ديانة فنان

(1 من 2)

 

 رابندرانات طاغور

 

1

ليس العام 1861 الذي شهد مولدي بعام ذي بال في التاريخ، لكنه عام ينتمي إلى عصر عظيم من عصور البنغال، عصر تلاقت فيه تياراتُ حركات ثلاث في حياة بلادنا. أما إحداها، ألا وهي الحركة الدينية، فقد استهلَّها رجل عظيم الهمة، جبار الفطنة، هو راجا رَمُّهَن رُوْي Raja Rammohan Roy. وكانت هذه الحركة حركة ثورية لأنه حاول أن يعيد فتح مجرى الحياة الروحية الذي لبث سنين عديدة مسدودًا برمال وأنقاض العقائد التي كانت شكلانية ومادية وراسخة في الممارسات الخارجية التي تفتقر إلى المغزى الروحي. ذلك أن قومًا متشبثين بماضٍ بالٍ يتيهون بقِدَم ما يتراكم لديهم من هذا الماضي وبرفعة الجدران الأثيلة التي تطوِّقهم، ويصيبهم الهلع ويستولي عليهم الغضب يوم يُقدِم أحد الأرواح العظيمة، أحد مُحبِّي الحقيقة، على تحطيم زنزانتهم ويغمرها بسطوع شمس الفكر وبنسمة الحياة. فالأفكار تبعث الحركة؛ وهم يرون في الحركات التقدمية جميعًا خطرًا يهدد أمن مستودعهم.

كان هذا يحدث في حوالى الوقت الذي ولدت فيه. ويشرفني أن أقول إن والدي كان واحدًا من أئمة تلك الحركة العظام، الحركة التي عانى في سبيلها من مقاطعة الناس ومن تحدِّي الإهانات الاجتماعية. ولقد ولدت في هذا الجوِّ من حلول المثل الجديدة التي كانت في الوقت نفسه قديمة، بل أقدم من كلِّ الأشياء التي كان ذلك العصر يتباهى بها.

وكانت ثمة حركة ثانية لا تقل عن الأولى أهمية. فقد كان بَنْكيم تْشَنْدرا جادرجي Bankim Chandra Chatterjee (الذي كان معاصري، رغم كونه أسن مني، وعاش بما يكفي لكي أحظى برؤيته) أول رواد الثورة الأدبية التي حصلت في البنغال حوالى ذلك الوقت. كان أدبُنا قبل مَقدَمه يعاني قمعَ بيانٍ متحجِّر يخنق حياته ويثقل عليها بزخارف صارت لها أغلالاً. ولقد كان بنكيم تشندرا من الإقدام بحيث عارض السُّنَّةَ المؤمنة بطمأنينة شواهد القبور وبذلك الجزم الذي ليس له أن ينتمي إلا إلى ما لا حياة فيه، فرفع عن لغتنا عبء جثمان الأشكال الجسيمة، وبلمسة من عصاه السحرية أيقظ أدبنا من سباته الدهري، ليفصح لنا، يوم استفاق في امتلاء قوته وحُسْنه، عن موعد عظيم ورؤيا للجمال.

شهد ذلك الوقت أيضًا انطلاقة حركة أخرى عُرِفَتْ بالحركة الوطنية. ولم تكن هذه الحركة بالحركة السياسية تمامًا، لكنها طفقت تُعْرِب عن عقل قومنا الذين كانوا يحاولون الإصرار على شخصيتهم. ذلك كان صوت صبر عيل أمام الإذلال الذي انهال به علينا أناسٌ ما كانوا بمشرقيين، وكان من عادتهم، في ذلك الوقت خاصة، أن يقسموا العالم البشري بحدة إلى أخيار وأشرار طبقًا لنصف الكرة الذي ينتمون إليه.

لقد كانت روح التفرقة المزدرية هذه تؤذينا على الدوام وتُنزِل بعالمنا الثقافي ضررًا فادحًا؛ كما كانت تولِّد في شبابنا ارتيابًا في كلِّ الأشياء التي تحدَّرت إليهم كإرثٍ من ماضيهم. فكانت الصور الهندية القديمة وغيرها من التحف الفنية تتعرض لسخرية طلبتنا المُحاكين سخريةَ مدرِّسيهم الأوروبيين في عهد سيادة القيم المادية ذاك.

ولئن كان معلِّمونا أنفسهم قد غيروا رأيهم فيما بعد لم يكن تلامذتهم بعدُ قد استردوا الثقة التامة بجدارة فنِّنا إلا بشقِّ النفس؛ ذلك أنهم مروا بفترة طويلة من التشجيع على فتح شهيَّتهم لنُسَخٍ من الدرجة الثالثة عن لوحات فرنسية، عن الصور الزيتيةِ النقلِ المبهرجة والخسيسةِ الرخصِ، عن لوحات هي نتاج دقة آلية ذات سوية مبتذلة، وكانوا لا يزالون يعتبرون القدرةَ على الرفض الأنوف للأعمال الإبداعية المشرقية سمةً من سمات الثقافة الرفيعة.

لقد كان شبابُ تلك الفترة العصريُّ يهزون رؤوسهم قائلين إن الأصالة الحق لا تكمن في اكتشاف إيقاع الجوهريِّ في قلب الواقع إنما في الشفاه المكتنزة والوجنات المخضبة والنهود العارية للصور المستوردة. وقد نُمِّيت روحُ الرفض عينها، وليدة الجهل التام، في قطاعات أخرى من ثقافتنا، وكانت ثمرة التنويم الذي زاوله على عقول جيل الشباب أناسٌ جَهْوَريو الصوت وأقوياء الذراع. لقد أُشرِعَت الحركة الوطنية لكي تعلن أننا ينبغي ألا نكون غير مميِّزين في رفضنا للماضي. وتلك لم تكن حركة رجعية، بل كانت حركة ثورية لأنها نهضت بجسارة عظيمة لتتنكر لكلِّ تيه بمجرد الاقتباس ولتناهضه.

كانت هذه الحركات الثلاث ناهضةً قُدُمًا؛ وفي ثلاثتها جميعًا قام أفراد أسرتي بدور فعال. ولما كنا مقاطَعين من جراء آرائنا الدينية المارقة فقد تمتعنا بحرية المنبوذين، وكان علينا أن نشيِّد عالمنا بأفكارنا وطاقتنا العقلية الخاصة.

ولدت وترعرعت في جوٍّ تلاقت فيه حركاتٌ ثلاث كانت ثورية جميعًا. وكان على أسرتي أن تحيا حياتها الخاصة، الأمر الذي قادني منذ حداثة سنِّي إلى التفتيش عن الهداية في سبيل إعرابي الخاص عن نفسي بمعياري الجَوَّاني الخاص للمحاكمة. أما واسطة التعبير فكانت من غير شك لغتي الأم. لكن لغة الشعب كانت في حاجة إلى تطويع وفقًا للدافع الذي كنت أستشعره كفرد.

لا يستديننَّ شاعرٌ واسطتَه جاهزةً من حانوت من حوانيت الوجاهة التقليدية؛ إذ عليه ألا يملك بذاره الخاص وحسب، بل وأن يُعِدَّ تربتَه الخاصة أيضًا. فلكلِّ شاعر واسطته اللغوية المتميزة – لا لأن اللغة برمَّتها من صنعه، بل لأن استعماله الفردي لها، وقد نال لمسة الحياة السحرية، يصيِّرها وعاءً خاصًا من إبداعه هو.

إن لدى بني الإنسان شعرًا في قلبهم، ولا مناص لهم من الإعراب، بقدر الإمكان، إعرابًا كاملاً عن مشاعرهم؛ وهم من أجل هذا في حاجة إلى واسطة، متحركة ومطواعة، بوسعها مجددًا أن تصبح، على كرِّ العصور، خاصتَهم وحدهم. ولقد كابدت اللغات العظيمة كلُّها، وما فتئت تكابد، تغيراتٍ مستمرة. أما تلك اللغات التي تقاوم روح التغيير فمحكوم عليها بالهلاك ولن تثمر أبدًا عن غلال وفيرة من الفكر والأدب. فعندما تتحجَّر الأشكال، إما أن تقبل الروح صاغرةً حبسها ضمنها وإما أن تتمرد. وكلُّ الثورات إنما هي عبارة عن جهاد الداخل ضد اجتياح الخارج.

ثمة فصل عظيم من فصول تاريخ الحياة على هذه الأرض وَجدتْ فيه قوة جَوَّانية لا تعانَد في الإنسان طريقَها إلى مخطط الأشياء، ورفعت صوتها المنتصر الثائر صارخة بأن بهيمة الجسد الضخمة الغاشمة لن تقهرها من الخارج. أي عجز كان عجزها في تلك اللحظة؛ ولكن ألم تكد تنتصر؟ وفي حياتنا الاجتماعية أيضًا تندلع الثورة عندما تتركز قوة ما في الترتيبات الخارجية وتنذر باستعباد القوة التي في داخلنا لأغراضها الخاصة.

عندما تصير منظمة ما، هي آلة، قوةً مركزية، سياسية، تجارية، تربوية أو دينية، فإنها تعيق الجريان الحر للحياة الداخلية للشعب وتكمن له وتستغله لكي تزيد من سلطانها. واليوم يتضاعف مثل هذا التركيز للسلطان بسرعة في الخارج وتتعالى صرخة روح الإنسان المقموعة في الفضاء، مجاهدةً لتحرير نفسها من قبضة اللوالب والمزاليج ومن الهواجس الفارغة.

على الثورة أن تبدأ وعلى البشر ألا يبالوا بالتشنيع وسوء الفهم، وخصوصًا من جانب أولئك المريدين البقاءَ مرتاحين، المطمئنين إلى المادية، والمنتمين فعلاً إلى الماضي الميت لا إلى العصر الحديث، الماضي الذي عمَّر في قديم الزمان يوم كانت الغلبة للجسم والحجم الجُرْمانيين، وليس لعقل الإنسان.

إنما السيطرة الجسمانية البحتة سيطرة آلية، وما آلاتنا الحديثة سوى مغالاة في أبداننا، وإطالة لأوصالنا وتكثير لها. والعقل الحديث، في صبيانيته الساذجة، يبتهج بجثته البدنية الضخمة التي تمثل قوة مادية جامحة قائلاً: "خلِّني أحصل على اللعبة الكبيرة بدون أيِّ إحساس من شأنه إزعاجها." إنه لا يدرك أننا بهذا نعود إلى عصر ما قبل الطوفان الذي كان يتلذذ بإنتاجه للأُطُر الجُرْمانية العملاقة، غير تاركٍ أي متسع لحرية الروح الجَوَّانية.

ترتبط كل الحركات الإنسانية العظيمة في العالم بمثال عظيم ما. وقد يقول بعضكم بأن عقيدةً للروح كهذه ظلت طوال قرون ونيف تلفظ أنفاسها الأخيرة وهي الآن تحتضر، وبأنه لم يعد لدينا ما نتكئ إليه إلا القوى الخارجية والأسس المادية. بيد أني أقول من جانبي إن عقيدتكم قد ولَّى زمانُها منذ وقت بعيد. فقد زهقت في ربيع الحياة يوم اكتُسِحَ الحجمُ المجرد من على وجه البسيطة، وحلَّ محلَّه الإنسان الذي جيء به عاريًا إلى قلب الخليقة – الإنسان بجسمه العاجز، لكنْ بعقله وروحه اللذين لا يُقهران.

عندما بدأت حياتي كشاعر كان الكتَّاب بين جمهورنا المثقف يسترشدون بمراجعهم الإنكليزية التي كانت تمطرهم دروسًا ما كانت لتشبع عقولهم كلَّ الشبع. وأغلب الظن أنه كان من حسن طالعي أنني لم أحصل في حياتي أبدًا على ذلك الضرب من الدربة التعليمية الذي يُعتبَر لائقًا بصبيٍّ من أسرة محترمة. ولئن كنت لا أستطيع القول إنني كنت حرًّا كلَّ الحرية من التأثير الذي كان يحكم العقول الفتية لتلك الأيام فإن مسلك كتاباتي نجا مع ذلك من أخدود الأشكال المطبوعة. ففي نظمي ومفرداتي وأفكاري سلَّمت أمري لشطحات مخيِّلة فطرية، الأمر الذي جلب عليَّ تعنيف النقاد المثقفين وقهقهة الظرفاء. وهكذا صيَّرني جهلي، مجتمِعًا مع زندقتي، مارقًا أدبيًّا.

عندما بدأت سيرتي الأدبية كنت شابًّا إلى حدِّ السخرية؛ والواقع أنني كنت الأصغر في تلك العصبة التي جعل أفرادُها أنفسَهم ينطقون. لم يكن بحوزتي لا درعُ سنِّ الرشد الحصين ولا ما يكفي من الإنكليزية لفرض الاحترام. وبذا وجدت حريتي في عزلة الازدراء وفي التشجيع المتحفظ. وشيئًا فشيئًا كبرت في السن – الأمر الذي لا أدَّعي لنفسي فضلاً فيه – وشققت طريقي بثبات عبر الهزء والرعاية العَرَضية وصولاً إلى اعتراف كانت نسبةُ المدح إلى القدح فيه أشبه ما تكون بنسبة اليابسة إلى البحر على أرضنا.

وإن ما منحني الإقدامَ يوم كنت شابًا هو اطلاعي المبكر على قصائد البنغال الفِشناوية القديمة التي تنضح بحرية الوزن وجرأة التعبير. وأظن أنني لم أكن قد جاوزت الثانية عشر عندما بوشر بإعادة طبع هذه القصائد أول مرة؛ وقد حصلت خُلسة على نسخ منها من طاولات كتابة من كانوا أسن مني. وهنا لا بدَّ لي من الاعتراف، فيما يتعلق بتربية الصغار، بأن ذلك لم يكن صوابًا لصبيٍّ في مثل سني. إذ كان حريًّا بي أن أجتاز امتحاناتي، لا أن أسير في درب يقود إلى خسارٍ في العلامات. كما لا بدَّ لي أيضًا من الإقرار بأن معظم هذه القصائد الغنائية كان عشقيًّا وما كان ليناسب تمامًا صبيًّا على أعتاب المراهقة. لكن خيالي كان منصرفًا كلَّ الانصراف إلى جمال أشكالها وموسيقى كلماتها؛ أما نَفَسُها العابق بالشهوانية فقد تغاضى عن عقلي ولم يشغله.

ولقد كان لتسكعي على درب مسلكي الأدبي سببٌ آخر. فوالدي كان زعيم حركة دينية جديدة، هي توحيد متشدِّد قائم على تعاليم الأوبنشاد. وقد حَسِبَه مواطنوي في البنغال يكاد يماثل المسيحي سوءًا، إن لم يكن أسوأ. وهكذا قوطعنا تمامًا، الأمر الذي أحسب أنه نجَّاني من نكبة أخرى، نكبة محاكاة ماضينا.

كان معظم أفراد أسرتي يتمتع بموهبة ما – فبعضهم كان فنانًا، وبعضهم شاعرًا، وبعضهم الآخر موسيقيًّا؛ وكان جو منزلنا كلُّه تسري فيه روح الإبداع. وكان لديَّ، منذ الطفولة تقريبًا، إحساسٌ عميق بجمال الطبيعة وشعور حميم بصحبة الأشجار والغيوم، وكنت أشعر بتناغمي مع اللمسة الموسيقية للفصول في الفضاء. وكان لديَّ، في الوقت نفسه، إحساس عجيب الرهافة باللطف الإنساني. فكانت هذه كلها تتحرق شوقًا للإفصاح عن نفسها. لذا فإن صدق انفعالاتي نفسه كان يتوق إلى صدقها مع نفسها، مع أنني كنت من النضج أقل بكثير من أمنح التعبيرَ عنها أيَّ كمال في الشكل.

مذ ذاك ذاع صيتي في بلادي، لكن تيارًا قويًّا من المعاداة ظل مستمرًا حتى وقت متأخر في قطاع واسع من مواطنيَّ. قال بعضهم إن قصائدي لم تنبجس من قلب الوطن؛ وشكا بعضهم بأنها مستغلقة على الفهم، وبعضهم الآخر بأنها مُفسِدة للأخلاق. والواقع هو أني لم أنل أبدًا قبولاً تامًا من شعبي؛ وذلك أيضًا كان بركة لي؛ إذ ما من مثبط للهمم كالنجاح المطلق.

تلكم قصة سيرتي. وليتني كنت أستطيع أن أبوح بها بوضوح أكبر عبر سرد منجزاتي بلغتي الخاصة. غير أني آمل أن يصبح ذلك ممكنًا في يوم من الأيام. فاللغات ضنينة؛ وهي لا تنزل عن خيرة كنوزها لمن يحاول التعامل معها عبر وسيط ينتمي إلى مُزاحِم أجنبي. لذا علينا أن نتودد إليها شخصيًا ونقول لها: لبَّيكِ. فالقصائد ليست قابلة للنقل كسلع السوق مثلما أنه ليس بمستطاعنا أن ننال ابتسامات محبوبتنا ونظراتها عن طريق وكيل، مهما كان مجتهدًا ومتفانيًا.

ولقد حاولت بنفسي أن أنهل من غنى الجمال في آداب اللغات الأوروبية قبل أن أفوز بالحق الكامل في ضيافتها بوقت طويل. فحين كنت شابًّا حاولت الدنو من دانتي، عبر ترجمة إنكليزية لسوء الحظ، وفشلت فشلاً ذريعًا، شاعرًا بأن من صدق واجبي أن أكفَّ عن المحاولة. وما فتئ دانتي كتابًا مستغلقًا علي.

وددت أيضًا معرفة الأدب الألماني وظننت أنني بقراءة هاينه مترجمًا قد التقطت قبسًا من الجمال فيه. وكان من حسن طالعي أنني التقيت سيدة مبشِّرة من ألمانيا وسألتها يد العون. وقد عملت مجدًّا لبضعة أشهر، لكنني نظرًا لحدة ذهني – وهي ليست بخصلة حميدة – لم أكن مواظبًا. كنت أتمتع بذلك الاستعداد الخطِر الذي يساعد المرء على حزر المعنى بسهولة كبيرة؛ فظنت معلمتي بأني كدت أتمكن من اللغة، الأمر الذي لم يكن صحيحًا. بيد أني نجحت في اجتياز هاينه، مثلي كمثل سائر في نومه يجتاز بيسر دروبًا مجهولة، واجدًا في ذلك لذة هائلة.

ثم جربت غوته. لكن ذلك كان أبعد من متناول طموحي. فبمساعدة القليل من الألمانية الذي حصَّلتُه طالعتُ فاوست فعلاً. وفي ظني أنني حصلت على حق الدخول إلى القصر، لا كمن في حوزته مفاتيح لجميع الأبواب إنما كزائر غير رسمي أجيز له الجلوس في مضافة عامة، مريحة لكنها ليست حميمة. وصادق القول إنني لا أعرف غوته الخاص بي؛ كما لا يزال، على النحو نفسه، العديدُ من الكواكب الدرية العظيمة الأخرى غامضًا في نظري.

وهذا ما ينبغي أن يكون الأمر عليه. فالإنسان لا يستطيع بلوغ المحجَّة ما لم يقم للحج. فلا يأملنَّ أحدٌ بالعثور على شيء حقيقي من لغتي مترجمةً.

أما فيما يتعلق بالموسيقى فأدَّعي بأن فيَّ شيئًا من الموسيقي. فقد ألَّفت أغاني عديدة تحدَّتْ سُنَنَ اللياقة المعمول بها؛ والطيبون من الناس مشمئزون من صفاقة رجل ليس جريئًا إلا لأنه غير مهذَّب. لكنني مثابر على ذلك، والله يغفر لي لأني لا أدري ما أفعل. ولعل ذلك خير الطرق للقيام بالأمور في فلك الفن؛ فإني أجد الناس ينحون باللائمة لكنهم أيضًا يتغنون بأغانيَّ، وإن لم يكن ذلك يتم دومًا على الوجه الصحيح.

أرجو ألا تظنوا فيَّ الغرور. فبوسعي الحكم على نفسي حكمًا موضوعيًّا والإعراب بصراحة عن إعجابي بأعمالي لأنني متواضع. ولست أتردد في القول إن أغانيَّ وجدتْ مكانَها في قلب أرضي في صحبة زهورها التي لا تنضب أبدًا؛ والقوم في المستقبل، أيام الفرح أو الحزن أو الاحتفال، سوف يغنونها. وهذا أيضًا عمل إنسان ثائر.

وإذا رغبتُ عن الحديث عن نظرتي إلى الدين فلأني لم أغْشَ ديانتي من أبواب القبول السلبي لعقيدة معينة من جراء حادث ميلاد ما. فقد ولدت ابنًا لأسرة كان أفرادها روادًا في بلادنا في إحياء ديانة تقوم على ما نطق به حكماء الهند في الأوبنشاد. إنما نظرًا لخصوصية مزاجي كان من المتعذر عليَّ قبول أي تعليم ديني بناءً على أن الناس في محيطي يؤمنون بصحته. إذ ما كان بوسعي إقناع نفسي بأن لي دينًا لمجرَّد أن جميع الذين قد أركن إليهم يؤمنون بقيمته.

إنما ديانتي، من حيث الجوهر، ديانة شاعر؛ ولمْسَتُها تأتيني، مثلها في ذلك كمثل إلهام موسيقاي، عبر المجاري غير المنظورة وغير المطروقة عينها. ولقد اتَّبعتْ حياتي الدينية خطَّ النمو الخفي عينه الذي اتَّبعتْه حياتي الشعرية. فهما، على نحو ما، مقترنتان واحدتهما بالأخرى؛ ومع أن خطبتَهما استغرقتْ فترة طويلة من المراسم فقد ظلت خافية عني. وآمل ألا أكون متباهيًا عندما أعترف بموهبتي الشعرية أداةَ تعبير متجاوبة برقة مع النسمة القادمة من أعماق الشعور. فمنذ طفولتي كانت لي الحساسية النافذةَ التي تُبقي عقلي مستوفزًا بوعي العالم من حولي، الطبيعي والبشري.

لقد أُنعِمَ علي بذلك الإحساس بالدهشة الذي يمنح الطفلَ حقَّه في دخول مَذْخَر السرِّ الكامن في قلب الوجود. وقد أهملت دروسي لأنها كانت تنأى بي بقسوة عن العالم من حولي الذي كان صديقي ورفيقي؛ وحين كنت في الثالثة عشرة تحررتُ من براثن منهج تعليمي لم يألُ جهدًا في إبقائي سجينًا بين الجدران الحجرية للدروس.

لم تكن لديَّ إلا فكرة مبهمة عمَّن أو عما كان يداعب أوتار قلبي، مثلي كمثل الطفل لا يعرف اسم أمه، من هي أو ما هي. والشعور الذي لازمني دومًا كان غبطة شخصية عميقة تتدفق في طبيعتي عبر مَجارٍ حية من التواصل من كلِّ صوب.

لقد كان من دواعي غبطتي أن وعيي لم يكن أبدًا فاترًا أمام وقائع العالم المحيط. فكان حسبي من الغيمة أنها غيمة، ومن الزهرة أنها زهرة، لأنهما كانتا تخاطبانني مباشرة ولأني ما كنت أستطيع إلا أن أبالي بهما. ومازلت أذكر تلك اللحظة إياها، عصر يوم من الأيام، إذ كنت قافلاً من المدرسة، وترجلتُ من العربة لأبصر في السماء فجأة، خلف شرفة بيتنا العليا، وفرة من السحب الممطرة الغويرة القاتمة تغدق ظلالاً ثرَّة باردة على الجو. وقد منحتْني روعتُها وسخاءُ حضورها عينه فرحًا هو الحرية – الحرية التي نشعر بها في محبة صديق عزيز.

هنالك مثال استخدمتُه في مبحث آخر، افترضت فيه أن غريبًا قادمًا من كوكب آخر ما قام بزيارة لأرضنا واتفق له أن يسمع صوتًا بشريًّا على الفونوغراف. إن كلَّ ما هو بيِّن في نظره ويبدو له متحركًا بوضوح هو القرص الدائر؛ إنه غير قادر على اكتشاف الحقيقة الشخصية الكامنة وراءه؛ وقد يقبل، بالتالي، حقيقة القرص العلمية اللاشخصية بوصفها نهائية – الحقيقة القابلة للَّمس والقياس. وقد يتساءل كيف يمكن لآلة أن تخاطب النفس. أما إذا اتفق له، في سعيه إلى كشف السرِّ، أن يبلغ فجأة قلب الموسيقى من خلال لقاء مع المؤلف لفَهِمَ على الفور معنى تلك الموسيقى كتواصل شخصي.

إن مجرد العلم بالوقائع، مجرد اكتشاف القدرة، ينتمي إلى الخارج، وليس إلى الروح الجَوَّانية للأشياء. فالسرور هو ميزان الحقيقة الوحيد كما نعرفه ساعة نلامس الحق بالموسيقى التي يمنحُها، بفرح التحية التي يبعث بها إلى الحقيقة فينا. ذلكم هو الأساس الحق لكلِّ الأديان، وهو ليس في دساتير الإيمان. فنحن لا نستقبل النور موجاتٍ أثيرية كما أسلفت؛ والصباح لا يلبث منتظرًا عالمًا من العلماء يقدِّمه لنا. وعلى النحو ذاته فإننا لا نلامس الحقَّ اللانهائي في داخلنا آنيًّا إلا حين ندرك الحقيقة الصرف للمحبة أو للطيبة، وليس عبر شروح اللاهوتيين، ليس عبر المناقشة المتبحِّرة للمذاهب الأخلاقية.

لقد سبق لي الاعتراف بأن ديانتي إنما هي ديانة شاعر؛ فكلُّ ما أشعر به حيالها مصدرُه الرؤيا وليس المعرفة. وأقول بصراحة إنني لا أستطيع تقديم إجابات مُرضية على أسئلة حول مشكلة الشر أو حول ما يحدث بعد الموت؛ ومع ذلك فأنا موقن بوجود لحظات لامستْ روحي فيها اللانهائي وأصبحت واعية له بشدة عبر استنارة الفرح. ولقد قيل في الأوبنشاد بأن عقولنا وكلماتنا ترتد عن الحق الأسمى حيرى، لكن من يعرف ذاك، عبر فرح روحه الفوري، يصبح بمنجى من كلِّ الشكوك والمخاوف.

في الليل نتعثر بأشياء ونعي بشدة انفصاليتها الفردية، لكن النهار يكشف لنا عن الوحدة العظيمة التي تكتنفها جميعًا. والإنسان الذي تستحمُّ بصيرتُه الداخلية في استنارة وعيه، يدرك على الفور الوحدة الروحية التي تسود مهيمنةً على كلِّ الاختلافات العرقية ويكف عقلُه عن تعثره الأخرق بالوقائع الفردية للانفصالية في العالم البشري، وعن قبولها باعتبارها قاطعة؛ وإنه ليدرك بأن السلام إنما يكمن في التناغم الداخلي الذي يقيم في الحقيقة وليس في أية تسويات خارجية؛ وذلك الجمال يحمل ميثاقًا أبديًّا لعلاقتنا الروحية بالواقع الذي ينتظر اكتمالَه في استجابة محبتنا.

***

ترجمة: ديمتري أفييرينوس

تنضيد: نبيل سلامة

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود