|
لعبة تغيير القبعات
قال الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو: "لقد أصبحت أدرك أن كلَّ شيء مرتبط جذريًا بالسياسة، وحيثما اتجهنا سندرك أنَّ كلَّ شعب لن يستطيع أن يمثِّل غير طبيعة الحكومة التي صنعته"[1]. وقالت العرب في أمثالها: "الناس على دين ملوكها". إنَّ المتبصِّر في أحوال الأمصار، والدول لا يملك إلا أن يقرَّ بالصحة النسبية لوجهة نظر "روسو"، ولما رمت إليه العرب في مثلها، فالأنظمة السياسية تلعب دورًا هامًّا في تقدُّم مجتمعاتها أو تخلُّفها، وقد يساهم نظام سياسي بشكل واضح في إحداث تبدُّلات عميقة سلبية أو إيجابية في طبيعة شعبه وفي نمط حياته ومكانته بين بقية الشعوب الأخرى، إلا أننا في المقابل نرى أنَّ الروائي والمفكِّر العربي الكبير الطيّب صالح كان أيضًا محقًا بمعنى من المعاني، عندما قال: "إنَّ الأمم هي التي تصنع عظماءها، وليس العظماء من يصنعون الأمم". حيث ورد قوله هذا في معرض حديثه عن القيادات والزعامات السياسية. فلا شكَّ أنَّ العلاقة السليمة بين الحاكم والمحكوم في المجتمعات الحية، تكون غالبًا علاقة جدلية، تقوم على التأثُّر والتأثير المتبادل، في حين يلحق التشويه في شكل هذه العلاقة في المجتمعات المتخلِّفة، فقد يصبح الشعب بأكمله مجرَّد تابع مغلوب على أمره، فهو متأثِّر ومنفعل سلبي، ليس له أي دور في تقرير مصيره ومستقبله، فهو كالأسير في يد سجانه، أو في المقابل تكون الحكومة من الضعف والهشاشة بحيث تخضع بصورة كلية لرعونة الشعب، الذي قد يتصرَّف أحيانًا وفقًا لروح القطيع – أو التجمُّع البشري بعبارة ألطف – فتنتشر الفوضى وينعدم النظام والأمان. وفي هذه المقالة سوف ننطلق من وجهة النظر، بأنَّ المنظومة السياسية غالبًا ما تكون إحدى مخرجات البنية الثقافية للأمَّة، مع مراعاة إمكانية فرضها من الخارج، ولكن في هذه الحالة لن تستطيع العيش طويلاً، إلا إذا وجدت ما يلائم نموَّها في البيئة الثقافية المحلية. لذلك فإنَّ ظهور صيغ أو أنماط من الممارسة السياسية في مجتمع ما، في فترة محدَّدة من التاريخ، إنما يعكس بشكلٍ أو بآخر قابلية البنية الثقافية للمجتمع لتقبُّل هذه الأنماط. وهذا يفترض تضمُّن عناصر ومكوِّنات البنية الداخلية للثقافة لعوامل أو مشجِّعات إنتاج إحدى هذه الصيغ السياسية بصورة واعية أو غير واعية. فإذا كانت عناصر البنية الثقافية للأمَّة تشجِّع أو تسمح بممارسة الاستبداد، فإن احتمالية أن تنمو وتتكوَّن حكومات متسلِّطة في المجتمع تصبح كبيرة جدًا، في المقابل إذا كانت البنية الثقافية للمجتمع تعزِّز مفاهيم من مثل الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، فإنَّ فرصة ظهور الصيغ الديمقراطية في الحكم تصبح راجحة. ومن هنا يأتي اعتقادنا النسبي، بأنَّ أشكال الممارسة السياسية، سواء أكانت مفروضة من الخارج أو تكوَّنت بفعل عوامل داخلية، لن تستطيع الاستمرار طويلاً إلا إذا تحقَّق لها أحد شرطين: قوَّة خارجية تقهر الإرادة المحلية، وتفرض نظامًا سياسيًا محددًا على المجتمع، أو عوامل داخلية تبرر وتسوغ وجوده. وكمثال للحالة الأولى نظام الحكم "الستاليني"، الذي فرض لأكثر من خمسين سنة على دول الاتحاد السوفياتي. أمَّا مثال الحالة الثانية فيمكن أخذ شكل الحكم في إيران الذي يقوم على مسوغات دينية متمثِّلة في ولاية الفقيه. وبالتالي فإنَّ استبدال نظام سياسي بآخر ليس بالضرورة أن يفضي إلى تبدل في شكل الممارسة السياسية في المجتمع، فلابد أن يسبق أو يرافق أو يلحق تغيير شكل النظام السياسي، تغيير مماثل أو مناسب في صميم البنية الثقافية للمجتمع، وهذا يتطلَّب جهودًا جبَّارة وتظافر عناصر تربوية واجتماعية وأخلاقية، واقتصادية خاصة. لذلك فإننا نعتقد بأنَّ الثورة السياسية في مجتمع عربي لا تكفي ولا تفضي فعليًا لمحاربة جادَّة للظلم والاستبداد وترسيخ مبدأ العدالة الاجتماعية وتحكيم سيادة القانون، ودفع عجلة التنمية الاقتصادية، ما لم يحدث تغيُّر في البنية الثقافية للعقلية العربية، التي سوَّغت أو أنتجت سابقًا مظاهر الفساد السياسي والاجتماعي والأخلاقي بمختلف أشكاله ومظاهره. لذلك فإنَّ الثورة السياسية في بلد ما لن يكون لها دور أكثر من كونها المحراث الذي يفلح التربة، لتهيئتها لغرس الفسائل الجديدة، على فرض أنَّ هذه التربة هي البيئة والبنية الثقافية، التي ستغرس بها فسائل الإصلاح. فإذا لم تكن التربة قابلة لاستقبال ما يزرع بها، فيجب أن لا نتوقَّع ثمارًا أو حصادًا. والعقلية العربية الحديثة – كما أشرنا في مقالات سابقة – قد أسِّست على تقديم العنصر القومي على بقية المكوِّنات الثقافية الأخرى، وبالتالي فإنَّ شكل الحكم سوف يأخذ طابع الحكم القبلي، ولا تغرُّك المسميات البرَّاقة من مثل جمهورية وملكية وجماهيرية وغيرها، فالتجربة أثبتت أنَّ البلدان العربية كانت ولا زالت تدار بأسلوب القبيلة، التي تأتمر بكلمة رجل واحد هو الشيخ أو الزعيم أو الرئيس أو الأمير أو الملك أو القائد أو الأخ أو الرفيق. ومثل ما يعتمد شيخ القبيلة على أسرته المباشرة أو على بطانة مقرَّبة لتدبير أمور قبيلته، فكذلك فإنَّ تصريف شؤون الدول العربية، وحتى تلك التي تسمَّى بالجمهوريات، يتمُّ بنفس الطريقة. وربما سوف يدهش بعض الإخوة عندما نقول بأنَّ الوضع الحالي للمجتمعات العربية التي حدثت بها الثورات يصعب إدارته بغير هذه الطريقة – حيث يستبدل مكوِّن ثقافي قومي/وطني (أحادي) بمكوِّن ثقافي ديني/سياسي (أحادي) – وهذا ليس مبرِّرًا لتسلُّط بعض الزعماء واحتكار أسرهم وزمرهم لأشكال النفوذ السياسي والاقتصادي في المجتمع، بل هو توصيف لوضع البنية الداخلية للمجتمعات العربية، والتي بشكلها الحالي تكون عاجزة عن استقبال الأشكال الديمقراطية في الحكم، حتى على فرض نجاح مشاريع الثورات الحالية بشكل مؤقت، لذلك فإننا لا نتوقع على المنظور القريب أن تحقِّق هذه الثورات الشعارات التي رفعتها، فالديمقراطية والعدالة الاجتماعية والحرية لا يمكن أن تنمو إلا بعد تهيئة تربة مناسبة لإنباتها. ولذلك قد نشهد عمَّا قريب انتكاسة أو عودة لأشكال الممارسة السياسية التي كانت قبل الثورات في بعض الدول العربية، ما لم يتم إحداث ثورة مماثلة في أشكال التربية وطرائق التفكير، ونمط العلاقات الاجتماعية من أسفل السلم الاجتماعي إلى أعلاه. وهي ليست دعوة للتشاؤم، ولكن لوضع القطار على السكَّة الصحيحة، على أنه في إطار الفعل الإنساني والاجتماعي لا يمكن الجزم بحدوث التنبؤات بشكل محدَّد، ولكن تقدَّم افتراضات تبنى على تحليل عناصر الحالة الاجتماعية. وربما نشهد تدافعات عنيفة بين قوى الضغط والنفوذ الديني والاقتصادي والإيديولوجي، من أجل بسط النفوذ على السلطة السياسية أو ربما محاولة احتكارها كليًا كما كان عليه الحال قبل الثورة، وقد يتمُّ هذا التدافع خارج العملية الديمقراطية، فربما يصل إلى حد الاقتتال العسكري، ومن الطبيعي أن تمارس دول خارجية قريبة أو بعيدة لها مصالح استراتيجية دورًا مباشرًا أو غير مباشر في توجيه دفَّة هذا التدافع لما يخدم مصالحها الخاصة. طبعًا هذا على فرض أن الظروف الخارجية أو الحراك الاجتماعي الداخلي لم يتحرك لإنقاض الوضع. ويجب أن لا يغيب عن الأذهان هنا بأن الشرائح الاجتماعية التي ارتبطت مصالحها بالحكومات المطاح بها، سوف تستمر بممارسة ضغوطات لا محدودة من أجل إجهاض مرحلة ما بعد الثورة أو لاستعادة مكاسبها وامتيازاتها السابقة، وهذا لا يتأتَّى إلا بإعادة الحكومات المخلوعة إلى مواقعها السابقة، أو محاولة تسرُّب هذه الفئات في بنية الحكومات الجديدة تحت مسميات وشعارات جديدة، وبالتالي تعود لما كانت تقوم به من مظاهر فساد وإفساد. إنَّ الإطاحة بنظام حكم واستبداله بآخر من غير أن يرافق ذلك تغيير في وعي الفاعل الاجتماعي وتبدُّل في سلوكه السياسي، سوف يكون أشبه بلعبة تغيير القبَّعات. إنَّ العقلية العربية الحالية التي تسيطر عليها المزاجية والنزعة العاطفية، وتتميَّز بضمور ملكة الحكم المنطقي والموضوعي، تجعل من الشخصية العربية سهلة الوقع تحت تأثير شهوة السلطة، وتجعل قدرتها على مقاومة إغراء الاستبداد هشَّة وضعيفة. وكما أن شيخ العشيرة يمارس عادة (التشويم) أو العفو عن الجاني لمجرَّد أن يقال أنه يتمتَّع بأخلاق الصفح والحلم، ضاربًا بعرض الحائط حقوق أفراد العشيرة الذين وقع عليهم الجور، فإنَّ ذلك من شأنه أن يغري النفوس الضعيفة الجريئة على انتهاك حقوق الآخرين، معتمدين على أخلاق الصفح عن المسيء التي يتمتَّع بها من بيده الأمر، وفي المقابل فإنَّ "شيخ العشيرة" قد يتعكَّر مزاجه لسبب ما، كأن يتعرَّض راعي إحدى العشائر المجاورة لناقته، فيشنُّ عليها حرب إبادة، فيفتك برجالها ويسبي نساءها. كذلك فإنَّ هذا السلوك اليوم يتجسَّد في المجتمعات العربية عمومًا، بضعف سريان القانون، وبإفلات الكثيرين ممَّن انتهكوا حقوق الأفراد، واختلسوا مصالح المجتمع، وذلك بسبب هذه النظرة البدوية أو العاطفية لتطبيق القانون، فطالما أن تطبيق القانون يخضع للفرد ولحالته المزاجية، وليس الفرد يخضع للقانون، فإنه سوف يصبح من السهل شراء الذمم أو استرضائها. ففي الوقت الذي كانت تجرى فيه محاكمات عادلة مباشرة للمجرمين ورموز الفساد في الأنظمة المستبدة، التي أطاحت بها الثورات الأوروبية – كما حدث مثلاً في ثورات دول أوروبا الشرقية عام 1989 – نجد الأمر في الثورات العربية وكثير من الثورات التي حصلت في البلدان النامية، يحتمل الإسراف والجور أو التسويف والإهمال، فمثلاً في ثورة يونيو (1952) في مصر قام بعض عناصر مجلس الثورة باستغلال نفوذهم لتصفية منافسيهم سواءً داخل مجلسهم أو خارجه من الأحزاب والحركات السياسية الأخرى، دون الالتفات إلى الشرعية القانونية للمحاكمات العسكرية العرفية التي أجُريت بحقِّ تلك الفئات، فذهب الصالح مع الطالح، في حين عمد المجلس العسكري في ثورة مصر الحالية إلى المماطلة والتسويف في ملاحقة رموز الفساد في النظام السابق، ممَّا جعل الكثير منهم يفلت من العقاب، وبالتالي هدرت حقوق الأفراد والمجتمع. وفي كلتا الحالتين هناك استخفاف واستغفال للشعب، وتسلُّط وتجبُّر من قبل الأفراد، وما حدث ويحدث في دول عربية أخرى لا يختلف كثيرًا، حتَّى أن الدولة بأكملها لتختزل بشخص الزعيم، وكأنَّ الزعيم هو رقم واحد، وبقية الشعب مجرَّد أصفار لا قيمة لها. إنَّ هذا السلوك الاستبدادي، الذي يتحلى به كل من وصل إلى القيادة أو الزعامة، ابتداء من الرجل في أسرته، إلى الحاكم في دولته، لم ينتج من فراغ، بل هو انعكاس لثقافة وتربية اجتماعية تمتدُّ لقرون طويلة، حتى ليخيَّل للمرء أنَّ كلَّ إنسان عربي يسكن في داخله طاغية، ينتظر الفرصة الملائمة ليعبِّر عن نفسه. وحتى لا تحسب أننا نبالغ في هذا الوصف، ما عليك سوى تأمُّل سلوكنا في أفعالنا المشتركة، تأمُّل أسلوبنا في الحوار، تأمُّل كيف يدير المديرون المؤسَّسات والشركات، تأمُّل سلوك الضباط مهما كانت رتبهم تافهة، تأمُّل سلوك عمد الكفور، ومخاتير الضيع، تأمُّل الطريقة التي يعامل بها الزوج زوجته، والأب أولاده، والأم بناتها، والأستاذ طلابه، والمثقف مجتمعه، والشيخ مريديه. بالطبع لا نستطيع تعميم الحكم على كلِّ أفراد المجتمع، ولكن من ينصف يعلم أنَّ هذا هو حال الأغلبية. لذلك عندما يقوم الإنسان العربي بممارسة دوره الواعي، كمواطن في دولة، بدلاً من دوره الحالي بوصفه فردًا في قبيلة، سوف تتحقَّق الثورة. فليست الثورة هي أن نغيِّر من يجلس على الكرسي، ولكن أن نغيِّر الأفكار التي في رأس من يجلس عليه. *** *** *** الأوان، الجمعة 3 آب (أغسطس) 2012 [1] أرنست كاسيرر، الدولة والأسطورة، ترجمة أحمد حمدي محمود، مراجعة أحمد خاكي، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1975، ص 235. |
|
|