من الطيور
وكائناتٍ أُخرى (1)
دارين ناظم
إن لم تكن طفلاً
لديه صديقٌ خيالي
فلتكنْ
صديقًا خياليًا لطفلٍ
فإن لم تكن!
فخيالاً طفلاً لصديقْ.
"لا تخلع عنكَ كُلَّ الخيالِ،
ولا كُلَّ الطفولةِ"
قالَ صديقُ نفسهِ،
صديقي القزمُ في جيبي،
الذي يحملُ عالمي في كفهِ،
ويبتكرُ في آني عوالمَ الغيبِ.
نفقتِ الحيتانُ
على رمالِ بحرها الفِضِّيِّ،
ذهبيةً،
والرِّجالُ،
الّذينَ يُشَمِرُونَ سراويلهم حتى الرُّكَبِ،
عُرَاةَ الصُّدُورِ
ومُلوحينَ
بعضهم أرادَ إنقاذها
وبعضهم أرادَ الصَّيدَ الثَّمينَ.
أنا لامعٌ كجلدِ حوتٍ يُحتضِرُ
ورئتاي
رغم صغرهما
إذا ما قيستا برئتي حوتْ
تناسبانِ حجميَ
والزَّمنُ ذاتهُ
الذي يلزمكَ لتموتْ
يلزمني
فمدةٌ كافيةٌ
تساوي مدةً كافيةْ.
*
كنتُ قد قرأتُ في مكانٍ ما
كحقيقةٍ علميةٍ
أَنَّ الفراشاتِ تشربُ من دموعِ الفيلةِ.
فقلتُ:
"هذا شِعرْ"
وأنا لم أرَ فيلاً في حياتي،
أو ربما
في ذاكرةٍ بعيدةٍ
في السِّيرك،
حيثُ ذهبتُ مرةً،
رأيتُ واحدًا.
لا يمكنني الجَّزمْ.
وأنا
رأيتُ الكثيرَ من الفراشاتِ،
عمرها أقصرُ من أن تُسافرَ إلى أيِّ مكانٍ فيهٍ فيلْ،
تنتظرَهُ حتى يبكي،
وتشربَ من دمعهِ.
أعرفُ الكثيرَ من الفراشاتِ التي ماتتْ عطشى!
ويبقى السُّؤالُ:
ما الذي يجعلُ الفيلَ يبكي؟
وكيف لم يخطرْ لي
حقًا
أنَّ السِّيركْ
يجوبُ في البلدانِ
ليسقيَ من الفراشاتِ ما أمكنْ؟!
*
من رتبَ أشيائي
فأفقدني
ذاكرةَ الضَّياعْ؟
أنا الذئبةُ التي تعوي
على جُلودِهِنَ
وقلوبهنَ ملتهبةٌ أغشيتها
حمراءْ
لستُ أُميِّزُ أعدائي
ليس لدي أعداءْ
سوى قمرٍ صديقٍ
يُرضعني حليبهُ
فيسري الطَّفحُ على أرضي!
هو تينُ السَّماءْ،
كلما قطفتهُ،
فركتُ رأسهُ
- إن تذكرتُ -
باللِّحاءْ.
وإن نسيتُ،
يُذكِّرني بنفسهِ طويلاً.
كيف أنسى،
يا فراشاتٍ يُلطخُني
أثرَكُنَ؟
كلُّ ما يحدثُ في العالمِ
لا فرقَ
أينْ!
هو الرَّفَةُ ذاتها
وأُصدقُ
أنَ ابتسامتها
قتلتهم جميعًا.
*
معًا جلسنا وامتدحنا السّنونو
كيفَ يطيرُ!
قويًا
في الجَّوِ يأكلُ!
طائرًا!
وكيفُ يجتذبُ أُنثاهُ!
ثم مددتُ إصبعي نحوهُ،
قلتُ:
انظرْ
أولستَ تَراهُ!
كأنَّ الكلامَ عنهُ هباءٌ
ياليتنا إيَّاهُ!
*
كُلُّ هذهِ الجَّمهرةِ من الجِّبالِ،
النَّايُ عصا الأعمى
وأصابعكَ
التي تريدُ أنْ تقودهم،
تنطوي في الجَّيبْ
لأن الحرمانَ يوسوسُ في أذنكَ.
أنا لا أسمعهُ،
لهذا أنتظرْ
ولقد خَلَقْتُ لنفسي منعطفًا
الرَّيحُ فيه رحومةٌ
ومُرَّةٌ،
مرارتُها هي أُمُّ رحمتها،
وهكذا نولدُ من رحمٍ
أَشْبَهَ باقتنائنا تذكاراتِ موتنا.
ويحينُ وقتٌ
أنهضُ فيهِ
لأخبِّئَ السَّهلَ الواحدَ
عن الذينَ كسروني
وعبروا دوني
وتبقى الفراشاتُ الرَّمزَ المفضَّلَ
الذي لاكتهُ آلافُ البلاغاتِ
وتبقى الفراشةُ
- صفراءَ،
نقيةً من أي لونٍ غيرهِ -
دليلاً خبيرًا،
أتبعها،
أفقيًا
وشاقوليًا،
لو تأتي!
وأنفُضُ يدي من رغبتي
لن آسِرَ الرَّعشةَ
حتى لا أحتارَ إلى أينَ أذهبْ.
*
أهتدي إلى الكلام
كما تهتدي أسماكُ السَّلمونِ
إلى مسقط رأسها
وعَكسَ كل شيءٍ
تقفزُ اللغة
وتغطسُ.
يا فضَّةً زنخةً،
لو غطَّتْ جسدي حراشفها،
لصارعتُ الدّببةَ
ونجوتُ.
لتكاثرتُ أطفالاً لن ألتقيْهمْ،
متروكين في غلافٍ منِّي.
ومنِّي لهم أيضًا
بذرةُ الرِّحلةِ،
دربي ذاتها،
ما لم يجفَ النَّهرُ
فيهمْ.
*
لم يَعُدْ من رجالٍ
للنكوص
ميداسُ لمسهُمْ جميعًا
وجلسَ نادمًا على أماني قلبهْ.
هكذا نجوعُ
وفي قُمرةِ العينْ
تسكُنُ أشباهُ أرواحهمْ
اللحظةُ السَّجينةُ
الحرةُ
في عالمينْ
وأنا إنْ قصصتُ شَعري
سأذكرُ عهدَ التَّقلُبِ
عهدي بنَفْسي
وهي على عهدي بها!
تُحِبُ انتظارًا طويلاً على عتباتِ الأبوابِ
وتغفو كُلَّما تَعِبَ السَّلامُ من مُجادلةِ الغضبْ
تغفو حتى قدومِ الذِّئاب
لتجرها من شعرها
*
أتعلمونَ
أنَّ الشَّعْرَ والأظافرَ خلايا ميتةً؟
هكذا ينمو سريعًا
يغيبُ الألمُ عنهُ، سوى اِلتِقاءْ
والجِّلدُ يموتُ أحيانًا على كعبٍ
تَعِبْ
ما هو حيٌّ فينا يخافُ أنْ يتألمَ
فيلبسُ الموتَ قميصًا
حاكَهُ الألمُ.
أشقَّائي
أصابتهم لعنةُ ما أردتُ أنْ أكونهُ
بجَعُ النَّهارِ
تُنقِذُهُ بومةُ الليالي المرصودةُ
تَنقُرُ قَراصَ المقابرِ
صامتةً ومريبةْ
كنذرْ
والمكيدةُ تخدُشُ الطِّيبةْ
فكان
ألا شيءَ اكتملَ
سوى العشرْ
وأنتَ!
ولو زادَ النَّقصُ
لاكتملتَ.
*
لا أعرفُ كيفَ يلِدُ البومُ صغارهُ
لم أقرأ من أمرهِ أمرًا
وكل ما أعلمُ عنهُ
أن الطَّيرَ
يملكُ عينينِ
أُحِسُ بعدهما أنَّ العالمَ يبدأْ
*
نافذةٌ قُبالتَها جِدارْ
ليستْ إلا جدارًا آخرْ
لكن على ذاكَ جدارْ
قَشَّشَ عُصفورٌ عشهُ
وطفَقَ يُغنِّي.
*
وحدها لم تأتِ الليلةَ
من لا يأتي غيرها
فإن لم تجيءَ
أظلُ وحدي
وهي تظلُ وحدها من لا تأتي.
وأُعرِّفُ الإلهامَ
بغابةٍ رماديةٍ
تلونُ العينَ
ثم ينامُ النُّورُ تحتي
ولا أنهضُ
ثمَّةَ من يندهُ يا أيُّها الرَّاقِدُ
في الرُّقادِ
بحثٌ عن الكلامِ الجميلِ
ولو في كابوسْ
والتفافٌ حولَ الهديلِ
لأنَّ الغُرابَ خائفٌ أكثرَ مما يوحي مظهرهْ.
*
كنتُ أهشُّهُ بعيدًا عن طعامهِ
لأن طعامهُ حيٌّ
فيغفرُ ليْ
الغُرابُ
الَّذي لا يغفرُ لأحدْ
والغرابُ،
الَّذي لا ينسى
يغفرُ ليْ
لأنَّ الحُبَ يستدعي المغفرةْ
وأنا أحببتهُ
قدرَ ما أحببتُ بيوضَ القبَّرةْ.
*
ذُرِّيَّةٌ
أسماءٌ وثنيةٌ للفتياتِ
أما الصِّبْيَةُ
فلهم أسماءُ القديسينَ القُسَاةْ
ووشمُ النَّفْسِ هو كيفَ ندعوها.
نحنُ طيرٌ يأكُلُ الحَصى ليأكُلَ!
كأَنَّ للحَجَرِ جَنَاحٌ
مُسَخَرًا
كأنني
أَرجُمُ بحجرٍ حجرًا.
*
السَّرو والبلُّوطُ
وأكوازُ الصُّنَوبَرِ المُلقَّاةُ على التُّرابِ
والحِجَابُ الَّذي كَتَبَتْ عليهِ
مزمورًا تُحِبُهُ
ودْسَّتْهُ في صَدْرِها
لهُ فِعْلُهُ
ولها
حَلَمَةٌ زَائِدَةٌ للشَياطينِ.
للصُّنَوبَرِ زَهْرَةٌ خَشَبيةٌ
وإبَرٌ خضراءَ
وبِزْرَةٌ شَهيةْ
تُسَمَّى قلبًا
فإن قَلَبْتَ وِجْهَتَكَ عَكْسَ رِيحْ
تَنَسَمْتَ
والرِّيحُ لا تَهُبُ دَومًا من ذاتِ المكانِ
لكنها تأتِّي إلى حيثُ تستريحْ
فامضي عكسها
لا راحةَ لها حيثُ تَرْتاحْ
ثم اجمعْ
ما أَسْقَطَتْهُ
هيَّ
أو النُّضْجُ.
والسَّرْجُ
على ظهرِ حِصَانٍ هائجٍ
أُشَبِّهُ بهِ هذا الشَّجَرْ
يُرمى عنهُ ما يُرمى.
*
يَنْدَى جبيني
ولا أعْلَمُ أيَّها أكثرُ غِوايةً
في جحِّيمٍ مُعَسْكَرُهُ قَرِيبٌ
ويدعوني
الصَّوتُ
أم الصُّورةُ
أم الرَّائحةْ
أم الفكرةُ القابِعَةُ في الرَّأسْ
عن راياتكمْ
مُغَمَّسَةً بِمَاءِ الذَّهَبْ
ومُعَدَّةً للدَّمْ
تسبقها كلابٌ من سُلالةٍ نبيلةْ
وما بين السَّهمِ والسَّهمِ
أيُّها السَّادة
كلابكمُ الصَّيادةْ
تَعْلَمُ حقَّ العِلمِ
أنَّكُمْ
سوى للمُتْعَةِ
ما خرجتمْ.
*
نُباحٌ
الليلُ مسرَحُهُ المُبَاحُ
اشترى النَّائمونَ
تَذاكِرَهُ،
أنا وحدي،
زرعتُ الموسيقى في الجَّسَدِ
أُسَاهِرُهُ،
لم أذهبْ.
*
الكلابُ تتشاجرُ
والذئابُ
تُفائلها رائعةُ القمرْ
والحُلُمُ اللولبيُ
يلتفُ
كأفعى الصيدليةِ
حول سيفٍ مغروزٍ في الصَّدرِ
أو كأسٍ منَ الخمرِ
والصبِّيةُ
لا تريدُ حقًا أن تُطيلَ تنانيرها
تتأففُ
حتى لا تَحْكُمَ عليها أُخرى
لا تَحْكُمُ على أحدْ
لولا خوفِها
وفقطْ
لغرضهْ.
أنا نائمٌ من تعبي
ومُستيقظٌ منهُ،
لقد تنزهتُ طويلاً
والمطرُ
يتدثَّرُ رائحةَ الكستناءِ،
طعمُها
في الفمِ يُخلِّصُني
والبردُ يُقَلِّصُني
فأصيرُ في الحجمِ
كما في العُمرِ
لا أحدَ يُصَدِّقُني.
*
لقد أنقذتُ وإياكَ عصفورًا
ربما "الإنقاذُ" كلمةٌ فضفاضةٌ على فعلٍ صغيرٍ
كحملكَ إيَّاهُ في يدكَ
ووضعهُ في مكانٍ أنسبْ
لأنني من طلبْ.
*
لا أُريدُ أنْ أشرحَ نَفْسي
للمستريحينَ
والسَّلالِمُ تنامُ متكئةً على جدارٍ نائمْ
يُسَوِّرُ الأحلامَ عن الكوابيسِ
وأولُ الكابوسِ سورٌ لأحلامكَ
كل من يُطِلُ من فَوفِهِ
ويَنْظُرُ
يَتَسَمَرُ
لأنَّ النَّارَ لطيفةٌ.
فإنْ قفزتَ عنهُ
دارانِ
تُزينانِ للعُدُولِ أنْ يحدثَ
وككُوَةٍ، تَنْفَتِحُ أرواحٌ صريعةٌ
على الكلامِ
الكلامُ
حينَ يكونُ أكثرَ حكمةً
ونُجُوزًا
من الصَّمتِ المهيبِ
الكلام المُنَجِّي
والمورِّطُ
يُفرِّطون بكلِّ حرفٍ منهُ
في سبيلِ صونِ حرفٍ،
حرفٌ منهُ،
ويقفزونَ عنهُ
كالحلازينِ
لعُابهم يتبعهمْ
زاحفينَ!
وعلى مُتُنِهُمُ
يُقيمُ حيثُ يُقيمونَ.
*
ويَرْشَحُ نجمٌ من كلِ ثُقْبٍ في ذاكرةٍ
ليتبرَّكَ البُرْصُ ذوّ الحدقاتِ المبيضَّةِ
التي إذا حدَّقتَ إليها بما يكفي
اِسْوَدَّ قَلبُكَ
ويهتفُ ليْ
من وراءِ اهتِّراءٍ ضروريْ
أن تعالي شاركيني
طعامَ العصافيرِ
وأُمُكِ لا تكُشُها عن القمحِ المفْرودِ
لأنّها صغيرةٌ
ودونَ الكثيرِ تشبَعُ
وأقبعُ
في زوايا فنائنا
حيث يلتقي كلُّ مَسْقَطٍ
ومن التقائهمْ
إشارةٌ نحو لُغزكَ
تُسَمِّيني
دون أن تَحُلُهُ.
*
حيثُ لا مكانَ للظِّلالِ
تَجِدُ نَفْسَها
حيثُ لا وجودَ للأشكالِ المؤكَدَةِ
مَحْضُ إيحاءْ.
أتُحِبِّينَ خيانَتَكِ،
الشّهْقَةَ البارِعَةَ
الَّتي تَكْشِفُ مَخْبَأَنا؟
كأنَّكِ سَلَمتنّي لأضوائهم الكاشِفةِ
وحملقتي بأَعيُنٍ عاريةٍ
ببؤرةٍ أجبرتني أن أُطْبِقَ جفناي
بِشِدْةٍ
جعدتْ وجهي.
يا طفلةً لا تُرِيدُ أن تتمهلَ
وكسمكةٍ تُطَارِدُ فُقَّاعاتِ فمها،
من الحلقةِ المُغَمَّسَةِ بالرَّغْوةِ
تُصْنَعُ كُراتٌ خفيفةٌ
من التِقاءِ السَّبَابَةِ بالإبهامِ
تُصْنَعُ مناظيرُ لاهيةٌ
مأراهُ عَبْرَها
أقرَبْ
والوهمُ يُقَرِبُ الوهمْ.
*
لستُ أسيرُ بمُفْرَدي
شبَحي معي
وعلى ظهريَ أطنانُ ذكرياتٍ،
تنسِجُ شبكتها،
عنكبوتًا،
على غَوْرِ جفني
تُخبئُ سري
تجعلني ما أنا عليهِ
عابرةَ سبيلٍ
لن تَضِلَّ
لكثرةِ ما قرأتْ في كفِّها
من طُرقاتْ.
*** *** ***