الكون المرآة

سمير كوسا

يصف هذا الكتاب – الكون المرآة – بدقة ممتعة عددًا من أحدث النظريات العلمية التي يدور حولها الجدلُ حاليًّا.

يذكِّر المؤلِّفان، جون بريغز وديفيد پيت، في بداية الكتاب بخصائص العلم وأدواته النظرية والعملية. يلي ذلك عرض شائق لتطور الفيزياء وولادة النظريتين النسبية والكوانتية. يشدِّد المؤلِّفان على المفارقات أو المحيِّرات paradoxes الناجمة عن محاولة جمع هاتين النظريتين أو الربط فيما بينهما. وقد عارض أينشتاين النظرية الكوانتية (مع أنه من مؤسِّسيها!)، معتبرًا أن وصفها للطبيعة ناقص؛ إذ هي لا تسمح بتعيين سرعة قسيم ما (من عالم الصغائر) وموضعه في الوقت ذاته. وقد بيَّن أينشتاين أن مبادئ هذه النظرية تؤدِّي، على سبيل المثال، إلى أنه لو فصلنا جزيئين كانا على اتصال فإن كلَّ واحد منهما يبقى على معرفة آنية بحالة الآخر، مهما اتسعتْ المسافة بينهما، في خَرْقٍ لنظرية النسبية التي تعتبر أن أكبر السرعات الممكنة هي سرعة الضوء. ومع بداية السبعينات تمكَّن العلماء من التحقق مخبريًّا من صحة استنتاج النظرية الكوانتية (تجارب ألان أسپيه Alain Aspect).

لكنْ كيف نفسر هذه الواقعة؟ انقسم العلماء إزاء هذا السؤال إلى فِرَق، حاول كلٌّ منها إعطاء تفسير ينسجم مع أفكاره المسبقة. يبدأ هنا عرض الكاتبين لتلك النظريات "المجنونة" التي تبنَّت دراسة الكون ككلٍّ شامل وحاولت إعطاء فهم جديد للوجود.

أولى هذه النظريات نظرية عالِم الفيزياء ديفيد بوهم عن "الكون المنطوي" (أو الكامن). يرى هذا العالِم أن السؤال المطروح آنفًا خاطئ في أساسه؛ إذ إن السؤال يفترض أن القسيمين كائنان منفصلان ومستقلان. ويفترض بوهم وجود بنية تحتية لظواهر عالمنا سمَّاها النظام المنطوي Implicate Order، وهو غير قابل للرصد. ويعتبر بوهم أن أحداث هذا النظام طبيعية، وتتكامل فيه كلُّ العناصر، لتتواجد كلها في نقطة وتمتزج وتتداخل في كلِّ لحظة وفي المكان كلِّه. وهو يُعطي لهذا النظام صفةَ الأولوية في الأهمية. فعالمنا يُشتقُّ منه كمجموعة جزئية تتمتع، مؤقتًا، بوجود مستقل ومستقر. لكن هذه المجموعة الجزئية (نحن والعالم) لا تملك وجودًا مستقلاً في جوهرها؛ فما هي إلا مظهر لشيء أعمق ومستقل (كما أن الظل هو مظهر لشيء موجود في ذاته). هذا العالم أو النظام المنطوي هو، إذن، في رأي بوهم، البنية التحتية والأصلية للمادة والوعي في الوقت نفسه. إن نتائج هذه النظرية تشمل العلم والفلسفة والاقتصاد والمجتمع. وتُعَد نظرية بوهم إطارًا واسعًا (أو بنية فكرية) قابلة لاحتواء غالبية النظريات الأخرى التي تدرس الكون ككيان واحد متَّحد.

ثم يحدثنا المؤلِّفان عن نظرية "البُنى المبدِّدة" Dissipative Structures لعالم الكيمياء إيليا پريغوجين (حامل جائزة نوبل). تسمح هذه النظرية، التي تدرس الجمَل أو البُنى المفتوحة وإمكاناتها في الانتظام الذاتي Auto-organization، بتفسير كيف ولدت الحياة في عالم مصيره الإنتروپيا Entropy (الفوضى) المتزايدة.

بعدئذٍ ينقلنا الكاتبان إلى فرضية البيولوجي روپرت شِلدريك في "السببية المشكِّلة" Formative Causality. لقد نجحت الدراسات البيولوجية الميكانيكية في الكشف عن الكثير من خفايا الحياة، وتُوِّجَت هذه الدراسات باكتشاف الشيفرة الوراثية؛ إلا أن جوانب عدة بقيت غامضة. فبقيت، مثلاً، العوامل المساهمة في نمو أشكال النبات والحيوان مجهولة تمامًا. يفترض شلدريك وجود حقول غير مرئية، سمَّاها الحقول "مورِّثة الشكل" Morphogenetic Fields، مسؤولة عن نموِّ الأشكال (كالأذن مثلاً). تأتي هذه الحقول من الأسلاف؛ وهكذا ترتبط الكائنات من عِرْق واحد بعضها ببعض عبر المكان والزمان بواسطة تفاعل بين هذه الحقول.

ثم يروي الكاتبان أبحاث كارل پريبرام في الذاكرة الهولوغرافية holographic memory. لم يتمكن العلماء، على الرغم من كلِّ مساعيهم، من تحديد المركز أو المنطقة التي تنحفظ فيها ذاكرةُ الأحداث في المخ. وقد تبيَّن أن هذه الذاكرة منتشرة في المخ بكامله، بحيث إن كلَّ منطقة منه تحوي الذاكرة كلَّها. وهذه الخاصية الأخيرة هي إحدى خواص الصور الهولوغرافية التي استوحى منها پريبرام تفسيره لآلية عمل المخ.

على مدى الكتاب يشرح الكاتبان كلَّ النتائج الاجتماعية والفلسفية والعلمية الخطيرة لهذه النظريات ويحاولان بيان العلاقة فيما بينها.

هذا الكتاب المهم مفيد وممتع لكلِّ المهتمين بالعلوم الفلسفية.

*** *** ***