تداعيات النقل الميكانيكي للتجربة الاشتراكية على البلدان المتخلفة!
محمد الزبيدي
مقدمة
إن النقل الميكانيكي للتجربة الاشتراكية، وعدم دراسة
خصائص البلدان المتخلفة ذات الأنماط الاجتماعية المحددة، أدى إلى
التقاء منظري الاشتراكية السوفييت مع الفكر التروتسكي، الذي كان
مخالفًا تمامًا للفكر الماركسي في أساس التحولات الاجتماعية الجذرية.
فالأوهام حول إمكانية بناء الاشتراكية في العالم النامي، كانت هي
السائدة آنذاك، وقد لعب وجود مركز واحد للحركة في العالم دورًا في:
-
تخلف الحركة الشيوعية.. والانقسامات التي كانت تجري
فيها.
-
عجز الحركة الشيوعية عن القيام بدراسة الواقع والارتقاء
به إلى مستوى المهام المطروحة أمامها.
-
تعيين قادة للحركة الشيوعية منسجمين مع سياسة هذا
المركز في مختلف المجالات.
الموضوع:
من المعلوم أن ظهور الماركسية كان نتيجة التطور الصناعي
في الغرب، فهي نتاج هذا الانقلاب الصناعي، وقد استطاعت الماركسية أن
تواكب هذه التطورات الاجتماعية في المجتمع الرأسمالي الصناعي، واستطاعت
حينها أن تجيب عن الكثير من الأسئلة التي كانت تطرح آنذاك سواء من
الناحية النظرية أو العملية. وقد استفادت الماركسية أيضًا من المنجزات
العلمية لتعزيز المنهج المادي الجدلي. بيد أن سوء الحظ، أو ربما الصدفة
أو عوامل أخرى، لسنا بصدد بحثها الآن، قد أدى إلى انتقال مركز الفكر
الماركسي من المجتمع الصناعي المتقدم إلى المجتمع الزراعي المتخلف
(الإقطاعي أو شبه الإقطاعي) مما انعكس سلبًا على تطور هذا الفكر وأدى
إلى تخلفه من خلال التأثيرات المتبادلة، وبالتالي خلق فكر جديد هو خليط
من الفكر الماركسي والأفكار الأبوية الإقطاعية ذات الطابع الاستبدادي.
وإذ نشير إلى نتائج الحرب العالمية الثانية حيث لعب
الشعب السوفيتي دورًا مجيدًا في القضاء على الفاشية وسحقها، ما أدى إلى
تصدير الثورة إلى عدد من البلدان الأوربية المجاورة للاتحاد السوفيتي
دون أن تكون الظروف الاقتصادية والاجتماعية ناضجة بما فيه الكفاية
لثورات مماثلة، وقد أُلحقت هذه الدول في المدار السوفيتي، ونتيجة سيطرة
الفكر العقائدي المتزمت في الدولة السوفيتية حيث اعتبر أن الطريق
السوفيتي هو الطريق الوحيد للانتقال إلى الاشتراكية رغم كل الكلام
اللفظي عن الخصائص الموضوعية الموجودة في تلك البلدان. ولذلك بدأت تطبق
في تلك البلدان نفس التدابير التي اتخذت في الاتحاد السوفيتي آنذاك.
هذه البلدان التي كانت تعيش مستوى من التطور يختلف بين هذا البلد أو
ذاك.. فألمانيا وتشيكوسلوفاكيا مثلاً، كانتا بلدين رأسماليين متطورين
نسبيًا، قياسًا مع بلغاريا ورومانيا اللتين كانتا متخلفتين كثيرًا في
تطورهما الاقتصادي والاجتماعي، ولكن لم يجرِ التمييز بين هذه البلدان
مطلقًا، وكانت التدابير التي اتخذت فيها جميعًا واحدة باستثناء مسألة
وهي، تشكيل جبهات ذات طابع شكلي بحت في تلك البلدان، وكان لهذه الجبهات
طابع دعائي أكثر مما هو فعلي. أي إن سيطرة الحزب الواحد كانت سائدة في
تلك البلدان جميعها، وسيطرة صحافة واحدة، وسيطرة مؤسسات حكومية واحدة،
وتحولت المنظمات الجماهيرية - النقابات واتحادات الطلبة - والجمعيات
وغيرها، إلى مؤسسات حكومية بيروقراطية، وتوقف النقد البناء، وكمَّت
الأفواه، وأقيم سور حال دون احتكاك شعوب هذه البلدان مع شعوب العالم.
وفي إطار الصراع على النفوذ العالمي بين الاتحاد
السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية كانت هناك دائمًا مبررات لقمع أي
فكر يمكن أن يرتفع هنا وهناك مطالبًا بالديمقراطية، ولما كان الاتحاد
السوفيتي من حيث مستوى تطوره الاقتصادي أضعف كثيرًا من الولايات
المتحدة الأمريكية، إلا في مجال التسلح، فإنه لم يكن باستطاعة الاتحاد
السوفيتي أن يغذي تلك البلدان برؤوس أموال، أو بتكنولوجيا متطورة كما
فعلت الولايات المتحدة الأمريكية مع أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية
الثانية من خلال ما أطلق عليه مشروع مارشال، والذي أدى إلى انبعاث
ألمانيا الغربية بشكل خاص، وأوربا بشكل عام. إن التفاوت الكبير بين
تطور تلك البلدان وتطور بلدان أوربا الغربية من حيث المستوى المعاشي
ومستوى التطور الاقتصادي والتكنولوجي، أدى بدوره إلى:
1.
وجود هوة واسعة بين الجانبين في كل المجالات، مما انعكس
سلبًا على الناس في تلك البلدان وخصوصًا في بلدان مثل ألمانيا
وتشيكوسلوفاكيا، وجمهوريات البلطيق التي كانت تعتبر نفسها لا تقل
تطورًا عن دول أوروبا الغربية، وأن انضمامها إلى الجمهوريات السوفيتية
قد أدى إلى تخلفها في كل المجالات.
2.
ورغم كل العزلة التي تم فرضها على شعوب تلك البلدان،
فإنها لم تتحقق بشكل كامل بسبب تطور وسائل الاتصال وقدرتها على ممارسة
تأثيرها الواسع خصوصًا على الإعلام الغربي في الوقت الذي لم يستطع معه
الإعلام الاشتراكي أن يصمد أمام ذلك، وكان هذا مؤشرًا إلى عجزه الكامل
أمام الإعلام الغربي الذي استطاع رغم وجود مبالغات كبيرة أن يمارس
تأثيره الكبير على وعي سكان تلك البلدان وخصوصًا أن العديد من الناس
كان يخرق الأسوار المصطنعة، ويرى بأم عينيه ما يجري في الخارج ويعود
ليتحدث.
إن سيطرة الدولة سيطرة كاملة على مقدرات تلك البلدان،
ِشأنها في ذلك شأن الاتحاد السوفييتي، سواء الإنتاجية أو الموارد الخام
قد أدى بدوره إلى نشوء رأسمالية دولة بيروقراطية أخضعت موارد البلاد
الأساسية لمصالحها الخاصة رغم كل تغنِّيها بالاشتراكية، ولم يكن يصيب
الشعب إلا النذر القليل. واتبعت نفس الطرائق التي اتبعت في الاتحاد
السوفيتي في مجال العمالة مما أدى إلى بطالة مقنعة واسعة من خلال
التشغيل المفرط للناس دون أن تكون هناك حاجة لهذا التشغيل، وأدى هذا
بدوره إلى نشوء عائق إضافي أمام تطور القوى المنتجة، لأن تطور أدوات
الإنتاج كان سيؤدي – بالدرجة الأولى - إلى انخفاض عدد العاملين، وهذا
سيؤدي بدوره إلى تسريح العمال، وبالتالي إلى نشوء بطالة، ووجود بطالة
لا يتفق مع الجانب الدعائي الإيديولوجي لهذه البلدان التي تدعي بناء
الاشتراكية، وبالتالي فقد كانت تتعمق الهوة بين الشرق والغرب باستمرار
رغم كل الدعاية الإعلامية التي كانت تتحدث عن المنجزات العظيمة في
ميدان الإنتاج والصناعة والاقتصاد. كل هذه المسائل كانت تؤدي باستمرار
إلى تغرُّب شعوب تلك البلدان عن أنظمتها. فالأحزاب القائدة كانت تتحول
أكثر فأكثر إلى أحزاب سلطوية مستفيدة وانتهازية، إذ تعمقت عزلتها أكثر
فأكثر عن الجماهير الشعبية، وكانت مقومات انهيارها تكمن فيها. فقد أصبح
التناقض الرئيسي هو تناقض بين جماهير الشغيلة وبين الطغمة البيرقراطية
التي تسيطر وتهيمن على المجتمع، وهذا التناقض من حيث الجوهر، هو انعكاس
للقانون الاقتصادي الذي تكلم عنه ماركس، والذي ينص على ضرورة التوافق
بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج. لقد حدث خلل كبير في ذلك، وأصبحت
علاقات الإنتاج القائمة المبنية على سيطرة البيروقراطية على موارد هذه
البلدان عائقًا أمام تطور القوى المنتجة بالإضافة إلى غياب أي حياة
ديمقراطية لشعوب تلك البلدان وسيطرة الأجهزة الأمنية... الخ. كل ذلك
أدى إلى انهيارها الصاعق. وكان هذا الأمر أمرًا طبيعيًا.
وفي هذا الصدد لا يسعنا إلا أن نتطرق إلى العوامل
الخارجية التي ساعدت ليس في هذا الانهيار وحسب، وإنما في انحراف نتائجه
بما لا يخدم مصالح تطور تلك البلدان أبدًا.
إن النشاط الامبريالي الأوربي، والأمريكي بشكل خاص
والذي كان يهدف إلى تقويض هذه الأنظمة في سياق الصراع بين الكتلتين
وتحويل هذه المنطقة إلى منطقة نفوذ له، ونهب خيرات هذه المنطقة
وإضعافها، قد استخدم هذه المعطيات الداخلية، وجرى العمل من أجل تجييرها
لخدمة هذه المصالح، وكل ذلك سرَّع بهذا الانهيار وأعطاه طابعًا كارثيًا
على شعوب تلك المنطقة. ونعتقد أن شعوب تلك المنطقة سوف تحتاج إلى أوقات
ليست قصيرة كي تستطيع أن تعيد التوازن لتطورها الاقتصادي والاجتماعي.
تلك هي المأساة الكبيرة التي نتجت عن عملية التطبيق الميكانيكي للتجربة
السوفيتية في تلك البلدان. إن نقل هذه التجربة بشكل قسري هي عملية
مناقضة تمامًا للفكر الماركسي، إذ الأساس في التحولات الاجتماعية
الجذرية لا يحدد بالبناء الفوقي، وإنما بمستوى تطور البناء التحتي أو
القاعدة، وما البناء الفوقي إلا عاملٌ يسرِّع أو يبطئ من هذا التطور.
لقد كان الفكر السائد في الاتحاد السوفيتي يصب من حيث الجوهر بالفكر
التروتسكي الذي كان يؤكد أن البناء الفوقي هو العامل الحاسم في عملية
التطور الاقتصادي والاجتماعي، ومن نتائج هذا الفكر الوخيمة هو ما
اتُّبع تجاه العالم النامي، حيث جرى الحديث عن إمكانية التحولات
الاشتراكية وبناء الاشتراكية في هذه البلدان دون المرور بمراحل التطور
الطبيعية، وقد أعطت مبررًا لذلك تلك التغيرات العالمية التي جرت بعد
أكتوبر ونشوء معسكر اشتراكي قادر على مساعدة تلك البلدان في هذه
العملية مثلما حدث سابقًا في جمهوريات الاتحاد السوفيتي الشرقية
المتخلفة الذي أدى بدوره إلى تشجيع الحركات المغامرة لاستلام السلطة إذ
كانت تدعي أنها تقدمية ولها توجه اشتراكي، لكنها في الحقيقة كانت في
غالبيتها حركات ذات طابع عسكريتاري، وكانت تظن أن استلامها للسلطة
سيؤدي بشكل إرادي إلى بناء الاشتراكية بدعم من الاتحاد السوفيتي ومن
المعسكر الاشتراكي دون أن تكون هناك أي ظروف ناضجة لمثل ذلك، أي أن
الفكر هو الذي يحدد عملية التطور الاجتماعي والاقتصادي، بمعنى أن
العامل الذاتي هو الذي يلعب الدور الحاسم في هذا التطور. أليس هذا
فكرًا تروتسكيًا؟.. إذن ما هي مبررات هذا الهجوم على هذا الفكر سابقًا
من قبل منظري الاشتراكية السوفيتية؟ وما هي مبررات اغتيال تروتسكي نفسه
إذا كان من قتله قد مارس ذات الفكر؟ وهذا يثبت أن الصراع الذي جرى لم
يكن في الواقع العملي سوى صراع على السلطة.
إن نتائج هذه السياسة في العالم النامي قد أدى إلى نشوء
أنظمة شمولية، وإلى تكرار التجربة نفسها في بلدان أوروبا الشرقية ولكن
بشكل أسوأ، وأدى في كثير من الأحيان إلى القمع وسفك الدماء، وإلى شخصنة
الفكر المرتبط بالطبيعة الاستبدادية للسلطة المتوارثة في الشرق، والتي
أخذت تفسر هذا الفكر كما يحلو لها، وبما يخدم مصالحها تحت شعار الطبقية
من جهة أو تحت شعار النضال ضد العملاء أو من أجل نقاء النظرية. وكانت
نتائج ذلك كارثية جدًا، إذ أبادت مجموعة بولبوت في كمبوديا التي ترفع
شعار الماركسية نصف الشعب الكمبودي تحت شعار "خلق مجتمع نظيف لا علاقة
له بالبرجوازية أو بالأفكار القديمة".
وقد أدى ذلك أيضًا إلى تكون أنظمة شبه ملكية في تلك
البلدان حيث يقدَّس الزعيم ويخلَّد، وهو الذي يقرر سياسة الحزب والدولة
وإدارة المجتمع تحت مختلف الذرائع. وقد أدى ذلك كله إلى تخلف شديد جدًا
في تلك البلدان في الوقت الذي استطاعت فيه البلدان المجاورة رغم
رأسماليتها أن تسير بخطوات أكبر بكثير من حيث التطور، كذا لم تستطع تلك
البلدان أن تقدم أي نموذج يحتذى به في كل المجالات سواء السياسية أو
الاجتماعية أو الاقتصادية. وقد أعطى هذا المفهوم الخاطئ عن الديمقراطية
الطبقية التبريرات للزعماء حكام تلك البلدان لقمع شعوبهم بلا رحمة. تلك
كانت هي النتائج الكارثية لتلك الأنظمة.
إن الماركسية كما قلنا هي نتاج المجتمع الصناعي،
وبالتالي فإن ماركس لم يتطرق كثيرًا للعالم النامي، وبالتالي لم يكن
هذا الحيز - العالم النامي - مدروسًا جيدًا من قبل ماركس، الذي بنى
نظريته عن التطور التشكيلاتي للمجتمع انطلاقًا من التجربة الأوربية
بالدرجة الأولى، وعلى هذه الأرضية قد صاغ موضوعة الانتقال من تشكيلة
اجتماعية إلى تشكيلة اجتماعية أخرى. ففي هذا الأمر لا يمكننا لوم
ماركس، فهو كما قلنا نتاج المجتمع الصناعي، ولكن تحول هذا الفكر في
المجتمعات الشرقية إلى عقيدة ثابتة أعاق كثيرًا نشوء علماء يبحثون
خصائص التطور الاقتصادي والاجتماعي في البلدان النامية، تلك البلدان
التي كانت لها مميزاتها في هذا السياق. وقد كان سابقًا من المستحيل على
العالم النامي أن ينتج مثل أولئك العلماء بحكم التخلف الثقافي فيها
وبحكم تخلف الوعي الاجتماعي وبالتالي إن كثرة الأحزاب الماركسية التي
ظهرت في تلك البلدان ظهرت متأثرة بالفكر السوفيتي العقائدي، لذا فإن
الكثير منها لم يستطع أن يصيغ نظريته حول تطور بلدانه حسب خصائص تطورها
الاقتصادي والاجتماعي، وقد انعكس ذلك في الشعارات والبرامج، ومن ذلك
مثلاً: إعطاء الدور الحاسم في التطور الاقتصادي والاجتماعي في البلاد
للبروليتاريا التي لم تكن قد تشكلت فيها بعد، بمعنى أنها لم تتكون، ولم
يتم بحث دور المثقفين وفئات الفلاحين المختلفة، كما لم يكن هناك تصورًا
واضحًا لمستقبل تلك البلدان إلا من خلال الشعارات السوفيتية حول انتصار
الطبقة العاملة وثورة الكادحين، وأن العمال سيقودون الفلاحين إلى النصر
تحت لواء العلم الأحمر والثورة الحمراء وغيرها من الشعارات العامة.
وبالرغم من أنها أحزاب لم تكن على رأس السلطة فإنها أقامت أنظمة داخلية
- داخل أحزابها - ذات طابع استبدادي بحيث أن أي شخص كان يطرح أي فكر
يخرج عن الإطار الرسمي للتفسير الماركسي كان يُطرد ويُتهم بالتحريفية
أو الانتهازية، أو الخيانة الطبقية.. الخ. وفي البلدان التي كان الحزب
يسيطر فيها على الحكم كان هذا الشخص، يُعدم أو يُسجن. وبالتالي فإن هذه
الأحزاب لم تقدم النموذج الديمقراطي، ولا الإنساني أمام الجماهير،
وكانت تترسخ لدى هذه الجماهير أكثر فأكثر القناعة بأن هذه الأحزاب لو
استلمت السلطة لفعلت بشعبها الأعاجيب، لذلك كان موقف الجماهير منها هو
دائمًا الحذر والخوف. لقد كانت هذه الأحزاب متمترسة حول إيديولوجية لا
تقبل النقاش بتاتًا، واعتبرت من جهة أن أفكارها هي الصحيحة فقط وأنها
من جهة أخرى تمثل مصالح العمال والفلاحين والفقراء سواء أراد هؤلاء
العمال والفلاحون والفقراء ذلك أم لم يريدوا. ونفت عن أي فكر آخر أي
علاقة له بهذه الجماهير. وإن ما لعب دورًا كبيرًا في تأكيد هذه الحالة
خلال سنوات طويلة وجود مركز للحركة الشيوعية هو الكومنترن الذي كان
يقوده الاتحاد السوفيتي حيث قادت هذه المؤسسة الأحزاب الشيوعية في
العالم على مدى عقود عديدة، وكانت تتدخل في كل شيء انطلاقًا من سياسة
وبرنامج كل حزب من هذه الأحزاب. وحتى في الجوانب التنظيمية كانت تتدخل
في تعيين الأشخاص أيضًا، لأنها - الكومنترن - كانت تريد أحزابًا تنفذ
الاستراتيجية العامة للاتحاد السوفيتي. ومن هنا جاءت موضوعة إخضاع
الخاص للعام، أي إخضاع استراتيجية هذه الأحزاب إلى استراتيجية الاتحاد
السوفيتي، والحجة في ذلك أن أي انتصار للاتحاد السوفيتي هو انتصار
للأحزاب الشيوعية في العالم وانتصار للشعوب، وكان أي حزب من هذه
الأحزاب يخرج عن هذا الإطار يطرد طردًا كاملاً من الحركة الشيوعية
العالمية.
لقد انعكست هذه القضية أيضًا على البناء التنظيمي لهذه
الأحزاب، كما أدى إلى تخلفها تنظيميًا وتخلفِ كادراتها أيضًا. وشكلت
هذه الأحزاب نتيجة لذلك مراكز طاردة للكادرات التي كانت تتطور من خلال
احتكاكها مع الواقع. ولم يعد هناك سوى تلك الكادرات التي توافق الزعيم
بتسليم كامل ودون نقاش. وقد أدى ذلك إلى تسرب الآلاف المؤلفة من تلك
الأحزاب في مختلف مراحل تطورها فتخلف البنية التنظيمية كان يؤدي بتلك
الأحزاب إلى تناقض مستمر مع تطور كادراتها. وكان هذا مجالاً مستمرًا
لعمليات انقسامية داخلية. ومن جهة ثانية، إن قدسية الحفاظ على هذا
التخلف في البنية التنظيمية قد ألحق عجزًا كبيرًا في تلك الأحزاب عن
رؤية حركة الواقع وتطوره، ومن جهة ثالثة فقد أدى هذا التخلف في البنية
التنظيمية إلى الدفاع عن نماذج من الحكم أيضًا منسجمة مع تخلف بنيتها،
وهذا ما أدى بهذه الأحزاب إلى أن تلعب دورًا رجعيًا في تطور الحركة
الديمقراطية وعجزها عن خلق تقاليد ديمقراطية في هذا البلد المعني أو
ذاك. ولم تقتصر هذه التأثيرات على الأحزاب الشيوعية فقط، بل تعدتها إلى
أحزاب تقدمية وثورية أخرى، وكانت نموذجًا آخر من النماذج الشيوعية
المتخلفة تنظيميًا.
إن خضوع الحركة الشيوعية إلى الكومنترن لفترة طويلة قد
أساء إليها أيضًا من الناحية السياسية، وكوَّن انطباعًا سائدًا لدى
الشعوب أن هذه الأحزاب تأتمر بأوامر الخارج، وأنها أحزابٌ ليست وطنية،
وإن الفهم الميكانيكي للنظرية، وتحول النظرية إلى عقيدة قد أدى أيضًا
إلى إعطاء مفاهيم مغلوطة أمام الشعب، وأتاح المجال لاستغلالها، من قبل
قوى لا تريد مصلحة التطور لبلادها، استغلالاً سيئًا.
وأخيرًا لا يسعنا التوسع كثيرًا في هذه القضية، ولكن
المحصلة العامة كانت سلبية جدًا، وإن انحلال الأممية الثالثة لم يغير
شيئًا من الجوهر فقد استمرت امتداداتها دون أي تغيير. ولا نزال نتذكر
محاولات التمرد على ذلك والتي جرت بالدرجة الأولى في أوروبا، حيث شنت
حملة واسعة لا حدود لها على عدد من الأحزاب الشيوعية الأوروبية التي
طرحت ما أطلق عليه اسم الشيوعية الأوربية، حيث حاولت هذه الأحزاب أن
توفق بين الفكر الماركسي والمسائل الديمقراطية، والتي نزعت من برامجها
قضية دكتاتورية البروليتاريا والتطور الاجتماعي عن طريق العنف، أي
التطور السلمي نحو الاشتراكية. ثم هوجمت هذه الأحزاب هجومًا شديدًا من
قبل المنظومة السوفيتية تحت شعار التحريفية وخيانة الماركسية، كما
هوجمت أفكار النظرية التعددية فيما يتعلق بالانتقال إلى الاشتراكية،
معتبرين أن أي مس أو انتقاد لـ"أصول" النظرية الماركسية هو خروج عن
الإيمان المطلق بها - دين - وكل ذلك قد أعاق إعاقة شاملة فهم التطورات
البنيوية التي جرت في العالم وصياغة الجانب النظري الذي يلاقي مثل تلك
التطورات.
*** *** ***
المراجع:
-
روجيه غارودي، الأصوليات المعاصرة: أسبابها ومظاهرها، ترجمة د.
خليل أحمد خليل.
-
لينين، خطوة إلى الأمام خطوتين إلى الوراء.
-
الكسندر ن. ياكوفليف، كيف نريد للاتحاد السوفييتي أن يكون،
ترجمة سليم قندلفت.
-
المادية الديالكتيكية،
ترجمة عدنان جاموس.
-
مهدي عامل، مقدمات نظرية في التناقض.
-
فريد قره، الانهيار الكبير والمستقبل، ص 123.
-
بديع حداد، الماركسية ومشكلة الديمقراطية، مجلة دراسات
اشتراكية، العدد 151-152، ص 110.
-
ف.
كيلي وم. كوفالزوف، المادية التاريخية، ترجمة وكالة أنباء
نوفوستي.
-
لينين، ثورة البرجوازية الصغيرة، وكالة أنباء نوفوستي.
-
د.
سمير أمين، ما بعد الرأسمالية.
-
روجيه غارودي، تذكر الاتحاد السوفييتي، ترجمة قصي أتاسي/ ميشيل
واكيم.
-
عطية مسوح، الماركسية من فلسفة للتغيير إلى فلسفة للتبرير.
-
معجم الشيوعية العلمية،
دار التقدم، موسكو.
-
خطاب وينستون تشرشل في 5/3/1946 الذي أطلق فيه شعار: الحرب الباردة.
-
(مبدأ ترومان) 1947 الذي منح الفاشيست وحلفائه الغربيين مساعدة مالية
سخية وقد عبر عنه سكرتير الدولة آنذاك (مارشال) في مشروعه الخاص
بمساعدة دول أوربا اقتصاديًا.
-
الماركسية اليوم،
دار الطليعة الجديدة، 2004.
-
روجيه غارودي، أمريكا طليعة الانحطاط.
-
أفكار عن الماركسية وبعض أزمتها،
مجلة الطريق اللبنانية، أيار 1993.
-
محمد الزبيدي، الماركسية بين النظرية والعقيدة، مجلة الفكر
السياسي، اتحاد الكتاب العرب، سوريا، العدد42، شتاء 2012.