غرائب الكون المرئي
د. جواد بشارة
المادة
السوداء أو المظلمة والطاقة السوداء أو الداكنة والمعتمة، الثقوب
السوداء والثقوب الدودية، هي جزء من ألغاز الكون وغرائبه التي تتحدى
العلم والعلماء منذ أكثر من قرن من الزمان، ومع ذلك لم يستسلم البشر
وما زالوا مثابرين في عملية البحث والتقصي لمعرفة أسرارها وفك شفرتها
وتحليل أسبابها وتداعياتها واكتشاف قوانينها.
في كل يوم يظهر في الغرب المتقدم كتب وأفلام علمية وتقام محاضرات
وندوات ومؤتمرات علمية في شتى فروع العلم وبالأخص علم الكونيات
والفيزياء الكونية وبالرغم من ذلك يزداد الغموض وتتكاثر الألغاز بشأن
الكون المرئي. فهناك أحداث عجيبة وغريبة تحدث على الدوام في الكون
المرئي مثل الرقص العشوائي للكواركات
quarks،
وهي الجسيمات مادون الذرية التي تعتبر أحد مكونات نواة الذرة، والفالس
التقليدي لمنظومات نجمية مكونة من نجمين أو ثلاثة أو أكثر تدور حول
بعضها البعض بإيقاع خاص ومحدد، وجسيمات الله أو بوزونات هيغز
Les
particules de Dieu ou Bosons de Higgs
اللغزية التي تمنح باقي الجسيمات كتلتها منذ
الانفجار العظيم أو البغ بانغ
Big
Bang
والدوران المهول للمجرات في كوننا المرئي والتي
تخضع كلها لمبدأ فيزيائي عظيم ومجهول تسيره معادلة كونية واحدة يسعى
البشر منذ آلاف السنين إلى اكتشافها، هذا فضلاً عن لغز المادة السوداء
matière
noire
والطاقة المعتمة أو الداكنة
énergie
sombre
حيث ثبت بالحسابات الرياضية أنها تشغل 73%
من مكونات الكون المرئي في حين تشغل المادة السوداء
نسبة 23%
بينما لا تتجاوز المادة العادية الملموسة التي
يتكون منها كل شيء مادي في الكون المرئي من مجرات ونجوم وكواكب
ومخلوقات أو كائنات حية نسبة 0.4%
إلى جانب 3.6%
من الغازات الكونية. وهناك أيضًا المفارقات أو
التناقضات التي تفرزها القوانين الفيزيائية. فعلى سبيل المثال قال
قانون نيوتن إنك إذا ركضت خلف شعاع الضوء بسرعة فقد تلحق بشعاع الضوء
إذا بلغت سرعته لكن قوانين كلارك ماكسويل عن الكهرومغناطيسية تمنع ذلك
وتقول باستحالته، ولقد أكد آينشتين استحالة التنقل بسرعة الضوء. قد
يكمن الرد بافتراض أننا ينبغي أن نعتمد مبدأ تنوع سرعات الضوء وليس
سرعة واحدة ثابتة ومطلقة كما قال آينشتين إذ قد تكون هذه السرعة، وهي
300000 كلم في الثانية، التي قسناها وتأكدنا من صحتها، صالحة داخل
كوننا المرئي فقط، أو ربما داخل مجرتنا درب التبانة فحسب، وتكون مختلفة
خارجها، فالزمان والمكان حسب آينشتين لا يتأثران فقط بحركة المراقب بل
أنهما قد ينحرفان ويلتويان أو ينبعجان تبعًا لوجود المادة والطاقة التي
تعترض طريقهما مما يحدث تشوهات في نسيج الزمكان حيث أن هذا الأخير ليس
مجرد خلفية للأحداث بل يلعب دورًا جوهريًا في حدوثها. وهناك الانحناء
الهندسي الرقيق لشكل الفراغ الناجم عن النسبية والذي يتناقض مع السلوك
المتذبذب أو المتقلب على المستوى الميكروسكوبي اللامتناهي في الصغر في
العالم الكوانتي أو الكمومي في ميكانيكا الكم أو الكوانتا. ولتجاوز هذا
التناقض ينبغي اعتماد الحل الكوانتي الذي يقول بتعدد الأبعاد المكانية
المظفرة بقوة في نسيج الكون المرئي المطوي. فالنسيج الميكروسكوبي
لعالمنا هو عبارة عن متاهة متعددة الأبعاد مجدولة بغزارة تتذبذب وتلتوي
داخلها أوتار العالم المادي بشكل لا نهائي في إيقاع متناغم ينبثق عنه
أو يلفظ قوانين الكون التي نعرفها والتي تتحكم بتمدد المكان والزمان
كما تقول نظرية الأوتار الفائقة التي تطرح فكرة أن كوننا المرئي ولد من
جراء تصادم كونين متوازيين هما عبارة عن غشائين أو فقاعتين أوليتين من
ضمن عدد لانهائي من الأكوان - الأغشية أو الأكوان - الفقاعات التي كانت
موجودة قبل الانفجار العظيم على شكل وجود افتراضي أو معلومة حاسوبية
تختزن كافة المعلومات التي ظهرت للوجود مع ظهور الكون المرئي الذي نجم
عن الانفجار العظيم من نقطة لانهائية في الصغر ولانهائية في كتلها
وكثافتها ودرجة حرارتها.
الزمان والمكان
l’espace et le temps،
أكثر من أي مصطلح آخر في الكون المرئي، يثيران المخيلة والتفكير
والتأمل، لأنهما يمثلان المسرح الذي يدور فوق خشبته مشهد الواقع
la
réalité.
فالزمكان
l’espace - temps،
الآينشتيني، بعد أن دمج هذا العالم الفذ الزمان بالمكان في وحدة
متداخلة واحدة، هو البنية الأساسية للكون المرئي ومع ذلك يعجز العلم عن
معرفة الماهية الحقيقية لهذا المكون الجوهري للوجود المادي فهل هو
كينونة فيزيائية حقيقية أم مجرد فكرة ليس إلا؟ ولو كان الزمان والمكان
كينونات حقيقية فهل هما جوهريان وأوليان ليس هناك ما يولدهما، أم أنهما
جزء من مكونات أولية
constituants élémentaires
أخرى غير معروفة أو غير مكتشفة بعد؟ وإذا كان هذا
هو واقع الحال فماذا يعني الفراغ بالنسبة للمكان؟ وهل هناك بداية
للزمان؟ وما سر اتجاه الزمان أو ما يسمى سهم الزمان
flèche
du temps؟
وهل يسير هذا الأخير على نحو حتمي من الماضي إلى المستقبل؟ وهل سنتمكن
يومًا ما من التلاعب بالمكان والزمان والسيطرة عليهما أو التحكم بهما
بغية تحقيق الترحال في أرجاء الكون المرئي المهولة؟ ولا ننسى معضلة
الواقع
la
réalité
فما هو الواقع حقًا؟ فنحن البشر نمتلك تجارب
الإدراك الحسي والتأمل الداخلي والتفكير العقلاني والربط والاستنتاج
المنطقي ولكن كيف نتيقن أن ملكاتنا الشعورية والحسية تقدم لنا صورة
صادقة وحقيقية للعالم الخارجي المحيط بنا؟ فالفلاسفة والمبدعون من
الشعراء والروائيين والسينمائيين صاغوا لنا عوالم اصطناعية وافتراضية
أنتجتها محاكات نورولوجية-عصابية ذات تكنولوجيا عالية ومتقدمة جدًا
وبالأخص الخدع والمؤثرات البصرية الخاصة والمتقنة جدًا، وفي نفس الوقت
هناك العديد من علماء الفيزياء والكونيات والفلك يعون بقوة أن الواقع،
كما نرصده ونشاهده - أي المادة التي تتطور وتتفاعل على مشهد أو مسرح
المكان والزمان أو الزمكان - قد لا يكون لها أية صلة مع الواقع الحقيقي
الذي لا يمكننا إدراك كنهه وسبر أغواره، هذا على افتراض وجود مثل هذا
الواقع الحقيقي
la
réalité réelle،
والحال أننا نعتمد فقط على مشاهداتنا ورصدنا ومعداتنا البدائية رغم
تطورها وتقدمها التكنولوجي، قياسًا بما هو مطلوب، لرصد حقيقة الكون
المرئي ومعماريته وهندسته وشكله وأبعاده، ونتوسل لغة الرياضيات
والمعادلات والحواسيب المتطورة العملاقة التي تتيح لنا القيام بعملية
محاكاة تبعًا لما لدينا من معطيات. ومن هناك ننطلق للبحث عن النظرية
الأكثر بساطة وعمومية وأناقة تستطيع أن تفسر أغلب الظواهر الكونية
وتتنبأ أو تتوقع نتائج التجارب التي تجرى اليوم وغدًا. وبعد أن ترسخت
نظريتان على مدى قرن من الزمان هما النسبية لآينشتين والكوانتية لبلانك
ومجموعة من العلماء الأفذاذ بعده، لشرح اللامتناهي في الصغر
واللامتناهي في الكبر، اصطدمنا بصعوبة إن لم نقل استحالة التوفيق
بينهما وتزواجهما لإنتاج نظرية واحد موحدة وجامعة تفسر لنا الكون
المرئي وما فيه، والإجابة على كل التساؤلات المطروحة أعلاه والتي سوف
نعالجها في سلسلة من الدراسات اللاحقة.
بات من الجلي أننا بحاجة اليوم إلى أفكار ومناهج جديدة كليًا، ولأن
يتجرأ العلماء والباحثون للولوج في أعماق المجهول وسلوك دروب جديدة
بدلاً من التجمد عند حالة نظرية تسود لفترات طويلة من الزمن قد تمتد
لعدة قرون ولا يسمح لأحد بخرقها أو تجاوزها أو نقدها كما كان الحال مع
الفيزياء الكلاسيكية أو الميكانيكا النيوتنية وبعدها مع النسبية
الآينشتينية واليوم مع نظرية الأوتار الفائقة والنظرية، بعد أن أتخمت
المكتبات بمؤلفات تجاوزت المائة ألف صفحة عن نظرية الأوتار وحدها كمثال
إلخ. وبالتالي يتعين على العلم اليوم أن يرفع راية مواجهة العديد من
التحديات العلمية كالسيطرة على الزمان والتحكم به وتغيير اتجاهه والسفر
في أتونه والتنقل فيه بحرية بين الماضي والحاضر والمستقبل، وكشف حقيقة
الثقوب السوداء والمادة السوداء والطاقة المعتمة أو الداكنة أو السوداء
والمادة المضادة ووزن الكون وحقيقة مكوناته وإثبات وجود الحضارات
الكونية الأخرى والاتصال بها ومعرفة سر ما قبل الانفجار العظيم وأسباب
حدوثه ومصير وليده الكون المرئي... إلخ على سبيل المثال لا الحصر.
كلما حاول الإنسان البحث في عمر الزمان توجب عليه أن يذهب بعيدًا إلى
الوراء، إلى اللحظة الأولى التي وسمت بداية المكان والزمان أو الزمكان،
مجازيًا أو افتراضيًا، وهو رقم تقديري ليس إلا. أي يتعين على الإنسان
ركوب الزمن والعودة إلى 13.700 مليار سنة وأكثر هي عمر الكون المرئي
التقليدي. رصدت أقوى التلسكوبات الفضائية البشرية مؤخرًا نقطة مضيئة
بعيدة جدًا تقبع في عمق أعماق الكون المرئي على مسافة قدرت بـ 12.9
مليار سنة ضوئية وهي لمجرة في طور التكوين سميت آي أو ك واحد
IOK-1
وهي الحروف الأولى لأسماء العلماء الذين اكتشفوها
وهي أبعد جرم فضائي رصده الإنسان في الوقت الحاضر حيث ولدت تلك المجرة
عندما كان عمر الكون لا يتجاوز بضعة مئات من ملايين السنين، ولكن ليس
هناك ما يمنع في المستقبل، ومع تقدم أجهزة الرصد، من العثور على مجرات
ونجوم أقدم عمرًا بكثير وأبعد مسافة مما نستطيع اليوم مشاهدته، مما
يمكن أن يخلق مفارقة أن يكون عمر المجرة أو النجمة أقدم من عمر الكون
التقديري المتفق عليه الآن. لقد استغرق الشعاع الصادر عن تلك المجرة كل
هذه المدة والمسافة ليصل إلينا اليوم ويخبرنا عنها كما كانت عليه حاله
آنذاك. فكلما توغلنا في العمق مكانيًا كلما توغلنا أعمق في دهاليز
الزمان وهذا يعني أننا، وبحكم ثبات سرعة الضوء كما نصت عليها نظرية
النسبية لآينشتين وحددتها بحوالي 300000 كلم في الثانية الواحدة، لا
يمكن أن نرى النجوم إلا في ماضيها البعيد. فضوء القمر يحتاج لثانية لكي
يصل إلى الأرض لذلك نراه وهو في حالته الراهنة وفي زمنه الحاضر بينما
يستغرق ضوء كوكب المريخ ثمان دقائق تقريبًا لكي يصل إلى الأرض فنحن لا
نعرف ما يحدث داخل المريخ إلا بعد مرور هذه الدقائق الثمانية. لذا فإن
ضوء نجمة الفيغا
Véga
يحتاج 26 عامًا لكي يبلغ كوكب الأرض بينما يحتاج
ضوء نجمة آنتاريوس
Antarèse
إلى 600 سنة، ويحتاج ضوء نجمة دينيب
Deneb
إلى 3000 سنة، ويطمح العلماء بتوجيه تلسكوباتهم نحو
أعمق نقطة في الكون بغية الوصول إلى لحظة الانفجار العظيم. ويعمد
العلماء كل عقدين أو ثلاثة عقود إلى تطوير تلسكوباتهم وجعلها أكثر
فعالية وكفاءة وجودة وتقنية خاصة التلسكوبات الفضائية الموجودة في مدار
الكرة الأرضية. وقد تمكنت بعض التلسكوبات التي أطلقت هذا العام من
التقاط صور واضحة عن مكونات الكون المرئي لم يسبق لها مثيل، وستتمكن
التلسكوبات التي ستطلق بين 2019 و2040 من رسم خارطة مجسمة ثلاثية
الأبعاد للكون المرئي، مثل
JWST,
ELT,
SKA,
GMT,
E-ELT,
GAIA,
EUCLID
وهي إما أرضية أو فضائية. والجدير بالذكر أن مرقاب
أو تلسكوب بلانك
planck،
سنة 2010، تمكن من التقاط صورة نادرة للكون وهو جنين يعود تاريخها إلى
380000 سنة بعد الانفجار العظيم بفضل الإشعاعات الكوزمولوجية المنتشرة
المتحجرة أو الخلفية
fond
diffus cosmologique.
ولكن هل سيتمكن العلماء يومًا ما من رؤية أو رصد مرحلة ما قبل حدوث
الانفجار العظيم، لو كان هناك ما يمكن أن نسميه "قبل" هذا الحدث؟ وبعد
هذه الخطوة سيحاول العلماء معرفة الجانب الخفي للكون المرئي أي الجانب
غير المرئي والمتمثل بإثبات وجود المادة السوداء والطاقة الداكنة أو
المعتمة ومعرفة ماهيتها وطبيعتها وكميتها ودورها أو وظيفتها، والذي
يمثل أكثر من 95%
من مكونات الكون المرئي حتى في كونها غير مرئية، إذ
إن ما نراه ونرصده لا يتعدى نسبة 5%،
فما هو سر هذه الكينونات الغامضة؟
في سنة 1933 نوه عالم الفلك والفيزياء الفلكية فريتز زفيكي
Fritz
Zwicky،
وللمرة الأولى، إلى احتمالية وجود مادة غير مرئية أو خفية
matière
invisible
بعد أن حلل نتائج مرصد جبل ويسلون بشأن مجموعة
مجرات لحشد الكوما
galaxies de l’amas de coma
لكنه كان صعب المراس وعصبي المزاج فلم ينجح بإقناع
زملائه بصحة فرضيته وأهمية اكتشافه آنذاك. وفي السنوات الأربعين التي
أعقبت ذلك التاريخ، وبعد إثبات حقيقة توسع وتمدد الكون المرئي وتباعد
المجرات عن بعضها بسرعات عالية، ونجاح مسرعات ومصادمات الجزئيات في
اكتشاف أنواع أخرى كثيرة من الجسيمات الأولية، أعاد العلماء النظر في
فرضية زفيكي. في سنة 1970 درست عالمة الفلك الأمريكية فيرا روبين
Véra
Rubin،
دوران المجرات اللولبية، في مؤسسة كارنيجي
Institution Carnegie
في واشنطن، والتي تعتبر مجرة درب التبانة
la Voie Lactée
واحدة منها، والتي تضم كل واحدة منها مئات
المليارات من النجوم والغيوم الغازية والأغبرة الكونية. وقد لاحظت هذه
العالمة للوهلة الأولى أن نجوم مجرة آندوميدا
Andromède
الواقعة في محيط وأطراف المجرة تدور بسرعة أكبر من
سرعة دوران النجوم القريبة من مركز المجرة أي أسرع مما ينص عليه قانون
الثقالة أو الجاذبية
gravitation،
ونفس الشيء في باقي المجرات التي أخضعتها لمراقبتها ودراستها، فما كان
منها إلا أن تستلهم وتتبنى فكر العالم فريتز زفيكي، وقدمت بدورها فرضية
تقول إن المادة الموجودة في النجوم والغيوم المحيطة بها لا تشكل سوى
جزء ضئيل من الكتلة الكلية للمجرات. فأين يختفي الجزء الباقي والأكبر
من كتلة المجرات، حتى بعد دراسة وحساب كمية المادة المحتجزة أو
المسجونة داخل الثقوب السوداء في كل مجرة والتي لم تسمح بتفسير هذه
الظاهرة؟ إن الكمية المفقودة من المادة لا يمكن أن تتركز في مراكز
المجرات لأن نجوم الأطراف والمحيط أو الضواحي هي التي تدور بسرعات أكبر
من سرعة دوران نجوم المركز، من هنا لابد وإن المادة غير المرئية، التي
سميت بالمادة السوداء
matière
noire
منتشرة من حول، وما بين، وفي داخل، المجرات. ومنذ
ذلك الوقت والعلماء يتسابقون لمعرفة طبيعة ومكونات هذه المادة السوداء
وقدموا عشرات الفرضيات والاحتمالات لكنها لم تكن مقنعة أو كافية. كان
أغرب افتراض قدمه العلماء أن هذه المادة تتكون من ذرات سوداء
Atomes Noirs
في محاولة لتفسير افتقاد أو ندرة المجرات القزمة
galaxies naines
بافتراضهم أن هذه المجرات غير مرئية لأنها مكونة من
المادة السوداء. وقد افترض العالم الفيزيائي كريستوفر ويلز
Christopher Wells
في نظريته أن تلك المادة السوداء مكونة بدورها من
ذرات هيدروجين سوداء على غرار ذرة الهيدروجين العادية أي من بروتون
أسود يدور حوله الكترون أسود. بعبارة أخرى إن الكون مليء بنسبة 5%
بالمادة العادية المرئية التي نعرفها ونراها
ونتعاطى معها، والباقي من المادة السوداء التي لا تحتك ولا تتفاعل مع
المادة التي نحن مكونين ومصنوعين منها، بل هي تتفاعل فيما بينها فقط
وتتبادل فيما بينها الفوتونات السوداء. وهي تخضع اليوم للاختبار
وعمليات المحاكاة الكومبيوترية لتحسينها. بل إن بعض العلماء، ومنهم ممن
يحمل جائزة نوبل، تخيلوا وجود كون كامل غير مرئي مكون من المادة
السوداء متداخل وممتزج بكوننا دون أن ندرك وجوده ويعمل على غرار كوننا
بالضبط وفيه كواكب سوداء ومجرات سوداء تملأ الزمكان الأسود المجاور
لزمكاننا، ولو عثرنا على المادة السوداء فإننا نكون قد عثرنا على
مؤشرات على وجود كون خفي هو عبارة عن مرآة لكوننا ولكن بقياسات أكبر
بكثير نظرًا لتفوق كميات المادة السوداء على كميات المادة العادية، حيث
تمثل نسبة 23%
من مكونات الكون المرئي، ويمكن أن يضم مثل هذا
الكون الأسود "حياة سوداء"، وعلماء سود، يتساءلون ويبحثون بدورهم عن
المادة العادية غير المرئية بالنسبة لهم.
وبموجب معادلة الكتلة والطاقة التي وضعها آينشتين
E=MC2
يمكن النظر إلى المادة كشكل مكثف جدًا من الطاقة.
ففي كل لحظة بعد التفاعلات الكيمائية والنووية يمكن للطاقة، الموجودة
على شكل إشعاعات، أن تتحول إلى جسيمات مادية والعكس صحيح. ولكن بما أن
الجزء الأكبر من مادة الكون تفلت من رصد أجهزتنا الاستشعارية فهل هذا
ينطبق على النوع الآخر من الطاقة المسمى بالطاقة الداكنة أو المعتمة
énergie
sombre؟
الجواب هو بالإيجاب. ويعتبر العلماء أن هذه الطاقة المعتمة المجهولة
الماهية تمثل ما بين 73%
و80%
من مكونات الكون المرئي. أما عن دور ووظيفة هذه
الطاقة فهو خلق قوة معاكس للثقالة أو الجاذبية الكونية مما يعمل على
دفع المجرات للهروب والابتعاد بعضها عن البعض وتحل محل الثابت الكوني
الشهير الذي افترضه آينشتين في بدايات القرن العشرين عند طرحه لنظريته
النسبية.
سنتناول في هذا المقال وفي مقالات قادمة لغز الثقوب السوداء، وثغرات
نظرية الأوتار الفائقة، وميكانيك الأكوان المتعددة والمتوازية والأكوان
التوأم، وبوزونات هيغز، والمادة المضادة.
الثقوب السوداء والثقوب الدودية
من أغرب المواضيع التي تدرسها الفيزياء الفلكية وعلم الكون هو موضوع
الثقوب السوداء والثقوب الدودية
Trous
noirs et trous de Vers،
وقد نشأ هذا التخصص مع ظهور نظرية النسبية لآينشتين
La
relativité générale d’Einstein
في بداية القرن العشرين المنصرم. فبعد فترة قليلة
من نشر أبحاث آينشتين في النسبية وجد العالم كارل شفرادزشايلد
Karl Schwarzschild
حلاً لمعادلات آينشتين المتعلقة بفرضية الثقب
الأسود حتى قبل ظهور هذه التسمية رسميًا وعلميًا حيث ساد هذا التعبير
سنة 1967 من قبل العالم الشهير جون آرشيبالد ويلير
john
Archibald Wheeler
بالرغم من اعتراض آينشتين نفسه. وفي سنة 1971 جاء
البرهان العلمي عندما رصد علماء الفلك النجمة الثنائية أو المزدوجة
étoile
binaire
والتي عرفت باسم سيغنوس إكس واحد
Cygnus
X-1،
حيث وجدوا أن أحد عناصرها يبدو عليه أنه يمتلك كل صفات وخصائص الثقب
الأسود كما صرنا نعرفها اليوم. وميزوها بدقة عن نوع آخر من النجوم التي
سميت بالنجوم النيوترونية
étoiles
à neutrons،
وتزايدت المناطق الكونية التي عثر فيها علماء الفيزياء الفلكية وعلماء
الكونيات على عدد كبير ومتنوع من الثقوب السوداء، في الميكروكازارات
microquasars،
والأنظمة الشمسية الثنائية أو المزدوجة، وفي قلب المجرات. وبالرغم من
المعرفة المعمقة والمتراكمة عن الثقوب السوداء إلا أن العلماء مضطرون
للاكتفاء اليوم بالتأثيرات غير المباشرة لهذه الكينونات الكونية ويأمل
العلماء قريبًا بالحصول على صورة حقيقية لثقب أسود مع تقدم علم
البصريات وتكنولوجيا التصوير الفوتوغرافي والسينمائي.
وبالرغم من هذا التقدم العلمي والتكنولوجي الهائل، فإن الكون المرئي ما
يزال يدهشنا من اللامتناهي في الصغر إلى اللامتناهي في الكبر، كلما
تقدمنا في الكشف عن أسرار بنيته وهيكليته ومعماريته، سواء تعلق الأمر
بالكواكب أو النجوم والمجرات، والثقالة أو الجاذبية التي تسير وتتحكم
بسير وعمل وتنظيم الكون الحي وتتحكم بحركاته وتطوره ومستقبله ومصيره.
ويقال في الوسط العلمي الفيزيائي والفلكي إن دراسة الثقوب السوداء تعني
دراسة كل المسائل الشائكة في علم الكون الكوزمولوجيا
cosmologie
وعلم الفلك
astronomie،
بعبارة أخرى، إننا نرى الكون برمته من خلال دراسة هذه الظاهرة الكونية
وعلاقتها بالنسبية العامة وميكانيك الكم أو الكوانتا وفيزياء الطاقات
القصوى والنظريات الحديثة عن المكان والزمان أو الزمكان.
هناك أنواع متعددة من النجوم فحوالي 90%
من النجوم بما فيهم شمسنا تمتلك كتلة هي أدنى من
الكتلة الكبرى التي تساوي عشرة أضعاف كتلة الشمس فما فوق، فالنجوم التي
تقل كتلتها عن 3.50 أو أربعة أضعاف كتلة الشمس أو تعادلها، تولد، عند
انتهاء عمرها وقرب أجلها، أقزامًا بيضاء
naines
blanches
لا تتجاوز في حجمها حجم الأرض وربما أصغر، لكنها
أكثر كثافة بمليون مرة أو أكثر، في حين تتحلل أو تذوب الغازات الخارجية
الكوكبية المحيطة بها. وهناك 9.9%
من النجوم الباقية التي تتجاوز كتلها عشرة أضعاف
كتلة شمسنا فإنها تنفجر في مسعار كبير سوبر نوفا
supernovae
حيث يتقلص قلبها إلى كرة لا يتجاوز قطرها 15 كلم
ويتحول بعضها إلى نجوم نيوترونية
étoiles
neutrons،
يمكن مقارنة كثافتها بكثافة نوى الذرات
noyaux
atomiques
في حين يكون الضغط السائد في قلبها مرتفعًا إلى درجة تجعل القوانين
الفيزيائية تتعرض لمحنة أو لشبه شلل وتوقف شبه تام، مما جعل بعض
العلماء يتكهن بوجود نوع آخر من النجوم سميت بالنجوم الغريبة
étoiles
étranges،
مكونة من كواركات
quarks
وهي قريبة في حجمها وكتلتها من النجوم النيوترونية
والتي يصعب تمييز صفاتها وخصائصها المرصودة والمرئية
observationnelles،
وأخيرًا إذا كانت كتلة النجمة تزيد على 30 ضعف كتلة شمسنا فإنها سوف
تنفجر في آخر أيامها على شكل هيبرنوفا
hyper
novae
وتظهر لنا على شكل قفزات أو نفضات شعاعية من أشعة
غاما
sursaut
gamma
وإن نواتها ستنهار على شكل ثقب أسود
trou
noir
نتيجة للجذب الثقالي الجبار الموجود في تلك النواة.
إن النجوم الثقيلة جدًا وذات الكتل الهائلة، نادرة مقارنة بعدد نجوم
الكون المرئي المعروفة ولا تتجاوز النسبة واحد بالألف. وفي مجرتنا
وحدها هناك حوالي 200000 نجمة من هذا النوع من مجموع 200 مليار نجم،
لذلك يمكننا أن نتوقع ولادة بضعة ملايين من الثقوب السوداء بمختلف
الأشكال والأحجام، هناك حفنة منها يمكن رصده على نحو مباشر. كان لنظرية
النسبية الفضل في الكشف عن وجود الثقوب السوداء نظريًا. فقد كشفت هذه
النظرية عن أن الكون المرئي ليس إطارًا ساكنًا وثابتًا لا يتغير تحدث
فيه الأحداث بفعل قوى معينة، بل هو عبارة عن بنية أو هيكلية
structure
بأربعة أبعاد، ثلاثة مكانية وواحد زماني، يشوه
ويحني الزمكان بفعل الكتل والجاذبية. وتشير معادلات آينشتين كيف أن
درجة الانحناء للزمكان تعتمد على تكثف المادة بما فيها كافة أشكال
الطاقة. إذ إن الثقوب السوداء تنجم عن التزاوج بين المادة والهندسة
المكانية، بعبارة أخرى إنه يجمع ويركز كمًا هائلاً من الطاقة في منطقة
مكانية صغيرة ومركزة جدًا بحيث يكون كمن يحفر بئرًا. فكل جسيم وكل شعاع
ضوئي يلج في منطقة حرجة محددة بإطاره أو حافته، اللامادية
immatériel
يتم امتصاصه ويحتجز أو يسحب إلى أعماقه، وهي منطقة
تأتي مباشرة بعد أفق الحدث
horizonne d’événement.
إن صفات وخصائص الثقوب السوداء من الغرابة بمكان أنها اساءت لمصداقية
المفهوم، ذلك لأن الثقوب السوداء تمس جوهر أو أسس مفاهيمنا للمكان
والزمان وهي خصائص غريبة وشاذة ومخالفة للمألوف
extravagantes.
لذلك حاول بعض العلماء المتخصصين بالثقوب السوداء تقديم تفاسير
لسلوكياتها المتناقضة أحيانًا رغم البساطة الظاهرية التي تبدو عليها
كبساطة الجسيمات الأولية ويمكن تطبيق الوصف الترموديناميكي
description thermodynamique
عليها أي باعتبارها كتل مضغوطة ومصغرة جدًا قابلة
للنمو وكذلك قابلة للتبخر كما قال بذلك العالم البريطاني ستيفن هاوكينغ
Stephen
Hawking
وقد أطلق هاوكينغ على فرضيته تسمية ظاهرة التبخر
الكمومي أو الكوانتي
phénomène d’évaporation quantique
التي أثارت الكثير من السجالات والتساؤلات
والاعتراضات مما يعكس عدم فهمنا للثقالة أو الجاذبية الكمومية أو
الكوانتية
gravité
quantique،
ومما يوفر في نفس الوقت مختلف المفاهيم أمام المنظرين للتعاطي مع هذه
الظاهرة، بمعنى آخر إن الثقوب السوداء تلعب دورًا جوهريًا وأساسيًا
لتخطي حدود الفيزياء الحالية.
إن لوي أو حني الزمكان الناجم عن تأثير ثقب أسود، مسؤول عن التواءات
واعوجاجات أو انحرافات ملفتة ومدهشة. فمعادلات النسبية العامة تسمح
بحساب انتشار الإشعاعات الضوئية داخل المجال الثقالي أو الجاذبي
champ
gravitationnel
للثقب الأسود، وبالتالي، ومن خلال هذه الطريقة،
يمكننا الحصول على صور مدهشة ومذهلة للتشوهات البصرية
déformations optiques
التي تعزى لتأثير ثقب أسود يضاعف الصور الناجمة عن مصدر واحد. في خضم
محاولات رصد الموجات الثقالية أو الجاذبة
ondes
gravitationnelles
بدت صعوبة التقاط إشارة ثقالية جاذبة بعثت إبان
تشكل ثقب أسود عند انفجار هيبر نوفا
hypernovae
أو أثناء تصادم ثقبين أسودين. ومع ذلك فإن التخصصات
الفلكية في المجال الثقالي ستكون أحد المفاتيح لكي تفتح أمام عمليات
الرصد مناطق في الزمكان لا تزال عصية على الاختراق. كانت فرضية الثقوب
السوداء في البداية مجرد بناء نظري وكانت غاية علماء الفلك هي معرفة
أين وكيف يمكن مراقبتها ومشاهدتها إن أمكن ذلك بعد إثبات حقيقة وجودها
علميًا وعمليًا. وبفضل الفيزياء الفلكية النسبوية، أي المجال الثقالي
القوي أو الشديد،
champ
gravitationnel fort،
بتنا نعرف أنه بفضل آلية الانهيار الثقالي
effondrement gravitationnel،
يمكن أن تتشكل ثقوب سوداء بمختلف الأحجام والكتل، ويمكن لهذه الثقوب أن
تتجلى لنا، وإن على نحو غير مباشر، من خلال تأثيراتها على ما يحيط بها
وبالتالي قابلة للمشاهدة والرصد بطريقة أو بأخرى. فالثقب الأسود
المنعزل سيكون بالتأكيد غير مرئي ويصعب رصده، ولكن ثقب أسود طبيعي من
النادر أن يكون عاريًا ومنعزلاً عما يحيط به. وعندما يسبح داخل محيط
غني بالغازات والنجوم فإنه سيمتص المادة المغلفة ويتغذى عليها. والحال
إن المادة المبتلعة سوف تعلن عن نفسها وتؤشر على اختفائها من خلال بعث
إشعاع كهرومغناطيسي
rayonnement électromagnétique
وهو الأثر الدال الذي يحاول علماء الفلك رصده.
يمكن لثقب أسود ذو كتلة نجمية
masse
stellaire،
يكون جزءًا من نظامي نجمي ثنائي أو مزدوج
système
binaire،
أن يمتص الغلاف الغازي لنجمته المرافقة له. وقبل أن يختفي، يتسخن الغاز
بعنف باعثًا إضاءة متميزة ضمن سلم أو نسق إشعاعات ذات الطاقة العالية
القصوى. وهناك تلسكوبات فضائية موجودة على متن أقمار صناعية في المدار
الأرضي تعمل بأشعة إكس
Rayons
X
تبحث باستمرار عن ثقوب سوداء نجمية في أنظمة النجوم
المزدوجة ذات إضاءات أو لمعانات متنوعة، وقد نجحت تلك التلسكوبات في
اكتشاف مئات المصادر الضوئية بأشعة
Rayons
X
المزدوجة في مجرتنا، البعض منها كان تائهًا أو
هائمًا، أي أنها تبعث ومضات عشوائية من إشعاعات إكس
Rayons
X
لبضعة ثواني. ولتفسير هذه الظواهر طور العلماء
نموذج "قرص التضخم الجرمي الناشئ من قوة جاذبيته"
disques
d’accrétion
حيث يسقط غاز ساخن في حالة دوران لولبية داخل الثقب
السود. يصاحب عملية السقوط ارتفاع في درجة الحرارة وانبعاث للإشعاعات.
ويقدر العلماء أن القفزات الضوئية تأتي من مناطق تقع قبل قرص التضخم
النجمي
disques
d’accrétion
وتكون حارة جدًا ومثيرة للاضطرابات والتهيجات، وقد
تم الكشف عن وجود حوالي 20 ثقب أسود من هذا النوع في مجرتنا درب
التبانة
La Voie
lactée.
وإلى جانب الثقوب السوداء النجمية، فإن نظرية الانهيار الثقالي تسمح
بوجود ثقوب سوداء وسطية
trous
noirs intermédiaires
كبيرة الكتلة
massifs
وضخمة أو هائلة الضخامة
super
massifs
وكتلها تتجاوز بألف أو مليون أو مليار مرة أو أكثر
بكثير كتلة شمسنا. وقد اقترح العلماء ثلاث آليات لشرح هذه الظواهر
الكونية العملاقة. فهي إما أن تكون ثقوب سوداء أساسية تعود في وجودها
للحظات الأولى من عمر الكون المرئي
primordiaux،
تشكلت من تكثف روبات كبيرة
gros
grumeaux
في عجينة الكون المرئي البدائي قبل 13 مليار سنة.
الآلية الثانية هي صيرورة تستند إلى حالة النمو الذي لا يقاوم للثقوب
السوداء، أي أن هناك نوع من الثقوب السوداء ينحو للتضخم والنمو
باستمرار لا يمكن عكسه أو مقاومته. الآلية الثالثة هي حالة الانهيار
الثقالي المباشر لحشد أو تكدس من النجوم. أين يمكننا العثور على تلك
الثقوب السوداء العملاقة؟ حيثما تتواجد المادة بكثافة وبالأخص في قلب
المجرات أو في حالة تصادم واندماج المجرات. يوجد في مركز مجرتنا ثقب
أسود هائل اسمه
Sgr A
وهو مصدر راديوي بامتياز يتميز بقوة تكثفه ومحاط
بحشد متراص من النجوم ذات سرعات دوران مذهلة تتجاوز إضاءتها أربع
ملايين مرة درجة إضاءة الشمس وحجمها هو أصغر من نظامنا الشمسي وكتلتها
بين عشرة ومائة مليون مرة أكبر من كتلة الشمس، ومن هنا فإن وجود ثقب
أسود هائل بكتلة أكبر بأربع مليون مرة من كتلة الشمس يسرع دوران ذلك
الحشد من النجوم، هو الفرضية الوحيدة التي تتوافق مع نتائج الرصد
والمشاهدة التي سجلتها تلسكوباتنا المتطورة الحديثة مؤخرًا.
تجدر الإشارة إلى أن فكرة وجود ثقوب سوداء عملاقة قد طرحت في سنوات
الستينات من القرن المنصرم القرن العشرين لتفسير النشاطات المكثفة لنوى
المجرات النشطة. وترتب على ذلك اعتقاد أن أغلب، إن لم نقل جميع، نوى
المجرات يمكن أن تحتضن ثقوبًا سوداء هائلة حيث يتحكم بنشاطها وديمومتها
توفر كميات مذهلة من الوقود الغازي، وهناك ثقوب سوداء ميكروسكوبية يمكن
خلقها في مسرعات أو مصادمات الهادرون الكبيرة مثل مصادم سيرن
CERN.
وللمزيد من المعلومات العلمية التفصيلية والتقنية الرصينة عن الثقوب
السوداء وأنواعها، يمكن مراجعة كتاب العالم الفرنسي جون بيير لومنيت
jean pierre Luminet
المعنون مصير الكون الثقوب السوداء والطاقة المظلمة أو المعتمة
Le Destin de l’Univers : trous noirs et énergie sombre
الصادر سنة 2010 وهو كتاب مهم جدًا بجزئين.
أما الثقوب أو الحفر الدودية
trous
de vers
فلها قصة أخرى ترتبط بما عرف في عالم الفيزياء
بالفردنات أو الفرادات الهندسية
Des géométries singulières
. فابتداءً من عام 1916 كانت معادلات نظرية النسبية
relativité générale
العامة لآينشتين
Einstein
قد توقعت وتنبأت بأن الكون المرئي يحتوي على "آبار
ثقالية جاذبة"
puits gravitationnels
ذات كثافة وانحناءة للزمكان لانهائيين أو
لامتناهيين، ولحلول رياضية سميناها بعد عدة عقود بالثقوب السوداء. وفي
سنة 1935 اكتشف آينشتين وروزين
Rosen
إنه باستبعادهما فرادات المجال
singularités du champ
وبتعديلهما بشكل طفيف لمعادلات الثقالة أو
الجاذبية، حصلا على حلول غير معقدة في حالة التناسق والتماثل الكروي
المشحون والساكن في سياق توازن القوى. كان الأمر مقتصرًا على تمثلات أو
تجليات رياضية
représentations mathématiques
لكنها تمثل فضاء فيزيائي مكون من صفيحتين متشابهتين
مرتبطين ببعضهما بجسيم يمثل جسرًا
pont.
وبالتوفيق بين معادلات الثقالة ومعادلات الكهرومغناطيسية توصل العلمان
المذكوران إلى نفس الاستنتاج وهو أن الصفائح المطوية على نفسها يمكنها
أن ترتبط بعدد من الجسور على المستوى الكوانتي أو الكمومي. وللحفاظ
عليها، لم يكن ممكنًا لتلك الجسور أن تضم جسيمات محايدة بكتلة سالبة.
فالجسيم المشحون الذي فكرا فيه كان عديم الكتلة
masse nulle،
بيد أنهما توقفا عند هذا الحد ولم يذهبا إلى أبعد من ذلك، أي لم يعالجا
حالة معادلات المجالات بجسيمات متعددة.
وقد عرف هذا الترابط بجسور آينشتين - روزين
ponts
d’Einstein – Rosen
وسماها الفيزيائيون بالفضاءات متعددة التوصيلات
espaces
multi-connexes،
ولم يفكر هذا العالمان آنذاك بإمكانية تطوير تلك التوصيلات أو
الترابطات بشأن الصفة أو الخاصية غير المستقرة للتقلبات الكوانتية أو
الكمومية
fluctuations quantiques.
في عام 1956 اشتغل العالم الشهير جون ويلير
John
Wheeler
على تلك التوصيلات الفضائية - المكانية وعند وصفه
لخصائصها وصفاتها وسمها بالحفر أو الثقوب الدودية
Wormholes
أو بالفرنسية
trous
de vers.
وهنا أيضًا علينا أن نشير إلى وجود عدد من الحفر أو الثقوب الدودية
المتنوعة وكلها كانت آنذاك عبارة عن مفاتيح رياضية أكثر من كونها أجسام
حقيقية.
هناك الثقب الدودي لشفارشايلد
Schwarzschild
وهو ثقب يستحيل اختراقه حسب هذا العالم لأنه في
مركز توجد فرادة
singularité.
وهناك الثقب الدودي راسنير نورستروم
Reissner Nordström
أو كير نيومان
Kerr
Newmann،
الذي يمكن اختراقه واجتيازه ولكن باتجاه واحد فقط. وهناك الثقب الدودي
للورنتز
Lorentz
ذو الكتلة السالبة
masse
négative،
ويمكن اختراقه واجتيازه بالاتجاهين.
في سنة 1988 طلب العالم الفلكي كارل ساغان
Carl
Sagan
من العالمين كيب ثورن
Kip
Thorne
وريشارد موريس
Richard
Morris
في جامعة كالتيش
Caltech
أن
يقدما له حلاً لاستغلال ثقب دودي على المستوى الماكروسكوبي بغية
استكشاف الكون المرئي بسرعة تفوق سرعة الضوء وذلك من أجل استخدامه في
روايته الشهيرة من الخيال العلمي اتصال
Contact
والتي أعدت للسينما في فيلم سينمائي جميل من بطولة
جودي فوستر. وفي إطار بحثهما عن حل علمي مقبول اكتشفا أن من الممكن
إبقاء ثقب دودي مفتوحًا بشرط استخدام مادة غريبة
matière
exotique
أو طاقة عالية جدًا لا يعرفها البشر اليوم أو مادة سالبة
matière
négative
على سبيل المثال لكي يبدو الحل منطقيًا. فلو حاولنا
صنع ثقب دودي من مادة موجبة
matière
positive
فإنه سينفجر إلى أشلاء بسبب كثافة طاقته العالية.
ولكي يكون للثقالة أو الجاذبية قوة طاردة أو نابذة
force
répulsive
يتعين على هذا الجرم الفضائي أن يقدم قوة ضغط سالبة
كما هو الحال مع ضغط النابض الميكانيكي
tension
d’un ressort
وبالتالي يجب أن تتجاوز هذه الكمية كثافة الطاقة
للمحافظة على تناسق أو اتساق المادة. ولو وجدت مادة سالبة يمكننا من
الناحية المبدئية - نظريًا - خلق ثقب دودي ثابت وساكن
statique
بمراكمتنا لتلك الكتل حول الفتحة.
تجربة الثقالة الجاذبية الكمومية أو الكوانتية
Expérience de la gravité quantique
بما أن المادة، داخل فرادة ما، تخضع لكثافة قصوى وتقلص إلى مستوى بلانك
échelle planck
مكانيًا، لم يبق سوى خطوة لامتناهية في الصغر يجب تجاوزها لإخضاع هذا
المحيط المادي لتقلبات الطاقة
fluctuations d’énergie
في نظرية الجاذبية أو الثقالة الكمومية أو
الكوانتية
théorie de la gravité quantique.
وهكذا دعم بعض الباحثين فكرة إن الفرادات يمكن أن تصب في نوافير بيضاء
fontaines blanches
أو ثقوب بيضاء
trous blancs
تنساب منها المادة المحررة. وكان آينشتين وروزين قد
اقترحا بجدية أن الصفائح المنطوية على نفسها للزمكان المرتبطة ببعضها
بجسور كوانتية أو كمومية يمكن أن تقودنا إلى مناطق أخرى من الكون
المرئي، أي إلى أماكن أخرى في الفضاء والزمان. بعبارة أخرى إمكانية
السفر وبلوغ النجوم القريبة والمجرات المجاورة بسلوكنا للثقوب الدودية.
وقد صرح العالم جون ويلير أن بإمكان فرادتين أن يرتبطا في الفضاء
الأقصى
hyperespace
بواسطة الثقب الدودي. المشكلة أن لا أحد من البشر
إلى حد الآن قادر على التعامل مع مثل هذا الممر ومنحه حجم على المستوى
الماكروسكوبي - الكوني. فمن الناحية النظرية، إن هذا الجسر في الفضاء
الأقصى
hyperespace
هو على مستوى بلانك يساوي 10-33 من
السنتمتر إلا أنه غير ثابت وغير مستقر وينغلق على نفسه في فضاء خلال 10-43
من الثانية ولو حاولنا تكبيره فسوف يدمر نفسه، فكما وصفه الفيزيائيون
إن الثقب الدودي ينتمي إلى الرغوة الكوانتية
écume quantique
ويخضع لقوانين الاحتمالية.
وبعد بضعة سنوات استعار العالمان ستيفن هاوكينغ من جامعة كمبردج
وكوليمان
coleman
من جامعة هارفارد، مفهوم ويلير
Wheeler
باقتراحهما أنه يمكن للزمكان أن يخضع لتأثير النفق
effet tunnel
مستخدمين الفكرة التي تقدم بها سابقًا العالم هيوغ
إيفيرت
Hugh Everett.
وعلى غرار الالكترونات التي يمكنها القفز من نقطة إلى أخرى في المكان
يمكن للكون أن يفعل نفس الشيء فتأثير النفق يخلق فتحات في رغوة الزمكان
التي تقود إلى أكوان أخرى وهي الأكوان الجيبية أو الأكوان الجيوب
Univers culs-de-sac
وكلها بشساعة كوننا المرئي ويمكن التوسع في ذلك
بالتوغل في ثنايا وأسرار الكوزمولوجيا الكمومية أو الكوانتية
cosmologie quantique.
وهو ما سنفعله لاحقًا.
من جانب آخر لا يمكننا، في حدود إمكانياتنا الحالية، تطبيق تأثير النفق
على كيانات ماكروسكوبية، وبالتالي يستحيل علينا حاليًا استغلال الثقوب
الدودية للسفر في أكوان أخرى بل فقط اختصار المسافات داخل كوننا
المرئي. ولو كان هذا حلاً ممكنًا لتخطي الفرادة فإن تأثير النفق لا
يطبق على الكيانات أو الكينونات الماكروسكوبية، في حين ثبت إحصائيًا
وجود فرصة مفتوحة على اللانهاية كي يتمكن جسم مألوف في حياتنا اليومية
من الانتقال آنيًا من مكان لآخر، وبالتالي فإن الصعوبة الحالية هي ذات
طبيعة تقنية تكنولوجية وليس استحالة علمية عملية. أي علينا أولاً إيجاد
طريقة تقنية وتكنولوجية قادرة على تفتيت مكوناتنا المادية الجسيمية
وإرجاعها إلى حالتها الأولية ما دون النووية ومن ثم نقلها آنيًا وبأسرع
من الضوء
téléporter
باستغلال تأثير النفق أو أية طريقة نقل أخرى، ومن
ثم إعادة تجميعنا وإعادة بناء جسيماتنا ومكوناتنا المادية إلى الحالة
السابقة لعملية التفتيت والنقل
téléportassions،
أو إعادة نسخنا في مكان آخر من الكون المرئي بصورة فورية وهذا ممكن
علميًا ومستحيل تقنيًا في الوقت الحاضر. يبحث العلماء بفضل الفيزياء
الكوانتية أو الكمومية عن جسيمات جديدة قادرة على إبقاء الثقوب الدودية
مفتوحة. وكان العالم لورنتز صرح أن الثقب الدودي يتطلب مادة غريبة أو
غير معروفة وغير مألوفة
exotique
لكي يبقى مفتوحًا لأنه يحتاج إلى طاقة أقل من
الفراغ الذي يشكل حالة الطاقة الدنيا. وقد يتمثل ذلك بالطاقة أو المادة
السالبة أو المادة المضادة
antimatière
التي تبقي حنجرة الثقب الدودي بعيدًا عن أفق
الفرادة المركزية
la
singularité centrale.
في دراسات لاحقة سوف نتحدث عن صناعة أو خلق الثقوب الدودية وتداعياتها
الفلسفية والفكرية وتطبيقاتها التكنولوجية.
*** *** ***