في قبضة الشاعر

 

بشار عباس*

 

رغم أن كاف التشبيه حاضرة بقوَّة في الشعرية العربية منذ نشأتها، وليس ثمَّة شاعر منذ الأوان الجاهلي إلى يومنا هذا إلا ووظَّفها: (تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد. وليل كموج البحر. لمعت كبارق ثغركِ المتبسم). غير أن ما يميِّزها عند الماغوط هو الكثافة العالية، فهي كثيرًا ما تأتي كصفعة شعورية ترتكز على الصورة الشعرية في علاقاتها مع الصورة البصرية، والتي تغدو من خلال هذا الحرف الرشيق مخيالاً متكاملاً يستند إلى خزَّان الصور البصرية الذي في الذاكرة. وهو خزان أحسن محمد الماغوط التعامل معه برموز تخصُّ أبناء الثقافة العربية؛ سواء كانت هذه الرموز متأتية من الفصحى، أو من دلالات اللهجات المحلية والثقافة الشعبية. وهي إذا كانت تُستعمل عادةً للتوضيح والشرح، فإنَّها في نصوص البدوي الأحمر تصير قيمة شعرية؛ وضربًا من الفن اللغوي القائم بذاته. وكثيرًا ما تنجح في أخذ شكل البديهة والحدس، بعد أن يختار بمهارة مذهلة بين المشبَّه والمشبَّه به، فلا نعود نعلم من منهما العنصر الرئيس المراد توضيحه في عملية التشبيه، فيقبض على ذائقة القارئ وينجح باستدراجها منذ اللحظة الأولى.

كاف التشبيه

لنلق نظرة على هذه المقاطع المنتقاة من مجموعة أعمال متنوِّعة للشاعر المجيد محمد الماغوط، ولندقق كيف استعمل كاف التشبيه في نصوصه:

وأنا أقف أمامك كالصنم ودموعي مستقيمة كالأزرار
صرتُ أتلاعب بوجهي كالعجين؛ أبزغُ كالوحش في كل مكان، أصرخُ وأصرخُ حتى صار عنقي نحيلاً كسلك
هل رأيتما نهديها؟ نعم لقد كانا كطفلين محروقين
وأن عدالتكم تختفي وتبرز كمخالب القط ساعة تشاء
سيأكلنا البحر، سنمرُّ من بين أسنانه كالأسماك الصغيرة
أيها الشعر الأليف كسعال أبي
إنه رعب يتفجَّر كحبَّة الكستناء في كل لحظة
أيها الصوت العميق كالذكريات كحفر القنابل
آه لو يتم تبادل الأوطان كالراقصات في الملاهي.

والآن: لننتبه إلى واو العطف

يا ناكر الخبز والملح والسياط
هدير الشاحنات المعبأة حتى حوافها بالمؤن وبكرات المصاعد
أمام أفواه الأسرى والخراف المسلوبة من أقاصي الدنيا
ألست مثقفًا كهؤلاء الذين يحملون أكفانهم بيد وأمشاطهم باليد الأُخرى
إننا ننكر شكوكنا منك ومن عينيك المليئتين بالدمع والأسنان
ببعض الشعر والأفلام الوثائقية والصور الفوتوغرافية واللوحات المائية وبعض الموسيقى الحالمة تفاهمت مع الأفق والوحل ورياح السموم.

هاتان الأداتان المبهرتان لازمتا شعر الماغوط ولم تفارقانه، فكانت طريقة استعماله لهما من عوامل تفرّده وأصالته. بالطبع، لا سبيل للبحث في كامل حقيبة معداته العجائبية، هذا إذا افترضنا جدلاً، أن ذلك ممكن، غير أنَّ هذين المفتاحين يُمكن أن يكونا مثالاً عن توظيف الماغوط للغة نحويًا لمصلحة الصورة الشعرية بعد إعادة تعريفها، وذلك من حيث طريقة الاستخدام والدلالة؛ فعندما يقول على سبيل المثال: "أمام قباب الجوامع والكنائس اللامعة والمنتفخة كالحروق الجلدية" نشعر أن كاف التشبيه هنا سقطت كالبديهة في مكانها، وُلدت من تلقاء نفسها كالقدر، في مكانها الطبيعي الذي كان جاهزًا لها بل وينتظرها، حتى أنَّ القارئ قد يأخذ يلوم نفسه كيف لم تخطر بباله من قبل، فالكاف ظهرت رشيقة خفيفة لدرجة أنه يُمكن الاستغناء عنها؛ أي يكفي أن يوضع المشبَّه والمشبَّه به الواحد منهما تلو الآخر حتى تلمع في الذهن العلاقة البصرية المذهلة بينهما كأن نقول: "قباب الجوامع والكنائس، الحروق الجلدية" لذلك يُمكن استبدال الكاف بأدوات وصل لغوية مغايرة، فالعلاقة بينهما أقوى من هذه الكاف بكثير.

الصورة

إن استخدام هذه الأداة بهذه المهارة جعل الصورة البصرية الشعرية متفوّقة على الصورة البصرية الفوتوغرافية أو السينمائية، فالصورة السينمائية تفترض التتابع، أي يجب أن يأتي الموضوعان أحدهما تلو الآخر، أمَّا في الصورة الشعرية المصمَّمة على طريقة الماغوط فإن الموضوعين يمثلان في وقت واحد معًا، يندمجان في وحدة لغوية إدراكية دون أن يلغي أحدهما الآخر، وإنَّما يعزز كلٌّ منهما الآخر ويؤكد عليه.

ومن حسن الحظ أن الماغوط كتب للسينما وللمسرح، ما يُتيح لنا اقتفاء هذه النقطة ومعرفة كيف تتجلَّى، ليس بالمعنى اللغوي وإنما بالمعنيين المجازي الدلالي؛ والرمزي البصري، ففي فيلم الحدود تقوم الشخصية الرئيسة العالقة بين حدود الدولتين، ببناء بيت من قطع السيارة بعد تفكيكها، فالبيت هنا أصبح "كـ" السيَّارة، وذلك في رمزية بصرية، وباب البيت هو باب السيارة، وجرس البيت هو بوق السيارة، ونافذة البيت هي نافذة السيارة في تعبير عن التشرُّد، عن ذلك المواطن العربي الذي يقضي عمره مشتتًا بين الحدود في بيت كالسيارة، فالذي ظهر هنا هو معنى التشبيه من دون الأداة اللغوية، مع أن اندماج البيت والسيارة في وحدة مادية واقعية يقترب كثيرًا في الواقع من آلية عمل كاف التشبيه في اللغة، فالطرفان ماثلان معًا. ويظهر كذلك معنى هذه الأداة الشعرية في مسرحية كاسك يا وطن خلال عدد من المشاهد، منها ما تقوم به الشخصية الرئيسة عندما يدعو زوجته إلى تناول وجبة ساخنة، فتكتشف أنَّها مجموعة من الصحف وقد شرع الزوج بتناولها كطعام، فأخبار الصحف باتت كوجبة يومية يتناولها الإنسان صباحًا ومساء. أي أن المشهدين السابقين، السينمائي والمسرحي، صُنعا من المادة الأولية الإبداعية نفسها؛ والتي يُدرك بها الشاعر الشبه والتماثل بين الأشياء، فيعيد ترتيب العلاقات في ما بينها. وهذا لا يخرج عن دور الشعر عمومًا في تعبيد الطريق للفلسفة أولاً، وثانيًا في ضبط اتجاه ومزاج الفنون الأخرى جميعها، واقتراح موضوعاتها، مهما تعددت واختلفت.

واو العطف

وأمَّا واو العطف، فإنَّ وظيفتها عند الماغوط تشبه وظيفة فن المونتاج في السينما، فهي لم تعد تعطف بين شيئين مختلفين وتجمع بينهما في معرض الكلام، أو بين عام وخاص في سياق جملة عابرة، وتوقَّفت عن كونها أداة تجميع ورباط لحزمة مسمَّيات حدث وإن وردت في جملة ما، كما في قول المتنبي (والسيف والرمح والقرطاس والقلم). بل أصبحت عند شاعرنا أداة لوضع شيئين، عنصرين، مفهومين متباعدين ومفارقين، جنبًا إلى جنب، لتوطيد علاقة بين ما يبدو متنافرًا، بين هادئ؛ وبين صاخب، بين عادي مألوف عفوي في حضوره، وبين غرائبي نافر غير متوقَّع، فإذا بواو العطف البسيطة تُصبح أداة. وكما توضع لقطة سينمائية محددة بعد لقطة ما لإحداث التتابع، وللقيام بمقارنة كانت من دون تتابع اللقطتين غير ذات معنى، وكما يجمع المونتاج بين متناقضين، أو بين منسجمين متكاملين، أو يُساعد على توليف متضادين لم يكونا معًا إلا بوضعهما متعاقبين لمشاهدتهما معًا. فإنَّ واو العطف تنهض بوظائف مماثلة عند شاعرنا، وذلك عبر مكيدة لغوية إدراكية تستغلُّ الذائقة المعتادة على البسيط من الربط المألوف المتوقَّع، ففي هذه الجملة مثلاً: "أناشدك الله يا أبي دع جمع الحطب والمعلومات عنّي" تأخذ الواو بمفردها دور صناعة الصورة الشعرية في سلاسة تقوم على الوظيفة اللغوية التقليدية من حيث الإدراك، ولكنها تصير إلى مشهدين بصريين متتابعين، إذ تقوم الواو بسحب كل ما قبلها على ما بعدها بلمحة واحدة، وفي قوله: "إننا نخجل أمام وجنتيك المليئتين بالدمع والأسنان" فإنَّ الجملة تكون عادية مألوفة إلى ما قبل واو العطف، فتأتي كلمة واحدة بعدها لتكون مركز الثقل الشعري كلَّه، فتندمج بعلاقة بين المعطوف والمعطوف عليه وتبلغ ذائقة القارئ كعبوة لغوية واحدة لا يُمكن الفصل بين طرفيها، كما تأتي كلمة "الأسنان" لتقلب المشهد وتنفي كل ما عداها.

يواصل صاحب العصفور الأحدب وضع هذه الأداة في مختبره الخاص؛ مستفيدًا منها إلى أقصى مدى، ففي المثال التالي تُصبح وسيلة لتأسيس الصورة الشعرية، بما يشبه تأسيس اللقطة السينمائية العامة، فتبدأ من مكان وتستقر على مكان آخر مروِّع وغير متوقَّع، كقوله: "بل أفكِّر بالسحب الرائعة والأطفال الموتى بين الزهور" فتأثيرها هنا يشبه إلى حد كبير حركة الكاميرا من فوق إلى تحت، كاميرا تأخذ السماء والسحب البيضاء، ثم تنتقل إلى أسفل حيث الأطفال الموتى. وإذا أردنا أن نبحث عن امتداد واستعمال لهذه التقنية في أعماله المسرحية والسينمائية فلن نكون منطقيين، لسبب بسيط وجوهري وهو أنَّنا نقوم بعملية عكسية، فهذه التقنية مستعارة أصلاً من الصورة البصرية لمصلحة الصورة الشعرية.

ولكن، هل قام الشاعر بدمج التقنيتين معًا، أي كاف التشبيه وواو العطف في جملة مقتضبة أو في قصيدة واحدة؟ بالطبع نعم، وكثيرًا، فهما تظهران معًا في جملة واحدة كهذه: "ليلتق العبيد والفولاذ في مكان ما كذئبين أسيرين"، وكذلك في هذا المقطع من قصيدة بعنوان احتضار 1985:

لو شطروا أطفالنا كالإسفنج، ونشروا دماءهم على مطالع الكتب والتماثيل، لن نخونكِ يا حبيبة، أبدًا من خلف الشوارع والنجوم والأدغال، من خلف البكارات الرطبة والدموع الزرق، سنرقب طيوركِ وقراكِ المزوبعة كأوراق الصحف في الشارع، سننغرس على حدودك كالكلاَّبات.

*** *** ***

السفير


 

horizontal rule

*  كاتب ومخرج سينمائي سوري.

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني