|
قراءة
في كتاب
لا
ديمقراطية في الشورى
أكرم
أنطاكي
(1) الحق أقول إن جرأة عنوان هذا
الكتاب، الصادر عن "دار الفكر" ذات
التوجُّه الإسلامي التنويري، هي التي
دفعتْني، حتى قبل قراءته، إلى حضور العرض
الذي قدمتْه حوله في حينه، في "المنتدى
الاجتماعي العربي في دمشق"، د. فريال مهنا.
ورغم أني تلمَّست في ذلك اللقاء بعض نقاط
الضعف المتمثلة في منهجية التطُّرق لمثل هذه
المواضيع فائقة الأهمية وفي معالجتها، إلا
أني أعجبت – لست أكتم ذلك – بحرارة دفاع
الكاتبة عن كتابها؛ مما زاد من رغبتي في
قراءته ودفعني إلى تسجيل ملاحظاتي المتواضعة
حوله كإنسان غير مسلم، شرعًا وعن قناعة.
(2) وأبدأ بعنوان كتاب لا
ديمقراطية في الشورى الذي يوحي، للوهلة
الأولى، أن د. مهنا، انطلاقًا من الآيتين "وأمرهم
شورى بينهم"[1] و"وشاورهم
في الأمر"[2]، توصلتْ إلى
نتيجة هامة مفادها أن مضمون هاتين العبارتين لا
علاقة له بالديمقراطية، كما يذهب في فهمه
وتفسيره بعض علماء المسلمين، وأنها ستناقش
هذا الموضوع في كتابها، مقدِّمةً حججها،
طارحةً منظورَها واقتراحاتِها. لكن د. مهنا، التي من الواضح (سواء
من عنوان الكتاب و/أو من سياقه) أن لديها هذه
القناعة، فضَّلتْ اتباع مقاربة أخرى لمعالجة
الموضوع؛ مقاربة تفتح الباب على الاجتهاد
الذي تؤكد في التمهيد لكتابها على أهميته،
وخاصة على "... حرِّية التفسير والتأويل [الذي]
يجب أن يقترن حتميًّا بالمسؤولية العلمية
والأخلاقية وأن يتحدد هدفُها في اتباع
المقاصد الأوَّلية الأعظم، التي تحقق
المصالح الأساسية، ليس للمسلمين فحسب، بل
للجنس البشري جميعًا"، وعلى ضرورة أن
تندرج "... أية جهود اجتهادية يقوم بها
أفراد أو جماعات أو مؤسَّسات أو هيئات دينية
رسمية وغير رسمية... في إطار الاجتهاد
الإسلامي، وليس في نطاق مذهبي أو مللي أو قطري
أو إقليمي أو قومي أو عرقي..."[3]
– وهو مفهوم يستند، ربما، إلى فهم أوسع للدين
الحنيف، يتيح لكلِّ من يسبِّح بحمده من بني
البشر أن يدلي بدلوه، أيًّا كان دينه أو شرعه
أو مذهبه. (3) تتعرض د. مهنا في القسم (أو
الفصل) الأول من كتابها – وهو المدخل الذي
تقارب من خلاله الموضوع – لما تدعوه "الأدبيات
المعاصرة للإسلام المستنير"، فتحاول وضع
اليد على ذلك الجرح المؤلم المتمثل بعجز
وتخبُّط هذا المفترض "معاصرًا ومستنيرًا"
في مواجهة تحديات عصره، عامةً، واللحظة
الراهنة، خاصةً؛ وتحديدًا بعد حادثة البرجين
في 11 أيلول 2001 والاجتياح الأمريكي للعراق. وذلك لأن جهود شيوخ الإسلام
وعلمائه ودعاته، حتى الساعة، مازالت
منصبَّة، كما تقول د. مهنا، "... على تناول
الشأن الإسلامي عبر الإفراط في التركيز على
سرديات وروايات مبتورة، منتزَعة من السياقات
الطبيعية والتاريخية لتناصِّيات فرعية
أنتجها السلف، ومقحمة عنوةً في الراهن..."[4]؛
مما يعني "... أن ثمة قطيعة تتفاقم بين
طبيعة الحياة الإسلامية المعاصرة من جهة،
وبين خصائص الزمن الراهن ومعطياته وسماته من
جهة أخرى، ما يجعل عموم المسلمين يعيشون
زمانًا ومكانًا خُلَّبيين..."[5].
ولأن هذه السرديات تقع، في معظمها، في حقل
عبادات يتم من خلالها الدعوة إلى "...
الالتزام بتعاليم الإسلام الحق و... التقيُّد
بقيم الامتثالية، وذلك عبر تكريس مفاهيم
معينة للطاعة تُسقِط الإلهي على البشري بشكل
شديد الإيحائية ينطوي على دلالات جافة ذات
طابع تهديدي ووعيدي..."،[6]
ولأن هذه السرديات تؤكد "... على الضرورة
المطلقة للتوحُّد والاتفاق والوئام داخل
المجتمع أو بين جماعات إسلامية معينة..."[7]،
وبالتالي، على ضرورة الإجماع الذي رُفِعَ إلى
مرتبة التقديس، رافضًا أيَّ اختلاف لأن
الاختلاف، من منظوره، يرتبط بالفتنة – مما
يؤدي دومًا – وباستمرار (أيضًا حسب د. مهنا) –
إلى "... وجود مجتمعات أحادية اللون،
أحادية الاتجاه، تسودها أنظمة شمولية أو
استبدادية..."[8]،
مجتمعات يكون المحكوم فيها ليس "... مجرد
رعية، بل رعية ذات طبيعة قطيعية تنحصر مهمتها
في الخضوع للراعي دون معرفة، ودون إرادة،
ودون وعي"[9]. وتكون النتيجة أن "... جزءًا
مؤثرًا من الإسلام المعتدل... الذي ظنَّ بأنه
صانع الصحوة الجديدة والممسك بأعنَّتها،
وتوهم أن بمقدوره احتواء التطرُّف، بشقيه
السِّلمي والعنفي، وتجييره، اندفع في إضفاء
الشرعية على تلك الصناعات الإرهابية،
معتقدًا أن زمن الحكم الإسلامي قد أزف..."[10]؛ بينما الجزء
الآخر منه حاول التهرب من مسؤوليته عما حدث،
وقد يحدث، "... عبر إنكار أن يكون الإسلام
مصدرًا للعنف وقتل الأبرياء وعبر الإصرار على
وجوب إقناع الرأي العام بأن هذه التنظيمات
المتطرفة ليست من الإسلام في شيء وأن الإسلام
بريء من تهمة الإرهاب براءة الذئب من دم يعقوب"[11]
– الأمر الذي يعني، عمليًّا، الاستمرار في "...
تناول الإشكاليات تناولاً لاعقلانيًّا
ولاعلميًّا تحكمه التهرُّبية والانسحابية..."[12]. لذلك، ولما أصبحت الحال "...
لم تعد تحتمل الاستمرار في اجترار مقولة
مختزلة ويتيمة حول التفريق بين الإرهاب
والجهاد دون سَوْقِ تفسيرات وحيثيات منطقية
وصياغة تحاليل عقلانية مستمَدَّة من القيم
الإسلامية الأصيلة..."[13]،
ولما كان ما صدر ويصدر عن هذه المرجعيات "...
لا يدل على وجود تصميم في الشروع بتحاليل
رصينة ومقاربات عقلانية تخوض في اجتهادات
معاصرة خلاَّقة تضع الإسلام، فعلاً لا قولاً
وادعاءً، في سياقات الراهن كعنصر فاعل لا
منفعل..."[14]،
مما بات "... يهدد المجتمعات العربية
والإسلامية وجودًا واستقرارًا وحضورًا..."[15]،
فإن المراجعة والمقاربة باتت ضرورية
ومُلِحَّة جدًا، وخاصةً لقضايا فائقة
الأهمية كـ"... قضية الحرية والديمقراطية
التي كانت بدأت تخرج إلى حيِّز الأولويات في
الديار العربية والإسلامية تحت وطأة متغيرات
العقدين الماضيين..."[16].
لقد بات من الضروري "... إخراج إشكالية
الحرية والديمقراطية من ضبابية المشهد
الدامي الماثل إلى شفافية التفكير المعرفي
المتأمل والرصين من ضمن أولويات العمل
النهضوي الإسلامي على صعيد الداخل وعلى صعيد
الحضور الفاعل، الإقليمي والدولي"[17]. (4) والحق أقول إني توقعت،
منطقيًّا، بعد هذه المقاربة–المدخل، أن
تُدخِلَنا د. مهنا مباشرة إلى صلب الموضوع في
القسم (الفصل) الثاني من كتابها، فتتناول
مباشرة إشكالية الديمقراطية والحرية في
الإسلام. لكنها – لأسباب لم أستطع تحديدها –
لم تفعل، إنما فضلت في هذا الفصل تأجيل الغوص
في هذا المضمار والتمعن في بعض الأفكار التي
تؤرقها، المتعلقة بما أسمته "معضلات
التقايس والمقاربة". فكان هذا الفصل (الذي
يبدو وكأنه أُقْحِمَ إقحامًا على الموضوع)،
حيث تعرَّضت لما أسمته "نهضة الأمس وصحوة
اليوم"، وعلى الرغم من أهمية بعض ما جاء
فيه، ضعيفًا نسبيًّا وقليل التماسك. في ذلك الفصل تصدَّت لمسبِّبات
فشل تلك القلَّة من مفكِّري الوسطية
الإسلامية، التي "... استطاعت أن تنجو من
أخطبوط الخطاب المعياري والإطلاقي للجمهرة
المعتدلة..."، في تطوير مشروعها لأنها
حبست نفسها ضمن "... قيود كبَّلت نهضة
القرنين التاسع عشر والعشرين، وأسهمت في
جوانب عديدة من إخفاقاتها..."[18]،
فحدَّدتْ أسباب هذا الفشل بمعضلتين هما: "معضلة
التقايس"، أو لنقل، ما اعتبرته التماهي "...
مع الغرب ومنطلقاته الفلسفية والفكرية التي
أنتجت نماذجه في مضماري الحرية والديمقراطية..."[19]
– ذلك (التماهي) الذي كان، من منظورها، سبب
فشل النهضويين الأوائل الذين كانوا (من وجهة
نظر د. مهنا) أسرى هذه "العقدة". هذه "العقدة" التي لم
تتحرَّر منها دكتورتنا حين اعتمدت على نفس
منهج من دعتْهم بالـ"وسطيين"، بالتقايس
مع ذلك الغرب (الآخر) الذي لا نستطيع، من وجهة
نظري، إلا التقايس معه، ومع سواه. ودعت إلى
رفض ما أسمته بالفكر العلمانوي المادي والفكر
الإسلاموي المغالي والمتطرِّف، لأن ما دعته
بالفكر العلمناوي العربي مفتقِد، من وجهة
نظرها، للأصالة وللجوهر؛ وبالتالي، فهو ليس
مؤهلاً البتة "... لصياغة منظومات فكرية
متكاملة من شأنها أن تطرح بدائل عن الإسلام..."[20]؛
وحجتها في ذلك أن "... ثمة وقائع في التراث
الديني الإسلامي تقع في حقل الإيمانية.
فالحقيقة الإلهية منزَّهة، ومطلقة، وأي حجج
تقام لوضع الحقيقة العلمية أو الفلسفية في
موقع يتعارض مع الواقعة الإلهية هي حجج
مصطنعة وقصدية..."[21].
لذلك، ولما كانت "... قضية استنباط وسائل
[علمية] فعالة للتخلص من المقدَّسات
الإسلامية [المعطِّلة] للتطور هي قضية
مزيفة ومحاولة قاصرة لانتزاع الروح من جسد
الأمة [فإن] القضية الحقيقية تكمن في
كيفية استنفار الطاقات اللامحدودة لتلك
المقدَّسات من أجل أن تسهم في تحريك آلية بناء
الذات الإسلامية..."[22]. ومن أجل تحريك آلية بناء الذات
الإسلامية وحلِّ معضلة المقاربة الفكرية
القائمة، دعت د. مهنا لاستعمال أكثر الطرائق
الغربية نجاعةً وفعاليةً في التعامل مع "مقدَّسات"...
لا تُمسُّ من وجهة نظرها! ولأنه، لما كان من غير الممكن "...
ولوج عملية المقاربة المعرفية والعلمية
للتراث والتاريخ من خلال استخدام لغة كرَّستْ
خلال قرون الجمود والانحطاط خطابًا
إطلاقيًّا معياريًّا يعتمد أداة المونولوج
السردي الرتيب..."[23]،
دعت إلى اعتماد ما أسمته "سوسيولوجيا
اللغة والخطاب" (الديني طبعًا)، من جهة،
من خلال ما أسمته "سيميولوجية اللغة
والخطاب"؛ ودعت إلى تجديد الكود
اللغوي السائد، لأن هذه المناهج "... يمكن
أن تشكِّل منطلقًا لإحداث تبدلات في تركيب
الكود اللغوي الديني والجعبة المعرفية
العربية والإسلامية، بما يحقق تجاوزًا
للمقاربات التراثية النقلية واللانقدية
والإيديولوجية والملحمية..."[24]. وأقف حالمًا أفكر في أن "ذلك
الغرب اللعين"، الذي لا يحترم "المقدَّسات"،
لم ينتظر
نتيجة
إرهاصاتنا وتنظيراتنا ليستعمل طرائقه
اللغوية العلمية التي تدعو إليها د. مهنا،
فيطبِّقها على جميع النصوص المقدسة، بما فيها
مؤخرًا القرآن الكريم.[25] (5) وندخل أخيرًا مع د. مهنا في صلب
الموضوع من خلال هذا القسم (الفصل) الثالث من
الكتاب الذي يحمل عنوان "إشكاليات الحرية
والديمقراطية في الفكر الإسلامي المعاصر"،
حيث تبدأ باستعراض مواقف عدد من "المرجعيات"
المعاصرة من هذه القضية الأهم، فتعدد الكثير
منها: كالسيد فهمي الهويدي "...
الذي يتبنى موقف البغدادي في مجال الولاية،
إذ ينسبها حصرًا للأمة التي تُعَدُّ وحدها
مصدر السيادة، دون الخليفة، الذي هو... مجرَّد
أجير أو وكيل عنها..."[26].
هذه السلطة المدنية المنتخبة والقائمة على
ركيزتين هما: "الشورى ووجوب مساءلة
الحكام"[27]،
ولكن المقيَّدة من حيث حرية القول "...
بقيد واحد فقط هو ألا يكون الرأي طعنًا في
الدين أو خروجًا عليه، حيث يُعَدُّ ذلك
انتهاكًا للنظام العام للدولة..."[28]،
وذلك لأن "سلطة الأمة في الإسلام ليست
مطلقة بل هي مقيدة بالشريعة، بدين الله، ولا
تستطيع أن تتصرف إلا في حدود القانون الذي
يحتويه الكتاب والسنة..."[29]. أو السيد زكي أحمد (من
السعودية) الذي لا يعطي رأيًا أو موقفًا، إنما
يلاحظ، استنادًا إلى سواه، أن الخطاب
الإسلامي المعاصر أصبح يعكس تحولاً "...
نحو فهم أكثر وعيًا ونضجًا لمسألة
الديموقراطية..."[30]. أو السيد لؤي صافي الذي يرى "...
أن اعتماد الحداثة كأساس وحيد لتوجيه حركة
الأمة يؤدي إلى اقتلاع الفرد والمجتمع من
أسسهما الحضارية وإبعادهما عن جذورهما
الإيمانية والأخلاقية. وبالمثل، فإن التقوقع
في قوالب الماضي ورفض حركة التجديد والاجتهاد
يكرِّس حالة الفوضى والجمود التي تعيشها
الأمة بكل آلامها...". والحل، من منظوره،
هو في "... تجاوز الخصوصية التاريخية
للنظريات الفقهية التقليدية وتلافي القصور
المنهجي للتنظير المعاصر والدعوة إلى تأصيل
نظام سياسي يعتمد المعيار الإسلامي..."[31]. أو السيد محمد عمارة الذي
يلتقي معه، فيرى ضرورة توازن مصدرَيْ
المعرفة، أي "... الوحي وعلومه الشرعية
والوجود وعلومه الطبيعية، فلا تعتمد الوحي
وحده دون الوجود، وأيضًا لا تصنع العكس..."؛
فـ"... دولة الإسلام ليست الدولة الدينية
التي تنفي كون الأمة مصدر السلطات، وليست
الدولة العلمانية التي تبيح لسلطات الأمة
تجاوز عَقْد الاستخلاف بإباحة الحرام وتحريم
الحلال"[32]. أو السيد محمد عبد الجبار
الذي يعتقد "... أن المشروع الحضاري
الإسلامي ليس مشروعًا لأسلمة الناس أو لإقامة
الدولة الإسلامية بالمعنى السياسي، لأن هذا
المشروع يمكن أن يشتغل ويشمل حتى الناس غير
المسلمين؛ ويمكن أن يشتغل حتى لو لم تقم
الدولة الإسلامية... [لأن] ... المصدر
الطبيعي للقدرة الحقيقية للحكم هو الناس؛
وهذه مسألة لا علاقة لها بالحق أو الباطل.
فالإسلام لا يقدر أن يحكم الناس ما لم يخوِّله
الناس هذه القدرة..."[33]. أو السيد عبد الإله بلقزيز
الذي يؤكد على أن "... النص القرآني يخلو
تمامًا من أي تشريع في المجال السياسي، إذ
فيما خلا "وأمرهم شورى بينهم" و"وشاورهم
في الأمر" لا توجد نصوص تقطع بشكل النظام
السياسي أو بطبيعته"[34]. أو السيد رضوان السيِّد
الذي يرى "... أن فكرة الشورى لم تتطور
لتعني سلطة أو حكم الجمهور؛ فقد تحددت في عصر
الراشدين بكبار الصحابة..."[35]. أو السيد برهان غليون الذي
يثني على القدرة الاستثنائية للإسلام على
التأقلم مع الظروف المتغيرة والتماشي مع
التاريخ؛ مما يعني إمكانية قبوله متغيرات
العصر وقبوله بالديمقراطية. أو السيد حسن حنفي الذي
يعتقد أنه "إذا كانت الديمقراطية تعني
عدم التكفير والتسليم بوجود وجهات نظر مختلفة
لها حقُّ التعبير فالإسلام مع هذا"[36]. أو السيد منير شفيق الذي
يؤكد على ضرورة الديمقراطية. أو السيد حسين فضل الله
الذي يرى "... أن الديمقراطية مفهوم غربي،
لذلك لا يمكن فرضه على الإسلام بمفهومه
الفكري الذي يتلخَّص في أن الشعب هو مصدر
السلطات، وأن الشعب هو مصدر شريعة القانون
كما هو مصدر شريعة الحكم، لأن الإسلام في
الجانب الشرعي المتعلِّق بالله وبالرسول ليس
منطلِقًا من رأي الأكثرية في شرعيَّته، بل هو
يمثل الشرع الحاسم، حتى لو رفضته الأغلبية،
وكان هناك إجماع عالمي ضده. ولكن يمكن
الالتقاء مع الديمقراطية في بعض الأساليب
التي تتصل بالحكم والحكام"[37]. أو السيد محفوظ الذي يحبِّذ
الديمقراطية. أو السيد أحمد الريسوني
الذي، وإن كان يحبذ الديمقراطية كما يدَّعي،
يرى "... أنه من الوجهة الإسلامية لا بدَّ
لكلِّ حركة وتجمُّع وحزب أن يكون مع الصيغة
الإسلامية للمجتمع والدولة..."[38]. أو السيد محمد عويضة الذي
يرى "... أن الإسلام ليس مع الديمقراطية
بمفهومها السلفي كما كانت عند اليونان
القدامى، بمعنى أن المرجعية للقرار الشعبي،
حتى ولو قرر الشعب تحليل بعض المحرمات... إنما
الشورى الإسلامية هي التي تدعو إلى المشاركة
في القرار. أما فيما يتعلق بالمرجعية في
الشورى الإسلامية، فإنها للشرع. داخل إطار
الشرع يمكن للناس أن يجتهدوا؛ ولا مانع من أخذ
رأي أغلبية الناس. وعلى هذا الأساس، فإنه ليس
هناك مجال لشيوعي أو لعلماني"[39]. أو السيد الغنوشي الذي يسجل
تطور المفاهيم الإسلامية بفضل الاجتهاد فيما
يتعلق بالموقف من الديمقراطية والتعددية. أو السيد شوقي ضيف الذي
يسجل اختلاف الفقهاء فيما يتعلق بتفسير آيتي
الشورى. أو السيد عادل عبد الهادي
يدعو لولاية الفقيه ولنهضة الأمَّة. وتحاول دكتورتنا إيجاد القاسم
المشترك المتعلق بالديمقراطية بين مختلف هذه
الآراء الإسلامية التي تدعوها بالديمقراطية
فيما تدعوه "مرتكزات الفكر الإسلامي
المستنير"، فتحاول وضع أسس ومفاهيم يمكن
أن تشكل "... لبنات أولى في عملية البناء
المعرفي الذي أصبح تبنِّيه ضرورة ملحَّة..."[40]
– أسس ومفاهيم يبدو أنها لم تقنعها ضميريًّا،
حيث سرعان ما تعود لتنسفها في الفقرة التالية
التي تتناول فيها ما تدعوه "إشكاليات
الفكر الإسلامي المستنير". وهذه
الإشكاليات التي يصيب أغلبُها قلبَ الموضوع
هي: -
كون سيادة
الأمة وإرادتها خاضعتان "... لسقف قطعيات
الشرع وأساسيات الدين..."[41]. -
حقيقة أن
الأمة لا تتمتع "... بحرية الاختيار
المفتوح اللانهائي... فحرية الاعتقاد وحرية
القول تستوجبان ألا يكون الرأي تشكيكًا
بالدين أو خروجًا عنه..."[42]. -
هل تعني
الشورى حتمية التزام الحاكم بما يشير عليه
أهل الرأي؟ -
من هم أهل
الحلِّ والعقد على وجه الدقة؟ -
من هم أهل
الاجتهاد؟ -
ما
وضع الأقلية السياسية وحقوقها ووظائفها في
ظلِّ حكم إسلامي؟ -
هل
المعارضة مقيَّدة بسقف قطعيَّات مرتبطة
بالعقيدة وبالتشريع أم لا؟ -
"هل
يمكن تشكيل أحزاب سياسية تحتضن مختلف العقائد
والفلسفات والتيارات الفكرية؛ أم أن ثمة
شروطًا وقيودًا ترتبط بطبيعة الحكم الإسلامي
ومتطلباته؟"[43] -
"ما
هو وضع الأقليات الدينية والمذهبية والعرقية
والأقوامية داخل الدولة الإسلامية؟"[44] تساؤلات كثيرة يمكن، في
النهاية، تلخيصها في التساؤل ما قبل الأخير:
هل الديمقراطية مقبولة إسلاميًّا، أم أنها "...
تحمل في ثناياها فلسفة لا تلائم الإسلام؟"[45]
وكذلك التساؤل الأخير: هل يمكن الاستعانة
ببعض المصطلحات الغربية المتعلقة بها، و/أو
أنه من المستحسن رفض هذه المصطلحات الغربية
واستخراج أخرى إسلامية بحتة؟ وهي تساؤلات تعكس حالة أزمة
وتشكِّل، في نظر دكتورتنا، وفي نظر جميع من
تدعوهم "علماء الإسلام المستنير"،
إشكاليات عويصة فعلاً لأن "... أي مقاربة
في موضوعات الحرية والديمقراطية لا تستقيم
بالضرورة إلا من خلال أطروحات تمر بالضرورة
عبر المفاهيم الإسلامية المرتبطة بالوجود
والعقيدة والتشريع وطرائق الحياة..."[46]،
و"... لأن المرجعية الأولى والأعلى في أية
مقاربات تنظيرية إسلامية هو القرآن الكريم
الذي يجسِّد جوهر الوجود والمصير الإنساني في
الدنيا وفي الآخرة..."[47]،
ولأن "... القرآن لا يحتوي أي حيثيات ترتبط
بملامح التنظيم السياسي أو أشكال الحكم التي
يفترض أن يلتزم بها المسلمون..."[48]
– ما عدا آيتي الشورى. لذلك كان كلُّ هذا
الجهد لجعل هاتين الآيتين أساس "... بناء
فكري متكامل حول موضوعات الحرية
والديمقراطية..."[49].
ولكن... "... لما كانت [هاتان]
الآيتان لا تدلان بحال [حتى] على إلزامية
الشورى، وما يجهد في قوله بعض أهم مفكري
التنوير لتثبيت هذه الإلزامية يعتمد على
مداورة لغوية وإضفاء معانٍ إضافية على
الألفاظ، غير متضمنة إطلاقًا في التعبير
القرآني الدقيق..."، مما قد يجعل "...
تحميل آيتي الشورى هذا الصرح من المفاهيم
لصياغة مقومات ديمقراطية إسلامية هو كتشييد
بناء شاهق فوق أساس قليل العمق..."[50]،
فإن د. مهنا – وبجرأة المؤمن النابعة من ألمه
حين يجابه حقيقة مغايرة – تصيح متسائلة: "...
إذا كانت آيتا الشورى غير معنيتين بموضوع
تنظيم الحياة السياسية للمسلمين، أين
القرآن، إذن، من قضايا الديموقراطية
والحرية؟ هل يُعقَل أن يُغفِل كتاب الله هذه
المسائل الجوهرية؟"[51] ولما كان الجواب، من منطلق
إيماني، هو قطعًا لا، فإن جواب د. مهنا للخروج
من هذه الإشكالية هو من خلال فهم ديني يخرق
سقف تلك المحرمات التي وضعها البشر، أي
الارتقاء إلى فهم أعلى وأرقى للحقيقة
الدينية. وهذا، من وجهة نظري، جواب يستحق
كلَّ احترام الاختصاصيين ومتابعتهم وتقديرهم. (6) وهذا، من وجهة نظري أيضًا،
الأساسُ والجوهر والخلاصة من كتابها الذي كان
من المفترض أن ينتهي عند هذه النقطة. هذا هو
الأساس، رغم أن الدكتورة (التي قد لا تشاركني
وجهة نظري هذه) فضَّلتْ – بكل إخلاص – أن
تتابع هذه الفكرة في الفصلين الأخيرين من
كتابها بعنوان "الحرية والديمقراطية في
النصِّ المقدس" (القسم [الفصل] الرابع من
الكتاب) و"مفهمة الديمقراطية الإسلامية"
(القسم [الفصل] الخامس من الكتاب). لكنها، ربما، لم تكن مؤهَّلة
تمامًا في محاولتها الصادقة للارتقاء بفهم
هذه الحقيقة، فغرقت مرة أخرى فيما كان ينبغي
ألا تغرق فيه؛ أقصد العودة مجددًا إلى الآراء
والمفاهيم المتناقضة لمشرِّعين قد يكونوا هم
أنفسهم غير مؤهَّلين لتناول الموضوع،
والعودة لطرح ما سبق وطرحتْه من إشكاليات. بينما الأساس من الكتاب كان –
وسيبقى – كما عبَّرت بكل صدق في نهايته: "قد
آن الأوان لأن يحقق الإسلام في العالم هذه
القفزة النوعية التي أصبحت مصيرية والتي من
شانها أن تؤهل الأمة الإسلامية للتحول من
كتلة خاملة مغلوبة على أمرها، تنتظر، عاجزة
ومحبطة، كوارث الغزو الخارجي بلبوسه
العولمي، إلى خير أمَّة أخرجت للناس، تسهم في
تحقيق حياة أفضل وأكرم للبشرية جمعاء". *** *** *** [1]
القرآن الكريم، الشورى 42: 38. [2]
القرآن الكريم، آل عمران 3: 159. [3]
د. فريال مهنا، لا ديمقراطية في الشورى،
دار الفكر، دمشق، 2003، ص 10. [4]
نفس المرجع، ص 17. [5]
نفس المرجع، ونفس الصفحة. [6]
نفس المرجع، ص 19. [7]
نفس المرجع، ص 20. [8]
نفس المرجع، ص 21. [9]
نفس المرجع، ص 22. [10]
نفس المرجع، ونفس الصفحة. [11]
نفس المرجع، ص 25. [12]
نفس المرجع، ونفس الصفحة. [13]
نفس المرجع، ص 27. [14]
نفس المرجع، ص 29. [15]
نفس المرجع، ص 30. [16]
نفس المرجع، ص 32. [17]
نفس المرجع، ص 36. [18]
نفس المرجع، ص 39. [19]
نفس المرجع، ونفس الصفحة. [20]
نفس المرجع، ص 44. [21]
نفس المرجع، ص 49. [22]
نفس المرجع، ص 50. [23]
نفس المرجع، ص 54. [24]
نفس المرجع، ص 76. [25]
راجع بهذا الخصوص في معابر مراجعة
لكتاب دراسة في لغة القرآن، لمؤلِّفه ك.
لوكسنبرغ، باب "كتب وقراءات"، آب 2003. [26]
د. فريال مهنا، لا ديمقراطية في الشورى،
ص 80. [27]
نفس المرجع، ص 82. [28]
نفس المرجع، ص 81. [29]
نفس المرجع، ص 84. [30]
نفس المرجع، ص 87. [31]
نفس المرجع، ص 87-88. [32]
نفس المرجع، ص 89-90. [33]
نفس المرجع، ص 91. [34]
نفس المرجع، ص 92. [35]
نفس المرجع، ص 93. [36]
نفس المرجع، ص 96. [37]
نفس المرجع، ص 96-97. [38]
نفس المرجع، ص 98. [39]
نفس المرجع، ص 98-99. [40]
نفس المرجع، ص 105. [41]
نفس المرجع، ص 106. [42]
نفس المرجع، ونفس الصفحة. [43]
نفس المرجع، ص 107. [44]
نفس المرجع، ص 107. [45]
نفس المرجع، ص 108. [46]
نفس المرجع، ونفس الصفحة. [47]
نفس المرجع، ص 109. [48]
نفس المرجع، ونفس الصفحة. [49]
نفس المرجع، ص 110. [50]
نفس المرجع، ص 115. [51]
نفس المرجع، ص 116.
|
|
|