ملاحظات حول التقمص
محمد علي عبد الجليل
إنَّ
التعريف الشعبي السائد للتقمص بأنه انتقالُ روحِ شخصٍ إلى شخصٍ آخَر
بحيث يمكن للشخص المتقمِّص أنْ يتذكَّرَ تفاصيلَ حياة الشخص المتوفَّى
هو تعريف مشوَّه تمامًا. وهو من الهشاشة والتناقض بحيثُ يَسهُلُ
تفنيدُه. وأبسطُ نقدٍ له هو أنَّ الذاكرة تتلاشى بعد الموت فلا يمكن
للمولود أنْ يتذكَّر حياتَه السابقة. كما أنه من التناقض القولِ
بانتقال روحِ شخصٍ إلى شخصٍ آخر هو الآخَرُ له روح أساسًا. كما سيتناقض
هذا التعريفُ مع فكرة العدالة ومع قانون السببية. وسيطرح تساؤلات عديدة
أهمُّها: لماذا تقمَّصَ هذا الشخصُ لا غيرُه؟ ولماذا لا نسمع عن حكايات
التقمُّص إلَّا عند الجماعات التي تؤمن به؟
أمَّا التعريف الأقرب للصواب فهو أنَّ التقمُّص (العَود للتجسُّد) فكرة
فلسفية تشير إلى عمليةِ بقاءٍ بعدَ الموتِ الفيزيائي يقوم من خلالها
مبدأٌ لاماديٌّ وفرديٌّ ("مبدأ حيوي" أو "وعي فردي" أو "طاقة" أو
"كينونة فردية" أو "نَفْس عُليا" أو "جِسْم عقلي أرفع") بإكمال رحلته
عِبْرَ حيواتٍ متعاقبةٍ تفصل بينها فتراتُ راحة (موت)، وذلك بهدف تسديد
رصيده الكارمي وتفتُّح وعيه وسعيه نحو الكمال؛ وفي كل حياة يأخذ هذا
المبدأُ الواعي شكلاً ماديًا فيزيائيًا جديدًا خاصًا به من عناصر الأرض
متناسبًا مع درجة وعيه، أيْ يلبس ثوبًا أو قميصًا ماديًا جديدًا؛ ومنه
سمِّيت هذه الرحلةُ بـ"التقمُّص"، أيْ ارتداء النفس العليا العاقلة
(المسمَّاة بـــ"الفردية"، في مقابل "الشخصية" أو "النفْس الدنيا")
لقميصها الجديد الذي فصَّلَـتْه هي بيديها وعلى مقاسها من خلال أعمالها
السابقة وذلك بعد اهتراء قميصها المادي القديم. فمثلما أنَّ وعيًا ما
في الإنسان يبقى بعد النوم [كموتٍ مصغَّر] ويأخذ نشاطًا مختلفًا خلال
النوم ثم يتفتَّح من جديد في يوم جديد بعد الاستيقاظ التالي، كذلك
فإنَّ هناك وعيًا أعلى يبقى بعد الموت [كنومٍ طويل] ويأخذ نشاطًا
مختلفًا خلال الموت ثم يتفتَّح من جديد في حياةٍ جديدة وجسد فيزيائي
جديد بعد الولادة التالية. وهذه العمليةُ تسري على جميع الكائنات
الواعية. فكما أنَّ هناك في حياة واحدة خيطًا مِن الوعي يربط الأيامَ
التي يفصل بينها النومُ، كذلك فإن هناك خيطًا من الوعي الأسمى يربط
الحيواتِ التي يفصل بينها الموتُ. وكما أنَّ هناك مبدأً واعيًا يبقى
بعد النوم ويستيقظ في اليوم التالي، كذلك فإنَّ هناك أيضًا مبدأً
واعيًا أسمى يبقى بعد الموت ويستيقظ في الحياة التالية. وكما أنَّ هناك
نوماً ويقظةً للنفس الدنيا التي تتضمَّن الجسدَ المادّيَّ، كذلك هناك
نومٌ ويقظة للنفس العليا أو لعنصرٍ منها. أيْ أنَّ عملية التقمُّص هي
استيقاظٌ ونومٌ (نشاط وراحة) للمبدأ الواعي الفردي (الجسم العقلي
العِـلِّيّ الأرفع). وهي بالتالي إسقاطٌ لعملية اليقظة والنوم الذي
يختبرها جسمُنا الماديُّ الفيزيائيُّ والنفسيُّ الأدنى على الجسم
الأخفِّ الأكثر شفافية (وهو المبدأ الفردي الواعي). (لمزيد من
المعلومات عن التقمص، يمكن مراجعة: مقالة في التقمص في ضوء التعاليم
الثيوصوفية، ديمتري أفييرينوس، دار مكتبة إيزيس دمشق، 1998). وقد
نقلَ التراثُ الإسلاميُّ أثرًا عن محمَّد يقول بهذا المعنى:
"واللهِ إنَّكم لتموتُنَّ كما تنامون، ولتُبعَثُنَّ كما تستيقظون،
ولتُجزَوُنَّ بالإحسانِ إحسانًا وبالسوء سوءًا".
كما أشارت المنقولاتُ الروحية الباطنية إلى أنَّ القوانين التي تسري
على الأجسام الكثيفة تسري أيضًا على الأجسام الخفيفة الشفَّافة، أو
بحسب تعبير الكتاب المقدَّس
"كما في السماء كذلك على الأرض"،
(الصلاة
الربِّيَّة، لوقا، 11 الآيات: 2، 3، 4، ومتَّى، 6، الآيات من 9 إلى 14).
أي هناك قوانين واحدة تسري على الوجود بكل حالاته. وبما أنَّ غايةَ
التقمُّص هي تسديدُ حسابِ الكائنِ غيرِ المسدَّدِ مع الطبيعةِ ومع
غيرِه من الكائنات وتفتُّحُ وعيِه وسعيُه إلى الكمال فإنه يمكنُ
فهْـــمُ التقمُّصِ كسيرورةِ تطوُّرٍ منظورًا إليها من الجهة الأخرى
المقابلة للمادة، أيْ كمُوازٍ لعملية التطور البيولوجي ولكنْ على مستوى
أخفّ من مستوى المادة الفيزيائية.
إنَّ تعريف التقمُّص بأنه "انتقال روحِ شخصٍ إلى آخَر" ليس إذًا
تعريفًا واضحًا بل هو تعريف عام مليء بالتناقضات والغموض، إذْ إنَّ هذا
التعريفَ لا يوضح ما المقصود بـ"الروح" ولا بــ"الشخص" ولا بـ"الآخَر"[1].
لقد قدَّمَت الثيوصوفيا وصفًا أدقَّ للإنسان فقالت بأنَّ الكائن البشري
ينطوي على سبعة أجسامٍ أو هياكلَ أو بُـنَىً أو مَرْكباتٍ أو مستوياتِ
[تدرُّجاتِ] طاقةٍ أو طبقاتٍ أو أغلفةٍ أو حُجُبٍ أو مبادئَ؛ وتتألَّف
هذه السُّباعية من مجموعتين: ثالوث عُلْوي ورابوع سُفلي، وهي (مرتَّبةً
من الأخفِّ الأشَفِّ إلى الأثقل الأكثف):
1-
الجسم الآتمي (الآتما
Atma
أو الروح)، وهو الشعلة الإلهية الكامنة في الإنسان (الموناد أو الإله
الباطن أو الوعي الفائق)؛
2-
الجسم الإشراقي
Buddhi
(الجسم البودهي)، وهو مَرْكبة تحمِل الروحَ؛
3-
الجسم العِلِّي أو الجسم السببي
higher
Manas
(الجسم العقلي الأعلى أو الأرفع)، وهو النفس العليا أو أنِّية الفردية،
وهو الذي يعود للتجسُّد، بحسب الثيوصوفيا؛
ذاك الثالوثُ العُلْويُّ يسمَّى الفردية (النفْس العليا الخالدة).
4-
الجسم الرغائبي
kamarupa
(الجسم العقلي الأدنى
lower
Manas)،
مقر الرغبات، وهو النفس الدنيا (الفانية) أو أنِّية الشخصية؛
5-
الجسم النجمي
astral
body
(الجسم النوراني، مركز الأحاسيس والانفعالات والعواطف والشهوات)؛
6-
الجسم الأثيري
etheric
body
(البرانا
prana
أو طاقة الحياة)؛
7-
الجسم الفيزيائي
physical body
(الجسم المادي أو الجسم الجِرْمي).
تلك الرباعية الدنيا تسمَّى الشخصيةpersonality
(من كلمة
persona
وتعني القِناع) (النفْس الدنيا الفانية).
إنَّ الشخصية الفانية الحادثة هي أداة تستعملها الفرديةُ (الجسم العقلي
الأرفع) أو هي ثوبٌ تلبسه الفرديةُ في تَجَسُّد أرضي واحد أو بالأحرى
هي قِناع
persona
مركَّب مؤلَّف من أقنعة فكرية إيديولوجية عقائدية انفعالية؛ بينما
الفردية خالدة وتأخذ أكثر من تجسُّد، أيْ: تتقمَّص، أيْ: تلبس أو ترتدي
قمصانًا جديدة، أقنعةً جديدة بحسب محصِّلة قناعاتها وأفعالها السابقة،
أيْ: تنتقل الفرديةُ من صورة بشرية (قميص أو قناع) إلى صورة بشرية أخرى
حاملةً معها من تجسُّدها السابق محصِّلةَ أعمالها على شكل صفات وطباع
وفُرَص وظروف. ولكن الفردية هي الأخرى ستزول عندما يهبط ليل براهما.
فخلودها نسبي، أيْ أنها خالدة مقارنةً بالنفس الدنيا وبالجسم
الفيزيائي. إنَّ الذي يتقمَّص إذًا هو الفردية الخالدة (النفس العليا
العاقلة) وليست الشخصية الفانية.
من أين جاءت فكرة التقمص؟
1-
إن رصد الواقع يُظهِر التكرار الدوري للوجود أو الحركة الدورية أو
التعاقب الدوري. وهذا
التناوب الدَّوري يسري في كل مراتب الوجود على شكْل بَسْط (انفلاش)
وقبْض (انكماش) متعاقبَين: الشهيق والزفير - الانبساط والانقباض -
النشاط والراحة – الخصب والجدب – الغائم الممطِر والصحو المشرق –
اليقظة والنوم – الليل والنهار – الحياة والموت -
المَـــنْـــفَــــنْــــتَـرَى [المَـنْـــوَنْـتَـرَى]
Manvantara
(فترة التجلِّي الكوني، الانفجار العظيم)
والبْـــرَلَـيَى
Pralaya
(فترة الراحة الكونية). الوجود كلُّه كالقلب ينبض، كالرئتَين يتنفَّس،
كالعَين يرِفُّ، كالجَناح يَخفِق، كالموجة يهتزُّ، كالضوء يومِض،
كالنهر ينهُر، كالسيل يسيل في حركة سرمدية. وهكذا يمكن أن نستنتج أن
هذا التناوب أو الومضان أو النبض هو قانون حركي دائري سرمدي كوني عام
وحركة مستمرة (سمسرا) ومن مَظاهره التقمص (العَود للتجسد) كما تُقِرُّ
الثيوصوفيا.
والقرآن يشير إشارةً قويةً إلى العَود الدوري للفصول في معرِض برهانه
على صحة البعث. فيقول في سورة الحج (الآية 5):
"إن كُنتُم في رَيْبٍ مِنَ البَعْثِ: [1]-فإنَّا خَلَقْناكم مِنْ
تُرابٍ ثُـــمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُـــمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُـــمَّ مِنْ
مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُـبَيِّنَ لَكُم
ونُــقِـرُّ في الأَرْحَامِ ما نَشاء إلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُـــمَّ
نُخْرِجُكُم طِفْلا ثُـــمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُم ومِنكُم مَنْ
يُــتَوَفَّى ومِنكُم مَنْ يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العُمُرِ لِكَيْلا
يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا، [2]-وتَرَى الأرْضَ هامِدةً فإذا
أَنزَلْنا عَلَيْها الماءَ اهْــتَزَّتْ ورَبَتْ وأَنبَتَتْ مِنْ كُلِّ
زَوْجٍ بَهِيجٍ".
فبحسبِ القرآن هناك دليلان على البعث هما: (1)-ولادة الإنسان وحياته
وموته، (2)-تكرار الفصول بين المَحْــل والاخضرار. هذان الدليلان
يشيران إلى أنَّ البعثَ ليس سوى العَود للتجسُّد. البعث في المفهوم
القرآني هو التقمُّص. فالإنسانُ يتعاقب بين الولادة والموت كالطبيعة
بين الجدْب والقحط والخصوبة. هناك حديث عن محمد نبي الإسلام يؤكِّد على
هذا المفهوم الدوري للبعث. قال الإمامُ أحمد: حَدَّثنا بَهْزٌ، قال:
حَدَّثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، قال: أَخبَرَنا يَعْلَى بْنُ عَطاء،
عن وكيعِ بْنِ حُدَسٍ، عن عمِّه أَبِي رَزينٍ العُـقَــيليِّ، أنه قال:
"[...] يا رسولَ الله، كيف يُحْيِي اللهُ الموتى، وما آيةُ [علامة] ذلك
في خَلْقِه؟" قال: "أمَا مَرَرْتَ بِوَادِي أَهْـلِكَ مَحْلاً؟" قال:
"بلى". قال: "أمَا مَرَرْتَ به يَهْــتَــزُّ خَضِرًا؟" قال: قُــلْتُ:
"بلى". قال: "ثم مَرَرْتَ به مَحْلًا؟" قال: "بلى". قال: "فكذلك
يُحْيِي اللهُ الموتى، وذلك آيتُه في خَلْقِه". (تفسير ابن كثير، سورة
الحج. ومسند أحمد بن حنبل، رقم الحديث: 15852).
2-
لقد رصدَ وعيُنا أن الطاقة مصونة لا تفنى ولكن تتحوَّل. وقياسًا على
ذلك فإن الطاقة الأخلاقية مصونة أيضًا لكونها طاقة نفسية شفافة ناتجة
عن طاقة مادية. تشير فكرة مصونية الطاقة الأخلاقية إلى وجوب وجود فكرة
التقمص لإن وعينا رصدَ حالات لا حصر لها من كائنات حية ماتت ولم تستوفي
حقها كاملاً أو توفي ديونها كاملةً في حياة واحدة. ولم تتمكن الأديان
الإبراهيمية من تجاهل مصونية الطاقة الأخلاقية فافترضَت وجودَ اليوم
الآخر يوم الحساب الجمعي. ولكن الحساب الفردي الذي تشير إليه فكرة
التقمص أقرب إلى الواقع الفيزيائي الذي نختبره والذي يتمثل في الحركة
الدورية للعناصر.
3-
لقد رصد وعينا أن لكل فعلٍ ردَّ فعل. وهذا المبدأ هو الأساس لفكرة
مصونية الطاقة المادية والأخلاقية وكذلك هو الأساس لعقيدة القيامة
ولفكرة التقمص التي يمكنها أن تتحول بكل سهولة هي الأخرى إلى عقيدة
جامدة. هذا المبدأ الفيزيائي عبَّرت عنه البوذية بكلمة الكارما
وعبَّرَت عنه الأديان الإبراهيمية بعبارات مختلفة مثل:
"بالكيل الذي تكيلون يكال لكم"،
"ما تزرعْ تحصدْ"، "فمن يعملْ مثقالَ ذرَّةٍ خيرًا يرَه ومن يعملْ
مثقالَ ذَرَّةٍ شرًا يرَه" (الزلزلة، الآيتان 7 و8)، قانون "تُوَفَّى
كلُّ نفسٍ ما كسبَت" (البقرة،
281)،
قانون "فبما كسبَتْ أيديكم"
(الشورى، الآية 30)،
قانون "كلُّ نفسٍ بما كسبَتْ رهينة" (المُـدَّثِّـر،
الآية 38).
هذا المبدأ هو قانون عادل لاشخصي وحيادي. من هذا المنطلَق، يُفهَم
التقمُّص على أنه نتيجة لمبدأ السببية أو هو استمرارية الوعي السببي في
المادة فكلُّ شيء في جريان مستمر وصيرورة سرمدية. وقد أشارت الثيوصوفيا
إلى أنَّ ما يتقمَّص هو
الجسم العِلِّي أو الجسم السببي (الجسم العقلي الأعلى). فكما أنَّ من
يبدِّل ثيابَه يستمرُّ في تحمُّلِ تبِعات أفعالِه حتى يستوفيها كلَّها،
كذلك فالوعي
الفردي (الجسم السببي) يستمرُّ في تحمُّل تبعات أفعاله حتى يسدِّدَها.
بهذا المعنى فإنَّ ما يَرْحَـل إلى تجسُّدٍ تالٍ هو
محصِّلة الأعمال أو الرصيد الكارمي أو الدَّين غيرُ الموفَّى وليست
ذاكرة الجسم الفيزيائي. وما الدِّينُ (بالكسر) إلاَّ طريقة لسداد
الدَّين (بالفتح). فالذاكرةُ هي إذًا من "العناصر" التي لا تنتقلُ مع
الوعي الفردي الأعلى إلى التجسد التالي وإنما تتلاشى بعد تلاشي الجسم
المادي الفيزيائي.
4-
إنَّ حاجة الإنسان الاجتماعية والنفسية إلى العدالة دفعَت بعضَ
الفلاسفة واللاهوتيين إلى تطوير فكرة التقمُّص لإحقاق العدل خاصةً
وأنهم رصدوا في الواقع عدمَ تحقُّق العدل في الحياة الواحدة. وربما كان
الخوف من الموت وراء فرضية التقمُّص وباقي العقائد الخاصة بالأخرويات
(الإسخاتولوجيا).
5-
لقد أظهرَ رصدُنا للوجود أن الكون مؤلَّف من مستويات تبدأ من المادة
الكثيفة الملموسة إلى المادة الأخف ثم الأخف وأنَّ الزمن يتباطأ حتى
يتوقَّف كلَّما صعدنا من المادة الكثيفة باتجاه المادة الأكثر شفافية.
فالسَّنَة بالنسبة للصخور غير السَّنَة بالنسبة للضوء. قياسًا على ذلك
فإنَّ كينونتنا الفردية تتألف هي الأخرى من تدرُّجات تبدأ من المادة
الكثيفة (الجسم الفيزيائي) حتى تصل إلى جوهر الوعي فائق الشفافية
(الروح) مرورًا بالجسم العقلي السببي الأرفع، وإنَّ الزمن يتباطأ كلما
صعدْنا من وعينا الفيزيائي باتجاه وعينا العقلي السببي. فعندما
يمرَّ على جسمنا الفيزيقي الكثيف آلافٌ من الأيام (المكوَّنة من يقظات
ونومات) يكون قد مرَّ على جسمنا العقلي الأرفع نهارٌ واحد فقط وربما
يكون قد مرَّ على الروح جزءٌ من جزءٍ من الثانية.
وعلى الرغم من الكتابات ذات المظهر العِلمي التي نشرَها الكاتبُ
الأمريكي رونالد هوبارد
Ronald
Hubbard
(1911-1986) (مؤسس ما يسمَّى بـ"السيانتولوجيا") وغيرُه لإثبات صحة
التقمص علميًا، فإنَّ العِلْم التجريبيَّ لم يتمكَّن بَعدُ من إثبات
هذه الفكرة الفلسفية أو نفيها نظرًا لأنه مازال في بداياته ولأنه لم
يحلَّ بَعدُ ألغازًا كثيرةً أقل غموضًا من التقمُّص ونظرًا لأن أدواتِه
مازالت بدائية فهو لم يتمكَّن من كشف ألغاز النوم والدماغ البشري فكيف
يمكنه الآن إذًا بأدواته الحالية أنْ يحسمَ مسألةً أعقد (كالتقمص)
تتجاوزُ النومَ والدماغَ البشري وتتجاوز الأدواتِ الحاليةَ للعِلْم؟
وبالتالي لا بد من أدوات أخرى فكرية وفلسفية تساعدنا في فهم هذه
الفكرة.
ولكنه بمعزل عن الأسس الفكرية والفلسفية التي يستند إليها التقمُّصُ
كمفهوم فلسفي، يجب أنْ نشيرَ إلى أنَّ اعتناق بعض الجماعات الدينية أو
العرقية للتقمُّص ليس مستندًا إلى المبرِّرات الفلسفية له ولا إلى قوة
الفكرة ولا إلى منطقيتها، بل يستند إلى الحاجات الاجتماعية والنفسية
الجمعية وحتى السياسية للجماعة التي تؤمن بالتقمص. إنَّ قوةَ الحاجة،
لا قوةَ الفكرة، هي ما يدفع الجماعةَ إلى اعتناق الفكرة مهما كانت هذه
الفكرةُ سطحيةً وحتى سخيفة، لا بل غالبًا ما تلجأ الجماعة إلى تسطيح
الفكرة القوية وتسخيفها لتضمنَ انتشارَها. كذلك فإنَّ اعتناق الجماعة
لِدينِها لا يستند إيضًا إلى عقلانية هذا الدين أو منطقيته بل إلى
حاجات اجتماعية وسياسية فرضَتْها سياقاتٌ تاريخية خاصة. فالنسختان
الدينيتان المسيحيةُ والإسلاميةُ كإصدار محدَّث عن اليهودية متداولتان
بكثرة حاليًا رغم افتقارهما إلى المنطق والتماسك افتقارًا يصل إلى حد
السطحية المرعبة في بعض الجوانب ورغمَ [أو بسبب] العنفِ المفرط الذي
يصل إلى حد الإجرام في جوانب أخرى.
مِن الجدير بالذِّكْرِ أنَّ الأديان الكبرى كالمسيحية والإسلام قد آمنت
بالتقمص في بداية تشكُّلها (كأقلِّـــيَّـات). ثمَّ حُذِفَتْ فكرةُ
التقمُّص عند تسويق هذه الأديان عالميًا على نطاق واسع وحلَّ محلَّها
الفكرةُ العالميةُ السائدة آنذاك. وبقي آثارٌ لفكرة التقمُّص في
نصوصها. وكذلك فإنَّ الأقلياتِ الدينيةَ والعرقيةَ وخاصةً
المضطهَـــدةَ منها (ضمن سياقات تاريخية معيَّنة واعتبارات أيديولوجية
ولاهوتية) تؤمن غالبًا بالتقمُّص بنسخته المعدَّلة المبسَّطة
المشوَّهة. ربما لأنَّ التقمص يلبِّي بعضَ حاجاتها في تحقيق العدل
وتخفيف شعورها بالنقص من خلال اقتناعها بأنَّها ستحقِّق ذاتها وستسحقُ
عدوَّها وستأخذ حقَّها المسلوبَ على هذه الأرض ومن الظالمين أنفسِهم.
وربَّما تُلبِّي عقيدةُ التقمُّص عقدةَ البعض ورغبتهم الجامحة في
الخلود. وربما يكونُ الإيمانُ بالتقمُّص لدى البعض الآخر ناتجًا عن
حاجته في التغلُّب على خوفه من الموت. هناك أسباب نفسية واجتماعية
وسياسية كثيرة جدًا أدَّت إلى تطوير مفهوم التقمُّص واعتناق الكثيرين
له. كما أنَّ هناك أسبابًا لا حصرَ لها تقف وراء رفض بعض المؤسسات
الدينية الكبرى لمفهوم التقمُّص، وترتبط أكثرُ هذه الأسباب بمسألة
السلطة، ربما مثلاً لأنَّ خصوم هذه المؤسسات كانوا يقتنعون بالتقمص،
وربما لأنَّ هذه المؤسساتِ كانت تريد أنْ تُرغِمَ الناسَ على الاقتناع
بإيديولوجيتها بطريقة نفسية غير مباشرة بأنْ تقولَ لأتباعها إنَّ هذه
الحياة هي الفرصة الأخيرة أمامهم للنجاة وإنَّ عليهم أنْ يؤمنوا بأسرع
وقت وإلَّا فالجحيم الأبدي بانتظارهم.
لقد كان التقمُّص جزءاً من التفكير الديني في بدايات المسيحية[2].
ومِن المرجَّح أنَّ الإسلام في مرحلته المبكِّرة قد طرحَ فكرةَ التقمص
بدليل استهجان العرب لفكرة العودة للحياة بعد الموت مشيرين على لسان
القرآن إلى استنكارهم لمبدأ التكرار في الخَلْق:
"يقولون: "أئِنَّا لَمردودون في الحافِرة [لمبعوثون خَـلْقًا جديدًا
(الطبري)]، أئذا كُنَّا عِظامًا نخِرةً؟!" قالوا: "تلك إذًا كَرَّةٌ
خاسرة!" (النازعات، 10-12).
و"الكَرَّة" تعني "الرجعة" و"العَود" وهي اسم مَرَّة من الفعل "كَرَّ"
بمعنى: "عادَ مرَّةً بَعدَ أُخرى". لقد استنكروا عمليةَ الخَلْق
الجديد، أيْ استنكروا كيف "يَجْعَلُونَ خَمْـرًا جَديدةً في زِقاقٍ
[جمع "زِقّ"، جِرار] جَديدةٍ"، بحسب تعبير الإنجيل
(متَّى، 9: 17)،
"وقالوا
أئذا كُنَّا عِظامًا ورُفاتًا أإنَّا لمبعوثون خَلْقًا جديدًا"
(الإسراء، 49).
وهذا يرجِّح أنَّ المقصود بـ"البعث" في القرآن هو التقمُّص وليس اليومَ
الآخِرَ. ولذلك استهجنه العربُ. ولو كان المقصود بالبعث يومَ القيامة
لما استهجنوه لأنهم كانوا على الأرجح يؤمنون به. فقد رُويَ عن النضر بن
الحارث، وهو من مشركي العرَب وخصوم محمَّد، قولُه: "إذا كان يومُ
القيامةِ شَفَعَتْ ليَ اللَّاتُ والعُزَّى" (التحرير والتنوير
لابن عاشور، تفسير الآية 18 من سورة يونس). ولكنَّ العرب استهجنوا
فكرةَ أنْ يعودوا هم أنفسُهم لا في أجسادِ بَشَرٍ آخرين بل في أجسادهم
الجديدة (زِقاقهم أو جِرارهم الجديدة) بعد أن يصبحوا رفاتًا. وعندما
فسَّر نبيُّ الإسلام كيفيةَ البعث ودليلَه في الحديث المذكور آنفًا ("أمَا
مَرَرْتَ بِوَادِي أَهْـلِكَ مَحْلًا؟" [...] "أمَا مَرَرْتَ به
يَهْــتَــزُّ خَضِرًا؟" [...] "ثم مَرَرْتَ به مَحْلاً؟" [...] "فكذلك
يُحْيِي اللهُ الموتى، وذلك آيتُه في خَلْقِه") فكأنه كان يريد أنْ
يقول لقومه: "لماذا تستغربون البعثَ ولا تستغربون عودةَ نباتات الأرض
للحياة؟
فكما تَنبُتُ النباتاتُ بصورة دورية كذلك ستبعثون." ونجد في القرآن
أثرًا واضحًا لهذا التشبيه بين إنبات النبات المتكرر وولادة الإنسان
المتكررة: "واللهُ أنبتكم مِن الأرض نباتًا، ثمَّ يُعيدكم فيها
ويُخرجكم إخراجًا" (نوح، 17 و18).
إنَّ فكرة التقمص التي كانت موجودة لدى المسلمين الأوائل ظلَّت محفوظةً
لدى العلويين والدروز. أيْ أنَّ عقيدة التقمص تسلَّلَت إليهم من
الإسلام الأولِ نفسِه وليست نتيجةَ تأثُّرِهم بعقائدَ أخرى كما قد
يُـــظَـــنُّ.
لا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ هناك مفكرين وفلاسفة ولاهوتيين وحكماء
كانوا شديدي الإيمان بالتقمص مثل: أوريجينس الإسكندراني وجوردانو برونو
وهيلموت ودافنشي وسبينوزا ولايبنز وبنيامين فرانكلين وكانط وشوبنهاور
وتايلور وغوته وبلزاك وفلوبير وجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة
ووِلْيام دْجَدج وغيرهم.
ولكنْ، بالمقابل، هناك أيضًا مِنْ حكماء الحضارة الكبار مَنْ لم يُعطِ
التقمُّصَ أيةَ أهميةً (حتى ولو حمَـلْناه على معناهُ الدقيق لا الشعبي
ألا وهو استمرارية عَود الوعي السببي للتجسُّد أو تسلسل السببية في
المادة)، ومن هؤلاء الحكماء الرافضين للتقمص نَـذْكُـر الرائي جِدُّو
كريشنامورتي الذي اعتبرَ التقمُّصَ نتيجةً للخوف من الموت.
ورفْضُ بعضِهم للتقمص يعود إلى عدة أسباب منها: أنه إذا كان التقمص هو
أنْ تأخذَ النفْسُ العليا جسدَها الجديدَ فإنَّ الإنسان أصلًا في حياته
الأرضية نفسِها يأخذ كلَّ لحظةٍ جسدًا جديدًا وبالتالي يعيشُ كلَّ
لحظةٍ تقمصًا فـــ"لا يسبح الإنسانُ في النهر نفسه مرتين"، وكلُّ شيء
في جريان مستمر، وكلُّ شيء صيرورةٌ سرمدية لا كينونة ثابتة. وبالتالي،
ليس هناك من فائدة تُــذكَر للإيمان بالتقمص. كما أنَّ الإيمان بالتقمص
يتحوَّل عادةً إلى عقيدة جامدة تكبِّل المؤمنَ بدلًا من أنْ تُحرِّرَه.
وإنَّ عقيدة التقمص تصبح لا قيمةَ لها إذا أصبحَ الإنسانُ واعيًا
منتبهًا راصدًا لسيرورة فكره ومشاعره وأفعاله.
رغم كل ما سبق، يبقى التقمُّص مفهومًا معقَّدًا غيرَ محسوم يخضع
الاقتناعُ به إلى عواملَ اجتماعيةٍ ودينيةٍ ونفسيةٍ وفرديةٍ خاصة. كما
أنَّ الأشخاص الذين يرفضونه رفضًا قاطعًا وكذلك الأشخاص الذين
يتمسَّكون به كحقيقة مطلقة ينطلقون عادةً من قناعتهم الشخصية ثم يجمعون
الأسباب التي تعزِّز قناعتهم من باب الانحياز التأكيدي.
*** *** ***