المعنوية والحرية

 

مصطفى مَلَكْيان

 

كما يبدو جليًا من عنوان مبحثي هذا فإنَّ موضوع حديثي سيكون: كيف يتلقَّى الإنسان المعنويُّ الذي يلتزم بالمعنوية التزامًا نظريًا وعمليًا كاملاً، الحرِّيات الاجتماعية؛ بِغَضِّ النظر عن الحرية الاجتماعية السياسية، والحرية الاجتماعية الاقتصادية، والحرية الاجتماعية الثقافية، وجميع الحريات الاجتماعية؟ وإلى أيِّ حدٍّ یراعي الإنسان المعنويُّ هذه الحرِّيات؟ وأهمُّ من هذا كلِّه، حراستُه لهذه الحريات الاجتماعية على أيَّة أسس ميتافيزيقية، وأنتربولوجية، وأخلاقية تقوم؟ (ذلك أن حراسة الحريات الاجتماعية ورعايتها شيء، وحراستها ورعايتها على أسس بعينها شيء آخر).

في الحقيقة، نريد في هذا المبحث أن نرى أنَّنا إذا ولجنا داخل جلد إنسان معنويٍّ، ونظرنا إلى الوجود والإنسان والقيمة والوظيفة من نظرته هو، وإذا أدركنا رؤيته ما بعد الطبيعية، والأنتربولوجية، والأخلاقية، في هذه الحالة، كيف سيكون تلقينا للحريات الاجتماعية؟

لا شكَّ في أنَّ الاهتمام الأساسي لأيٍّ من الأديان والمذاهب الأصلية والتاريخية لم يكن الحريات الاجتماعية، ولم يلتفت أحد منها إليها، أيْ لم يكن هاجسُ أيٍّ من تلك الأديان والمذاهب العالمية، في الدرجة الأولى، تأمينَ الحريات الاجتماعية. لكن، من جهة أخرى، فإن جميع الأديان والمذاهب اهتمت بأمرٍ ما ربما عبَّرنا عنه بـ "التحرُّر".

الأديان والمذاهب كانت تسعى إلى أن تُنشئ وتربِّي الإنسانَ المتحرِّرَ لا الإنسانَ الحرَّ. إنَّ هذا الكلام يدَّعي أن الإنسان المتحرر، بسبب تحرره، له أثر كبير في حراسة الحريات الاجتماعية ورعايتها. بتعبير آخر: الإنسان المتحرِّر، الذي تُمكِن تربيتُه في ظلال الدين والمذهب، لا يدهس، بأيِّ ثمن، الحرياتِ الاجتماعية للآخرين، ولا يقمعها. لهذا، يجب أن نسعى في هذا البحث إلى أن نظهر علاقة التحرر؛ الذي هو أمر داخلي وفردي، بحب الحرية الاجتماعية وتربيتها وتنشئتها، أي يجب تبيينُ كيف أن إنسانًا ملتزمًا بمعنوية الأديان والمذاهب يحرس الحرِّياتِ الاجتماعيةَ لمحض معنويته تلك؟ فإذا تحقق ادِّعاء هذا الكلام يمكن حينئذٍ أن نتخذ ميزان حراسة الحريات الاجتماعية معيارًا لميزان معنوية إنسان ما؛ أيْ ميزان فهمه الصحيح للدين والمذهب، وميزان التزامه النظري والعملي بالتعاليم الدينية والمذهبية؛ بمعنى أن ميزان التنشئة المعنوية للإنسان يناسب ميزان حراسة الحريات الاجتماعية. فمتى ما كنا أكثر معنويةً حرسَنا الحرياتِ الاجتماعيةَ أكثر، ومتى ما كان اهتمامُنا بالحرياتِ الاجتماعيةِ أقلَّ، كانت معنويتُنا أقل.

لإيضاح وإثبات ادِّعاء هذا الكلام، علينا أن نوضح، قبل كل شيء، ما نعنيه بـ "التحرُّر" الذي يمتلكه الإنسان المعنويُّ. إن الإنسان المعنويَّ يستسلم للحق (الله) وحده، ولا يطأطئ رأسه لأي شيء آخر سوى الحق؛ وهذا الحقُّ، من وجهة نظر الإنسان المعنوي، سواءٌ أكان إلهًا متجسدًا بالإنسان، أم إلهًا متجسِّدًا بغير الإنسان، أم إلهًا غير متجسِّد، أم أيَّ شيء آخر، على أيِّ تقدير، لهذا الحق خاصيتان: أولاً: الحق، بأحد المعاني، أمرٌ له صلة لا تنفصل عن جُوَّانيَّة المرء وشخصه وليس خارجيًا ولا غريبًا تمامًا. ثانيًا: إنه أمرٌ ليس أقل قيمةً ومنزلةً من الإنسان والإنسانية. الإنسان المعنوي، بتسليمه للحقِّ، يكون قد استسلم لشيء توحَّد فيه مع حقيقة وجوده ومع أعمق مراتب هذا الوجود، وكذلك فإن هذا الشيء أكثر علوًا من إنسانيته المحدودة. إنَّ مرتكزَ الاستسلام المطلق لشيء كهذا، يكون ألا يستسلم المرء لأي کائن خارجٍ عن وجوده تمامًا، وفي النهاية يكون في ذاته هو؛ سواءٌ أكان ذلك الكائن القُوى الطبيعية، أو كان المبادئ والأحاسيس والعواطف أو الاحتياجات ومطالبه وأهواءه، أو كان تلقينات المجتمع والجو العام، أو كان مقاصدَ المستبدين والمتجبِّرين أو كان إبلیس أو الشيطانَ أو أيَّ شيءٍ آخر. في الحقيقة، ليس الاستسلام للحق سوى العصيان والتمرد على كل شيء آخر.

الإنسان المعنوي يتخلى عن حريته في حالة واحدة فقط؛ وذلك أمام الحق؛ وإن كان قد بدا في ظاهر الأمر أنه قد تخلى عن "تحرُّره". لأن الحق، في الحقيقة، ليس مغايرًا وغريبًا عن حقيقته نفسه. فإذا أمكن القول إن الإنسان المعنوي يضحي بحريته، يجب أن يقال إن مذبَحَ حریته هو حضرةُ الحق وكفى.

ذلك هو معنى "التحرُّر".

وإن أردنا أن نتكلم بلغة دينية استطعنا القول إن الله وحده يجب أن يُعبَد، لا غيره. (لا إله إلا الله). والله هذا، على الأقلِّ له خاصيتان:

1.    الله - بغض النظر عما يكون وعمَّا لا يكون - على أية حال، هو الواحد الأوحد الذي لا إله سواه. لا یقبل التثنیة ولا التثلیث. وهذه الخاصية في مبحثنا هذا، بهذا المعنى؛ لقد فُرضَ على الإنسان أن يغض الطرف عن حريته ولو ظاهريًا في مقابل کائن واحد فقط.

2.    ليس اللهُ الأوحدُ من نوع المادَّة والماديات، والجسم والجسمانيات، وليس من سكان العالَم الطبيعي، وبناء على ذلك، فإنَّه لا يُحسُّ بالحواس. وهذه الخاصية تستلزم ألا يستسلم الإنسان أمام أية قوَّة ماديَّة، بغضِّ النظر عن أن هذه القوَّة تجسدت في قالب الإنسان، أو تجلت في قالب غير الإنسان، وألا يغض الطرف عن حريته.

على المرء أن يقول لنفسه كلما التقى بإنسان آخر: (هذا الكائن، كائن محسوس، أما الله فليس محسوسًا، لذلك فإن الكائن ليس اللهَ. وعليه، لا يجب أن أَقبلَ بعبادته وإطاعته). وبهذا الاستدلال، لا يجب أن يطأطئ رأسه أمام أحدٍ ما، له من النفوذ السياسي ما له، ولا أمام أحد له نفوذ اقتصادي، ولا أمام مَن له من الشأن الاجتماعي منزلةٌ ومقام وشهرة... وغير ذلك.

"تحرُّر" الإنسان المعنوي بالضبط بهذا المعنى؛ أنَّ إنسانًا – بهذه الصفات – له نظرةٌ إلى الوجود والحياة مستقلةٌ عن القُوى التي تُطبَّق عليه بالقوة؛ سواءٌ أكانت هذه القُوى من جانب القُوى الطبيعية، أم من جانب غير الحياة ونُوِها، أم من جانب المجتمع والجو العام الذي ليس على حقٍّ دائمًا، أم من جانب أهواء نفسه. في الحقيقة، "التحرُّر" تعبير آخر للحرية الشخصية والذاتية (الجوَّانيَّة) والروحية والمعنوية.

والآن، لنرَ، كيف يغدو "التحرُّر"، بهذا المعنى، باعثًا على أن يحرس الحرياتِ الاجتماعيةَ، وعلى أساس أيةِ أسسٍ يَحترمُ الإنسانُ المعنوي الذي يمتلك "تحرُّرًا" كهذا، الحرياتِ الاجتماعيةَ؟

1.    لا يعبد الإنسان المعنوي آراءه ومبادئه، لأنه يرى أن عبادة المبدأ لا تتواءم مع عبادة الحق، ويَعدُّ ذلك من مصاديق عبادة الأوثان، بل يراها أهمَّ مصادیق عبادة الأوثان. يمكن أن يقال، بلغة دينية، ليس يُعدُّ أيُّ مبدأٍ اللهَ، ولا يجب أن يُعبد؛ حتى الإيمانُ بالله نفسُه ليس الله.

نفي عبادة المبدأ، من رؤية إنسان معنويٍّ، لازِمَتُه أن يَعُدَّ هذا الإنسانُ جميعَ مبادئه – بتعبير غوردون آلبورت؛ عالم النفس الأنتربولوجي الأمريكي (1897-1967) – من باب المبدأ المكتشَف euristic belief، أيْ المبدأ الذي "نلتزم به مؤقتًا، حتى يؤيَّد أكثر، أو لهذا المبدأ أن يساعدنا حتى نكتشف مبدأ أكثر اعتبارًا وسلامةً". إن عبارة (الإنسان المعنوي لا يعبد مبادئه) تعني أنَّ على الإنسان المعنوي أن يلتزم بمبادئه واحدًا واحدًا، إذا كان مبدؤه ذلك يجيب الأجوبة الأفضل والأكمل عن أسئلة معرفة الوجود، معرفة الله، معرفة الكون، معرفة الإنسان، معرفة القِيمة، معرفة الوظيفة، ويدلُّه على كلِّ ما سبق.

الإنسان المعنوي يؤمن بمبدأ ما، لكن ليس على أساس أنه عاشق لذلك المبدأ، بل على أساس أنَّ ذلك المبدأ يكون له عونًا في فهم العالم والإنسان فهمًا أفضل وأعمق. ومن هنا، فإنَّه يُصلح من مبدئه عندما يحصل على فهم أفضل وأعمق، ويتَّبع هذه العملية والسُّنَّةَ باستمرار. فإذًا، عملية (المؤقَّت) هذه، وأنَّ المبدأ قابل للنقد والشكِّ، من علائم عدم عبادة المبادئ.

والآن، إذا انتبهنا إلى أنَّ عبادة المبدأ تبعث على الجزم بأمرٍ ما، وتبعث على الدوغمائية dogmatism، والتعصُّب fanaticism، وعدم المداراة intolerance، أولاً. وأن الجزم، والدوغمائية، والتعصُّب، وعدم المداراة هي من أهم عوامل الحدِّ من الحريات الاجتماعية وتهديدها ثانيًا، أدركْنا أنَّ الإنسان المعنويَّ، لبعده عن الجزم والدوغمائية والتعصُّب وعدم المداراة، حارسٌ للحريات الاجتماعية و راعٍ لها.

وعلينا أن نؤكِّد هذه النقطة؛ وهي أنَّ الإنسان المعنويَّ - لأنه ليس يعشق آراءه ومبادئه ولا يعبدها - لا يرى أنها أشياء أثرية وجواهرُ ثمينة عليه أن يحتفظ بها في خزانته، وأن يُبعِد عنها كلَّ مَن يدنو منها، ويحاولُ أن يلمسها، وأن يُصبح كلُّ همِّه وغمِّه أن تبقى على ما هي عليه، وألا تكون إلا للمباهات وإلا لإظهار الفضل على الآخرين. بل إنَّه – الإنسان المعنوي – يَعرضها بقلب واثق وبروح فدائية أمام كل ما يمكن أن يخالفها، أيْ ليس يخاف ولا يتوجَّس لا من أن يواجِه بمبادئه الوقائعَ، ولا من أن يواجِه بها مبادئ الآخرين. وليس فقط لا يهمه أن تكون الوقائع أو مبادئ الآخرين غير متوائمة مع مبادئه، مُظهِرةً نقاطَ الضعف فيها، نافيةً إياها أو رافضةً لها، ناقضة أو مضعفةً، جاعلةً إياه أن يشكَّ فيها، ويعيد النظر فيها، ويزيد فيها أو يُنقص منها، وتجبره على التغيير فيها. لا يخاف من كلِّ هذا، بل يقبل هذه الأمورَ كلَّها برحابة صدر، لأنه لم يَبْنِ مبادئه على أساس أنها مطلقة لا يأتيها الشكُّ من بين يديها ولا من خلفها. ولا أن يرفعها إلى مقام الله ويعبدها، بل إنَّ ما أبرمه مع نفسه من ميثاق هو أن يعبد الله فقط، وأن يحتفظ بهذا الميثاق مهما كلَّفه الأمر، وإنْ خسر مبادِئَه.

من هنا، ليس فقط يجيز الإنسان المعنويُّ أن تُعرض جميعُ مبادئه على الملإ، بل يسعى قلبًا وقالبًا أن يضعها بين أيدي الآخرين، وأن تُعرض الوقائعُ كلُّها على الشمس، حتى يمكنه أن يعيد النظر في مبادئه لتقترب من الحقِّ أكثر. فأين هذا من الحدِّ من حرية بيان المبادئ المختلفة وتهديدها؟ أين؟

الإنسان المعنوي ليس مستعدًا فقط، بل إنه ينتظر باشتياقٍ أن يضع مبادئه الخاصة به في مواجهة كلِّ واقعةٍ، وفي مقابل كلِّ مبدأ آخر، وأن يسمع كلَّ نقْدٍ يقال فيه، وأن يضع مبدأه كذلك موضع دقَّة النظر. وأن يصيغ السمع إلى أيِّ ادِّعاء وأي دليل، وإذا ما وجد دليلاً أقوى من دليله سارع إلى الالتزام بذلك الدليل صراحةً، وتخلَّى عن التزامه بادِّعائه. إنَّ الإنسان المعنويَّ يعلم (وهذا مهمٌّ للغاية) أن عدَّ مبادئه على أنها أصحُّ من مبادئ الآخرين ليس إلا إضافة مبدأ آخر من دون دليل إلى قائمة مبادئه الأخرى، بعبارة أخرى: ليس فقط هذا العمل لا يكون دليلاً على صحَّة مبادئه التي يزعم أنها صحيحة، بل إنَّه مبدأ من دون دليل أضيف إلى قائمة المبادئ التي تحتاج إلى دليل.

2.    لا يعبد الإنسان المعنوي أحاسيسه وعواطفه، وما يحب ويكره. وإحدى نتائج هذا الأمر أنَّه ليس أسيرًا لأمانيه wishful thinking، أي إنه لا يقول: (لأنني أحبُّ أن تكون ألف هي ب فإذًا ألف هي ب)، ولا يفسر الوقائع على نحو ما يشتهي إنْ شعوريًا وإنْ لاشعوريًا. ولو أردتُ أنْ أعبِّر بتعبيراتٍ دينية لقلت: إنَّ الإنسان المعنويَّ يمكن أن يكون له رجاء، وحتى من الممكن أن يكون له أمل كذلك، ولكنه ليس تابعًا أو إمَّعةً للرِّغاب البعيدة، والآمال العريضة الطويلة أبدًا، وأهمُّ من هذا كلِّه أنه ليس أسيرًا لأمانيه. وإذا كان ذلك كذلك فإنه – الإنسان المعنوي – لا يحدُّ من حريَّة أحد ولا يهدِّد حريةَ أحدٍ لمجرَّد أنَّ له مبادئَ ليس  يحبها، أو أن له تفسيرًا للوقائع خاصًا به يتخالف مع تفسيره الخاص.

3.    الإنسان المعنويُّ لا يتعلَّق بأيِّ شيء. طبعًا عدمُ التعلُّق هذا لا يعني أنَّه لا يجد أيَّ شيء في الحياة من ممتلكاته، أو أنه لا يفيد منه الفائدة الأمثل. لا، لكننا نستطيع أن نمتلك شيئًا أو أن نفيد من شيء من غير أن نتعلق بذلك الشيء. عدم التعلُّق يعني، بالضبط، أن شخصًا ما ليس لديه ما يسمِّيه النفسانيون اضطرابَ فراقِ Separation Anxiety شيءٍ يمتلكه أو يفيد منه. أيْ إنَّه ليس، بشكل دائم، عرضةً للخوف والاضطراب من أن ينفصل عن ذلك الشيء. عدمُ التعلُّق هذا، علاوةً على أنه نوعٌ من الحرية، والتحرُّر الجوَّاني الشخصي، من وسوسات وجود الأشياء والأحوال وعدمها، بقائها وفنائها، كذلك يكون باعثًا على حراسة الحريات الخارجية والاجتماعية. لأنَّ ما يكون سببًا، في كثير من الحالات، في أنَّ شخصًا يحدُّ من حرِّيات الآخرين أو يهدِّدها، هو أنَّ ذلك الشخص إمَّا أنه يرى أن حرِّيات الآخرين هي السبب في خسران شيء منشود كان يمتلكه، أو السبب في عدم الحصول على شيء منشود يرغب فيه. ووسوسة خسران شيء أو عدم الحصول على شيء بعينهما، علامةٌ على التعلُّق بتلك الأشياء. بعبارة أخرى لعلَّها تكون أبينَ: نحن، في غالب الأحيان، عندما نحدُّ من حريات الآخرين أو نهدِّدها، يكون لدينا نوع من التعلُّق الدنيوي، أو إننا خائفون ووجلون من أن تَخدشَ حرِّياتُ الآخرين أمرًا نحن متعلقون به تعلُّقًا دنيويًا.

4.    حياةُ الإنسان المعنويِّ، بتعبير إريك فروم Erich Fromm، المحلِّل النفساني الأمريكي، الألماني الأصل (1900 – 1980)، مبنيةٌ على الكينونة، لا على التملُّك، أي إنَّ حياتَه قائمةٌ على العشق، والتشارُك، والتّوليد، والإبداع والاختراع الخلاقين، لا على الامتلاك المادي، والقدرة، والسلطة. فمن وجهة نظر فروم، فإنَّ قسمًا كبيرًا من أزمة حياة البشر الحالية علامةٌ على انكسار طريقة الحياة المبنيَّة على التملُّك، وعجزِ هذا النحو من الحياة عن تقديم المساعدة للبشر للوصول إلى الازدهار الكامل. طريقة الحياة المبنيَّة على التملُّك، من إحدى نتائجها أنَّها تخلق الخشونة والقمع، وتحدُّ من الحرِّية وتهدِّدها، وعلى العكس من ذلك فإنَّ الحياة المبنية على الكينونة؛ وهي خاصة بالإنسان المعنويِّ، تخلق السلوك النبيل، والمداراة، والذَّود عن الحرية.

5.    الإنسان المعنويُّ مشغول بإصلاح نفسه بشدَّة، أيْ إن كلَّ همِّه وغمِّه هو أن يدرك أنَّه في أي وضع وأي حال من الناحية الذهنية، والروحية، والأخلاقية، والمعنوية، وفي أيِّ مرحلة وأيِّ مرتبة؟ الإنسان المعنوي يؤمن، بعمقٍ، بعبارة علي بن أبي طالب: "طُوبَى لِمَنْ شَغَلَهُ عَيبُهُ عن عُيوبِ غَيرِهِ. ومُعَلِّمُ نَفْسِهِ ومُؤَدِّبُها أَحَقُّ بالإِجْلالَ من مُعَلِّمِ النَّاسِ ومُؤَدِّبِهِم". الإنسان المعنويُّ يضع نفسه تحت مجهره، ويظل يرى نفسه تحته، بصورة مستمرة، حتى لا ينسى عيوبه ونقائصه الذهنية، والروحية، والأخلاقية، والمعنوية، بشكل كامل، ويضع الآخرين فقط تحت المجهر. بعبارة أخرى: الإنسان المعنويُّ بالنسبة إلى نفسه متشائم، وبالنسبة إلى الآخرين متفائل، كما وصَّى الشيخ شهاب الدين السهروردي العارف (وهو غير الحكيم المعروف بشيخ الإشراق) سعدي الشيرازي:

قدَّمَ لي الشيخُ شهاب؛ الحكيمُ المرشد، ونحن نسافر في البحر، نصيحتين؛ أولاهما: لا تكنْ متفائلاً بالنّفْس، وثانيتهما: لا تكن متشائما بالآخرين.

والآن، إذا انتبهنا إلى أن كثيرًا من التحديدات والتهديدات التي تُواجِه الحرياتِ الاجتماعية، تأتي ممَّن يضعون الآخرين فقط تحت مجاهرهم، أمَّا أنفسهم فلا، أيْ الذين يفضِّلون إصلاح الآخرين على إصلاح ذواتهم، إذا دقَّقْنا في ذلك، أدركْنا أنَّ الإنسان المعنويَّ، إلى أيِّ حدٍّ بعيدٌ عن الحدِّ من حرِّيات الآخرين وتهديدها، وذلك فقط لأنَّ الصلاح عنده أهمُّ من الإصلاح بكثير.

6.    الإنسان المعنوي يعلم أنَّ الشرط الأساسي الذي لا بدَّ منه، للاستكمال النفساني، والتنشئة الأخلاقية والمعنوية، إنما هو الحرِّية؛ فلا تتحقَّقُ المعنويةُ إلا عن طريق الحرِّية، إذْ محضُ مطابقة أعمال الإنسان العضوية الشكلية مع مجموعة من القواعد الأخلاقية والدينية والمذهبية المألوفة، لا يبعث البتةَ على التنشئة الأخلاقية والمعنوية. هذه التنشئة تتحصَّل عن طريق أن تكون تلك الأعمال صادرةً عن الحرية للعناصر جميعًا. (على الرغم من أنَّ التنشئة الأخلاقية والمعنوية ليست رهينةً بالأعمال العضوية والشكلية فقط، وإنْ كانت تلك الأعمال تُنجز بحرية كاملة). فالإنسان الذي يكون فاضلاً خيِّرًا من الناحية الأخلاقية والمعنوية ليس إنسانًا له أعمال شكلية وخاصة فقط، بل إنه إنسانٌ، لأعماله الشكلية حُسنیان؛ حسن فاعليٌّ وحسن فعليٌّ؛ أي أن ينجز بنفسه تلك الأعمال، بحرِّية كاملة، من دون أدنى حدٍّ من الإجبار، أو الإكراه، أو الاضطرار.

بناءً على ما تقدَّم، فإنَّ العمل الذي يُنجَزُ خوفًا من جزاء الحق والقانون، أو تماثلاً وتلونًا بلون الجماعة، أو تحت ضغوط الجو العام، وبشكل عام، بمقتضى حكم القُوى المحفِّزة أو المجبِرِة أو المانعة من خارج أنفسنا، ومن داخل المجتمع، هذا العمل وإن بدا، جيدًا في الظاهر، إلا أنه لن يوصِلَ فاعله من الباطن إلى التنشئة الأخلاقية والمعنوية. فكلَّما كانت الضغوط والمقتضيات الخارجية أقلَّ، وأضعف، وفي النتيجة، أُنْجِزَ العملُ بحرية الفاعل، كان تأثيرُ العمل في تنشئة الفاعل المعنوية أكثرَ.

لذا، فإنَّه لمن التّناقض بمكان إذا قيل: نحدُّ من حرِّيات أفراد المجتمع من أجل تنشئتهم الأخلاقية والمعنوية. لأنَّ الأعمال إذا أنجزت بمطلق الحرية فقط يمكن أن تكون سببًا في الارتقاء (أو الانحطاط) الأخلاقي والمعنوي للفاعل. فأصحُّ الأعمال الشكلية، إذا أُنجزت جبرًا، لن تبعث على الارتقاء، وكذلك أكثر الأعمال الشكلية خطأً، إذا أُنجزت جبرًا، لن تكون مولِّدةً للانحطاط. فالحرِّية فقط هي السبب في أن يكون العمل صاحب تأثير في الارتقاء والانحطاط. فكلُّ الأعمال الصحيحة التي أدَّيناها، إذا لم نؤدِّها بحرِّية، لم تجعلنا معنويين ولو ذرةً واحدةً، وكل الأعمال الخاطئة التي أدَّيناها، إذا لم نؤدِّها بحرية، لم تُنقص من معنويتنا ولو قيدَ أنملة؛ فلا يمكن أخذ شخص مكبَّلاً بالقيود والسلاسل إلى الجنة، أو إبعادُه عن جهنم.

وهكذا، فإنَّ مَن يكون مريدًا الخيرَ للناس، حقيقةً، وقاصدًا إصلاحَ أوضاعهم وأحوالهم الأخلاقية والمعنوية، فإنَّ عليه، قبل كلِّ شيء وأكثر من كلِّ شيء، أن يتركهم أحرارًا. وفي النتيجة، فإنَّ مفهومي الخيِّر المستبد أو المصلح المستبد، مفهومان متناقضان paradoxical. لأنَّ المعنوية تتحصَّل بالحرِّية فقط. والإنسان المعنويُّ، الذي يتقلقل من أجل معنوية أبناء جنسه، لا يحدُّ من حرِّياتهم ولا يهدِّدها.

ترجمة: عماد خلف ومحمد حسن حسن زاده نِيْرِي

*** *** ***

الأوان، الخميس 25 تشرين الأول (أكتوبر) 2012

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني