الزمان والآخر: الجزء الأول
إيمانويل ليفيناس
الموضوع والخطة
تهدف هذه المحاضرات لإظهار الزمان، ليس كحدث ذات معزولة ووحيدة، وإنما
كعلاقة الذات مع الآخر.
ليس في هذا الطرح ما هو سوسيولوجي إذ لا يتعلق الأمر هنا بالقول كيف
يتقطَّع الزمان، ومن ثم كيف يُعاد ترتيبه بفضل أفكارٍ نستعيرها من
المجتمع، أو، بشرح كيف يسمح لنا المجتمع بتكوين تمثُّلٍ عن الزمان. لا
يتعلق الأمر بفكرتنا عن الزمان، وإنما بالزمان ذاته.
للدفاع عن هذا الطرح، يجب أولاً تطوير فكرة العزلة، وثانيًا، تأمل
الفرص التي يقدمها الزمان إليها.
لن تكون التحليلات التالية أنثروبولوجية بل أنطولوجية. إننا نعتقد في
الحقيقة بوجود مشكلات ذات بنية أنطولوجية، ليس بالمعنى الذي يعطيه
الواقعيون
réalistes
إلى الأنطولوجيا وهم يصفون الكينونة المنعطية بلا قيد ولا شرط. نسعى
إلى التأكيد أنَّ الكينونة ليست فكرة فارغة، وأنَّ لها جدليتها الخاصة،
وأنَّ أفكارًا كالعزلة أو الاجتماع تظهر في لحظة معينة من هذه الجدلية،
وأنَّ العزلة والاجتماع ليستا فكرتين سيكولوجيتين فحسب – كالحاجة التي
تعترينا للآخر، أو ما تتضمنه هذه الحاجة من بصيرة أو إحساس داخلي أو
استباق للآخر. هدفنا هو تقديم العزلة كمقولة للكينونة، وأن نظهر موقعها
داخل جدلية الكينونة، أو، بما أن لكلمة "جدلية" معنىً أكثر تعيُّنًا،
أن نظهر موقع العزلة في النظام العام للكينونة.
نرفض في البداية تصور هيدغر الذي يضع العزلة داخل علاقة سابقة مع
الآخر. يبدو لنا هذا التصور، المُثبت أنثروبولوجيًا، غامضًا من الناحية
الأنطولوجية. يطرح هيدغر العلاقة مع الآخر كبنية أنطولوجية للدازاين؛
هذا أكيد، لكن، عمليًا، هذه العلاقة لا تؤدي أيَّ دور لا في دراما
الكينونة ولا في المبحث التحليلي الوجوداني
existential.
فتحليلات الكينونة والزمان كلها تتمحور حول لاشخصانية الحياة اليومية،
أو، حول الدازاين المتوحِّد. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، أتأخذ
العزلة طابعها التراجيدي من العدم، أم من فقدان الآخر الذي يُنبئ به
الموت؟ يضعنا هذا السؤال أمام إبهام يدعونا لتجاوز تعريف العزلة عبر
الحالة الاجتماعية والحالة الاجتماعية عبر العزلة. أخيرًا، يظهر الآخر
عند هيدغر في الحالة الأساسية لـ
Miteinandersein،
أي، كينونة الواحد مع الآخر. في اللغة الألمانية، حرف الجر
mit
(مع) يصف هنا علاقة الترابط جنبًا إلى جنب حول شيء ما، أو، حول حدٍّ
مشترك هو بالنسبة لـ هيدغر الحقيقة. فهي إذن ليست علاقة الوجه – لـِ –
وجه. كل طرف يحمل إليها كل شيء، ما عدا الواقعة الخصوصية لوجوده. نأمل
أن نوضح فيما يخصنا أنَّه ليس حرف الجر
mit
الذي يجب أن يصف العلاقة الأصلية مع الآخر.
طريقتنا في التقدم ستقودنا إلى براهين قد تكون صعبة. لن تحمل الطابع
المؤثر واللامع للبراهين الأنثروبولوجية. نأمل، بالمقابل، أن نقول عن
العزلة شيئًا آخر غير بؤسها وتعارضها مع الاجتماع، مع هذا الاجتماع
الذي نصفه عادةً بالسعادة في تعارضه مع العزلة.
نأمل من خلال الصعود نحو الجذر الأنطولوجي للعزلة، تبيان الكيفية التي
تمككنا من تجاوز هذه العزلة. إذن، لنقل على الفور ما لا يمكن أن يكونه
هذا التجاوز: لن يكون من خلال المعرفة، لأن الموضوع في المعرفة، شئنا
أم أبينا، سيُستغرق عبر الذات وستختفي الثنائية. كما أنه لن يكون من
خلال الوَجد، لأن الذات في الوجد ستنحَّل في الموضوع وتجد نفسها في
وحدته. هذه العلاقات كلها ستؤدي إلى اختفاء الآخر.
في هذا المقام سنواجه مسألتي المعاناة والموت. لن تكون هذه الموضوعات
سهلة لِتسمح لنا بإقامة براهين لامعة وعلى الموضة. ففي ظاهرة الموت تجد
العزلة نفسها أمام لُغز. لغزٌ لا ينبغي فهمه بطريقة سلبية، أي، كغير
معروف سيترتب علينا تثبيت دلالته الوضعية. إنَّ هذه الفكرة ستسمح لنا
بإدراك رابطةٍ داخل الذات لا يمكن اختزالها إلى مجرد عودٍ للعزلة. ذلك
أنَّه أمام الموت – الظاهر كلغز لا مجرد عدم بالضرورة – لن يحدث
استغراق لحدٍّ عبر حد آخر. في النهاية، سنُظهر كيف تصبح الثنائية التي
تُفصح عن ذاتها في الموت علاقة مع الآخر ومع الزمان.
الجدلية التي يمكن أن تحتويها هذه الطروحات ليست هيغلية على الإطلاق.
فلا يتعلق الأمر برفع سلسلة من التناقضات، ولا بتركيبها من خلال إيقاف
التاريخ. على العكس، نود التقدم نحو كثرة لا تندمج في وحدةٍ، ونحدث
قطيعة مع بارميندس – إن تسنى ذلك لنا.
*
عزلة الانوجاد[1]
على ماذا تقوم حِدَّة العزلة؟ من نافل القول إننا لا نوجد فرادى أبدًا،
فنحن محاطون بكائنات وأشياء نقيم معها علاقات. إننا مع الآخرين عبر
الرؤية واللمس والودّ والعمل المشترك. كل هذه العلاقات متعدّية
transitive:
فأنا ألمس شيئًا، وأرى الآخر. لكنني لست الآخر، فأنا وحدي. وبالتالي،
إنها الكينونة بداخلي (أي، واقعة أنني موجود)، انوجادي هو الذي يشكل
العنصر اللازم
intransitive
على الإطلاق. الانوجاد أمرُ لا قصدية فيه، ومن دون رابطة. يمكن
الموجودات تبادل كل شيء ما عدا الانوجاد. بهذا المعنى، الكينونة هي
الانعزال عبر الانوجاد. فأنا موناد بما أنا موجود. وعبر الانوجاد –
وليس عبر مضمونٍ ما بداخلي لا يمكن إيصاله – أكون من دون أبواب ونوافذ.
وإذا كان غير قابل للإيصال فهذا لأنه متجذِّر في كينونتي التي هي الشيء
الأكثر خصوصية في داخلي. إنَّ أي توسيع لمدى معارفي ولوسائل تعبيري
سيبقى من دون تأثير في علاقتي مع الانوجاد؛ إنها علاقة داخلية بامتياز.
قد يبدو لنا أنَّ العقلية البدائية – على الأقل وفق تأويل ليفي برول –
هزَّت أساس مفاهيمنا، إذ يبدو أنها تحمل فكرة وجود متعدٍ. تكوَّن لدينا
انطباع أنَّ الذات، من خلال التشارك، لا ترى الآخر فحسب، بل هي الآخر.
وهي فكرة أكثر أهمية للعقلية البدائية من فكرة ما قبل المنطقي أو فكرة
الباطني. ومع ذلك، فهي لا تحررنا من العزلة. فالذات العصريَّة لا
يمكنها هجران سرِّها وعزلتها بيسرٍ. وعلى اعتبار أنه يمكن تجربة
التشارك أن تكون راهنة، إلا أنَّها تتطابق مع الحُلول الوَجدي، ولا
تُحافظ على ثنائية الحدود كما ينبغي. في حال غادرنا المونادولوجيا،
سنصل إلى مذهب وحدة الوجود.
يمتنع الانوجاد عن أيّ رابطة وأيّ كثرة. هو لا يخصّ أحدًا آخر غير
الموجود. لا تظهر العزلة إذن كعزلٍ فعليّ لزيدٍ من الناس، ولا كاستحالة
إيصال مضمونٍ فكري. إنها رابطة بين الموجود وانوجاده عصيّة على الحل.
إنّ تناول الانوجاد من خلال الموجود يؤدي إلى حبسه داخل الآحاد
unité،
وفسح المجال أمام بارمنيدس للهروب من أية محاولة انقلاب قد يقوم بها
أحد من أتباعه. تكمن العزلة في واقعة أنّ هنالك موجودات. ولا يمكن تصور
حالة يتم فيها تجاوز العزلة إلا من خلال إثبات العلاقة بين الموجود
وانوجاده، أي، عبر المضي نحو حدث أنطولوجي يقلّص فيه الموجود انوجاده.
أدعو هذا الحدث بـ الأقنوم
hypostase.
ينطلق الإدراك الحسي والعِلم من موجودات مزودة مسبقًا بوجودها الخصوصي.
هل الرابطة بين ما يوجد وانوجاده عصيّة على الحل؟ أيمكننا الوصول إلى
الأقنوم؟
*
الانوجاد الخالي من الموجود
لنعد مرة أخرى إلى هيدغر. نعلم جميعًا تمييزه – الذي استدعيته مسبقًا –
بين الكينونة والكائن، ولأسباب تتعلق بتناغم الأصوات، أفضل ترجمتهما بـ
الانوجاد والموجود، من دون أن أعير لهذه المصطلحات معنىً وجوديًا على
وجه الخصوص. يميز هيدغر الذوات والموضوعات – أي، الكينونات الموجودة،
أو، الموجودات – عن حقيقة كونهم. الأولى تترجم بالأسماء
substantifs
أو نعوت فعلية اسمية
participe substantivé،
الثاني يترجم بفعل
verbe.
يسمح هذا التمييز منذ بداية الكينونة والزمان بتبديد بعض الالتباسات في
تاريخ الفلسفة، حيث كنا ننطلق من الانوجاد لنصل إلى الموجود مالك
الانوجاد الكامل: أي، الله.
إنَّ تمييز هيدغر هذا هو، بالنسبة لي، الأمر الأشدُّ عمقًا في الكينونة
والزمان. لكن، لدى هيدغر، يوجد تمييز، ولا يوجد فصل. فالانوجاد مُدركٌ
على الدوام في الموجود، وبالنسبة للموجود الذي هو الإنسان، يعبر مصطلح
هيدغر
Jemeinigkeit
(الكينونة-التي-هي-لي-في-كل-مرة) تمامًا عن حقيقة أنَّ الانوجاد
مُمتلَك على الدوام من أحد ما. لا أعتقد أنَّ بإمكان هيدغر الاعتراف
بانوجاد خالٍ من الموجود، فهذا الأمر سيبدو له عبثيًا.
غير أنَّه يوجد لدى هيدغر فكرة الـ (الكينونة-الملقى-بها)
Geworfenheit،
"وهو تعبير خاص بمرحلة من مراحل هيدغر" – وفق جانكيلوفيتش، ونترجمه
عادة بـ"الضياع". لكنها ترجمة لا تؤكد إلا على نتيجة واحدة فقط للـ
Geworfenheit.
يجب ترجمة هذه الفكرة بـ "واقعة-الكينونة-الملقاة-في" الوجود. كما لو
أنَّ الموجود ما كان ليظهر إلا في وجود سابق عليه؛ كما لو أنَّ الوجود
مستقلٌ عن الموجود، وأنَّ الموجود الذي يجد نفسه ملقى في الوجود لا
يستطيع أن يصبح سيدًا على الوجود. لهذا السبب بالضبط يوجد ضياع وتَرْك.
على هذا النحو، تظهر فكرة الانوجاد الخالي منَّا، والخالي من الذات:
انوجاد من دون موجود. سيعترض جان وول قائلاً إنَّ الانوجاد الخالي من
الموجود ليس سوى كلمة. لا شكَّ في أن مصطلح "كلمة" مزعج وذو طابع
تحقيري. لكنني أوافق جان وول، شريطة أن نحدد مسبقًا موقع الكلمة في
النظام العام للكينونة. وأقول إضافةً إلى ما سبق: إنَّ الانوجاد غير
موجود؛ وحده الموجود موجود. واللجوء لغير الموجود بغية فهم الموجود لا
يعدُّ ثورة في الفلسفة بتاتًا. هكذا كانت الفلسفة المثالية إجمالاً:
طريقة لتأسيس الكينونة على شيء ليس من هذه الكينونة.
كيف يمكننا الدنو من هذا الانوجاد الخالي من الموجود؟ لنتخيل عودةً
للأشياء كافة – من موجودات وأشخاص – إلى العدم. هل سنجد حينئذ العدم
المحض؟ يبقى عقب هذا الهدم التخيلي للأشياء كافة، لا شيئًا ما، وإنما
واقعة الـ "هنالك". فيعود غياب الأشياء إلى حضور: حضور شبيه بمكان
يستوي فيه الكل، شبيه بكثافة مناخية، وبفراغٍ ممتلئ أو صمتٍ هامس. عقب
هذا الهدم للأشياء والموجودات، ما زال هنالك "حقل قوى" الانوجاد: حقل
لا شخصي. شيء ما: لا ذات ولا جوهر. إنَّه واقعة الانوجاد التي تفرض
ذاتها عندما يكفُّ الكل عن الوجود. وهذا الشيءُ غفلٌ: لا شخص ولا شيء
يمكنه الاضطلاع به. هو لا شخصي، كقولنا "إنها تُمطر"
il
pleut
أو "الجو حار"
il fait
chaud.
وجودٌ ما فتئ يعود أيًا كان حجم السلب الذي يُبعده. إننا أمام شيء شبيه
بـ لا رحمة الانوجاد المحض.
عندما أتحدث عن غُفْل الانوجاد، لا أفكر أبدًا بالأساس غير المتعين
الذي تتحدث عنه الكراسات الفلسفية، حيث يقوم الإدراك بتقسيم الأشياء
وتصنيفها. هذا الأساس غير المتعين هو مسبقًا موجود – أي، كائن – أو شيء
ما، ويندرج بالتالي في صنف الأسماء
substantif.
له شخصية مبدئية تسم كل موجود. الانوجاد الذي نحاول وصفه هو أثر كينونة
لا يمكن التعبير عنه باسم. إنَّه فعل
verbe.
لا يمكن إثبات هذا الانوجاد بطريقة اعتيادية، لأننا لا نثبت إلا
الكائن. ومع ذلك، فهو يفرض ذاته ولا يمكن نفيه. فعقب كل نفيٍ يعود فراغ
الكينونة هذا كـ "حقل قوى"، وكحقل لكل إثبات ولكل نفي. هو غير مرتهن
بموضوعٍ كائن، ولهذا السبب ندعوه "غفل".
لنتناول هذه الحالة من زاوية أخرى. لنأخذ ظاهرة الأرق. لسنا هنا أمام
خبرة تخيلية. خبرة الأرق تقوم على الوعي بأنَّ لا نهاية في الأفق، أي،
لم يعد هناك وسيلة للانسحاب من حالة التيقظ العالقين فيها. إنها حالة
تيقظ لا هدف لها. وبينما نحن عالقون وسط حالة التيقظ هذه، نفقد كل فكرة
عن نقطة البداية والنهاية. فيلتحم الحاضر بالماضي، ويغدو إرثًا له، ولا
يأتي بأيِّ جديد. إنها ديمومة الحاضر ذاته أو الماضي ذاته. أيُّ ذكرى
ستكون بمثابة تحرر من هذا الماضي. هنا، لا انطلاقةٌ متعينة للزمان، ولا
شيء يبتعد أو يتلاشى. وحدها الأصوات الخارجية التي يمكنها تشتيت حالة
الأرق تُدخل إيقاعات الشروع في حالةٍ خالية من البدايات والنهايات داخل
هذه الأبدية التي لا فكاك منها. كل ما في الأرق شبيه بالـ "هنالك"؛
بالوجود اللاشخصي الذي تحدثنا عنه.
بتيقظ من دون أي إمكان للنوم سنصف تحديدًا الـ"هنالك" والطريقة التي من
خلالها يثبت الانوجاد ذاته في انعدامه الذاتي. تيقظٌ من دون أيِّ ملاذٍ
داخل غيبوبةٍ، ومن دون أي إمكانٍ للانسحاب إلى النوم منظورًا إليه
كمجالٍ خاصٍ. هذا الانوجاد ليس وجودًا في ذاته (الذي هو السلام)، إنَّه
تحديدًا غيابٌ لكل ذات: وجود من دون ذات. نستطيع وصف الوجود بفكرة
الأبدية أيضًا، طالما أنَّ الانوجاد الخالي من الموجود خالٍ أيضًا من
أيِّ بداية. إنَّ تعبير "ذات أبدية" متناقض في ذاته ، لأن الذات بدءٌ
أساسًا. لا يعني هذا أنَّه لا يمكن الذات الأبدية البدء بشيء خارج
ذاتها فحسب، بل يعني أنها في ذاتها مستحيلة، لأنها كذات ينبغي أن تكون
بدءًا وتُقصي بذلك الأبدية. لا مخرج للأبدية، لأنَّ لا ذات تنهض بها.
عند هيدغر، يمكننا رؤية هذا العود للعدم إلى انوجاد. إنَّ للعدم لديه
نوع من الفاعلية والكينونة: فالعدم يَعدِم. هو لا يهدأ، وفي إنتاجه
لذاتِه يثبت ذاتَه.
لكن، إن كان لا مفرَّ من مقاربة فكرة الـ"هنالك" مع موضوعة كبرى من
الفلسفة الكلاسيكية، سأفكر بـ هيرقليطس. لا بحكاية النهر الذي لا
يمكننا السباحة فيه مرتين، ولكن بنسخة كراتيل
Cratyle
عنه، أي، بالنهر الذي لا يمكننا السباحة فيه حتى مرة واحدة، نهر لا
يمكن لثبات الواحد – وهو شكلٌ لكل موجود – أن يتشكل فيه؛ نهر يختفي فيه
عنصر الثبات الأصغر الذي يمكن فهم الصيرورة قياسًا عليه.
الانوجاد الخالي من الموجود الذي دعوته الـ"هنالك"، هو المحل الذي ينشأ
فيه الأقنوم.
لكن أودُّ أولاً أن أصرَّ أكثر على نتائج هذا التصور. فهو يعمل على
تكوين فكرة عن الكينونة من دون عدم، ولا مجال فيها للمخارج، ولا تسمح
بالهروب. إنَّ استحالة هذا العدم يسلب الانتحار وظيفته كتمكن أخير ممكن
من الكينونة. ما عدنا أسيادًا على شيء؛ ها نحن ندخل لتونا في العبث.
لطالما اعتبرنا الانتحار الملاذ الأخير ضد العبث. انتحار بالمعنى
الواسع للكلمة، بما في ذلك الصراع اليائس لكن الواعي أيضًا الذي خاضه
ماكبث على الرغم من معرفته بلا جدوى الصراع. هذا التمكن – أي: إمكان
إيجاد معنى للوجود عبر إمكان الانتحار – حدثٌ ملازمٌ للمأساة. فصرخة
جولييت في الفصل الثالث من روميو وجوليت: "أحتفظ بقدرة الموت"، هي
أيضًا انتصارٌ على القدر. يمكننا القول إنَّ المأساة عمومًا ليست مجرد
انتصارٍ للمصير على الحرية: فعبر الموت المُتعهَّد لحظة النصر المزمع
للمصير يفلت الفرد من المصير. لهذا السبب، تجاوز هاملت المأساة أو ما
هو مأساوي في المأساة. لقد فهم أنَّ الـ "لا أكون" قد تكون مستحيلة،
وكفَّ عن محاولة التمكن من العبث عبر الانتحار. إنَّ فكر الكينونة غير
الرحيمة والمنغلقة تشكل العبثية الفجّة للكينونة. الكينونة شرٌ، ليس
لأنّها متناهية، بل لأنها من دون حدود. يقول هيدغر إنَّ القلق هو تجربة
العدم، أليس هو – على العكس من ذلك وإذا ما كان الموت عدمًا – تجربة
استحالة الموت؟
قد يبدو وصف الـ"هنالك" بالتيقظ تناقضًا، كما لو أننا نَهبُ حدث
الانوجاد الخالص وعيًا. لكن يجب التساؤل: هل يعرِّف التيقُّظُ الوعيَ؟
أليس من الحري تعريف الوعي كإمكان الانفكاك من حالة التيقظ، وتحديد
المعنى الحرفي للوعي كتيقظٍ مشروطٍ بإمكان النوم؟ أليست واقعة الأنا هي
القدرة على الخروج من حالة التيقظ اللاشخصي. لا شك في أنَّ الوعي يشارك
في حالة التيقظ؛ لكن إمكان الانسحاب إلى الوراء التي يحتفظ بها على
الدوام تشكل خاصيَّته النوعية. الوعي قدرة على النوم. إنَّ هذا التسرب
داخل الممتلئ هو المفارقة التي تَسِمُ الوعي.
*
الأقنوم
الوعي قطيعة مع التيقظ الغفل للـ"هنالك"، وبالتالي هو أقنوم، ويصف حالة
يبدأ فيها الموجود علاقة مع انوجاده. لا يمكننا طبعًا شرح لماذا يحدث
هذا؛ فلا فيزيقا في الميتافيزيقا. جلَّ ما يمكننا هو شرح دلالة
الأقنوم.
إنَّ ظهور "شيء موجود" يشكل عكسًا في قلب الكينونة الغفل. فهو يحمل
الانوجاد كخاصية، ويصبح سيِّد هذا الانوجاد كما الموضوع سيِّد
محمولاته. الانوجاد له، وعبر هذا التمكن للموجود من الانوجاد – تمكنٌ
سنرى حدوده فيما بعد –، عبر هذا التمكن الغيور والمفرط يكون الموجود
وحيدًا. بتعبيرٍ أكثر دقة: يشكل ظهور الموجود تمكّنًا وحرية في قلب
انوجاد يبقى غفلاً في ذاته وبشكل جلي. لكي يكون هذا الموجود داخل
الانوجاد الغفل ممكنًا يجب توفر انطلاقة من الذات وعودة إلى الذات –
هذا هو بالضبط فعل الهوية. ما إن يبدأ حتى ينغلق الموجود على ذاته عبر
تعينه، ليصبح من جديد مونادًا وعزلة.
الحاضر حدثُ الأقنوم ينطلق من ذاته، وبتعبير أدق، هو الانطلاق من
الذات. في هذا المجرى اللامتناهي للانوجاد، مجرى بلا بداية ولا نهاية،
الحاضر تمزقٌ. الحاضر يمزق لكنه يعقد من جديد. الحاضر يبتدئ، هو
البداية ذاتها. له ماضٍ؛ لكن على شكل ذكرى. له تاريخ؛ لكنه هو ليس
التاريخ.
إنَّ طرح الأقنوم كحاضر لا يعنى إدراج الزمان في الكينونة. أن نكون في
الحاضر فهذا لا يعنى أننا في حضرة امتدادٍ للزمان مُقتَطعٍ من سلسلة
خطية للمدة، أو، في حضرة نقطة من هذه السلسلة. لسنا هنا أمام حاضر
مجتزئ من زمان تَشكَّلَ في لحظة ما، ولا أمام عنصر من الزمان. الأمر
هنا يتعلق بوظيفة الحاضر، بالتمزق الذي يُحدثه في اللاتناهي اللاشخصي
للانوجاد. كما لو أننا أمام ترسيمة أنطولوجية. فمن ناحية، هو حدث، وليس
شيئًا ما، وغير موجود؛ لكنه حدثٌ للانوجاد يصدرُ من خلاله شيء ما
انطلاقًا من ذاته. هو حدثٌ حقيقي ينبغي التعبير عنه بفعل
verbe؛
ومع ذلك، كما لو أنَّه طرأ على هذا الانوجاد انسلاخٌ، شيءٌ ما يبزغ:
شيء ما موجود. من الضروري فهم الحاضر على الحد الفاصل بين الانوجاد
والموجود حيث ينعطف من وظيفة للانوجاد إلى موجود.
ولأن الحاضر طريقة لإتمام "الانطلاقة من الذات"، هو، وعلى الدوام،
تلاشٍ. لو دامَ لتلقى وجوده من شيء سابق عليه، أي، لاستزاد من ماضٍ.
لكنه وجودٌ ينبثق من ذاته. والانبثاق من الذات لا يَحدث إلا بعدم تلقي
أي شيء من الماضي. على هذا النحو يكون التلاشي الشكل الجوهري للابتداء.
لكن كيف يمكن أن يصدر من هذا التلاشي شيء ما؟ إنَّها حالة ديالكتيكية
تصف – ولا تستبعد – ظاهرة تفرض ذاتها: أي، الـ "أنا"
je.
لطالما تحدَّث الفلاسفة عن خاصية ذات طبيعة مزدوجة للـ "أنا": فهي ليست
جوهرًا – ومع ذلك، هي موجود بامتياز. وتعريفها من خلال الروحانية لا
يعني شيئًا، إذا ما عنت الروحانية مجرد خواص. هذا لا يعني شيئًا
بالنسبة لنمط وجودها، بالنسبة للمطلق الذي لا يُقصي وجود قدرةِ تجددٍ
تامة داخل الأنا. والقول إنَّ لهذه القدرة وجودٌ مطلق سيقود إلى جعل
هذه القدرة الطارئة جوهرية. أمَّا إذا حُصرت في الحد الفاصل بين
الانوجاد والموجود، ستتموضع الأنا – كونها وظيفة للأقنوم – خارج
تعارضات المتغير والدائم، كما خارج مقولات الكينونة والعدم. يزول
التناقض عندما نفهم أن الـ "أنا" ليست في الأصل موجودًا، وإنما نمطًا
وجوديًا، وأنها لا توجد بالمعنى الدقيق للكلمة. لا شك في أنَّ الـ
"أنا" والحاضر يتحولان إلى موجودات يمكننا تأليف الزمان منها، أي،
الزمان كموجود. ويمكننا أن نمتلك تجربة كانطية أو برغسونية من هذا
الزمان المؤقنم. لكنه سيبقى حينئذ زمانًا مؤقنمًا، أي، زمانًا موجودًا.
ما عاد هو الزمان في وظيفته الترسيمية بين الانوجاد والموجود، أي،
الزمان كحدث محض للأقنوم. عندما نطرح الحاضر كتمكن للموجود من
الانوجاد، وعندما نبحث عن كيفية الانتقال من الانوجاد إلى الموجود
نتموضع في مستوى بحثي لا يمكننا وصفه كتجربة. وبما أنَّ
الفينومينولوجيا ليست سوى منهجٍ للتجربة الجذرية فإننا نجد أنفسنا
خارجها. ليس أقنوم الحاضر، على أية حال، إلا لحظة من الأقنوم – فبإمكان
الزمان أن يشير إلى علاقة أخرى بين الانوجاد والموجود. فهو الذي سيظهر
لنا فيما بعد كحدث علاقتنا مع الآخر، وسيسمح لنا بالتالي من بلوغ
الوجود المتعدد الذي يتجاوز الأقنوم الأحادي للحاضر.
حاضرٌ و"أنا": الأقنوم حرية. الموجود سيد انوجاده، ويمارس القوة الخشنة
للذات على وجوده، وفي مقدوره الكثير من الأشياء. إنها الحرية الأولى –
ليست بعدُ حرية الاختيار، وإنما حرية البدء. الآن، وانطلاقًا من شيء
ما، هناك وجود. الحرية متضمنة داخل كل ذات، ومتضمنة في مجرد واقعة أنَّ
هنالك ذات وكائن. إنَّها حرية نفوذ الموجود على الانوجاد.
*
العزلة والأقنوم
وصفنا العزلة في بداية دراستنا كوحدة أولية عصيَّة على الحل بين
الموجود وانوجاده. بالتالي، إنها لا تتعلق بأيِّ افتراض يخصُّ الآخر.
لا تظهر كفقدان لعلاقة مع الآخر معطاة سلفًا. العزلة ترتبط بحدث
الأقنوم؛ هي الوحدة الأولية للأقنوم، أي، واقعة أنَّ هنالك شيء ما
يُصنع منه الوجود. الذات وحيدة لأنها واحدة. حرية البدء – أي، تمكُّن
الموجود من الانوجاد – مرهونة بالعزلة، أي إنَّ الموجود ذاته مرهون
بالعزلة. وبالتالي، العزلة ليست يأسًا وهجرانًا فحسب، وإنما فحولة وفخر
وسيادة أيضًا. لم ينجح المبحث التحليلي الوجودي بإبراز هذه السمات،
فاقتصرت العزلة فيه على معاني اليأس، ناسيةً كل موضوعات الأدب وعلم
النفس الرومانسي والبايروني في العزلة الأبيَّة والأرستقراطية
والرائعة.
*
العزلة والمادية
لكن هذا التمكن للموجود من الانوجاد، هذه السيادة للموجود تتضمن عودًا
ديالكتيكيًا به يتمكن الموجود الوحيد المطابق لذاته من الانوجاد. لكن
الهوية ليست انطلاقة من الذات فحسب بل هي أيضًا عودة إلى الذات. يقوم
الحاضر على عودة محتَّمة إلى ذاته. هكذا، يدفع الموجود ثمنًا لتموضعه،
وهذا الثمن هو أنَّه لا يمكنه الفكاك من ذاته. الموجود ينشغل بذاته.
هذه الطريقة في الانشغال الذاتي هي مادية الذات. فالهوية ليست علاقة
مسالمة مع الذات، وإنما ترابط متلاحق، وضرورة الانشغال الذاتي. هكذا
يجد الابتداء نفسه مكبلاً: فهو حاضرُ كينونة وليس حاضر حُلم. كما وتجد
الحرية ذاتها محدودة عبر مسؤوليتها رأسًا. هذه هي المفارقة التي تحملها
الحرية بين طياتها: تنحسر حرية الموجود بفعل مسؤوليته عن ذاته.
الحاضر حرية إزاء الماضي والمستقبل، وترابط متلاحق بالنسبة لذاته. لا
يكمن الطابع المادي للحاضر في ثقل الماضي عليه أو في توجُّسه من
مستقبله، بل في الحاضر بما هو حاضر. صحيحٌ أنَّ الحاضر يمزِّق مجرى
الانوجاد اللامتناهي، لكنه يجهل التاريخ وينبثق من الآن. وعلى الرغم من
– أو بسبب – ذلك، فهو ينخرط في ذاته ويتحمل مسؤولية ذاته لِتنقلب إلى
مادية.
تترجم هذه الحالة في الدراسات السيكولوجية والأنثروبولوجية بالقول إنَّ
الأنا عالقة بذاتها، وإنَّ حرية الأنا ليست حظوة، وإنما عبء وثقل،
وإنَّ الأنا تبقى هي ذاتها على نحوٍ لا رحمة فيه. إنني هنا لا أصنع
مشكلة من تحصيل حاصل. فعودة الأنا إلى ذاتها ليست تفكُّرًا هادئًا ولا
مجرد محصلة لتفكُّر فلسفي. إنَّ علاقة الأنا مع ذاتها هي، كما في رواية
بلانشو
Aminadab،
علاقة مع شبيهٍ مكبَّل بي، شبيهٍ لزج وثقيل وغبي، تكون الأنا معه لأنه
أنا. هذه العلاقة مع الأنا تتجلى في واقعة أنَّه على الأنا أن تنشغل
بذاتها، وأيُّ مشروع هنا ليس إلا جلبة. أنا غير موجود كروح، أو
كابتسامة أو كريح، ولست بلا مسؤولية. كينونتي تتضاعف عبر ملكية: أنا
مكبل بذاتي. وهذا هو معنى الوجود المادي. فالمادية لا تعني السقوط
الطارئ للروح في قبر أو سجن الجسد، بل هي تصاحب – بالضرورة – انبثاق
الذات وذلك في حريته كموجود. وبالتالي، إنَّ فهم الجسد انطلاقًا من
المادية – التي هي الحدث العيني لعلاقة الأنا بذاتها – يعني إدراجه في
حدث أنطولوجي. العلاقات الأنطولوجية ليست روابطَ غير متجسدة. وعلاقة
الأنا بذاتها ليست تفكرًا مسالمًا للروح في ذاتها. إنَّها جلُّ مادية
الإنسان.
إنَّ حرية الأنا وماديتها شيء واحد. تستوجب الحرية الأولى – المتعلقة
بحقيقة أنَّه، من داخل الانوجاد الغفل، ينبثق الموجود – ما يشبه
الجزية: قطعيَّة
définitif
الأنا العالقة بذاتها. هذه القطعيَّة التي تُشكل مأساوية العزلة هي
المادية. العزلة ليست مأساوية لأنها حرمان من الآخر، وإنما لأنها
مسجونة في أسر هويتها، أي، لأنها مادة. يقوم تحطيم الترابط المتلاحق
للمادة على تحطيم قطعية الموجود هذه وبلوغ الكينونة في الزمان. العزلة
غياب للزمان. إنّ الزمان المنعطي والمؤقنم، زمان الخبرة، الزمان الذي
من خلاله تجرُّ الذات معها هويتها – هذا الزمان غير قادر على حلِّ
ارتباط الأقنوم.
ترجمة: د. جلال بدلة
*** *** ***