|
عن حياة نظام وثورة
يتفاجأ طلاب القسم العلمي في المرحلة الثانوية بحقيقة رياضية مركَّبة تلغي معتقدًا ترسَّخ لديهم طوال عشر سنوات من دراستهم مواد الحساب والجبر والمقابلة، معتقدًا يستند إلى أسس فيزيائية بسيطة بساطة الحواس الخمس. حقيقة يأتيهم بها مدرِّسهم ليقوِّض بها كل ما ظنوه على مدى السنوات السابقة، معلومة كلية مطلقة لا يأتيها الباطل. حقيقة تعكِّر صفو حقل الأعداد الحقيقية الوادع، الذي طالما اطمأن الطلاب إلى شموليته وكليته. حقيقة تقول إنَّ: "العدد السالب قابل للجذر أيضًا، وأن نتيجة جذره هو عدد تخيلي Imaginary". وهي حقيقة تعني أن ثمة حقلاً آخر جديدًا للأعداد هو الأعداد التخيلية، لا يقل اتساعًا عن حقل الأعداد الحقيقية؛ وأن هذا العدد التخيلي المأفون يقوِّض كل الصورة المخملية السابقة عن المستوى الرياضي، ليجعله مستوى مركَّبًا أو عُقَديًا Complex. وما أن يلقي المدرِّس حجره هذا في بحيرة الجبر الهادئ تلك، التي اعتاد الطلاب السباحة الآمنة فيها، حتى تتشظَّى مواقف طلابه باتجاهات شتى. فباستثناء أولئك الذين يرون الأمر كشفًا طريفًا لأعداد ومستويات لم تخطر في أذهانهم، وتحديًا شيِّقًا لسكونية مسلَّماتهم، وفسحة معرفية لحقول غير تقليدية وغير مألوفة بل ومستحيلة، فإن بعضهم يرى في كلام أستاذهم تجديفًا يطال حقائق غير قابلة للتدنيس بهكذا هراء، فتنغلق مستقبلاتهم الذهنية، وتكفُّ عن متابعة التفكير المركَّب، لينالوا في نهاية العام علامات متدنية في هذا المساق الدراسي الأخرق! وغالبًا ما تظهر فئة ثالثة من المشاعر ومن الطلاب، يسايرون الأستاذ في ما يقوله، فنراهم يتعاملون مع الأعداد التخيلية والمستويات العقدية على أنها ضربٌ من البحث في الغيبيات غير العلمية، أشبه بدراسة العلاقات الاجتماعية في عالم الجنِّ، أو بالحديث عن اقتصاديات العالم الآخر، إذ لم يجدوا في حواسهم المباشرة معادلاً فيزيائيًا واحدًا يبرر وجود هكذا أعداد وهكذا مستويات وهكذا حقول، على رغم ما توفِّره من حلول لمعادلات جبرية طال الاعتقاد بأنها معادلات مستحيلة الحل. في مقالة مؤثِّرة رأى البعض أنها «تعزية في غير وقتها»، كتبها الزميل غازي دحمان ونشرتها الحياة يوم السبت 8 أيلول (سبتمبر) 2012 بعنوان عن موت ثورة ونظام، لخَّص الكاتب فكرته بأنَّ «ثمة حقيقة باتت راسخة اليوم في سورية، وهي أن الثورة والسلطة ماتتا على الأرض السورية ودفنت جثتاهما ولم يعد أحد قادرًا على رؤيتهما، وما هو موجود على الأرض ليس سوى كيانات (استطالات) لا علاقة لها بمكونات السلطة ولا الثورة». ثم سرد صورًا جنائزية مؤلمة للوضع السوري ينعى فيها الدولة السورية التي ماتت أيضًا مع موت الثورة السورية والنظام السوري معًا، «يوم تخلى عنهما الأكثر حكمة فيهما، يوم قُتل أنصار الثورة المدنية أو غيِّبوا وفر الآخرون، ويوم انشق عن النظام الأقل عنفًا فيه والأميل إلى الفهم والتفاهم». بيد أن النص، وما يحمله من مشاعر مخلصة حيال العذاب الكارثي الذي يعيشه السوريون وترزح تحته أحياؤهم ومنازلهم ومدنهم وقراهم، يأتي ضمن إطار الدهشة التي ألمَّت بجميع متابعي الشأن السوري المفجع. دهشة إزاء ما تبدَّى أنه استحالة حلِّ المعادلات المتخيلة البسيطة التي داعبت خيالاتهم على مدى ثمانية عشر يومًا مصريًا انتهت بسقوط حسني مبارك. دهشة تجاه حقيقة نكبة موت "الحقل التخيُّلي" في المعادلة السورية. والواقع أن السوريين في معظمهم صحَوا بعد ثمانية عشر شهرًا دراماتيكيًا داميًا في سيرورة الثورة، وخصوصًا بعد انطلاقة معركة حلب، على دهشة الواقع القاسي الذي يشير إلى أن النظام الذي سقطت هيبته المقدَّسة منذ اليوم الأول للثورة سيبقى حيًا بعد هزيمته في لبوسات أخرى؛ على أنه يشير في الاتجاه الآخر إلى أن الثورة التي تمنَّى الكثيرون أن تكون ثورة قرنفل وياسمين وورد، قد تكشفت عن وجوه فجَّة قاسية مخرِّشة، لكنها وجوه تساهم كثيرًا في تغذية ديمومتها وحياتها. لقد استفاق السوريون بعد هذا الهول العظيم إلى أن الدولة التي ماتت أو تموت الآن هي الدولة المتخيَّلة التي لم تكن موطنًا بقدر ما كانت مكان إقامة؛ كما استفاقوا إلى أنهم بذاتهم لم يكونوا مواطنين بقدر ما كانوا سكَّانًا أو رعايا. واستفاقوا إلى أنهم عادوا أدراجهم إلى مرحلة الثورة الوطنية التي تنشد، ولو بعد حين، بناء دولةٍ تتخذ ملامح وطن. هنا، وعلى عكس الرياضيات العقدية، فإن الجزء التخيلي من العبارات المركَّبة هو الذي مات، ليترك لنا القسم الحقيقي بكل بساطته وأوليَّته، وليطرح على السوريين الأسئلة الخام الأولى: من نحن؟ ماذا نريد؟ أين كنَّا خلال العقود الأربعة الأخيرة؟ أين نريد أن نكون؟ وما هي ملامح وطننا؟ نعم، المعادلة السورية بسيطة وحقيقية، بل صادمةٌ وفجَّة في واقعيتها. معادلة بات القسم الصفريُّ فيها هو "الثورة المتخيَّلة" و"النظام المتخيَّل". *** *** *** الحياة، الجمعة 14 سبتمبر 2012 |
|
|