التأمُّل العقلي
التفكير الرصين في حقيقة الوجود
ندره اليازجي
أتأمَّل نفسي إذ أتأمل الوجود...
1. التأمل ووحدة الوجود
تتجلَّى حقيقة الكون والطبيعة والإنسان في انسجام ضمني. وتتمثل هذه
الحقيقة في وحدة كيانٍ غير قابلة للتجزئة والانقسام. ويتجلَّى حضور هذه
الحقيقة في كياني. وهكذا، تتناغم ظاهرات الحياة في داخلي على نحو كلٍّ
متَّحدٍ يشير إلى تكامل ظاهرات الكون، بعضها مع بعض، في وجود كلِّي
واحد. وبالمثل، تتمثل هذه الوحدة التأليفية في كياني، وتفعل هذه الوحدة
الكيانية – وهي الأنا المدركة والواعية – بهدوء وسكينة، وذلك لأنها
تتجاوز الفوضى والعشوائية إلى التناسق والنظام. وفي هذه السكينة،
تتألَّق الحياة في أسمى ظاهراتها ومستوياتها.
وأنا، مَن أحيا وسط هذه الظاهرات الطبيعية والكونية، وأمثِّل، كما يقول
تيار دُه شاردن، العقدة التي تلتقي فيها اللَّانهاية الكبرى
واللَّانهاية الصغرى، أتمثل الوعي الكوني، المعبَّر عنه بالحقيقة
السامية، في كياني. فأنا أحيا في وجودي الذي يستقطب العالمين الماديَّ
والروحيَّ في كيان واحد. وعلى الرغم من اعتقادي المؤمن بوجود مستوياتٍ
تراتبيةٍ وتأليفيةٍ متصلةٍ، لكنني، مع ذلك، أشعر بعمق علاقتي مع هذه
الوحدة التأليفية.
في كياني، أبصر ما لا يُبصَر بالعين المجرَّدة، وأرى ما لا يُرى أو
يُدرَك بالحواس، وأراقب بوعي كل ما يحيط بي لكي أوحِّده في داخلي. وفي
كلِّ صباح، وقبل شروق الشمس، أتألق في غبطتي، إذ أشاهد الطبيعة الجميلة
وهي تزدهي بروعة تتجاوز الوصف والتحديد والتعريف. وعند كلِّ غروب، لا
بل بعد كلِّ غروب، أفرح وأبتهج لاستغراقي في عالم يتمثل بنور الظلمة
وضياء الروح.
إن جمال الكون والطبيعة الحية، وجمال نفس الإنسان، يُكسِبان الوجود
قيمته ومعناه. فما معنى جمال الوجود إن لم نكن نشاهده ونحياه؟ وما قيمة
الإحساس والشعور إن لم تكن الأنا المدركة والعارفة تحياه؟
أتعلَّم، مع مرور الأيام، أنني لا أستطيع أن أفهم قيمة الجمال الأسمى
إن لم أتأمله وأستغرقه في داخلي، لكي يؤلِّف كيانًا واحدًا. وبالمثل،
لا أستطيع أن أتفهَّم قيمة المواهب ومغزاها إن لم أكن أتأمل. لذا،
تأملَّتْ نفسي ذاتها في التنوعات العديدة التي تشكل ظاهرات الحقيقة.
2. شمولية التأمل
هاءنذا أتأمل كل ما يصل إليَّ عن طريق السمع والبصر واللَّمس. تأملت
محبة الإنسان للإنسان؛ تأملت محبة الأم لطفلها أو طفلتها؛ تأملت وجوه
المعوزين التي تشير إلى موت الضمير في عالم يخلو من العدالة ويتحكَّم
به الطمع والاستغلال؛ تأملت وجوه الأغنياء وهم يلهثون وراء المكاسب
والأرباح التي تطيح بمملكة إنسانيتهم؛ تأملت وجوه الأنقياء والمحبين
والحزانى وهي تضيء بنور الحقيقة؛ تأملت وجوه المتعصِّبين على نحو
عقائدي، والمتشددين في سوء فهمهم لآراء الآخرين، والمعتقدين بأنهم
يمتلكون الحقيقة المطلقة، ويستبعدون امتلاك الآخرين لها، فرأيت الظلام
الذي يخيِّم على البشرية؛ تأملت وجوه مَن يتحدثون معي وأتحدث معهم
لأعاين ما يجول في باطن كيانهم؛ تأملت وجهي لأفهم حقيقة سلوكي وتصرفي؛
تأملت حركاتي وانفعالاتي؛ تأملت سلوك الناس عبر دوافعهم لأعلم المصير
الذي يتجهون إليه؛ تأملت شمس الصباح والغروب لأعاين اللَّانهاية في
البداية المنتهية وفي النهاية المبتدئة؛ تأملت الموسيقى الجميلة لأحيا
في عالم الانسجام؛ تأملت الرسوم الرائعة لأحدس عظمة الصور التي تبدعها
الموهبة؛ تأملت هندسة البنَّاء وهندسة الطائر الذي يبني عشًّا يدعو إلى
الدهشة والإعجاب، لأعاين القرابة أو الصلة بينهما؛ تأملت الإنسان الذي
يشع رأسه بالذكاء، والإنسان الذي يتميز قلبه بالصفاء ويتصف بعظمة
الخدمة والتضحية؛ تأملت صور الحياة والمعيشة لأشاهد المظاهر الاجتماعية
في واقعها؛ تأملت الأجواء اللَّانهائية والأبعاد الكونية المتجاوزة
للمكان والزمان لأعاين أبعادي الأرضية والكونية؛ تأملت فكري لأعلم كيف
يفكر عقلي؛ تأملت شدو الحمام وتغريد الطيور ومعجزة هجرتها لأعلم سرَّ
معرفتها؛ تأملت الزهور والورود وأنواع النباتات لأعلم سرَّ حياتها
وحقيقة ألوانها ومصدر أريجها وشذاها؛ تأملت اللَّانهاية الصغرى لأرى
فيها اللَّانهاية الكبرى؛ تأملت دموع الفرح ودموع الحزن التي تنساب على
الوجنتين، والابتسامات التي تعبِّر عن شجون النفس العديدة وأفراحها؛
تأملت كل كلمة وكل عبارة قرأتها بوعي ينفذ إلى جوهر مضمونها؛ تأملت،
فعلمت أن التأمل هو الطريق الوحيد الذي يؤدي إلى اليقين القائم في
العقل الواعي الذي يتعمق في فهم حقيقته وحقيقة الكون.
3. التأمل واليقين
تدعوني الطاقة الكونية الفاعلة في كياني إلى تأمل الحقيقة الكامنة في
جوهري وفي جوهر الموضوعات الخارجية. وإذ أقتنع، على نحو وجداني، أعلم
أن الوجدان هو الفعالية الوحيدة التي تساعدني على التمييز بين شيء
وآخر؛ إذ لا أستطيع أن أعتنق مبدأً، أو أؤمن بمقولة، أو أتيقن من
حقيقة، ما لم يكن اقتناعي أو اعتقادي نتيجة محاكمة لعقلي المتأمل.
وهكذا، تأكدت من أن التأمل هو الطريق الذي يسلكه العقل المنفتحُ ليبلغ
مستوى اليقين والاعتقاد الحقيقي.
تزداد نفسي غبطة بزيادة التأمل الذي يؤدي إلى استنارة العقل. فقد أمضيت
وقتًا طويلاً وأنا أتأمل لوحة طبيعية رائعة؛ وتسامى شعوري بالعظمة
والغبطة بعد أن وعيت عمق جمالها؛ وتعمَّقتْ الصلة التي توحِّدني مع هذه
اللوحة بعد تأمُّلها. أحسست بأنني أغدقت عليها كامل شعوري وسعادتي
وحزني وعمق كياني، ووهبتها فكري، وشاركتها تعاطفتي، وأصبحت وإيَّاها
واحدًا. وبالمثل، شعرت بأنني أفرح حتى الملء، وأقيم علاقة وثيقة
متداخلة ومتبادلة مع لحن موسيقي جميل كنت أتأمله وأنا أصغي إليه، وأنا
مستغرق في نشوة لحنه. وسررت، حتى الغبطة، حين انطبعتْ مناظر الطبيعة في
مخيِّلتي، حتى إذا جلست تحت شجرة، أو وقفت قرب ساقية أو ينبوع ماء، أو
صعدت إلى ذروة جبل، أرسلت أشعة بصري، الخارجية والداخلية اللَّامحدودة،
أتأمَّلها وأتحد معها... تأملت العبارات الواضحة والعميقة، وأعدت النظر
في مضمونها وجوهر حقيقتها، لتصبح طاقة فاعلة في كياني. تأملت الوجود
وناشدته أن يشاركني أفراحي وأتراحي.
4. أتأمل نفسي في كل شيء
في تأملي، وجدت العظمة في كل شيء ينبض بالحياة. وجدت هذه العظمة في
أصغر جزيء في الكون، واكتشفت علاقتي به، وعلمت أنه يمثِّلني وأمثِّله
على حدٍّ سواء. تأملت العظمة الكامنة في باطن كلِّ شيء، فعلمت أنني كنت
أتأمل نفسي. كنت أتأمل نفسي في جوهر حقيقتها؛ هذا، لأن التأمل هو تأملي
الذي ضمَّنتُه وجودي وأودعتُه فكري وشعوري، لأستغرق في أعماق الموضوع
الذي هو، في النتيجة، موضوعي ذاتُه. وأنا، عندما أُغمض عينيَّ، يتراءى
أمامي كلُّ جمال تأمَّلته، وكلُّ صورة رسمتُها في خيالي المبدع، وكلُّ
فكرة كوَّنتُها، فتصبح أنا وأصبح هي. وعندئذٍ، يتسع أفق كياني، ويمتد
إلى عالم غير منظور أستمدُّ منه تأملي الذي يعمِّق كياني. ففي ربيع
الحياة، أتأمل ولادتها وانبثاقها وحركتها؛ وفي صيفها، أتأمل ركودها
ونضجها؛ وفي خريفها، أتأمل ثورتها وقلقها؛ وفي شتائها، أتأمل تحوُّلها،
أي بقاءها اللَّامتعيِّن في استمرارية واتصالية الحياة عبر الموت.
هكذا، يستمر تأملي لموت الحياة وحياة الموت. ومن هذا التأمل، أي من هذا
العالم العقلي غير المنظور والماثل في عمق كياني، أستمد طاقة كبرى من
الشعور والتفكير؛ هذا، لأن كل ما يحدث في عالمي الخارجي يحدث أيضًا في
عالمي الداخلي. وهذا يعني أنني أتأمل نفسي وأنا أسير في الطريق المؤدي
إلى كمال الحياة.
يتمثل تأملي في مشاهدة الحياة واختبارها في تطورها نحو تحقيق ذاتها كما
هو في وجودها. ولمـَّا كنت أمثِّل الحياة في أدق معناها، فإنما ليكون
تأملي مشاهدة ذاتي والتناغم معها وأنا أتقدَّم في طريق حياتي، وعبر
كلِّ ما يحيط بي وأحيط به. هكذا، أتأمل كلَّ ما أراه وأسمعه وأحسُّ به
وأنا أرنو إلى البعيد، إلى ما يقع بعد تخوم أفقي. وبالمثل، أتأمل كل ما
يقع ورائي وأمامي لتزداد طاقة حياتي، وأتجاوز الماضي بتأمل صحيح،
وأستمرَّ في الولوج إلى المستقبل بتأمل صحيح، تتصل فيه البداية مع
النهاية. وفي ثنائية قطبية التأمل، أشاهد قيمة حياتي ومعناها،
وأسجِّلها في كتاب الخلود لكي أتأملها من جديد عندما يبدأ غروب شمس
حياتي الحاضرة وإشراقُها، أي شروقُها في الحضور الكلِّي للوعي الكوني
والحياة اللَّامتعينة.
هكذا، أغوص إلى أعماقي حين أتأمل، فتتراءى لي حقيقتي التي تجعلني أفهم
نفسي. والحق أنني تعلَّمت الكثير وأنا أقرأ، على نحو تأمُّلي، سيرة
حياة الحكماء الكبار، والعلماء الإنسانيين المبدعين، والفلاسفة المحبين
للحقيقة، والأخلاقيين الأنقياء؛ وعلمت أن الإنسان لا يسبر عمقه الأرضي
والكوني ما لم يتأمل. ويتمثل التأمل، الذي تعلَّمته منهم، في الوعي
والغبطة اللذين ينقلان العقل من نطاق الإدراك الحسِّي إلى نطاق العقل
الفوقي، وإلى نطاق الروح المتجلِّية في كلِّ مكان وفي كلِّ شيء. وليس
بمستطاع الإنسان بلوغُ هذا المستوى، ما لم يستغرقْ تأمله، ويتَّحدْ في
كيانه، ويغتبطْ في إشراقه، الأمر الذي يؤدي إلى الحياة في الوعي
الكوني. وهكذا، تعلَّمت أن الحقيقة السامية اللَّامحدودة واللَّاموصوفة
في وجودها كامنة في الإنسان على نحو كثافة وتركيز. فلو لم تكن ماثلة
فيه، لَتعذَّر عليه الولوجُ إلى محرابها ليتأملها في داخله.
5. التأمل وتنمية البصيرة
لا يتحقق التأمل إلَّا بتنمية البصيرة، التي هي وعي داخلي كامن،
وإيقاظها. ولا يستطيع الإنسان أن يتأمل وهو قابع في عطالة حواسه.
وعندما يرفع الإنسان مستوى الشعور بحواسه، يفسح المجال لفعل وعيه
وبصيرته التي تعاين الحقيقة فيها وعبرها. وتتمثل الغبطة الكاملة في هذه
البصيرة المستنيرة والمحقَّقة بالتأمل؛ هذا، لأن أكثر الناس سعادةً
وغبطةً ومعرفةً وحكمةً أكثرهم تأملاً وأرقُّهم شعورًا.
6. تأمل الوعي الكوني والحقيقة السامية
يزداد تأمُّلي للوعي الكوني والحقيقة السامية المنبثة، على نحو حياة،
في كلِّ مكان وفي كلِّ شيء بنظام وترتيب. وأنا، حيثما وجَّهت نظري،
أعاينهما، وأشعر بهما وأحياهما. إني أراهما وأسمعهما في كلِّ كلمة أو
عبارة واضحة وبسيطة أقرأها، وفي كل فلسفة وحكمة، وفي كلِّ إنسان صالح
ومحب، وفي كلِّ مكان أحضر فيه، وفي كلِّ ابتسامة بريئة، وفي كلِّ نظرة
معبِّرة عن التعاطف والرحمة، وفي كلِّ موهبة، وفي النظام الكوني الذي
هو نظامي، وفي كلِّ واقعة تفصح عن عظمتها وتعبِّر عن كيانها وكمال
تكوينها. وكثيرًا ما أحاول، وأنا أتأمل على نحو اتصال مباشر مع الحياة
قاطبة، أن أعانق الحقيقة الماثلة في عظمة معجزة الوجود. وعندئذٍ، أشعر
بأنني أتَّحد معها في لقاء لانهائي يعبَّر عنه بالانعتاق من التحديد
الذي يفصلني عن الكلِّ الشامل. وقد جعلني هذا الاتحاد، عبر التأمل،
أشعر بكرامتي وسمو قيمتي وعظمتي لأنني كائن أرضي وكوني أتجاوز الفرد
المعزول والمنفصل عن الكل، وأتسامى على مجرَّد العيش والإحساس بالتفاهة
واللَّاجدوى.
تكمن الغاية القصوى والنهائية للتأمل في الاستغراق في الوعي الكوني
الذي يجعل مني كائنًا كونيًّا غير محدود في وجوده. والحق أن هذا الوعي
الكوني يتمثَّل في الوجود الحقيقي، أي في الوجود المحض الذي يتجاوز
القياسات والمعايير المحددة بالقيم الحسية وحدها؛ الأمر الذي يعني
الانعتاق من قيود الانفعالات وإشراطاتها، والانطلاق إلى عالم المبادئ
العقلية المجرَّدة. وقد استنتجت أن هذا العالم هو ما ندعوه الفراغ
الممتلئ واللَّامتعين. إنه عالم يتجوَّل فيه العقل المنفتح الذي يتسامى
على قيود وحدود اليقينيَّات. إنه عالم الوعي والحرية.
7. التأمل وعمق الكيان والمركز الموحَّد
ماذا يعني عمق وجودي وكينونتي؟ إنه يعني عمق الاتساع الوجودي الملازم
لاتساع الوعي الكوني. وكيف يكون وجودي عميقًا وأنا أحتل مكانًا هو جسدي
المادي الصغير؟ كيف يكون شعوري بالألم أو بالغبطة عميقًا وأنا لست، في
ظاهري، أكثر من جسد صغير؟ أين هي أعماقي؟ ما هي أعماقي؟ وإذ أجيب نفسي،
أقول: يتماثل عمقي مع عمق الكون الماثل في كياني، ومع عمق الوعي الكوني
الذي يحيا فيَّ وأحيا فيه. هكذا، تكون أعماقي قائمة في وجودي وفي
كياني. ولا يكتمل فهم وجودي إلَّا في الاستغراق في عالم الداخل الذي
يوحِّد عالم الخارج بالتأمل الذي يُرجِع نفسي إلى نفسي، ويعكس عقلي إلى
عقلي، لكي تتفاعل كلِّية كياني في الوجود اللَّانهائي.
لمـَّا كنت أعجز عن الغوص إلى إعماقي إلَّا بالتأمل، فإنما الأمر يقضي
بإعلان الطريقة الوحيدة للعودة إلى نفسي بعد اغترابها في عالم انفصلتْ
فيه نفسي عن الاتصالية الكونية التي تتمثَّل في وحدة تأليفية. وإذا كنت
نفسي، كنت متَّحدًا معها، لأنني لا أستطيع أن أزعم بأنني أسيطر عليها،
بل أتَّحد معها وأتسامى معها وأنا أُعمِلُ فكري في فكري وعقلي في عقلي
أثناء التأمل. وكلَّما تأملت نفسي، يشرق نور حقيقي يزداد ضياءً وهو
يتألق في المركز الموحِّد. وعندئذٍ، أسأل نفسي: أين هو مركزي الموحِّد؟
أهو في دماغي، أم في قلبي، أم في غددي، أم في أي عضو من أعضاء جسدي، أم
في أعصابي، أم في مراكز طاقتي؟ إن وجودي قائم في جسدي الموحِّد
بفعالياته العضوية المتواكلة ووظائفه النفسية المتكاملة. ولمـَّا كان
وجودي لا يتحدَّد في جزء معين، فإنه ينبعث من تكامل كياني، من وحدة
الهوية التي هي روحي.
هذا ما يحدث في كياني، إذ يكون عقلي موضوع ذاته. وتنعكس أضواء عقلي على
الموضوع الخارجي، فيتأمله ويحوِّله إلى كيان داخلي موحِّد. ولما كانت
وحدة الهوية النفسية تتفاعل في ذاتها عبر التأمل، ويصبح الموضوع في
داخلي، فإنني أتأمله. وهكذا، يبقى العقل على صلة دائمة مع كلِّ ما
يتجلَّى في الكون؛ وتكون هذه الصلة، التي لا تنقطع، تأملاً.
8. التأمل ووحدة العالم الخارجي والعالم الداخلي
أنا لا أرى، ولا أحس، ولا ألمس، ولا أشعر، ولا أفكر، بل أتأمل؛ هذا،
لأن إحساسي لا يعني شيئًا إن هو ظل مجرد إحساس؛ لكنه يصبح تصورًا بعد
تأمله على نحو تفكير منطقي، أي على نحو تجربة مختبَرة. فالمعنى، الذي
يمنح الإحساس بقيمته، يكمن في كياني. ولو لم يكن كامنًا في كياني لَما
أدركت معناه وظل إحساسًا مجردًا من المعنى. وإذ يدخل الإحساس مملكتي
الداخلية، مملكة عقلي ونفسي وروحي، يصبح متحدًا معها. لذا، كان التفكير
امتدادًا لتأمل الأنا ذاتَها في وحدة العالمين الخارجي والداخلي. وهذا
يعني أن الإدراك الحسِّي هو المرحلة الأولى لبلوغ الوعي عبر التأمل.
وأنا أسير في طريق الحياة، أرى ظاهرات الوجود؛ ويتأمل عقلي هذه
الظاهرات التي هي أوصافه في العالم الخارجي. ومنذ البدء، عنى وجود
الأنا المدرِكة دراسةَ ذاتها من خلال هذه الظاهرات التي هي الرموز التي
تتميز بها الطبيعة لتشير إلى سرِّها الخفي. لذا، يطرح العقل ذاته في
الطبيعة، لتنعكس هذه الطبيعة فيه على نحو تصوُّر. ولا يستطيع العقل أن
يدرك ماهيَّته ما لم يتأمل ذاته في الطبيعة، لتعود الطبيعة الخارجية
المادية إلى الطبيعة الداخلية الواعية التي يصوغها العقل الفوقي في
مبادئ ترمز إلى الوعي الكوني على نحوٍ تعود فيه الكثرة والثنائية إلى
الوحدة.
9. التجربة والاختبار
أدركت أن التأمل لا يتحقق في التجربة وحدها، لسبب هو أنها تبقى إدراكًا
حسيًّا؛ هذا، لأن الاختبار هو العملية الداخلية التي تنقل التجربة إلى
نطاق المعرفة العقلية، والحكمة والوعي. وقد علمت أن العلماء يختبرون
تجاربهم بتأمُّل النتائج الحاصلة. فهم، في كلِّ تجربة يُحدِثونها،
يتقدَّمون خطوة باتجاه معرفة حقيقة التجربة بعد اختبار مضامينها
بالتأمل العقلي المجرَّد من الانفعال. وما لم يكن العقل قد بلغ المستوى
الرفيع في عملية المحاكمة السليمة، فلا بدَّ أن يظل هذا العقل ضالًّا
في متاهةِ حسِّيةِ التجربة. ولمـَّا كان الاختبار يعتمد المنطق الصاعد
في أحكامه المتصلة والمتماسكة، فإن العقل يصبح مهيَّأً لفهم التجربة
ووعيها. وهكذا، علمت أن الاختبار يشمل التجربة وهي تدخل نطاق العقل
الفوقي الذي يتأملها وهو يسلِّط أضواء محاكمته السليمة، الحكيمة
والواعية والخالية من الانفعال أو التحيُّز. وفي هذا الاختبار، يتجاوز
الإنسان إسقاطات التجربة ومغالطاتها وإرهاصاتها. ولهذا السبب، أصبحت
أتجنب أو أعارض الإنسان الذي يتفاخر بحكمته الظاهرية ويدَّعي بأنها
حصيلة "تجربته الطويلة". والحق أن التجربة أو التجارب التي تُلزِم
الإنسان العادي على معرفة خطأه، وتُرغِمه على الانصياع لإسقاطات
التجربة، لم تكن حصيلة حكمة أو وعي بقدر ما كانت حصيلة الضَّعف الذي
يؤدي إلى الاستسلام للتجربة غير المختبَرة التي بلغت حدود النتائج
السيئة. وللسبب ذاته، علمت أن الوعي يقضي بالعودة أو الالتجاء إلى
الإنسان الحكيم، وليس إلى الإنسان "المجرِّب" الذي يكرِّر تجربته دون
وعي، وذلك لأن الإنسان الحكيم يختبر التجارب بعقل فوقي يتميز بالمحاكمة
والمعرفة والوعي. وإذ يبلغ الإنسان مستوى العقل الفوقي، الذي يعتمد
المحاكمة السليمة القائمة في الوعي والحكمة، يتأمل مضمون التجربة.
10. التأمل والذهول والتداعي
عندما بلغت هذا المستوى من المحاكمة السليمة والواعية والخالية من
الانفعال، بدأت ألقي أشعة عقلي الفوقي، الذي يختبر التجارب ويسعى إلى
تحقيق حياة داخلية متكاملة ومتوازنة، وأصبحت قادرًا على التمييز بين
التأمُّل والتداعي والذهول أو الشرود. علمت أن الذهول أو الشرود مظهر
انفعالي يشير إلى تعليق التفكير على نحوٍ يكون العقل في حالة عطالة؛
وفي هذه العطالة العقلية، يسود الانفعال على نحو اضطراب نفسي، كالغضب،
أو الكآبة، أو الكراهية، أو لذة طاغية، أو نشوة زائفة، الأمر الذي يجعل
العقل خاضعًا لهذه العطالة، عاجزًا عن القيام بمحاكمة سليمة وواعية.
علمت أيضًا أن التداعي، على الرغم من رقَّته الظاهرية والنشوة اللذيذة
التي ترافقه، هو مجرَّد طرح لذكريات أو لمشاعر نفسية يستدعيها العقل أو
يستحضرها إلى ساحة الشعور دون أن يُحدِث علاقة أو صلة بينها. وفي حال
الانفعال النفسي، أي ما يُدعى بالعُصاب، الذي يطيح بفعالية المحاكمة
والقدرة على التركيز ومعرفة الأسباب المؤدية إلى هذا الانفعال، يعجز
العقل، الذي يتداعى إلى أغوار النفس العميقة والمشوَّشة، عن تحليل
الأسباب التي أدت إلى فقدان التوازن.
في حالة التداعي إلى ذكريات الماضي، السعيدة أو الحزينة، المبهِجة أو
المؤلمة، يكون العقل شبيهًا برحَّالة ينتقل من بلد إلى بلد آخر على
نحوٍ يمر فيها مرور الكرام، دون دراسة أوضاعها وشؤونها وقضاياها، أو
دون إحداث علاقة بين بلد وآخر، ليعرف سبب رحلته والغاية التي يرمي إلى
تحقيقها. وهكذا، يتداعى العقل إلى ذكريات الماضي وأحداثه على نحو
انتقالٍ من حالة نفسية إلى حالة نفسية أخرى، دون تركيز عقلي فاعل
ومُحاكِم ومختبِر. إن هذا العقل يجد لذة في نشوة التداعي أو ألمـًا في
استدعاء ذكريات حزينة ماضية.
وإذ أدركت أن التداعي أو الذهول يشكِّلان حالتين نفسيتين، يكون العقل
في إحداها منشغلاً بوضعه الانفعالي، الذي يخرج عن نطاق التفكير
المركَّز القائم على التذكُّر الدقيق لحادثة معينة، ويكون في الأخرى
سائحًا في ذكريات تُحدِثُ فيه نشوة نفسية رقيقة ولذيذة، أدركت أيضًا أن
التأمل يتميَّز عنهما، بل يختلف عنهما اختلافًا جذريًّا في مضمون
القيمة والمعنى. علمت أن التأمل تركيز عقلي على موضوع معيَّن، خارجيًّا
كان أم داخليًّا؛ علمت أنه اختبار داخلي لموضوع أو لواقعة؛ علمت أنه
فهم للتجربة في عمقها؛ علمت أنه معالجة عالم الخارج في عالم الداخل عبر
سلسلة متصلة من العمليات العقلية والنفسية المنتقاة؛ علمت أنه صعود
العقل إلى مستوى أعلى للمحاكمة والوعي والحكمة؛ علمت أنه طريق المعرفة
المؤدي إلى الوحدة الداخلية في كيان قادر على إحداث تكامل بين عالم
الطبيعة وعالم العقل، المتَّحدين في وحدة الهوية النفسية، وعالم الروح
المتجاوز للثنائية والتعددية.
11. المثالية المتسامية والمثالية الخيالية
وإذ بلغت هذا المستوى من معرفة حقيقة التأمل، علمت أن تحقيقه يتوطَّد
في مثالية متسامية ومتجاوزة تشير إلى رفع الواقع كما هو إلى ما يجب أن
يكون في المثال. وعلمت أن مثالية وجودي الواقعية تسمو، بفعل تأمل حقيقة
الوجود الواقعية والمغزى المضمون فيها والغاية النهائية، إلى المستوى
الذي يجعلني أعاين جوهر كياني لإحداث توفيق بين المستوى الطبيعي الذي
يرأسه العقل، والمستوى النفسي الذي يؤكِّد وحدة كياني، والمستوى الروحي
الذي تتصالح فيه الثنائية والتعددية. وهكذا، أصبحت أعتبر التأمل
مثاليةً تحقِّق سلَّم الوجود عبر مستويات تساعد العقل على تجاوز كل
مستوى إلى مستوى أعلى في سلسلة الوجود الكبرى. ولما كانت المثالية
الواقعية هي المرحلة الأولى التي تشير إلى تحقيقٍ مثابرٍ على مستوى
المثالية المتسامية، فإنني وجَّهت فعاليتي، المضمونة في وحدة كياني،
إلى تجاوز المثالية الخيالية التي يُحتمَل أن تكون حصيلة انفعال شديد،
أو عجز عن التحقيق، أو طرح للإسقاطات العديدة التي يعاني منها الإنسان،
أو استسلام لغيبيَّةٍ لا يكون للعقل فيها دور فعَّال، أو معاناة نفسية
ناتجة عن خضوع لإشراطات عديدة تُلزِم الإنسان على الالتجاء إلى
التعويضات الخاطئة أو الزائفة.
في هذا المنظور، علمت أن التأمل يعني تنشيط الطاقة الإنسانية الفاعلة
في عقل منطقي ومُحاكِم، وفي كيان موحَّد في أبعاده ووظائفه النفسية،
ليحيا في مثالية الحياة الواقعية والمتسامية إلى معرفة الحقيقة السامية
وتحقيق الغاية العظمى للوجود.
من كتاب حديقة الحكمة
*** *** ***