علم النَّفس
السِّياسي في العالم العربي: قراءة في أفكار علي زيعور
ريتا فرج
يعتبر
علم النَّفس السياسي من التخصصات الأكاديمية الحديثة. لم تُطرح مساقات
له في الجامعات الغربية قبل سبعينيات القرن المنصرم، علمًا أن من كتبوا
حوله، درسوا تأثير علم النفس في السياسة منذ عشرينيات القرن المنصرم.
في العالم العربي يُعد التأسيس لميدان علم النفس السياسي من الضرورات
العلمية، نظرًا لأهمية هذا الحقل المعرفي في تفسير الظواهر السياسية
المركبة والمعقدة، لا سيما تلك المرتبطة بتشريح بنى الاستبداد السياسي
والديني والعلاقة التبادلية بينهما، وفهم سيكولوجيا الجموع؛ غير أن
غالبية الجامعات عندنا تتفادى تخصيص مواد حول علم النفس السياسي، خوفًا
وتوجسًا، هذا إذا لم نتحدث عن مخاوف عامة من علم النفس لدى العديد من
الصروح الأكاديمية.
إنَّ المشتغلين في علم النَّفس السياسي عربيًا، عددهم قليل جدًا. يمكن
الإشارة إلى بعض الأعلام نذكر منهم – على سبيل المثال لا الحصر -
المحلِّل النفسي اللبناني عدنان حب الله (ت 2006) صاحب كتاب جرثومة
العنف: الحرب الأهلية في صميم كلٍّ منا (دار الطليعة، 1998)؛
والأكاديمي اللبناني محمد أحمد النابلسي الذي نشر مجموعة من الكتب في
تحليل السياسة والذات العربية من بينها: النفس المقهورة: سيكولوجية
السياسة العربية (دار النهضة العربية، لبنان، 2009)؛ وعالم النفس
المصري مصطفى صفوان – أحد كبار المحللين النفسيين من مدرسة جاك لاكان -
صاحب كتاب لماذا العرب ليسوا أحرارًا (دار الساقي، 2012) والذي
له إسهامات لافتة في ميدان تفكيك الاستبداد والسلطة المحتكرة في العالم
العربي، ونشر عملاً مشتركًا مع حب الله، تحت عنوان إشكاليات المجتمع
العربي: قراءة من منظور التحليل النفسي (المركز الثقافي العربي،
2009).
علم النَّفس
السِّياسي العربي: عوامل الانهزام الدَّاخلي
في التحليل النفسي وعلوم النفس والفلسفات النفسانية: توكيدية وأنسنة
في الشخصية والنحناوية كما في التواصلية والعقل (دار النهضة
العربية للطباعة والنشر والتوزيع، 2009) يقدم البروفيسور اللبناني في
الفلسفة النفسية علي زيعور، مقاربات مهمة حول "علم النفس السياسي
العربي". تسعى هذه المقالة إلى الإضاءة على بعض أفكار زيعور التي
تضمنها الفصل الثاني من الكتاب ما بعد تأسيس ميدان علم النفس
السياسي (ص ص 403-442).
يلاحظ زيعور
أن
علم النفس السياسي العربي، نشأ وتكرس، في سياق تاريخي متحرك بسلسلة من
عوامل الانهزام الداخلي؛ وفي مواجهة عدوانية الاستعمار؛ ثم، وعلى نحو
خاص، في الصراع مع الاستيطاني المتسلح بدولٍ متوسعة تمددية، ومهتمة
بمصالحها الإمبراطورية، وبالاستغلال الاقتصادي السياسي- كما النفسي
الفكري- المترابط مع مطامع الحركة الصهيونية.
يقترح صاحب التحليل النفسي للذات العربية: أنماطها السلوكية
والأسطورية على المدرسة العربية في علم النفس والتحليل النفسي
ضمنًا، مجموعة من القطاعات الطباقية، يدرجها على النحو الآتي:
1.
المرحلة التأسيسية الأطروحية.
2.
البطل والرئيس العُصابي والزعيم المرضي.
3.
البطل السياسي الكوني الراهن: انجراحاته وانشطاراته.
4.
سيكولوجيا السياسة العربية ومستقبل انجراحاتها وأعدائها.
5.
قطاعات المعتقلات والمخابرات: برمجة الإنسان ثم إلغاء معناه.
6.
المعافى المعافي والمنجرح.
مصطفى زيور:
انطلاقة علم النَّفس السياسيِّ العربيِّ
إنَّ تأسيس علم النفس السياسي في العالم العربي، جاء على يد العالِم
المصري مصطفى زيور (ت 1990)، مؤسس قسم علم النفس في جامعة عين شمس عام
1950،
وهو أول قسم لعلم النفس في الجامعات العربية. يشير زيعور إلى أن نجاح
زيور – الرائد في العقل الجامعي العربي - ابتدأ في الغرب، حين ترأس
عيادة جامعة باريس، وعمل فيها كمحلل نفسي، وبرز كمؤسس في الطب
"النفسبدني". وقد يكون نجاحه الأبرز متمثلاً ليس فقط بمنتوجه، وبنشاطه
كجامعي ملتزم؛ بل أيضًا بما تخرج على يده من طلاب، غدوا في مجال
التحليل النفسي، عمالقة، خدموا في الغرب بنجاح وشهرة، نذكر من هؤلاء
مصطفى صفوان، سامي علي، أحمد فؤاد فائق. (ما بعد تأسيس ميدان علم
النفس السياسي، ص 406).
شكل كتاب مصطفى زيور في النفس: مقالات مجمعة في التحليل النفسي
مساهمات ومقالات زيور، فاتحة انطلاقه في علم النفس السياسي العربي،
خصوصًا في تحليله لــــ "التعصب" كظاهرة نفسية اجتماعية سياسية مرضية.
يقول:
التعصب يؤدي وظيفة خاصة تتلخص في التنفيس عما يعتلج في النفس من كراهية
وعدوان مكبوت، وذلك عن طريق عمليتي النقل والإبدال، دفاعًا عن الذات
وعن من تحبه. فالمتعصب إذن يجني في موقفه كسبًا، غير أن هذا الكسب لا
يختلف عما يجنيه العُصابي من سلوكه الشاذ، أي إنه كسبٌ وهمي ناقص يفوت
على صاحبه فرصة حل إشكاله حلاً رشيدًا واقعيًا مجديًا.
يرى زيعور أن غرض علم النفس السياسي ومقصوده، يتحدد في استقراء
التعريفات والموضوعات التي ظهرت على يد المؤسسين أو الآباء. وعبر
استعادته لزيور يؤيد قوله عن لزوم استبعاد المفاهيم والاصطلاحات
الفنية، حتى يكون ذلك الميدان في متناول أكبر عددٍ من القراء، وذلك
لصلة موضوعه بالأحداث الراهنة، وخصوصًا مسألتي: "الحرب النفسية"
و"الروح المعنوية".
الشَّخصيَّة
العربيَّة: الاستبداد والقمع السِّياسي
يجترح صاحب المدخل إلى التحليل النفسي والصحة العقلية مصطلحات
نفسية جديدة، لا تخلو من التعقيد، فنجده يتحدث عن "النحناوية" (أي
النحن) هذا إلى جانب حفره أو تعريبه لبعض مفاهيم علم النفس في الغرب،
حيث يسجل له قدرته على التوليف والجمع والابتكار. إن علم النفس
السياسي، كميدان معرفي – كما يلفت زيعور:
ليس
هدفه التطوير المعرفي فحسب، وإحصاف النفسانيات من حيث هي علم عام، وبحث
نظري، بل وأيضًا، من أجل أن ينهض علماء النفس العرب إلى مستوى
المسؤولية والوعي بأن علم النفس يقدم أضواء تنير الطريق إلى المستقبل،
وإلى تنمية المواطن والوطن والفكر واللغة، وإلى ربط العملي والقول
والممارس بثورات العلوم والتكنولوجيا والصحة النفسية للشخصية والمجتمع،
للسياسة والمستقبلانية. (ص 408)
يقدم علي زيعور في مجموعة القطاعات الطباقية المذكورة أعلاه تحليلاً
نفسيًا لمجالات عدة. ففي تحليله للشخصية العربية الراضخة للاستبداد
والقمع السياسي – أو حتى الديني – يلاحظ
أن
التصورات الإيجابية عن الحياة والكون (التراث، السياسة، الآخر) حالة
نفسية عند الراشد السوي، تعاد إلى تجربة السنوات الأولى من العيش مع
الوالدين، في فضاء عائلي محب ومتعاطف، متوازن وسوي، بلا حرمان أو نقص
في الحنان والاطمئنان والاحتماء. أما الطفولة المذنبة المؤثمة أو
الآثمة، فهي منتوج التربية العائلية غير المعافاة، والأبوة المؤثمة
والمعاقبة والقامعة، المخطِّئة المقرِّعة والمراقبة والمحاسبة بقسوة
وهيمنة. ذلك الفضاء المقلق ينبت شخصية تطيع وتنصاع، تخاف وتستسلم، أكثر
مما هي تجابه أو تُقاوم، ويبني علاقة "رضوخية إرضاخية" ومشاعر بالذنب
(...) هنا التأثيم الذاتي المتكون في اللاوعي عبر التجارب الطفلية،
يوجه السلوك ويفسر الرغبة اللاواعية بالاعتراف، أو بالاستسلام أمام
الرئيس أو الجلاد.
والحال تغدو الشخصية التي نمت على هذا النمط من التربية راضخة
للاستبداد مطيعة للحاكم المستبد. إن ثقل الاستبداد على الذات العربية
لا يتعلق بالموروث الاستبدادي، السياسي والديني، فحسب، تترك التربية
دورًا كبيرًا في تنميط الشخصية وانقيادها إلى الطاعة، كما أن السلطان
السياسي يعمل على تأبيد "الراهن السياسي" في سبيل توطيد سلطته، لذلك
يلجأ إلى الاستعانة بالوسائل كافة بغية تعزيز بقائه في الحكم لا سيما
في الأنظمة العربية التي يحكمها العسكر. يستخدم مصطفى صفوان مصطلح
"الدولة البدائية الحديثة" للدلالة على الأنظمة الاستبدادية السائدة في
العالم العربي، محددًا خصائصها، فهي أولاً، تكرس ما أسماه "الاعتقاد
الطبيعي بنظام المقدس"، وثانيًا، لا تقبل اقتسام السلطة، وثالثًا، ترفض
أي ضبط حقيقي لسلطة الحاكم، ورابعًا، تلهث وراء ضمان الاستقرار
واستمرار الحكم على حساب الاستقلال الوطني والنمو الاقتصادي وبناء
الإنسان.
الجبَّار
الأميركي: فحولة البطل وإخصاؤه للآخر المناهض
يقدم زيعور مقاربات نفسية في تحليله لبعض "الشخصيات النرجسية
والعظماوية العدائية" مثل الرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش،
انطلاقًا من الصورة العلائقية بين الابن والأب. وفي إطار الأحداث
الكونية وتحديدًا واقعة 11 أيلول (سبتمبر) 2001، يرى أن هذه
الواقعة، هي كارثة (على مستوى الفهم الشعبي)، أما في التصورات
والملابسات الناجمة، فإنها طرحت أسئلة أو أثارت مشكلات مؤجلة متعلقة
بالبطل السياسية الأميركي، من حيث هويته وأمراضه، فكره ورسالته (...)
جرحت الصدمة المفاجئة، البطل الكوني، وخلخلت لحظته التاريخية بحيث
انتكس بُعده التاريخي، وانغلب الحاضر، واضطربت تصوراته عن المستقبل،
وعن فهمه للزمان.
وفي سياق تفسيره لقرار الحرب على أفغانستان الذي اتخذته واشنطن، يلفت
زيعور إلى أن
الجبار الإمبراطوري [الأميركي] الخرافي، لم يتوقف عن التعجرف؛ هنا
تتركز أساطيره المتدفقة حول نجاح كاسح جعله يحظى بنفوذ سياسي عالٍ،
وتفوق في القدرات والمهارات (...) ولكأنه بطل يبحث عن عدوٍ لا يجده،
فيتحدى كأنه يطالب العالم بتقديم ضحية ليتسلى بالحروب الصغيرة،
وبالحضارات المتعددة المستوى. وهذا، مع تصنيف الدول إلى تابعة ومارقة،
وإلى مؤيدة لنظامه القيمي وهدفه، لأن يصبح سيدًا للعالم بأجمعه. يرد
هذا البطل الخرافي الكوني الفشل إلى التخلف في الدول المعادية له، وليس
إلى عدم صلاحية نظام العولمة. (ص 418)
لقد انعكست النرجسية الأميركية في ما يسميه زيعور "فحولة البطل وإخصاؤه
للآخر المناهض"؛ أي الآخر الرافض للهيمنة الأميركية، ولعل أفلام الغرب
الأميركي تبرهن على حاجة البطل "الكاوبويائي" إلى الانتصار، إلى عدوٍ
يؤثم ويُعاقب ويُباد (...) بغية التوسع والتوكيد الذاتي كما النحناوي.
نحو تأسيس "قطاع
المعتقلات والمخابرات" في ميدان علم النَّفس السِّياسي
يشدد زيعور على ضرورة الاهتمام بــــ "نفسانية السياسة العربية
المعاصرة" وانجراحاتها وأعدائها، فهذا المشروع يؤسس اختصاصًا أكاديميًا
مكرسًا، ومراكز مستقلة للبحث والتحليل، هو أبرز ما يخلص إليه ميدان علم
"النفسياسي" داخل المدرسة العربية الراهنة في علم النفس والتحليل
النفسي.
وعليه فإن أول خطوات ذلك المشروع – كما يقترح زيعور
- تتبلور عبر دراسة الخصائص المعرفية والإمكانات التطبيقية، على
الفاعلية، أي على الأدوات أو المناهج وجهاز الإنتاج.
قد يكون اقتراح علي زيعور لـــ "قطاع المعتقلات والمخابرات" ضمن تخصصات
علم النفس السياسي في العالم العربي من بين أهم المقترحات، في سبيل فهم
الآثار النفسية والجسدية والانفعالية التي تظهر على المعتقلين في سجون
المخابرات العربية. أسست الأنظمة العربية الاستبدادية جبروتها السياسي
على الطغيان وملاحقة المعارضة السياسية وامتلأت المعتقلات بمئات سجناء
الرأي، ولا ريب أن المقاربة النفسية لانتشار المعتقلات في العالم
العربي، خصوصًا في العقود الأخيرة تسمح بتناول ظاهرة القمع السياسي من
مفاصل عدة على مستوى الآليات والوظائف والأدوار والنتائج. إن
القهر
التعذيبي [الذي يتعرض له المعتقل] المُستهدِف لجسد المعتقل وتبخيسه،
وتفكيك صورته ووظائفه وحاجاته، عمليات تفقد التوازن أو الاستقرار
النفسي والقدرات على التفكير السويِّ والسلوك الحضاري المكتسب، وتفكك
تاليًا الطبقات العليا من الشخصية، فتتحكم عند ذلك المكبوتات الطفلية
أو الذكريات اللاواعية عن الأب القاسي، والمشاعر بالذنب، والخوف من
العقاب أو من التأثيم والتقريع. (ص 433)
خرج علي زيعور في مؤلفاته الكثيرة في ميدان علم النفس بنظريات وأفكار
جديدة، تتجاوز المجال السياسي إلى التربوي والتاريخي والإناسي والخطابي.
لقد غطت مقارباته ليس الشخصية العربية وانجراحاتها
فحسب، بل مروحة واسعة من القضايا الرئيسة في المجتمع والثقافة والدين.
لقد قرأ العوارض والأمراض السياسية والاجتماعية بعيون التحليل النفسي.
تشكل خلاصاته في علم النفس السياسي العربي قفزة لافتة في هذا الحقل
العلمي الذي يحتاج إلى اهتمام ودعم من قبل الدوائر الأكاديمية ومراكز
الأبحاث، بغية إدراك كلية الظواهر السياسية بدل التكتم عليها والسكوت
عنها وطمرها.
*** *** ***
عن موقع الأوان