في نقد منطق الثنائيات
ثنائية المادة والصورة – ثنائية المضمون والشكل

 

حمزة رستناوي

 

إنَّ قانون الدَّائرة هو جوهرها
أسبينوزا

 

أولاً: مقدمة في منطق الثنائيات

ما يزال التفكير النمطي القائم على الثنائيات Dualities شائعًا سواء على المستوى التداولي اليومي الحياتي أو على مستوى المشتغلين بالفكر والفلسفة، وهو يعكس نسقًا يقوم على التقابل والتضاد. وما كان لهذا التفكير النمطي القائم على الثنائيات أن يصمد آلاف السنوات لو لم يكن مفيدًا ويؤدي غرضًا يبرِّر استمرار استخدامه، ولكنَّهُ في المقابل قد يوقعنا في إشكالات نظرية وعملية سنعرضها لاحقًا، إشكالات تبرِّر تجاوزه أو تقونن أشكال هذا الاستخدام، وسنقف عند ثنائيتين هما:

-        أولاً: ثنائية المادة والصورة Material and image duality

-        ثانيًا: ثنائية المضمون والشكل Content and Form duality

بتأمُّل العلاقة بين طرفي الثنائيتين السابقتين، يمكن استقراء ثلاثة احتمالات:

-       الانحياز إلى الطرف الأوَّل وتهميش الطرف الثاني وفقًا لصيغة المفاضلة، فالمادة والجوهر والمضمون – وفقًا لهذا الاحتمال - أكثر أهمية ومركزيَّة من الصورة والعرض والشكل، وهذا ما نجد مثاله في مقولة روبير بلانشي في "أولويَّة الجوهر على العرض كنتيجة لغلبة الموضوع على المحمول في القضية الحملية[1].

-       الانحياز إلى الطرف الثاني وتهميش الطرف الأوَّل كأن ننحاز إلى الصورة ضدَّ المادة، أو إلى العرض ضدَّ الجوهر أو إلى الشكل ضدَّ المضمون، ونجد تعبيرات هذا الانحياز للهامشي في مجال الفن وبعض مدارس النقد الأدبي عند الشكلانيين الروس والبنيوية الشكلانيَّة* وكذلك في المنطق الصوري عند أرسطو الذي يهتمُّ بشكل وصوريَّة المعرفة دون مصداقها الواقعي.

-       التكامل ما بين طرفي الثنائيَّة وهو الفهم الأكثر شيوعًا في أوساط المُشتغلين بالعلوم والمعرفة حاليّا، كلاهما ضروريٌّ ولا نستغني عن أحدهما من غير مفاضلة أو تفضيل.

ثانيًا: ثنائيَّة المادَّة والصورة

في التقليد الفلسفي المتراكم عبر القرون لا يُنظَرْ إلى مفهوم الصورة بمعزل عن المادة "فالمادة عند المفكِّرين الإغريق الأوائل تلتبس بالطبيعة physics وتعني بشكل أوليٍّ ما يجب تحويله بفعل العمل الإنساني، ولكن نلاحظ هنا أن أرسطو قد جعل منها، وبشكل أكثر تحديدًا، مفهومًا مجردًا عارَضَ به الصورة من أجل التأكيد على ذلك الكمون في موضوع الجسم الذي تجسِّده تلك الصورة[2]. المادة في الاصطلاح الأرسطي هي المعنى المقابل للصورة ولها بهذا الاعتبار وجهان:

-       الأول: دلالتها على العناصر غير المُتعيَّنة التي يمكن أن يتألف منها الشيء وتُسمى الهيولي أو المادة الأولى، وهي إمكان محض أو قوة مطلقة لا تنتقل إلى الفعل إلا بقيام الصورة فيها.. ويقال هيولي لكلِّ شيء من شأنه أن يقبل كمالاً ما، أو أمرًا ليس فيه فيكون بالقياس إلى ما ليس فيه هيولي وبالقياس إلى ما فيه موضوع[3].

-       الثاني: دلالتها على المعطيات الطبيعية والعقلية المعيَّنة التي يعمل الفكر على إكمالها وإنضاجها، فكل موضوع يقبل الكمال بانضمامه إلى غيره فهو مادة، وكل ما يترتب منه الشيء فهو مادة لذلك الشيء حسيًّا كان أو معنويًّا[4].

إذن ثنائية المادة والصورة مدرسيَّا تَجمَع ما بين مُتلازمين، فالمادة تحتاج إلى صورة توجد بها، والصورة تحتاج إلى مادة لتوجد بها كذلك، أي أنَّنا أمام علاقة تكامل وتلازم بينهما، وثنائية المادة والصورة لا تختصُّ بالحسِّي، بل هي تُستخدم في حقل المعنويَّات كذلك، حيث تطلق المادَّة عند كانط على معطيات التجربة الحسية من جهة ما هي مستقلة عن قوالب العقل، فمادة الظاهرة هي عنصرها الحسي، أما صورتها فهي العلاقات التي تضبطها وتنظم حدوثها، أمَّا "المادة في المنطق الأرسطي فهي الحدود التي تتألف منها القضية أو القضايا التي يتألف منها القياس، ومادة القضية هي الموضوع والمحمول اللذان تتألف منهما، أما صورتها فهي النسبة بين الموضوع والمحمول، وهي تنقسم بهذا الاعتبار إلى كلية وجزئية وموجبة وسالبة[5]. يميِّز أرسطو في الميتافيزيقيا ما بين أربعة أنواع للعلَّة:

-       أولاً: العلة المادية: ممَّا يتكوَّن الشيء، المادة المباطنة التي بواسطتها يظهر الشيء للوجود، فالبرونز هو علة التمثال المادية.

-       ثانيًا: العلة الصورية: هي الصورة أو الشكل، وهي الحدُّ الذي يحدِّد الجوهر والفصول التي يتضمنها الشيء، كما في النسب الهندسية للتمثال.

-       ثالثًا: العلة الفاعلة: كالأب الذي هو العلة الفاعلة للطفل.

-       رابعًا: العلة الغائية: وهي التي يسعى الشيء لتحقيقها ليكون هو نفسه، كالصحة التي هي علَّة المشي لغائية فهي ما من أجله نمشي[6].

ومن الواضح أن أرسطو هنا يستخدم تعبير العلَّة بمعناه المجازي أي مبادئ الشيء وليس العلة بالخاصة، لقد كانت النظرة الأرسطية إلى العلاقة بين المادة والصورة ذات بعد ميتافيزيقي "حيث صوَّر لنا العالَم الطبيعي على أنه ذلك العالم الذي يحتوي على كائنات وأشياء ذات مادة وصورة، وكما أن الصور تتسلسل إلى أعلى مراتبها حتى نصل إلى صورة خاصة لا مادة فيها هي صورة الإله - المُحرِّك الذي لا يتحرك - فإن السلسلة إن عدنا بها إلى الوراء أسفل الهيراركية فإننا نصل إلى مادة أولى First Matter لا صورة لها"[7].

ربطت الأرسطيَّة ثنائية المادة والصورة بثنائية أخرى هي: الوجود بالقوة potentiality والوجود بالفعل actuality، حيث أنَّ مبدأ الوجود بالقوة = المادة، ومبدأ الوجود بالفعل = الصورة. وقد عبَّر أرسطو بواسطة هذين المبدأين "عن مفهوم عصره للطبيعة physics التي كانت تعني في أصلها اللغوي النمو، والنمو يعني التغيير والتحوُّل ويشهد طرفي الولادة والموت أو الكون والفساد، فكانت قمة المشكلات محصورة في التمييز بين ما هو متحوِّل وما هو ثابت، والطبيعة تحتوي على الماهيات الثابتة أو الصور التي تمثل الوجود الحقيقي والدور الذي يضلع به العلم محصور في اكتشاف تلك الصور النوعيَّة[8]، فالتغيير يحدث باعتباره وجودًا بالقوة في حدود النطاق الثابت للوجود الفعلي في الطبيعة، فالعلم الأرسطي أي العلم القديم عمومًا كان في أغلبه صوريًّا أي بحثًا عن الصورة النوعية والماهية المغروسة في الطبيعة، وليس صوريًّا بمعنى شكليًا مفصول العلاقة مع الواقع، فأولى خصائص المنطق الأرسطي – وفقًا لجون ديوي - هو أنَّ صور ذلك المنطق ليست صورية، لأنها ليست بمعزل عن الكائنات الحقيقية التي تتألف منها المعرفة العلمية[9].

رفض وليم أوكايم 1295- 1449م مفهوم الهيولي وإمكانية الوجود بالقوَّة، وربَّما يكون نقده لمفهوم المادة الأرسطي هو الأهمُّ إلى مرحلة ما قبل العلم الحديث، فهو يرفض الوجود اللا- مُتعين لأن الإدراك الحسي لا يقع إلا على الموجود بالفعل، وبالتالي فإنَّ الوجود بالقوة لا يمكن - حسب اعتقاده - أن يوجد، وتبعًا لذلك فإنَّه يرفض فكرة الهيولي ويتصوَّر كبديل عنها مادة جسمية تكون موجودة بالفعل، وإذا كانت غاية أرسطو من افتراض وجود الهيولي هو أن يفسر التغير الجوهراني فهي غير لازمة مادام يمكن ردُّ جميع التغيرات إلى التغير العرضي[10].

ثالثًا: التعقيب على ثنائية المادة والصورة

إنَّ استمرار حضور التفكير النمطي القائم على ثنائية المادة والصورة ما كان له ليستمر لو لم يكن مفيدًا و يؤدِّي غرضًا يبرِّر استخدامه على المستوى التداولي اليومي الحياتي، نقول كأسًا من الزجاج أو كأسًا من البلاستيك، بيتًا من الأسمنت أو من الخشب ونحوه، وكذلك على مستوى العلوم الطبيعيَّة والفيزياء الكلاسيكية وتطبيقاتها الهندسيَّة.. الخ، ولكن تلك العلاقة ما بين المادة والصورة سرعان ما تتعقد عند الانتقال إلى المعارف الفلسفية والعقائدية، فالبعض يتكلم عن فلسفات مادية تؤلِّه المادَّة، ما هو شكل الروح؟ هل الله مادة؟ هل المادة خالقة ذاتها؟ ما هي صورة الإسلام؟ وما هي مادة الروح وصورتها؟! سنكتفي هنا بملاحظتين:

أ‌.       إنَّ المعارف السابقة أعلاه غير قابلة للتحقق الموضوعي، بما يخرجها من حقل العلم بالخاصَّة.

ب‌.  إنَّ استخدام ثنائية المادة والصورة في السياق أعلاه هو اسقاط وتعميم لنمط تفكير صالح في مجال المحسوسات ولا يمكن نقلهِ إلى مجال المعنويات، بغض النظر عن المردود المعرفي لهذا الاسقاط والتعميم.

إن المادة من غير شكل، أي ما يُسمَّى بالهيولي هي افتراض مناف/مستحيل البرهان شاع استخدامه في التراث الفلسفي اليوناني وفي القرون الوسطى ونسبوا إليه دورًا في عملية خلق الطبيعة والماورائيات، حيث تصادفنا مصطلحات من قبيل: العقل الهيولي أو النفس الهيوليَّة مثلاً.

إنَّ الصورة من غير مادة ما هي إلَّا تجريد محض يمكن قبوله شرطيًّا على أن يقترن فيما بعد بمادة، فحالما تَرِدْ في ذهننا كلمة صورة نتساءل صورة لماذا؟ أو يمكن قبوله مشروطًا بصلاحيات نظرية وعمليَّة معيَّنة تبرِّرهُ كما في علم الهندسة Geometry من دون أن نتساءل عن مادَّة المثلث أو المربَّع.

إنَّ الفهم الأرسطي للمادة كان محكومًا بشرطه التاريخي بحيث يميِّز جوهريًا بين مادة ومادة أخرى، ولم يأخذ بعين الاعتبار صوريَّة تشكُّل المادة، فلكل مادة صورة، ليس بمعنى العلة الصورية - الصورة النوعية - وفق المنطق الأرسطي، بل بمعنى أنَّ أيَّة مادة هي ذاتها صورة معيَّنة تختلف في صورة تشكُّلها عن مادة أخرى، ونظرية العلم الأرسطية قامت على فصل جوهراني ثابت بين الموجودات، في عالم ماهوي بالفطرة أي، عالم موجود بقوَّة الوجود.

في العصر الحديث أخذت العلاقة ما بين المادة وصورتها أبعادًا أخرى، فالمادة الواحدة – كيميائيًا - سواء وجدت بشكل ذرات أو جزيئات هي توجد بصور وأشكال مختلفة ومتنوعة في الطبيعة والكون، ونتعرَّف على نوع المادة وهويتها من خلال صورتها وخصائصها الفيزيائية أو الكيميائية، والخصائص الفيزيائية للمادة هي صورة كما أنَّ الخصائص الكيميائية هي بدورها صورة لذرات وجزيئات نتعرَّف عليها بالمعاينة المباشرة وغير المباشرة باستخدام تقنيَّات معيَّنة، وعقب اكتشاف قانون تكافؤ المادة والطاقة في النظرية النسبية الخاصة لأينشتاين، أي ط = ك. س² (بالإنجليزية: E=mc²) أي إن حاصل ضرب الكتلة في مربع سرعة الضوء يساوي طاقته، ستختفي الصورة النمطية للعلاقة ما بين المادة والصورة باختفاء المادة ذاتها، من حيث أنَّ المادة ما هي إلا طاقة مكثَّفة في صورة معينة، والطاقة ما هي إلا إمكان/إمكانات مختلفة للمادَّة كذلك، حيث يصحُّ القول بأنَّ المادة أو الطاقة تساوي صورة - أو شكل - وجودها، فلا يوجد مادَّة أو طاقة بلا صورة نتحسَّسُها ونعاين آثارها وتأثيراتها.

مع اكتشاف مبدأ الشكِّ لهايزبرج عام 1927 كأهم مبادئ نظرية الكم حيث ينصُّ على "لا يمكن تحديد خاصتين مُقاستين من خواص جملة كمومية إلا ضمن حدود معينة من الدقة" بما يعني أهمِّية المُعاين وأدوات القياس في عملية المُعاينة، أي أنَّ المادة وصورتها ليست واضحة أو يقينية بما يكفي لمعاينتها وتوصيفها وفقا للتصوُّر التقليدي الثنائي عن المادة والصورة، وبمعزل عن المُعاين نفسهُ وجملة القياس وكفاءة أدوات القياس نفسها.

لآلاف السنين اعتقد الإنسان أنَّ صورة الجسم أو الشيء هي بمثابة حقيقة نهائية ثابتة وأنَّها أمُّ اليقين، ولم يكن يدري أنَّ الصورة - التي يراها - ليستْ إلا إحدى الصور الكثيرة الممكنة لهذا الجسم أو الشيء، وهي صورة الضوء المرئي المسؤول عن حاسة الإبصار، وهو إشعاع كهرومغناطيسي مرئي للعين البشرية، يتراوح الطول الموجي للضوء ما بين 400 نانومتر (nm) أو 400×109 م، إلى 700 نانومتر أي بين الأشعة تحت الحمراء (الموجات الأطول) والأشعة فوق البنفسجية (الموجات الأقصر)[11] بما يعني أنَّ للجسم أو الشيء صور مختلفة، بالأشعة تحت الحمراء، بالأشعة فوق البنفسجية، بالأشعة السينية، بالأشعة ما فوق الصوتية، بأشعة غاما ..الخ وكلُّها صورة مختلفة لنفس الجسم أو الشيء، ولكل صورة منها استخدامها وصلاحيَّتها سواء في حقل العلوم الطبية أو العسكرية أو الفلكية أو غيرها. إنَّ صورة الجسم أو الشيء لا تتعلَّق فقط بالمعاين وبجملة القياس وكفاءة أدوات القياس نفسه، بل وأيضًا بمادَّته، فالصورة التي نراها ما هي إلا حصيلة تفاعل وتراكب للأشعَّة مع مادَّة الجسم أو الشيء المنظور إليه.

رابعًا: ثنائية المضمون والشكل

يورد المعجم الفلسفي في تعريفة للمضمون ما يلي: مضمون الشيء - في اللغة - محتواه، ومضمون الكتاب مادته، ومضمون الكلام فحواه وما يُفهم منهُ، ومضمون الشعور في لحظة معينة هو مجموع الظواهر النفسية التي يحتوي عليها ويتألف منها، ومضمون التصور في المنطق مفهومه، ولكل عملية فكرية صورة ومضمون.. وصورة الحكم مُسوِّراته، ومضمون الحكم هو اشتماله على حدود معينة كمعنى الإنسان ومعنى الفاني ومعنى سقراط مثلاً[12].

قد ترد ثنائية المضمون والشكل ملتبسة بثنائية المادة والصورة، فالشكل هو عكس المضمون ضمن التقليد الفلسفي واللغوي السائد، لكلمة شكل في العربية دلالات متعددة وردت في معجم لسان العرب يمكن اختصارها في أربع[13]:

-       أولاً: الشكل: الصورة والهيئة "شَكْلُ الشيء: صورتُه المحسوسة والمُتَوَهَّمة، والجمع كالجمع. وتَشَكَّل الشيءُ: تَصَوَّر، وشَكَّلَه: صَوَّرَه". قال ابن سينا: إن لكل جسم طبيعي شكلاً طبيعيًا، وذلك بيِّن من أن لكل جسم متناه وغير متناه يحيط به حدٌّ أو حدود، وكل ما يحيط به حدٌّ أو حدود فهو مشكل[14].

-       ثانيًا: الشكل: الشبه والمثل "الشَّكْلُ، بالفتح: الشِّبْه والمِثْل، والجمع أَشكالٌ وشُكُول، تقول: هذا على شَكْل هذا أَي على مِثَاله. وفلان شَكْلُ فلان أَي مِثْلُه في حالاته. ويقال: هذا من شَكْل هذا أَي من ضَرْبه ونحوه، وهذا أَشْكَلُ بهذا أَي أَشْبَه، والمُشَاكَلَة: المُوافَقة، والتَّشاكُلُ مثله".

-       ثالثًا: الشكل: الطريقة "الشاكِلةُ الناحية والطَّريقة والجَدِيلة. وشاكِلَةُ الإِنسانِ: شَكْلُه وناحيته وطريقته. وفي التنزيل العزيز: قُلْ كُلُّ يَعْمَل على شاكِلَته؛ أَي على طريقته وجَدِيلَته ومَذْهَبه".

-       رابعًا: الشكل: التقييد وإزالة الالتباس "شَكَل الكِتابَ يَشْكُله شَكْلاً وأَشْكَله: أَعجمه. أَبو حاتم: شَكَلْت الكتاب أَشكله فهو مَشْكُول إذا قَيَّدْتَه بالإِعْراب، وأَعْجَمْت الكِتابَ إذا نَقَطَتْه. ويقال أَيضًا: أَشْكَلْت الكتابَ بالأَلف كأَنك أَزَلْت به عنه الإِشْكال والالتباس[15].

الشكليُّ هو المنسوب إلى الشكل، تقول المسائل الشكلية وهي المسائل التي يهتم فيها بالشكل دون الجوهر، والرد الشكلي في المرافعات هو رد المدَّعي عليه بالاستناد إلى إجراءات الخصومة دون موضوعها، وعلم الأشكال Morphology عند علماء الحياة هو علم صور الأنواع الحيوانية والنباتية وعند علماء اللغات دراسة صور الألفاظ[16].

أمَّا الشكل المنطقي فهو الهيئة الحاصلة في القياس من نسبة الحد الأوسط إلى الحد الأصغر والحد الأكبر، فإذا كان الحد الأوسط موضوعًا في الكبرى ومحمولاً في الصغرى كان القياس من الشكل الأول كقولنا: كل إنسان فان، وسقراط إنسان، فسقراط فان. وإذا كان الحد الأوسط محمولاً في المقدمتين أي في الصغرى والكبرى كان القياس من الشكل الثاني كقولنا: كل عادل كريم، وليس ولا واحد من السفهاء بكريم، فليس ولا واحد من السفهاء بعادل... الخ[17].

أما مدرسة بور–ريال المنطقية فهي لا تعتقد بوجود منطق شكلي أساسًا، فهناك الشكل الذي هو شكل الخطاب، وهناك عمليات العقل المنطقية التي تظهر للخارج في هذه الأشكال اللغوية، ولكنها لا يجوز ان تبقى أسيرة لها، وفهم المنطق كفن التفكير هو بالتحديد استخلاص الفكر الصحيح من ملابس الشكل اللفظي ومساعدتنا على الصعود من الشكل إلى المعنى، لأن المعنى هو الذي يجب أن يسمح بتأويل الشكل، وليس الشكل هو الذي يجب أن يفرض المعنى[18]. إذن نحن هنا أمام مفهوم أداتي للشكل اللغوي/المنطقي هدفه الوصول إلى المعنى بوصفه غاية ومضمون، كامن في الشكل.

ينحاز هيجل إلى المضمون ضد الشكل حيث "لا يجوز النظر إلى الشكل فقط، فالمهم هو الجوهر، المضمون، ولا يجوز الاستسلام لغواية الشكل بحيث يوضع في المرتبة نفسها"[19]. ويحافظ على رؤية منفصلة لكل من الشكل والمضمون في مختلف العلوم، ولكنه يستثني من ذلك الفلسفة "في العلوم الأخرى ينفصل الشكل والمضمون لكن في الفلسفة يكون الفكر موضوعها الخاص، إنها تهتم بذاتها وتتعين بنفسها وهي تتحقق في كونها تتعين بذاتها[20]. في الفلسفة لا يتميز المضمون عن الشكل، ولا ينبغي لنا السعي لجعله نوعًا فليس موضوع الفلسفة الأساسي هو العنصر الشكلي الصوري، الشكل المحض للفكر، ولكن يجب أن يكون مضمونًا مُلازمًا للفكر ذاته[21]. فالفلسفة تتميز عن غيرها من المعارف – عند هيجل- لكونها استيعاب المطلق بوصفه فكرًا خالصًا، على النقيض مثلاً من الفنون التي تستوعب المطلق بوصفه شيئًا محسوسًا، بينما يترك الحالة الوسطى للدين، حيث يصبح المضمون هو نفسه الفكر المطلق، ويصبح الشكل وسطًا بين الحس والعقل، وهو ما يعبِّر عنه بالتمثيل أو الامتثال.

خامسًا: التعقيب على ثنائية المضمون والشكل

يثبتُ هيجل درجات مختلفة للعلاقة ما بين المضمون والشكل من ناحية التميز، تبعًا لمجال حضور الفكرة من الفلسفة إلى العلوم إلى الفن إلى الدين، ومن الواضح أنَّه يستخدم ثنائيَّة المضمون والشكل بكفاءة معيَّنة، سرعان ما يلغي مفاعيلها كلما اقتربنا من الفكرة بمعناها الفلسفي المطلق، فهي تهتم بذاتها وتتعين بنفسها وهي تتحقق في كونها تتعين بذاتها، ولنتساءل كيف تتعيَّن بذاتها بعيدًا عن حضورها الثقافي التاريخي! وفقًا لصيغة معينة في حقل تداولي معين!

لنتوقَّف عند القائلين بالتكامل Integration في العلاقة ما بين المضمون والشكل، فالمضمون يحتاج إلى شكل يتشكَّل فيهِ، إلى شكل، فليس ثمة مضمون بلا شكل، والشكل يحتاج مضمونًا لكي يكون شكلَهُ.

لنتوقَّف أيضًا عند القائلين بالاعتماد Dependency في هذه العلاقة، حيثُ درج العرف الثقافي على الإعلاء من شأن المضمون المقترن بالأساسي – الثابت – الزبدة - الهام – المعنى - الجودة.. الخ، وعلى التقليل من شأن الشكل والنظر إليه: كهامشي – متغير – زائف- يرتبط بالتسويق والدعاية.. الخ.

مثال-التفَّاحة: وفقًا لنظرية اعتماد الشكل على المضمون، للتفاح أشكال خارجية مختلفة، ولكنه في الجوهر هو تفاح والمُهم النكهة.. الخ. ونقول عن الكتب قد يوجد بأشكال خارجية تختلف حسب الورق و الغلاف والخط وتنسيق الصفحات.. الخ ويبقى الأهمُّ في الكتاب مضمون أفكاره ومحتواه.

التعقيب على المثال: بالعودة إلى مثال التفاحة، نجدها تتألف – وفقًا لما سبق - من الشكل الخارجي ومضمون المادة اللحمية، فلا تفاحة بدون شكل خارجي، ولا تفاحة أيضًا بدون مُحتوى ومضمون تفاحي. ولكن ما الذي يجعل التُفاح تفاحًا؟!

لنفترض ثمرة لها الشكل الخارجي للتفاح، ولكنها تحتوي المادة اللحميَّة للأجاص، أي شكل تفاحي ومضمون أجاصي، ماذا سنسمِّي هذا الثمرة؟! تفاح أجاصي! أو ليكن (س) كائن جديد، ما العيب الذي قد تشكو منه ثنائية المضمون والشكل، من منظور تحديد هويَّة الكائن؟

إنَّ تغيُّرًا في حدِّ الثنائية بدرجة وطريقة معيَّنة، سيؤدي لاختلال في هويَّة الكائن المُشكِّل لها. إنَّ ثنائية المضمون والشكل تقوم على مفهوم سكوني للوجود، وتوحي بوجود كائنات منفصلة ذات ماهيات ثابتة، تقوم على جوهرانيَّة المُحتوى أي المضمون، أو هي ماهيات تقوم على ثبات العلاقة التكاملية بين المضمون والشكل. لنتساءل ما هي حدود العلاقة المُمكنة بين المضمون والشكل؟! هل تغير المضمون سيؤثر على الشكل؟ وما هو هذا التأثير؟ وهل تغير الشكل سيؤثر على المضمون؟ وما هو هذا التأثير؟ وهل هذا التأثير المُتبادل سيؤثر على هوية الكائن، وكيف؟

يبدو أنَّ هناك مجالاً معينًا يُسمَح به لتغيير المضمون أو تغيير الشكل من دون أن يؤثر ذلك على هوية الكائن، ولكن عندما تتجاوز حدود التغيير هذا المجال فسوف يؤثر على هوية الكائن.

لنفترض وجود قطعة من الشوكولا مُصمَّمة على شكل تفاحة، هذا التغيير في المضمون سوف يؤثِّر على هوية الكائن نازعًا عنه صفة الجوهر التفاحي، أو لنفترض اللُحْمَة (المضمون التفاحي) مبشورة وموضوعة في إناء، فهذا التغيير في الشكل سيؤثر على هوية الكائن نازعًا عنه صفة التفاحة كثمرة، نحن هنا أمام تصوُّر يحكمه التناسب ما بين المضمون والشكل، فثمرة تفاح بحجم رأس الإنسان أو قمر الأرض سيكون غير مناسب لدواعي تتعلق بمورفولوجيا وفيزيولوجيا - طريقة تشكُّل - شجرة التفاح على سبيل المثال.

تاريخيًّا ظهرت إشكالية التناسب بين الشكل والمضمون، أكثر ما يمكن عند دراسي الأدب والنقد الأدبي. أمَّا عن الشكل المنطقي في القياس، الذي هو الهيئة الحاصلة في القياس من نسبة الحد الأوسط إلى الحد الأصغر والحد الأكبر، فالشكل المنطقي هنا يتعلق بالعلاقة بين الحدود، وهذه الحدود تُشكِّل مضمون القياس وفقًا لثنائية المضمون والشكل. إنَّ اختلاف أشكال القياس الأرسطيِّ ما بين صالحة وفاسدة  يَتَحوَّى ضمنًا الاشارة إلى المضمون والحكم عليه من جهة الما صدق، فمثلاً لا يصلح الشكل الفاسد للقياس مع المضمون الكاذب لمادة القياس، والعكس كذلك، بما يتجاوز النظرة التقليدية إلى المعرفة المنطقية – بالمعنى الأرسطي - باعتبارها معرفة شكلية وصورية.

إنَّ ثنائية المضمون والشكل أزعم بأنَّها غير كافية، وغير مطابقة لتحديد شروط وجود الكائن وقنونة المعرفة به، من أوجه عديدة:

-       أولاً: إن صحَّ تحديد المحسوسات بوصفها مضمونًا وشكلاً، فهذا أقل دقَّة في توصيف التصورات الذهنية، فالمثلث في الهندسة الاقليدية هو شكل مُجرَّد من المضمون، وإذا كان للنقطة شكل فما هو مضمونها؟! ولنأخذ كذلك على سبيل المثال الأعداد ليكن العدد 2: فهو كشكل عددي (رقم - بالرسم الهندي) من غير مضمون، ولكن ربَّ قائل يقول إن الرقم 2 مضمونه مُتغيِّر فقد يكون تفاحتين أو رجلين أو حذاءين.. الخ.

نقول إن الرياضيات ليست انعكاسًا مباشرًا للمحسوسات وعالم الوجود الخارجي بل هي تستمد مشروعيتها من المرجعية البرهانية الافتراضية الخاصة بها، فما هو مضمون √ 2 أو -2 مثلاً! فالتصورات الذهنية ليست مجرد تمثيل وصفي لمادة الوجود الخارجي بأي حال من الأحوال.

-       ثانيًا: إن أي تغيير في أحد طرفي الثنائية سيؤدي إلى تغيير في هوية الكائن، بما قد يودي إلى اضطرابها ومثالها التفَّاح المكعَّب، أو تفَّاحة من تراب!

-       ثالثًا: إنها ثنائية تقوم على تصوُّر سكوني للوجود، توحي بوجود كائنات منفصلة ذات ماهيَّات ثابتة تقوم على الجوهرانية، ثمرة التفاح مثلاً متغيرة المضمون والشكل باستمرار، ابتداء من خلقها وحتى تحللها، هذه الثنائيَّة تصلح لتوصيف سكوني للشيء، والسكون هو حالة افتراضيَّة مفيدة، فالتفاحة مثلاً ما هي إلا طريقة تشكُّل حركية ديناميكيَّة تشمل المضمون والشكل معًا، مع ملاحظة أنَّنا نقصد بالشكل هنا الشكل الخارجي والهيئة. إنَّ ثنائية المضمون والشكل لا تصلح لتحديد شروط الوجود وإمكانات المعرفة به على نحو دقيق، فالشكل التفاحي قابل للتحوُّل إلى أشكال أخرى، وكذلك المضمون التفَّاحي بما قد نسمِّيه: تفاح معطوب - تفاح أجاصي – مكعب تفاحي - مبشور التفاح.. الخ.

-       رابعًا: إن ثنائيَّة المضمون والشكل تقوم على فهم إسقاطي، فإذا سلَّمنا من واقع الذوق الفطري أو البداهة العامة Common Sense بوجود مضمون وشكل لثمرة التفاح فهل تنسحب هذه المقولة لتشمل كل كينونة؟! فمثلاً ما هو مضمون وشكل: اللون الأحمر- الفوتون- الطفولة- الحب- الحزن.. الخ؟!

سادسًا: خلاصة

ما يزال نمط التفكير القائم على منطق أو مبدأ الثنائيات شائعًا، سواء على مستوى التداولي اليومي الحياتي أو على مستوى المشتغلين بالفكر والفلسفة، ورغم الاعتراف بصلاحيَّات معيَّنة لهذا النمط الفكري ولكنَّهُ بالمقابل قد يوقعنا في إشكالات نظرية وعملية كثيرة عرضنا لبعضها في أعلاه. لقد ناقشنا ثنائيتين شهيرتين تعكسان مفهوم منطق الثنائيات، هي على التوالي: ثنائية المادة والصورة - ثنائية المضمون والشكل. وناقشنا كذلك ثلاث احتمالات تحكم العلاقة  الداخلية ضمن كل واحدة من هذه الثنائيات، وهي على التوالي: التكامل ما بين طرفي الثنائية - الانحياز إلى الطرف الأول الأساسي - الانحياز إلى الطرف الثاني الهامشي.

ناقشنا كذلك كيف أنَّ هذا المنطق يعكس تفكيرًا نمطيًا مهيمنًا، غير مطابق لشروط الكائن وقوننة المعرفة به، وناقشنا قصوره عند الانتقال من الحسِّي إلى المعنوي، وكذلك عند الانتقال إلى المعارف السياسية والعقائدية، ثم عرضنا لزحزحة هذا المنطق مع الاكتشافات العلمية الحديثة في الفيزياء.

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] نظرية المعرفة والموقف الطبيعي للإنسان، فؤاد زكريا، القاهرة، مكتبة النهضة المصرية، 1977 م، ص 29.

* مدرسة الشكلانيين الروس ظهرت في روسيا بين عامي 1915-1930م، اعتبرت الأدب نظامًا ذو وسائط إشارية للواقع وليس انعكاسًا له، وقد طورت البنيوية لاحقًا بعض فروض مدرسة الشكلانيين، وركَّزت على الشكل وحده من خلال دراسة العلاقات القائمة في النظام الألسني وتحييد المضمون "فهدف علم الأدب ليس هو الأدب في عمومه وإنما أدبيته، أي تلك العناصر المُحددة التي تجعل منه عملاً أدبيًا".

[2] موقع معابر، نسخة الكترونية من قاموس ناثان الفلسفي، تأليف جيرار دروزي وأندريه روسل، تعريب أكرم أنطاكي، عن موقع معابر، على الرابط:

 http://maaber.50megs.com/philosophy/matter.htm

[3] المعجم الفلسفي، جميل صليبا، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1982،ج 2، ص 306.

[4] المعجم الفلسفي، مرجع سابق، ج2، ص 306.

[5] المعجم الفلسفي، مرجع سابق، ج2، ص 307.

[6] نظرية العلم الأرسطية، د. مصطفى النشار، ط2، دار المعارف، القاهرة، 1995، ص 185، والإحالة إلى: Aristotie، metaphysics.B.V.ch.2p.1013a، engitrans.p.533.

[7] نظرية العلم الأرسطية، مرجع سابق، ص 196.

[8] نظرية العلم الأرسطية، مرجع سابق، ص 196.

[9] المنطق - نظرية البحث، جون ديوي، من مقدمة الكتاب لزكي نجيب محمود، القاهرة، دار المعارف، 1969م، ط2، ص 24.

[10] موقع الأوان، مقال العصور الوسطى ليست عصور ظلام نموذج المذهب الإسمي وقلب الطاولة على أرسطو، تاريخ 4 شباط 2015م، بقلم عماد إجحا، الرابط: http://www.alawan.org/article13807.html

[11] موقع موسوعة ويكيبيديا، مادة ضوء [عدل] والاقتباس من صنف المعارف العامة غير الخلافية في الفيزياء، آخر تعديل 2016 الرابط: https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%B6%D9%88%D8%A1

[12] المعجم الفلسفي، مرجع سابق، ج2، مادة المضمون، ص 386.

[13] موقع الباحث العربي، نسخة الكترونية من قاموس لسان العرب - ابن منظور – مادة: شكل، على الرابط: http://www.baheth.info/all.jsp?term

[14] النجاة في المنطق والإلهيات، ابن سينا، تحقيق عبد الرحمن عميرة، دار الجيل، فصل أن لكل جسم طبيعي شكلاً طبيعيًا، ص 78.

[15] موقع الباحث العربي، نسخة الكترونية من قاموس لسان العرب - ابن منظور – مادة: شكل، مرجع سابق.

[16] المعجم الفلسفي، مرجع سابق، ج1، مادة الشكل، ص 707.

[17] المعجم الفلسفي، مرجع سابق، ج 1، مادة شكل، ص 707.

[18] المنطق وتاريخه من أرسطو وحتى راسل، مرجع سابق، ص 253.

[19] محاضرات في تاريخ الفلسفة، مرجع سابق، ص 232.

[20] محاضرات في تاريخ الفلسفة، مرجع سابق، ص 76.

[21] محاضرات في تاريخ الفلسفة، مرجع سابق، ص 296.

 

 

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني