الانتباه
2 من 2
سامر زكريا
وبعد،
فإنك إذا خرجت الآن من منزلك إلى الشارع، كالمعتاد ولكن هذه المرة
بذهنٍ فارغٍ كليًا من الأفكار المسبقة، ستلاحظ أن النزهة اختلفت جذريًا
وأنك تشاهد كل شيء للمرة الأولى، تمامًا كما يشاهده طفلٌ رضيع؛ يمكنني
القول إن الفارق بين الحالتين (حالة الانتباه وحالة عدمه) هي أنه في
الأولى يكون الفكرُ خادمًا لنا وفي الثانية سيدًا علينا، حين نسير في
الطريق وذهننا مثقل بالأفكار فكأننا نحيا داخل ذهننا وليس في الطبيعة،
ليس في العالم؛ نعيش في الماضي (إذ نفكر بأمر ما حدث معنا) أو في
المستقبل (إذ نفكر بأمر نخشاه أو نقلق منه أو نخطط لعمله) وهكذا يغيب
عنا الحاضر، اللحظة الحقيقية الوحيدة. يمكن لقارئ هذه السطور أن يجرب
هذا في الحال، أن يترك القراءة ويمضي في نزهة لعشر دقائق يتفق مع نفسه
قبلها ألا يفكر بأي أمر بل أن ينتبه فقط لتفاصيل الطريق وكأنه يراها
للمرة الأولى، بل يكفي حتى أن يترك القراءة ويرصد ما حوله في الخارج
(الغرفة وحرارتها، النافذة المفتوحة، الأصوات) والداخل (نفَسه الذي
يتباطأ ويزداد عمقًا، الحياة التي تدبُّ في رؤوس أصابعه وجميع خلاياه)
بلا تفكير لمدة خمس دقائق، وسيلاحظ حينها بعض الأمور:
-
أن الأفكار تأتي وحدها (لأنها عادة قديمة ومستحكمة) وعليه حينها فقط أن
ينتبه لها كونها أفكارًا وآنذاك ستتلاشى ويعود الانتباه (أي أن انتباهه
للأفكار يقطع سلسلتها ويعيد الذهن لليقظة والصحو تجاه الحاضر.
-
أن الذهن في حال الانتباه والخلو من الأفكار شاسعٌ وغنيٌّ، يشبه
أوركسترا جاهزة لعزف أي لحن، متحرِّرٌ من ثقل كبير لم نكن نشعر سابقًا
أننا نحمله (يبلغ الطول الكلي للمسارات العصبية في الإنسان البالغ نحو
5.8 مليون كيلومتر، وهي مسافة تعادل محيط الكرة الأرضية عند خط
الاستواء نحو 145 مرة، فلنتخيل الطاقة القصوى لهذا الذهن إذا تمكن من
التحرر من إشراطاته، هذا الذهن المفكر الذي تطور عبر مئات آلاف السنين
وجعل من الإنسان المعاصر مخلوقًا عاقلاً كما هو اليوم.
-
أن هذه الحالة مؤقتة وستعود بعدها الأفكار لتشغل الذهن ولن نتمكن من
إبعادها إلا بمراقبتها ورصدها بحياد، وحينها ستعبر كما تعبر غيمةٌ
بيضاء السماءَ الزرقاء الصافية ويعود الانتباه مجددًا.
هذه الحالة حين نختبرها نختبر الغبطة الحقيقية لأصل وجودنا وجوهره،
ويمكن أن أشبِّه الذهن بكُرة زجاجية والأفكار بغُبار يغطي سطحها، يمكن
إزالة الغبار بنفخة واحدة، لكن حين يتراكم الغبار يتحول إلى أوساخ تصبح
إزالتها أصعب، وتتراكم طبقة فوق طبقة حتى يصبح مرور الضوء من الكُرة
مستحيلاً، هذه الأوساخ تشبه المعتقدات والمفاهيم، والضوء هو الحقيقة،
لا يمكن للكرة الزجاجية أن تسمح لضوء الحقيقة بالمرور من خلالها إلا
إذا نظفناها وأزلنا جميع الطبقات المتراكمة هذه الطبقات ليست فردية
فقط، بل جمعية أيضًا، تخص جنسنا البشري برمَّته وقد راكمها عبر آلاف
السنين، وإزالتها ليست أمرًا سهلاً لكنه ممكن.
الحقيقة ليست أمرًا معلومًا فالمعلوم ميت، بل هي أمر مجهول يتفتح
أمامنا في كل لحظة، هذه اللحظة هي واحدة وأبديَّة، أي أن الزمن وهمٌ من
صنع الذهن، لا يوجد الماضي والمستقبل إلا في الذهن وليس ثمة إلا الحاضر
الأبدي، حين نفكر بأمر مضى نفكر به الآن، ونسترجعه كما لو كان يحدث
الآن، ليس هناك إلا الآن الذي تتغير صوره باستمرار أمامنا. إذا لاحظنا
جميع الحالات التي يتوق لها البشر اكتشفنا أن أمرًا واحدًا يجمعها وهو
التحرر من الذهن، من الأنا، من الماضي ومما وضعه الإنسان في وجه فطرته
وطبيعته، فما هي هذه الحالات؟ إن جذر انتشار تعاطي الكحول والمواد
المخدرة هو الهروب من حواجز الأنا مؤقتًا ولهذا تروق هذه الحال لمستهلك
الكحول والمخدر، كما أن التواصل الحميم في ذروة النشوة الجنسية يتضمن
لحظات من الاستسلام للحاضر والهروب من الأنا وما يصفه الحبيبان بأنهما
"أصبحا واحدًا" فما هي هذه الحالة سوى الانهيار المؤقت لحدود الأنا؟ بل
ما هو الوقوع في الحب إلا الأمل في التخلص من هذه الحدود؟ وماذا يعني
انهيار العلاقة العاطفية سوى عودة هذه الحدود؟ أمَّا الحبُّ الحقيقيُّ
فهو أمرٌ آخر: إنه الانتباه.. الحضور في الآن هو الحبُّ، وهو ليس حبَّ
امتلاك الآخر، وتنتفي فيه مشاعر الشك والغيرة والخوف وجميع الصُّور
الذهنية، حبٌّ عظيمٌ لا يقاس بما يسمَّى وقوعًا في الحبِّ..
الأنا شقاءٌ لا ينتهي، والذهن لا يتوقف عن خلق المشاكل، وهي أوهامٌ
كلُّها كما يدركها الوعي الأعمق من وعي الذهن والأفكار والمفاهيم
العقلية. إن جميع طرق التأمل ومنها اتخاذ وضعيات جسدية معينة أو مراقبة
التنفس تهدف إلى تهدئة الذهن وإفراغه من الأفكار تحضيرًا أو محاولة
للوصول إلى حالة من الحضور والانتباه ربما تجعلنا نحيا في العالم بدل
أن نحيا في عالم أفكارنا وقيود الأنا، وقد تحدث تشوانغ تسه*
عن هذه الحال بشيء من التفصيل المعبِّر، فقال:
أيُمكنُكَ أن تكونَ مثل طفلٍ وليد؟ يبكي الرضيع طيلة النهار لكنَّ صوته
لا يُبَحُّ قَطّ، وذلك لأنه لم يفقد انسجام وتناغم الطبيعة.. ينظر
الرضيع إلى الأشياء طيلة النهار دون أن تطرف عيناه، ذلك أن عينيه لا
تركِّزان على أيِّ شيءٍ محدَّد، وهو يسيرُ دون أن يعرفَ إلى أين،
ويتوقَّف دون أن يعرف ما الذي يفعله.. وهو يخلطُ بين نفسه وبين الأشياء
المحيطة به ويتعامل معها على هذا الأساس.. هذه هي مبادئ العقل
السَّليم.
إن هذه الحالة من الانتباه ستقودنا إلى مستوى من الوعي أعمق من الوعي
الذهني: وفي هذا الوعي غبطةٌ وفرحٌ بالموجود وقبول لكل ما يجري بلا أية
مقاومة، واكتشافٌ لوهم الزمن وأن الزمن هو حاضرٌ أبديٌّ تتبدل صورته
باستمرار، ووعيُ أن جوهر الوجود يشبه شاشة سينمائية بينما الأحداث تشبه
الأفلام على هذه الشاشة وأن جوهرنا لا يمكن أن يتأثر بحياة الجسد وموته
أو بأي حدث يمر على وعينا.
هذا الوعي هو المآل النهائي لكل شيء وليس من حقيقةٍ سواه، وقد تحدثت
الڤيدانتا (الحكمة الهندية) عن ذلك فقالت إن عالمنا المرئي هو عالم
الوهم "مايا" أو عالم الصور، الصور التي تنشأ عن الواحد الحقيقي الذي
أشارت له جميع الديانات في جوهرها، إنه "الآب" في المسيحية و"الأحَد"
في الإسلام و"براهما" في الهندوسيَّة و"التاو" في التاوية، إن الخلاف
والاختلاف بين الأديان يتعلق بطرق الاتباع وهي كلها ذهنية وعلى السطح
أما "العارفون" (والمفردة هنا تشير للوعي الأعمق وليس للمعرفة الذهنية
العادية) فيعلمون أن كل هذا الخلاف وهمٌ ويدركون أن جوهر الأديان
جميعها واحد وأن الانقسام والتجزئة والصراع كلها من صنع الذهن وحين
ننفذ إلى إدراك نور الوعي تزول كما يزول الظلام بسطوع الشمس. هذا النور
اللانهائي هو الوعي الموجود في كلٍّ منَّا، لكن علينا أن نلمع كرتنا
الزجاجية من غبار الأفكار وتراكم المفاهيم والعقائد والمعتقدات قبل أن
نسمح لهذا النور أن يمر من خلالنا ويعكس ضوء الوعي الكلِّي كما تعكس
آلاف البلورات لثريَّة عملاقة ضوء نورها المركزيَّ...
تمكن قلة نادرة من البشر أن يصبحوا هناك دائمًا، مختبرين حالة دائمة من
الوعي غير المشروط بأي ذاكرة فردية أو جمعية، بذهنٍ نظيف من سيادة
الأفكار (بل يستخدمها لخدمته وحين يريد، بينما الإنسان في وعيه الذهني
العادي تتحكم به أفكاره وإشراطاته ومعتقداته وتسيطر عليه وعلى حياته
كلها)، هذا الذهن يتمتع بحرية عظيمة لانهائية واتِّساعه أيضًا لانهائي
كمحيطٍ متلاطم الأمواج وغبطته أبديَّة ولا تقارن بالأفراح العابرة
للبشر.. هذه القلة النادرة أدركت أن الوعي البشري واحد والانفصال بين
الأفراد يوجد على السطح، فالوعي الفردي يؤثر في إيقاظ الوعي الجمعي،
وعي كلٍّ منَّا يؤثر في وعينا جميعًا، ليس هذا فحسب، بل إن كلَّ لحظة
من الانتباه، كل تفلُّت مؤقت من قيود الذهن والأنا والأفكار، كل رصدٍ
بريء حياديٍّ لجمال الطبيعة بلا أي صورة ذهنية مسبقة عنها، كلُّ
ابتسامةٍ في وجه غريب، كل مساعدة لمحتاج بلا هدف أو غاية ودون أن نعرف
عنه شيئًا، كلُّ استنشاق لعبير زهرة أو شجرة أو ريح وإصغاءٍ لتغريد
طائر أو حفيف شجرة، كلُّ لحظة يخلو فيها الذهن من المفاهيم والصور
والذاكرات ويرصد داخلنا وخارجنا بانتباهٍ حياديٍّ؛ يفتح ثغرةً في هذا
الجدار الصلب الذي راكمناه عبر آلاف السنين فرديًا وجماعيًا، جدار
التجزئة والانقسام والصراع والخلاف الإيديولوجي والعقائدي، جدار الفكرة
والمفهوم والصورة عن الآخر وعن كلِّ شيء، ويساهم في النفاذ إلى جوهرنا
الذي حجبته عنا سنوات طويلة من هذه المرحلة الانتقالية من تطوُّر النوع
البشري!
أيلول 2018 دمشق
*** *** ***