًا معصم يده اليسرى بيده
اليمنى خلف ظهره. إلينا أو هكذا يبدو لنا: "أنا
معلق الآن بالسقف، أو فالنقل إن السقف معلق بي
نوعًا ما. لا يبدو لي الأمر تافهًا على
الإطلاق، كما يحاول أن يوحي لي زميلي الجالس
على السرير المقابل [يشير إلى زميله، وكأنه
يوجد في الغرفة زملاء آخرون]. عادة يحتاج
المرء إلى شيء مادي يعلقه بالسقف أو يعلق
السقف به، شريط كهرباء، مثلاً، كما هو متعارف
عليه في الأفلام. أما أنا فلا أحتاج لأعلق
السقف بي إلى أية وسائط مادية [يربط كرار
الخيط بقدمه، ثم يبسط يديه أمامنا مبرهنًا
على أنه ليس ثمة أي وسائط مادية بينه وبين
السقف، آملاً، على ما يبدو، أننا لن نلحظ
الخيط]، فقط أنظر إليه بحزم وإصرار وتصميم. "كيف؟!
آه، تقول كيف؟ [لا نفهم من يقول كيف] إنه
الزميل نفسه يتساءل متثائبًا [الزميل يستمر
في مداعبة الذباب الذي غطا لسانه بالكامل،
مما يجعلنا نشك بطبيعة المادة البنية التي
تغطيه، والضحك، ولا يتثاءب على الإطلاق]،
ويعني ماهية النظرة، على ما أظن، ولكنه أقل
تثقيفًا من أن يتعامل مع كلمة مثل ماهية. كيف؟
مجرد تراكمات ثلاثة، أو فلنقل تراكمًا مؤلفًا
من ثلاث نظرات: حازمة، مصرة ومصممة. والترتيب
ضروري بالطبع، والتوازن أيضًا، وإلا فالسقف
لن يقبل، كلا، لن يقبل على الإطلاق أن يتعلق
بي، أي بالناظر. وهذا هو السبب في قلة
الأشخاص، أو بالأحرى قلة السقوف المعلقة
بالأشخاص، لأنه، وإن افترضنا، ولو لوهلة،
قدرة شخص آخر غيري على تعليق سقف ما، فإنه لن
يستطيع أن يعلق أكثر من سقف واحد، ولأننا، من
جهة أخرى، وفي معظم الأحوال، لا نجد أكثر من
سقف واحد فوق رؤوسنا. الناس ينقصهم بُعد النظر
والابتكار. أتعرفون، على سبيل المثال، عدد
السقوف المعلقة بي في هذه اللحظة؟ كم؟! كم
تقول يا زميلي؟ اثنان؟! أتظنني غبيًّا مثلك؟!
خمسة، خمسة سقوف، يا أحمق – وليس هذا كل ما
أستطيع تعليقه... ماذا تقول؟ لماذا تقاطعني؟ آ
آ آ، تريد أن تعرف إذا ما كنت قادرًا أن أعلق
السماء، بما أنها، حسب ادعاء الأغبياء من
أمثالك، سقف للأرض. السماء يا صديقي [ينظر
إليه بحنان مدرِّس يلقِّن طالبه الكسول الوسخ
درس اليوم] عبارة عن خليط من الغازات و... هنا
تظهر ذبابة تزعج المتحدث فيصفعها دونما
هوادة، واضعًا، بالتالي، نقطة النهاية
لحديثه التثقيفي، لأن الزميل، الذي كان يلعب
دور الغبي ودور كل المشاهدين ويحب الذباب،
لأن الذباب يشكل الحيوانات المنزلية الوحيدة
التي يُسمَح بالاحتفاظ بها في المشفى، وثب
على سريره، عانقه من وسطه، وأخذ يضرب رأسه
بالسقف بحركات متناوبة من صعود ونزول،
مستعينًا بنوابض السرير المتينة. ولما بدأ
الحبر الأسود بالسيلان، أخذ يخطط به أشكالاً
بدت له جميلة بشكل خاص على السقف الفسيفسائي... * فسيفساء
أوووووووووه
رجلان
يجلسان متقابلين على سريرين متجاورين في غرفة
عامة هذه المرة. يهتزان بشكل مستمر، ويصدران،
بالتناوب، أصوات طقطقة عجلات قطار يمضي دونما
هدف معين على سكة غير مرئية. نوابض الأسرة تئن
وتشتكي، لكن القطار لا يتوقف، لكن القطار لم
يتوقف، لن يتوقف. -
أووه، البارحة كان عندي عمل
كثير. -
أووه، حقًّا. -
أووه، البارحة لم أعد إلى
المنزل حتى السابعة مساء، تصور! -
أووه، أنا البارحة لم أعمل
كثيرًا، حتى الظهر فقط. -
أووه، حقًّا؟! -
أووه، لا تتصور كم كنت حزينًا. -
أووه، لماذا؟ [يشعل سيجارة،
يعرض واحدة على المسافر إلى جانبه، يرفض
المسافر الذي إلى جانبه. في هذه الأثناء يخرج
زميله الذي يجلس على السرير المقابل بحذق
سيجارة من الباكيت، يعرض سيجارة على المسافر
إلى جانبه، يرفض المسافر الذي إلى جانبه،
يبحث الزميل عن شعلة. في هذه الأثناء يلحظ
زميل الزميل الذي يجلس على السرير المقابل
بحث زميله على السرير المقابل عن شعلة، فيمد
له شعلته.] -
أووه شكرًا، تقول لماذا؟ [يُخرِج
سيجارته من فمه ويبدأ بالتلويح بها. نشم رائحة
سيجارة أو أكثر، عنيفة جدًّا، لكننا لا نرى
أية سيجارة ولا نرى أي دخان.] -
أووه، نعم، بالفعل، أقول
لماذا؟ -
أووه، حماتي شريرة جدًّا! -
أووه، يا للقسوة! -
أووه، تصور أنني لا أستطيع أن
ألمس زوجتي بحضورها! -
أووه، يا للقسوة! -
أووه، تصور أنني لا أستطيع أن
أضاجع زوجتي إلا بحضورها! -
أووه، وأنا أيضًا! -
أووه ماذا أنت أيضا؟! -
أووه، لا أستطيع أن أضاجع زوجتي
إلا بحضور ذكر حماي. -
أووه، يا له من شرير! -
أووه، ليته هو الشرير. إنها
زوجتي! -
أووه! أووه! ماذا بها زوجتك؟! -
أووه، لا تَصِلُ النشوة إلا مع
ذكر أبيها. -
أووه يا للحزن! لماذا، هل ذكر
أبيها مميز؟! -
أووه. [يُخرِج من تحت الوسادة
علبة زجاجية كبيرة جدًّا بها ذكر كبير جدًّا
محفوظ في الفورمول، تتدلَّى من قاعدته أوعية
دموية مسودة. الذكر في وضعية الانتصاب بحسب ما
يوحي به طوله.] -
أووه، أووه، أووه. [يهز رأسه
متفهمًا.] يا لك من مسكين! -
أووه تصور، أنا من عليه أن يهتم
بكل مقبلات الولوج، وحين يبدأ الولوج
تُخْرِجه من العلبة، وأنا علي أن أتدبر أمري
بيدي. -
أووه، يا لك من مسكين! -
أووه، يا لي من مسكين! -
أووه، يا لنا من مساكين! -
أووه، يا لنا من مساكين! [ثم
سوية:] -
أووه يا لنا من مساكين! ثم
يظهر كورال كنائسي من النمط الروسي. رجال
مهيبون، سود اللباس واللحى، يغنون بصوت
علاماته شديدة الانخفاض، جنائزية الألحان: -
أووووووووووووووووووووووووووووووه...
يا لنا من مساكين... آمين. [ظلام.] * الفسيفساء
الأولى
يعاد
مشهد الأحرف الفوسفورية. نرى كل شيء كما
رأيناه المرة الأولى، نسمع الصوت ذاته، لكن
الأحرف لا تظهر، والصوت يبدو مخنوقًا قليلاً
لأن صاحبه يمضغ: -
أعود إليك، وتعودين إلي، أهكذا
يكون اللقاء؟! -
خبروني أنك أنت من جلب لي هذه
الحلوى، لكهم يكذبون. أعرف أنه البواب، أنا في
النهاية لا أعرف أحدا سوى البواب، والبواب لا
يعرف أحدًا سواي. دائمًا كنت أريد أن تكون كل
علاقاتي متبادلة ومتوازنة، وأظنني نجحت في
ذلك نوعًا ما – حتى هنا. أعرف أنه البواب،
لأني أرسل إليه بالنقود، وأطلب منه أن يجلب
الحلوى، وأن يقول إنها مرسلة من قبلك. لا أعرف
كيف يتدبر أمره [هنا يصبح الصوت واضحًا من
جديد]. فهو لا يعرف اسمك، بل وهو على يقين تام
من عدم وجودك. أظنه يشعر بنوع من الشفقة
تجاهي، كما أشعر تجاهه. التوازن... التوازن... -
هل تريديني أن أغني لك؟! أنا مع
إخواني هنا لأننا قررنا أن نحدث ما يشبه
الأخوَّة، وسمينا أنفسنا بالإخوان – هكذا
بكل بساطة، وبدون أي سابقة أو لاحقة تُثقِل
الصورة التي يمكن أن تؤخذ عنا. إذا فنحن
الإخوان نحب الغناء... كلا، لا أريد أن أغني لك...
لكننا نحب الغناء. [ظلام.] * فسيفساء
الانعكاسات
فندق
الاستجواب. المريض المختلف ذاته يجلس على
كرسيه الفراغي، يدخن سيجارة حقيقية، يبدو أقل
اشمئزازًا؛ فالدرس جديد، يسمعه ويلقِّنه
للمرة الأولى هذه المرة. على
السرير رجل نحيل في الأربعين، لا نرى منه سوى
تفاحة آدم بحجم تفاحة، يدخن أيضًا، يرتجف
بعصبية ويلوح بيديه: -
الظهيرة، هل تعرف الظهيرة في
الجنوب؟ كان يجلس دائمًا على الكرسي الأمامي،
وكنت أنا أقود الباص، خمس عشرة سنة، هل تفهم؟
يجلس وكأنه ليس في الباص سواي وسواه. يقولون
إنه شحاذ وقذر، لكنه كان يجلس دائمًا على
الكرسي الأمامي إلى جانبي. [هنا تطرأ على
المشهد تغيرات غريبة، يظهر هيكل باص في مقلب
للقمامة، و يصير المتحدث جالسًا مكان السائق
على كرسي هيكلي، ممسكا بسكن في الفراغ،
والمريض المختلف إلى جانبه على الكرسي
الأمامي.] هل تفهم؟ كان ينظر عبر الزجاج، كما
لو أنه لم يكن هنالك زجاج. هم ينظرون كما لو أن
هناك زجاجًا؛ أما هو فلا، أبدًا، على الإطلاق.
لا وجود للزجاج بالنسبة له، لا وجود للذباب
على الزجاج، لا وجود للزجاج على الزجاج،
الدجاج... الدجاج، أحب الدجاج المقلي مع الثوم... يصفعه
المريض المختلف على أذنه فيستيقظ، يصرخ به: -
زجاج. زجاج.
كان ينظر عبره ويبتسم، كان يبقى طوال مدة
ورديَّتي، يبقى سبع ساعات إلى جانبي. أتقاسم
معه شطيرة الظهر التي تأتي بها وردة، لأنها لم
تكن تريد أن تجلب له شطيرة. طلبت منها مرارًا،
لكنها رفضت. قالت إن الأمر ليس من شأنها: فأنا
زوجها، أما هو فليس زوجها. كنت أتقاسم معه
شطيرة الظهر في أثناء انتظار الركاب. وفي ذلك
اليوم قال لي إنه ليس ثمة ركاب في الباص، إنه
دائمًا ليس هناك ركاب في الباص. وكان الباص
يعج بالركاب – هكذا بدا لي حين نظرت إلى
المرآة. لكنه قال لي إن المرآة تكذب، وإنه لا
وجود للمرآة، لأنه لا وجود للزجاج، ولأن
المرآة زجاج... قال لي: "انظر إلى الخلف!"
لكني لا أستطيع أن انظر إلى الخلف! لا أستطيع
أن أنظر إلا إلى المرآة، لأن الشرطي، لو رآني،
لن يسامحني! قلت له إن الزجاج هنا أمامي. وصرت
أضرب الزجاج بيدي، لكنه قال لي إنني أكذب.
فتركت المقود، وأمسكت برأسه، وضربت به
الزجاج، كي يفهم رأسه أن الزجاج موجود، أنه لا
بدَّ له من أن يرى الزجاج، وأن يرى، من خلال
الزجاج، ما وراء الزجاج... [ظلام.] *** فسيفساء الانبعاث
سريران
متجاوران. الرجلان اللذان يبدوان أعقل من
الباقين يشربان القهوة على طاولة صغيرة بين
السريرين. -
لكني لا أفهم يا دكتور لماذا
أنت هنا. أنا أمري واضح. أما أنت؟! -
الشهادات لا تنفع هنا يا صديقي.
أنا رئيس النادي. -
أيِّ نادٍ؟ -
نادينا اسمه "نادي
الخضَّاضين المخضرمين". [ينظر
إليه بشيء من الاستغراب، ولكنه لا ينبس بأيِّ
سؤال، خوفًا من أن يظهر سؤاله غير لبق.] -
أعرف! تبدو التسمية غريبة
قليلاً. سأحاول أن أكون واضحًا: النادي، بحسب
دستوره، هو تجمع سرِّي نصف معتدل، نصف مفتوح،
نصف مغلق، لبشر من الجنس الذكري يجمعهم الحب
للذات والاكتفاء بالحب للذات... -
أتقصد النرجسية؟ -
نعم، شيء من هذا القبيل. نحن لا
نحتاج إلى أية صور أو تأثيرات خارجية، أيًّا
كان نوعها. الاكتفاء بالذات يجب أن يكون
تامًّا ومطلقًا وصادقًا. النرجسية الروحية
تمتد لتصبح نرجسية جنسية. الجسد لا يحتمل
التلامس مع أي شيء غريب. حتى التخيلات الذهنية
لشريك جنسي، أيًّا كان جنسه، تنمحي من تلقاء
نفسها. العضو الوحيد الذي تتمركز حوله
الأحاسيس المادية المرتبطة بالفعل الجنسي هو
القضيب والخصيتان. لذا فإن الحواس الخمسة، أو
على الأقل أربعة منها [لأن بعض أعضاء النادي
أجروا عملية جراحية لإزالة الضلعين
الأخيرين، مما يمكِّنهم من إشراك حاسة الذوق]
– إذًا فالحواس الخمسة يجب أن تتعاضد، أن
تكون في أعلى مراحل تيقظها. الإدراك يجب أن
يكون تامًّا لكلِّ حركة، لكلِّ صوت، إفراز،
رائحة، طعم – كل هذا انطلاقًا من مقولة سقراط:
"أيها الإنسان، اعرف نفسك." الآخرون
يبعدوننا دومًا عن الحقيقة، عن الذات. وما
الكون في النهاية؟! الكون هو أنا. نعم، الكون
هو أنا. لماذا علينا أن نتشارك في كل شيء؟
لماذا علينا أن نتشارك في أكثر الأمور خصوصية
وحميمية؟! نحن قليلون: عدد الأعضاء لا يتجاوز
الخمسة عشر عضوًا؛ كثيرون مروا عبر نادينا،
لكنهم تساقطوا كورق الخريف، لأنهم لم يدركوا
أن الأمر ليس مجرد حركات يدوية سريعة. الأمر
أعظم من ذلك بكثير! الإدراك، هذا ما يحتاجه
المرء، الإدراك بأن الكامل لا يستطيع أن ينتج
ما هو أكمل منه. السائل المنوي يفقد معناه في
هذه المرحلة من الإدراك. لذا فحيواناتنا
المنوية تولد ميتة، تولد لتولِّد فينا أنفسنا
من جديد، ثم تلف سياطها الصغيرة حول رؤوسها
وتهمد للأبد، للأبد... هل تفهم يا معلم؟! للأبد! [ظلام.] * يضاء
المسرح بالكامل. بعض المشاهد ما تزال محتفظة
بمحتوياتها المهجورة. تبدأ الحدود بين قطع
الفسيفساء بالذوبان، تختلط الألوان، الدمى
المهجورة، العيون البلورية. يظهر المعلِّم في
الساعة البلورية، دائرًا حول نفسه. تتناثر
منه سيول الرمال حتى تغطيه بالكامل. نسمع في
هذه الأثناء: وجهه
هادئ، وتمثاله يستريح بعيدًا ويرقبه من بعيد.
كيانه ينزُّ صديدًا، صديد الإيمان. والكل
يحترق ويموت، يحترق ويموت، ويبقى هو ينزُّ
صديد الإيمان. تستمر
الساعة في الامتلاء. يمتلئ القسم السفلي،
فالعلوي، ثم يتصدع الزجاج، ثم ظلام... [النهاية] *** *** *** |
|
|