"لغة القريب حديث الغريب" لميشيل هارتمان
لا حدود لغوية للنص
إيمان حميدان
في
كتابها البحثي الجديد
Native Tongue, Stranger Talk: The Arabic and French Literary
Landscapes in Lebanon، والذي ارتأينا
ترجمة عنوانه كالتالي لغة القريب حديث الغريب: المشاهدات الأدبية
العربية والفرنسية في لبنان، قدمت الباحثة والمترجمة الأميركية
ميشيل هارتمان صورة متكاملة للعلاقة المعقدة بين اللغة والسياسة
متجاوزة الصورة النمطية التي قدمتها الأبحاث السابقة والتي أظهرت فيها
اللغة الفرنسية كلغة كولونيالية فحسب، إذ توقفت تلك الدراسات عند تحليل
سطحي يقول إن الكتابة الفرنكوفونية بأقلام أدباء عرب ما هي إلا ظاهرة
من ظواهر الكولونيالية لينتهي التوصيف عند هذا الحد مع عجز تام عن
الغوص في تعقيدات مسألة الكولونيالية وما تلاها والتي ظهرت في كتابات
مهمة أولها ما قام به المفكر الأميركي الفلسطيني الأصل إدوارد سعيد.
وكما حاول إدوارد سعيد مناقشة مسائل ثقافية معقدة في الاستشراق وفي
العلاقة مع الغرب، ذهبت ميشيل هارتمان أيضًا بعيدًا عن أي توصيف سطحي
لكتابة الأدباء العرب باللغة الفرنسية ككتابة "مشكوك بها وطنيًا
وسياسيًا"، وتعاملت هارتمان مع نصوص الكاتبات اللبنانيات الفرنكوفونيات
كمرآة لمواقف سياسية متصلة بالواقع. مع التغيرات التي حملتها نهايات
القرن الماضي ومع السفر الكثيف باتجاه الشمال، فضلاً عن حملات الترجمة
الناشطة منذ أكثر من ثلاثة عقود، تحوَّل العالم إلى قرية صغيرة، وكان
لا بد من التفتيش عن معان مختلفة لمسائل أساسية مثل مسألة الحدود
والهوية، وخاصة تلك المتعلقة باللغة، وبات من الضروري إعادة التعريف
بها من جديد. مع كل ذلك أصبح فك الارتباط بين اللغة كأداة، أي لغة،
وبين نوعية الموقف السياسي أمر أساسي في التواصل مع النص، بحيث تغدو
معه المواقف السياسية إزاء اللغة نفسها عبثًا غير مسؤول. إن أكثر
الكاتبات اللبنانيات اللواتي اخترن اللغة الفرنسية وسيلة لإبداعهن قد
امتلكن ويمتلكن موقفًا سياسيًا إزاء الكولونيالية ويعبرن عنه عبر إتقان
لغة "الآخر" واختيارها أداة تعبير خاصة وشخصية.
عملُ هارتمان يذهب عميقًا في معالجته الجدية ويفرض أسئلة تتعلق بلبنان
كهوية وثقافة وتاريخ، كذلك يتعامل مع مسألة الكتابة النسائية من دون
الوقوع في التصنيفات التي اعتدنا عليها في الدراسات النقدية الأدبية.
كتاب ميشيل هارتمان الصادر باللغة الانكليزية عن منشورات سيراكوز
الجامعية في الولايات المتحدة الاميركية (368 صفحة) يقع في ثلاثة أجزاء
وكل جزء مؤلف من أربعة فصول يبحث كل فصل في تداخل اللغة الفرنسية مع
العربية من خلال تسعة نصوص لكاتبات لبنانيات فرانكفونيات. في كتابها
الذي ساهم غلافه الذكي في إعطاء صورة معبرة عن مضمونه، قدمت الباحثة
النصوص في إطارها المحلي اللبناني رابطة بين النص والإطار السياسي
والاجتماعي. إلا أنها لم تقف عند هذا الحد المحلي في تحليلها بل وضعت
النصوص في قالب يحاكي المسائل الإنسانية والقضايا الراهنة التي يطرحها
الأدب العالمي.
يُعدُّ عمل هارتمان أول دراسة شاملة باللغة الانكليزية عن إبداع كاتبات
لبنانيات يكتبن باللغة الفرنسية. اهتمت الباحثة من خلالها بإبراز
العلاقة بين الشعرية والسياسة عبر أسئلة كثيرة طرحتها هارتمان في
عملها، تبدأ حول كيفية نقل الواقع المعيش بلغة محلية إلى لغة أخرى
كالفرنسية مثلاً. وقد اختارت هارتمان موضوعها البحثي من صلب اهتماماتها
الأدبية العربية واللبنانية إذ تقوم بتعليم اللغة العربية وآدابها وهي
منذ عام 2002 أستاذة مساعدة في معهد الدراسات الإسلامية في جامعة
ماكغيل الكندية في مونتريال.
وفي بحثها الجديد، تغوص هارتمان بتأن ودقة في قراءة المادة الأدبية
متجاوزة قراءة نقدية أدبية بحتة لتصل إلى التواصل معها كنص يصعب قراءته
بعيدًا عن التركيبة الاجتماعية والسياسية العامة. وهي تهتم إلى حد بعيد
في قراءة النص الأدبي من حيث علاقته بالشاعري والسياسي، ومن حيث كيفية
اعتماد اللغة كوسيلة للتعبير السياسي والثقافي في الرواية أو في الشعر.
وليس غريبًا اهتمامها هذا، إذ عُرفت هارتمان بعملها البحثي حول سياسات
الترجمة تحديدًا من العربية إلى الانكليزية واهتمامها بأسئلة في صميم
الهم الإبداعي خاصة أنها ترجمت العديد من الروايات العربية إلى
الانكليزية، كذلك ترجمت القصص القصيرة من الفرنسية إلى الانكليزية، وهي
ساهمت كمترجمة في كتاب بيروت نوار الذي سيصدر عن دار النشر
النيويوركية اكاشيك بوكس
Akashic Books
ربيع عام 2015.
إن مساءلة وتحدي الفكرة السائدة أن هناك تباينًا ما بين اللغة العربية
والتراث من جهة وبين اللغة العالمية أي الفرنسية تحديدًا من جهة أخرى
هما في صميم هدف هذا البحث. مقاربة هارتمان الأساسية تعكس موقفًا
متقدمًا من قضايا الترجمة والعولمة في الأدب والفن، كذلك يعكس مفارقات
الكتابة الفرنكوفونية وتعبيرات الكاتبات النفاذة حول معنى الكتابة بلغة
عالمية مواضيع تحاكي المحلي. هذا أيضًا يلامس مسألة الترجمة والتي تسبح
الباحثة هارتمان في عمق مياهها. النصوص الإبداعية في أي لغة أتت هي لا
بد تحاكي الهموم العالمية وتعكس قضايا تطالنا كموضوع العنف السياسي
والعائلي كذلك قضايا العصر من حروب وهجرات قسرية. النص الأدبي في أي
لغة أتى، هو بالنهاية تعبير سياسي وعابر لسياسات الحدود اللغوية. كذلك
يمكننا وبالطريقة نفسها تقديم كتاب هارتمان على أنه هو أيضًا عابر
للغات وناقد للتعريفات المنضبطة ضمن قوالب موروثة ما عاد بإمكانها أن
تجيب عن أسئلة العصر. لم تقدم هارتمان الكاتبات اللبنانيات من أندريه
شديد إلى ناديا التويني إلى ايتيل عدنان إلى فينوس خوري غاتا إلى
دومينيك اده وليلى بركات وغيرهن كذلك، لكنها إضافة الى ذلك، لامست
تاريخ لبنان الأدبي وصوت المرأة الكاتبة خلال الحرب اللبنانية وما
بعدها، وذكرت في متن الدراسة وفي هوامشها الكثير من عناوين روايات
لكاتبات لبنانيات يكتبن باللغة العربية وترجمت أعمالهن إلى لغات أخرى
كالفرنسية والانكليزية.
لقد قامت ميشيل هارتمان بعمل رائد في تقديم إبداع الكاتبة اللبنانية
الفرنكوفونية ضمن صورة مركبة وعميقة تجاوزت التنميطات المبسطة ولتصل
إلى ربطه بواقع سياسي واجتماعي هو مرآة له.
*** *** ***
السفير الثقافي