جماليات القبح،
ومتعة اللغة
علاء الدين عبد المولى
1
تعطي هذه النصوص، لنقل معظمها، نموذجًا عمَّا يمكن وصفه بالكتابة
الشعرية التي تعتمد على اللغة الفجَّة القاسية، وليس بالضرورة أن يكون
الفجُّ ذمًّا للحالة الإبداعية، بل هو توصيفٌ للمعجم اللغويِّ الذي
تستقي منه هذه الكتابة وتتغذَّى.
وقد تكمن خلفية هذه المسألة في وعي أحمد للغة الشعرية في واقع سيعتبره
أكثرَ فجاجةً ووقاحةً، ويمتلك كامل عناصر الاستفزاز والقذارة. وأحمد
كما هو واضحٌ في نصوصه يضع هذا الأمر في اعتباره، طالما أن هناك في
تاريخ الشعر ما يسمَّى "جماليات القبح"، التي تدور هذه النصوص في
مجالها.
إن هيمنة جماليات القبح على اللغة الشعرية شأن له محاذيره، وثمة خطٌّ
فاصلٌ وواهٍ بين أن تكون اللغة مسيطرةً على جماليات القبح، وأن تكون
هذه الجماليات مسيطرةً على اللغة، بحيث تنقلبُ اللغةُ لتكونَ منتجةً
لكتابة شعرية قبيحةٍ. بمعنى آخر: ينبغي أن تقوم جماليات القبح بإعطاء
نصٍّ جميلٍ لا العكس. ولا يتحقق ذلك إلا حين يسيطر الشاعر على الواقع
القبيح بمنظومةٍ لغويةٍ قادرةٍ على تحويل قبح الواقع إلى نصٍّ يحقق
المطلب الجمالي، بعيدًا عن وصفه قبيحًا. وهنا تحضر قيمة الموهبة
الإبداعية في تحدِّيها لشؤونها. وأحمد دون شكٍّ ممتلك لهذه الموهبة
التي سهَّلتْ عليه تحويل القبح إلى لغة شعرية، فجَّة بطبيعة الحال في
معظم النصوص كما قلنا.
إن هناك ما هو "مضمرٌ" خلف جماليات القبح التي يستثمرها أحمد، هذا
المضمرُ يتجلى في امتلاك الذات الشاعرة لحساسية جمالية عالية تجاه
الواقع/العالم، إذ إنه حتى تشعر بمطلق القبح الموجود في العالم لابدَّ
أن تمتلك مطلقَ الجمال، الذي يولِّد فيكَ مطلق الحساسية، وكلما كانت
الذاتُ جميلةً كان لديها فرصة أكبر لاكتشاف قباحة العالم. وتشير هذه
النصوص إلى أن "الجميل" شرطٌ لاكتشاف "القبيح".
2
جاءت نصوص أحمد من الناحية الشكلية البحتة على نمطين: نمط القصيدة
الشعرية القصيرة المكثفة الموجزة، ونمط النصِّ الطويل ذي الكتابة
المتموجة المتدفقة التي يترك فيها صاحبها أفقًا حرًّا وأحيانًا
فوضويًا، للُّغة، وهذا النمط الثاني يذكِّر ببدايات قصيدة النثر في
طبيعتها الأولى، الكتابة اللاواعية اللامنتظمة، التي تسر وفق هدفٍ
مخادعٍ ماكرٍ، وربما يمكن وصفها بِـ "كتابة النثر – شعرًا"، حسب
الاصطلاح الأدونيسي الشهير.
في النمط الأول القصير، يتماهى النصُّ مع حالة الومضِ السريعة، التي
تضربُ لبرهةٍ خاطفةٍ، بما يقتضي ذلك من الاقتصاد في استعمال الكلمات
إلى الحد الأدنى. وهو نصٌّ يتوسَّلُ حالةً هي بالأساس ذات طبيعةٍ
برقيَّة خاطفة، لا تحتمل كثيرًا من التوسع في أفق الكتابة.
الكلمات الكبيرة
هي التي أُصيبتْ
بعدوى كثافة الوجود.
هنا تكثيفٌ لفلسفة اختصار اللغة، عبر نصٍّ مختصر. اللغةُ تذهب في
إيجازها وتكثيفها كلما اكتشفتْ كم هو الوجود كثيفٌ.
في النمط الثاني تستوعب اللغةُ رحابةً أكثر بالتفاصيل والمشاعر
والصياغات المتلونة، ولا يضطر الشاعر هنا لاستخدام تقنية ضربة الفرشاة
السريعة، بل يمدُّ اللون على كامل مساحة النصِّ ممتلكًا في ذلك أكبر
قدرٍ من حرية تشظِّي اللغة، مع القدرة على امتلاكِ زمامها وأطرافها
بحيث لا تتحول إلى لغوٍ.
3
تحضر "الإيروتيكا" في بعض نصوص أحمد، خاصة تلك التي تنتمي للنمط
الثاني، حضورًا يؤدي بطبيعة الحال إلى كتابة جسدية عاريةٍ مكشوفةٍ بقدر
انكشاف الجسد على المتعة واللذة، وهذه نقطة اختراق للتابو الجنسيِّ
الذي شغَّل معه أحمد تقنيةً أخرى هي: استعمال اللغة المقدسة والبيان
القرآني وكأنه يرفع الإيروتيكا إلى مصافِّ اللحظة المقدسة، وبالتأكيد
فهذه نقطة اختراق ثانية ومركزية للتابو المقدَّس. ثمة تطابقٌ هنا في
الهدف: تفتيت المقدس بوجهيه الجنسي والديني، وفتح الأسوار بينهما وذلك
باستعمال الأداة نفسها التي يدَّعي المقدس أنها يسوِّر نفسه بها.
وإذا كانت الإيروتيكا صادقةً فإن اختراق تابو المقدس الديني من خلالها
سيكون صادقًا أيضًا.
وفي كلِّ الأحوال فإن الإيروتيكا موضوعٌ موجودٌ بطريقةٍ ما في نصوص
نثرية تراثية عديدة، ومنها كتبٌ جنسيةٌ رصينةٌ كتبها قضاةٌ مسلمون
وفقهاء. وهذا يعني أن النص الحديث يتناول الموضوع من تراثه ليطرحه ضمن
منظور حديثٍ، يناسبُ العصر وثقافته. مع أن أحمد في بعض لحظات
الإيروتيكا يبالغ في استعمال المفردات القاسية التأثير، وربما كان يمكن
إخفاء هذه اللحظات بستارٍ يكشف ويفضح من غير أن يضربَ بشدة الريح.
4
يتخفف أحمد، رغم استعمال البيان القرآني في بعض اللحظات، من قيدِ
البلاغة ومقتضياتها، ويفتح جملته الشعرية على علاقات لغويةٍ بين
مفرداتٍ ملموسة لا توغل في دلالتها الميتافيزيقية، وكأنه يوطِّد بذلك
انتماء قصيدته النثرية إلى قصيدة النثر اليومي المهجوس بتفاصيل الحياة
اليومية. وهذا في أساسه يدلُّ على اختراق "مقدسٍ" آخر، وتلويث القصيدة
بشظايا الطين اليومي، أو رائحة الزنخ، أو شكل الدم المتخثر...
حتى حين يتاخم حدودَ البلاغة، سرعان ما يتعمَّد تلطيخها بِـ "نثر
الواقع". وكأنَّ هناك علاقةَ صراعٍ بينه وبين جماليات البلاغة، لذلك
يستدعيها لا من أجل التباهي بها، بل من أجل إرضاخها لبلاغة الواقع
الفجِّ القبيح.
5
تجربةٌ من قصيدة النثر في هذه النصوص، لا تبخل على القارئ في تقديم
جرعةٍ جماليةٍ يتطلبها الاستقبال الجمالي الخاصُّ بذائقة المتلقِّي.
تجربةٌ لا تنغلق على التواصل، بل تتهجَّى جسرًا مستمرًا بينها وبين
الآخر.
مكسيكو 28 تموز 2013
*** *** ***
مقدمة
كتاب الشاعر السوري والمترجم الصديق أحمد م. أحمد، الذي يحمل
عنوان أحرقَ سفنَه إلا نَـعْشًا، دار أرواد، طرطوس،
سوريا.