|
مولانا جلال الدين الرومي: من أنا؟!
أيها المسلمون ما التدبير، وأنا نفسي لا أعرف نفسي، يقول حضرة مولانا جلال الدين البلخي مولدًا الرومي مقامًا وحياةً هذه الكلمات، وقد اعتبر إدوارد بروان هذه الغزلية من أجمل الغزليات التي بدأ بها مولانا جلال الدين ديوانه شمس تبريز[1] وقام بترجمتها عن الإنجليزية العلاَّمة المصري إبراهيم أمين الشواربي، أستاذ اللغة الفارسية وآدبها في جامعة فؤاد الأول في عام 1954م ضمن ترجمته للجزء الثاني من كتاب تاريخ الأدب في إيران (من الفردوسي إلى سعدي)، وقد قارن الترجمة الإنجليزية بالأصل الفارسي للغزلية. وعن الأصل الفارسي وحده قام الأستاذ علاء الدين السباعي مؤخرًا في كتابه مختارات من قصائد مولانا جلال الدين الرومي وغزلياته بترجمة الغزلية كاملة مما يساهم في جلاء معناها ووضوحها أكثر، فجاءت على نحو أبين وأظهر. يقول مولانا تتميمًا للغزلية أعلاه:
لقد تخلَّيتُ عن الثنوية، إذ رأيتُ العالمين عالمًا واحدًا وقد اعتبر هذه الغزلية الأستاذ عاطف جودة نصر، في كتابه الرمز الشعري عند الصوفية، رمزًا من رموز الحدس الصوفي المفضي إلى وحدة الأديان، وأراد أن يعضد رأيه فوجد في إحدى الغزليات لمولانا في ديوانه شمس تبريز، والتي ترجمها نيكلسون[2]، معينًا على ذلك. يقول جلال الدين الرومي:
نفسي! أيها النورُ المُشْرقُ لا تنأ عني... لا تنأ عني. ترجم هذه القطعة عن الإنجليزية دون مقارنتها بالأصل الفارسي العلاَّمة المصري أبو العلا عفيفي[3]، وقد استدلَّ بهذه القطعة نيكلسون على أن الصوفية يعتبرون الحبَّ أساس الأديان، وبهذه النظرة تمكَّنوا من حل مشكلة الشَّر والقدر[4]، فكما يقول مولانا: إنه بقدر حبِّ المرء لربِّه يكون علمه بأسرار القدر، لأن الحبَّ اسطرلاب أسرار السماء، وهو الكُحلُ الذي تكتحل به عين القلب فينجلي بصرها. وفي الجزء الثاني من مختارات من ديوان شمس الدين تبريزي ترجم العلاَّمة المصري إبراهيم الدسوقي رحمه الله غزلية تحت عنوان اعزف أيها المطرب على القانون تنحو نحو الغزلية التي نعتني بها هنا، جاء فيها:
أيُّ إنسان أنا؟ وتراني من أكون؟ فأنا شديد الوسوسة، فأنا أُجذب من ذلك الصوب
وأُجذبُ أيضًا من هذا الصوب. إن ما نقلناه من غزليات تتردد كثيرًا على ألسنة محبِّي مولانا الرومي اليوم، ومنهم من يختزل الرومي فيها وحدها، ويراه فوق الأديان أو مؤمنًا بوحدتها جميعًا، ولا ينتبه إلى أنه يشير إلى الواحد وحده ويبحثُ عنه. ومنهم من يراه واقعًا في الحيرة، معبِّرًا عن ذلك بلسان الحال. کل مرة ألتقي فیها بالمولوي في عرصات دیوان شمس تبریز، تغشاني تلك الحیرة؛ ماذا یبغي الرومي؟ عم بیحث؟ ماذا یقول؟ بِمَ أحس؟ وأي طوفان تعکس هذه الجلبة التی لا یقرُّ لها قرارٌ؟ ومولانا جلال الدين الرومي نفسه من عبَّر في صراحة عن معتقده وكأنه يرى ما سيقع بعده من اختلاف: إنني خادمُ القرآن، وذرة غبار في طريق المصطفى المختار صلى الله عليه وآله وسلَّم، وإني لأشكو أمري إلى الله من هذه الإسنادات وأُبرئُ نفسي من قائلها. بل إنه يقول في صراحة في كتاب فيه ما فيه: اعلم الآن أن محمدًا هو الدليلُ، وإذا لم يأتِ الإنسانُ أولاً إلى مُحمد، فإنَّه لا يُمكنُ أن يصلَ إلينا، مثلما يحدث عندما تريد أن تذهب إلى مكان، في البدء يعمل العقلُ دليلاً، بعد ذلك تعمل العين دليلاً، ثم تتحرك الأعضاء على هذا الترتيب. ويخصص مولانا الفصل الخامس والعشرين من كتابه فيه ما فيه لشرح الحديث الواصف للنبيِّ (لولاك لولاك ما خلقتُ الأفلاك) ويصف النبيَّ قائلاً: كل ما يمتلكه الأولون والآخرون إنما يمتلكونه بوصفه انعكاسًا له، وهم ظلُّه صلى الله عليه وآله وسلم. بل إنه يرى أن جميع الأنبياء والأولياء والعارفين الذين جاءوا قبله بمثابة الظلِّ له، ولو دخل الظلُّ إلى بيتٍ قبل صاحبه فالداخل هو صاحبُ هذا الظلِّ في الحقيقة، لذا فإن جميع الأنبياء وإن جاءوا قبل النبي وسبقوه، إلاَّ أن هذا السبق نسبيٌّ، فكما أن جميع الفضائل التي تقوم بها اليدان والرجلان تعود إلى العقل، فكذلك فضائل جميع الأنبياء تعود إلى النبيِّ لأنه هو السبب في وجودهم. أردت في هذه المقالة أن ألفت النظر إلى هذه الوجهة التي لا يراها الكثيرون اليوم من عشَّاق مولانا، أو يرونه فوقها، كما أردت بالعودة إلى الترجمات العربية أن أؤكد على حضور مولانا جلال الدين الرومي في الثقافة العربية منذ فترة بعيدة، كردٍّ على ما يثار من أن العرب والمصريين لا يعرفون عن مولانا سوى النزر اليسير من المثنوي، فأتيت بقطعة واحدة تُرجمت عدَّة مرات من ديوان شمس تبريز، على أن جهود المصريين خاصة في الاحتفاء والاهتمام بما يقوله مولانا أكبر من أن تُنكر إلا ممن أغمض عينه عن رؤية الشمس، ولعلي في مقالي آخر أخصص بحثًا يحصر كل ما كُتب عن مولانا جلال الدين الرومي بالعربية في مصر، بدءًا من كتابات عزَّام والشواربي، وانتهاء بما كتبه تلامذة الدّسوقي شتا، نفعنا الله بعلوم مولانا في الدارين وتقبَّل اللهم من كل محبِّيه. *** *** *** [1] يروي الأفلاكي أن أمير شيراز أرسل إلى الشاعر الفارسي سعدي أن ينتقي أطيب غزلية في الشعر الفارسي، وأن يُراعي في اختيارها أن تكون غنية بأسمى الأفكار وأعلى المعاني، فاختار سعدي غزلية من ديوان "جلال الدين" وقدَّمها إليه، قائلاً: إن جمال الكلمات التي صيغت فيها هذه الغزلية جعلتها بحيث لم يستطع أحد في الماضي أن يقول مثلها، ولن يستطيع أحد في المستقبل أن يبلغ مبلغها، وليتني أستطيعُ أن أذهب إلى بلاد الروم لأمسح وجهي بتراب أقدام من قالها! ولعل ما يقوله سعدي يصدق جدًّا على هذه الغزلية المختارة ففيها يتخطَّى الرومي كل الحدود التي وضعتها الفرق ويخلق عالمًا أرحب من الأيديولوجيات. [2] قضى المستشرق الإنجليزي رينولد نيكلسون في دراسة مولانا جلال الدين الرومي ثلاثين عامًا، خمسة وعشرين عامًا منها في نشر المثنوي وإعداد ترجمة إنجليزية لأجزائه الستة وألحقها بشروح وتعليقات، كما ترجم غزليات كثيرة من ديوان شمس تبريز، وقد رأى أن طول صحبته لمولانا لم تزده إلا تقديرًا لشخصيته الفريدة. [3] في مقاله المعنونُ بـ مات أستاذنا عدَّد الأستاذ عبد الرحمن بدوي لأبي العلا عفيفي أكثر من ثلاثين أثرًا بين مقالة وكتاب وتأليف وترجمة وتحقيق خلفها عفيفي كان أغلبها في التَّصوف ما بين درس لابن عربي، وأفكار صوفية، وجماعات كالملامتية، وقد وصفه بدوي بأنه "كان هادئ الطبع، دمث الأخلاق، كثير الأناة، وكان يُتقنُ كل ما يتوفَّر عليه من بحث، ويبذل فيه كل ما يملك من جهد وتفكير... وكان تلميذًا نجيبًا للأستاذ نيكلسون وقد ساعده في تدريس اللغة العربية في كمبردج. وقد ظل عفيفي رحمه الله طوال حياته العلمية الحافلة مؤمنًا بهذا الدور العظيم الذي كان للتصوف الإسلامي في تشكيل الحياة الروحية في الإسلام. [4] يقول مولانا في ديوان شمس تبريز: كل جنسٍ يمزِّقُ قيوده ليصل إلى مثيله؛ فلأي جنسٍ أنا أنتمي؟ وقد أصبحتُ أسيرًا في هذه الشبكة هنا؟ أنا في الماء، في الأرض، في النار، في الهواء، وهذه الأربعة تكون حولي، ومع ذلك فأنا لستُ من هؤلاء الأربعة. أحيانًا أكون تركيًّا وأحيانًا هنديًّا وأحيانًا روميًّا وأحيانًا زنجيًّا؛ ذلك الأمر يتوقَّف على ما تصوِّره أنت في الأرحام يا روحي، هذا ما أومن به أو لا أؤمن! |
|
|