|
سؤال الهوية: بين دور العائق ومسوغ الإقلاع
تحوط منهجي حينما هممت بالكتابة حول "موضوع الهوية" ترددت كثيرًا، ليس تخوفًا من المفهوم ولا حرصًا على "قداسته"، ولكني استنفرت عدة إشكاليات، جعلتني أعمل بقولة عمر بن الخطاب التي قال فيها: "ما ندمت على سكوتي مرة ولقد ندمت على الكلام مرارًا". ليس سهلاً أن يخوض المرء رغم تروضه على التفكير مرارًا في موضوع لا يعلم كيف يكون منه المخرج. لقد كان تحوطي نابع من معطى أساسي: أن الكتابات بخصوص المفهوم متعددة، وأن أقلام من تمردوا على الجاهز وآثروا الخوض فيه لازالت لم تجف بعد. تحضرني الآن كتابات كل من الدكتور محمد عابد الجابري: نحن والتراث، التراث والحداثة... كما تحضرني كتابات طه عبد الرحمان: العمل الديني وتجديد العقل، وتجديد المنهج في تقويم التراث... وكتابات حسن حنفي: التراث والتجديد: موقفنا من التراث القديم، والتراث والتجديد... وأيضًا كتابات عبد الله العروي التي تناولت مفاهيمًا محورية أعيدت لها قيمتها الاعتبارية كـ مفهوم العقل، مفهوم الدولة، ومفهوم الحرية... طبعًا لست ندًا لهؤلاء ولكني إذ أعلن تواضعي أعلن معه أيضًا تمردي وأعلن أيضًا بعضًا من تصوري. تحوطي المنهجي هذا صادف عقبة أني لم استوعب يومًا تخلفنا، وقرأت كما قرأ الجميع خطابات رواد الحركة السلفية الحديثة: محمد عبده، قاسم أمين، جمال الدين الأفغاني، شكيب أرسلان، وعبد الرحمان الكواكبي... وقلت هل الأخلاق وتحرير المرأة ومحاربة الاستبداد... وحدها تلزمنا لنخرج من تخلفنا وتسمح لنا بتحقيق الاقلاع الذي ينشده الجميع علنًا؟ وهل إعادة قراءة التراث وتجديده وتصحيح مساره كفيل بأن يمدنا بالإجابة عن سؤال أفرد له عبد الله العروي حيزًا في كتابه الإيديولوجيا العربية المعاصرة عنونه بـالوعي بالغرب والوعي بالذات... أكيد أن "أبطالاً" بحجم هؤلاء لم ينطلقوا من قاعدة السهل الممكن الاحاطة به، بل إنهم فطنوا بدهاء الحكيم وفطنة الفيلسوف إلى خطورة الإشكال وصعوبة الحسم فيه، خصوصًا وأن تداول العلاقة بين "الأنا" و"الآخر" أخذ ملفوظات أخرى مثل "التراث" و"الحداثة"... وهو الأمر الذي حملني على أن أطرح إشكالية الهوية كمسوغ للانتقال إلى الحداثة أو كعائق أمام هذا الانتقال، وكيف ينبغي التعامل مع سؤال الهوية لتجاوز مرحلة الكمون (إن لم نقل الركود) التي تمر منها مجتمعاتنا التي لازالت تحتفظ لكل ما هو تراثي بقداسته المحصنة. لهذا التمس لنفسي العذر إن أبليت في هذا الموضوع وفق رؤية كونتها وتبقى على أي محط نقاش كان ولن يزول في المستقبل القريب كما أظن. على سبيل التقديم إن مفهوم "الهوية" لم يعد حديث نخب وعلية القوم، بقدر ما أنه أضحى حديث نخب تسامر به إبريق شاي أو فناجين البن... على رصيف مليء بالمتناقضات. وإن نظرنا إلى المفهوم من هذه الزاوية ترآى للجميع تداولية المفهوم، لكن إن عصرت الفكرة وعمق التفكير بدت في الأفق حجم المشكلات التي يطرحها المفهوم بشكل يجعله محط تأمل أكثر منه محط تجريب. بالرجوع إلى المعنى اللغوي لاصطلاح "الهوية" نجد أنها مشتقة من الضمير "هو"، أما مصطلح "الهو هو" المركب من تكرار "هو" فقد تم وصفه كاسم معرف بـ"ال" ومعناه "الاتحاد بالذات". كما أن مفهوم "الهوية" يشير إلى ما يكون به الشيء "هو هو"، أي من حيث تشخصه وتحققه في ذاته وتميزه عن غيره، فهو وعاء الضمير الجمعي لأي تكتل بشري، ومحتوى لهذا الضمير في نفس الآن بما يشمله من قيم وعادات ومقومات تكيف وعي الجماعة وإرادتها في الوجود والحياة داخل نطاق الحفاظ على كيانها. وبالانتقال إلى مرحلة مقاربة المفهوم اصطلاحيًا يمكن القول إن الهوية بما هي مجموع السمات والمميزات التي تميز الفرد عن الجماعة كما تميز فردًا عن آخر بل وجماعة بشرية عن أخرى (وأمة عن أمة أخرى) نظرًا للاختلاف الموجود بين الأمم من الناحية الجغرافية والثقافية والاجتماعية والنفسية واللغوية والعرقية... إن الانسان، كما يذهب إلى ذلك جان فرانسوا ماركييه، كان يبحث منذ البدايات عن مرآة يمكن أن يجد فيها صورة هويته المشتتة، وقد جمعت وجرى فهمها أخيرًا، وهو يعثر على غداء بحث كهذا في اللغة، الفلسفة والآداب...[1] معترفًا أيضًا أنه: ليس ثمة ما هو أقل تحديدًا وأكثر تشتتًا مما هي هوية كل واحد، ليس ثمة ما يصعب أن نحرزه أكثر من وجهنا حين لا تكون موجودة مرآة تعكس صورته[2]. هل الهوية تختزل في المكون اللغوي؟ هذا طبعًا يجرنا إلى اشكالية أعمق، وهي تلك المرتبطة بعلاقة اللغة بالهوية، فإذا كانت اللغة هي أكبر من مجرد آلية للتبليغ والتواصل، فهي أيضًا قدرة تمكن من الإبداع وحمل المعرفة وإنتاجها، فاللغة فعلاً كوعاء للفكر والمعرفة هي أساس بناء المجتمع ومساهم بارز في تنميته، لهذا ما لبث هيجل Hegel يقول "نحن نفكر داخل الكلمات"، بل لقد وصف ميرلوبونتي M.Merloponty لحظة التفكير الصامت بأنها "ضجيج من الكلمات"[3]، ووصفها (أي اللغة) لبنيتز Leibnitz على أنها "مرآة العقل"، كما اعتبرت صلب كل نسل كما يصفها أحد الشعراء "لكل قوم لسان يعرفون به إن لم يصونوه لم يعرف لهم نسب". في اختصار فاللغة عاكسة لانجازات الفكر. رغم أن المشكل ليس في مثل هذا الإعتراف، ولكن عندما يتم ربط اللغة بالهوية تطرح الإشكالية، خصوصًا حين يتم امتطاء المشكل لتحقيق مآرب أخرى غير تلك المعلنة. إن الإصرار على اعتبار أن أخلاق الشعب لها تأثير على لغته كما أن اللغة هي صانعة ذلك الشعب، هو إصرار متعصب يدفعنا إلى التساؤل عن جدوى تعلم لغات أجنبية، أليس الأمر بهذا الشكل معناه فقدان الهوية؟ هنا يمكن التصريح بأن ربط الهوية باللغة فقط هو ربط مجاني، اعتباطي، واختزالي في الآن ذاته، ولنا في التجربة المغربية دليل، فأثناء صياغة دستور فاتح يوليوز 2011 طرح المشكل بصورة أوضح، خصوصًا وأن خطاب 9 مارس 2011 الممهد للتعديل الدستوري، على ما أعتقد، تحدَّث عن الهوية وليس اللغة، إلا أن بعض "الفعاليات الأمازيغية" أرادت أن تستغل الفرصة وتحقق مطالب كانت إلى حد قريب مجرد مطامح بل أحلام، الأمر الذي كاد يؤدي بالنقاش الدستوري إلى أن يدخل في صراعات قبلية أو حزبية ضيقة، خصوصًا عند تحويل النقاش من الهوية المتعددة للمغاربة وكيفية دسترتها إلى نقاش لغوي وصولاً إلى أي اللغات ينبغي ترسيمها. من يملكون منظور مختزل للهوية في علاقتها باللغة فعلاً واهمون، لأننا لا نتحدث عن هوية واحدة بل عن هويات متعددة، وليس لأي فاعل كيفما كان وضعه أكاديمي كان أو سياسي أن يدخل الوطن في دائرة المجهول. فلحظة التوثيق الدستوري للهوية هي التي تبرز إلى اي مدى هناك اختلاف في الرؤى بخصوص "مشكلة الهوية"، فلا غرابة إن توقفنا عند التجربة الانجليزية التي يلعب فيها العرف دورًا تشريعيًا أكبر مثلما أن اسبانيا تطرح فيها إشكالية التعدد اللغوي. إن الحديث عن هوية المغرب كوطن له تاريخه يتجاوز السب المتداول[4] إلى ضرورة فتح نقاش علمي يؤمن بأن أي حديث عن الهوية هو حديث عن لحظاتها التاريخية التي مرت منها، وهذا يجرنا بالتأكيد إلى طرح إشكالية أعقد من سابقتها، وهي تلك المتعلقة بعلاقة الهوية بالجغرافيا والمصير التاريخي المشترك وبالانتماء الديني... ثم هل يمكننا الحديث عن "صفاء عرقي" بالمغرب مثلاً شأنه شأن الصفاء العرقي في مجموع البلدان التي تعاني من النعرات الطائفية والعرقية. تكمن صعوبة تعريف الهوية، إذًا، في تعدد أوجهها الدينية العرقية واللغوية، بل وحتى الإيديولوجية والسياسية. وهو ما يجعلنا نصطدم بمجموعة من التقابلات العلائقية كعلاقة الهوية بالدين وعلاقتها بالعرق واللغة والايديولوجيا. دواعي شعار "تحصين الهوية" كثير هم الذين يتحدثون عن "الهوية الوطنية" التي تشكل أساسًا "للهوية الاجتماعية"، تفكير كهذا يعبر عن نزوع عميق لتقدير الذات بما يضمن الأمن النفسي والاستقرار الانفعالي للإنسان عندما يتعزز شعوره بمكانته واحترامه وكرامته...، بل إن مثل هذه النعرة – كما سنأتي على ذلك فيما بعد – دفعت إلى رفع شعار ضرورة تحصينها من أي تهديد كيفما كان نوعه، وهو ما يتغافل عن إشكالية علاقة الهوية، كظاهرة، بالعولمة: فهل يمكن اعتبارها ظاهرة عالمية؟ فاليابانيون مثلاً يتنازعهم هذا الإشكال، فهل موقعهم وثقافتهم تجعل اليابانيين آسيويين أم أن ثروتهم وديمقراطيتهم وحداثتهم تجعلهم غربيين؟ وهذا شان العديد من الدول التي إما أنها تبحث عن هويتها الوطنية أو أنها تعيش أزمة هوية مستمرة (جنوب افريقيا، الصين، تركيا...). إن مشكلتنا، كشعوب تعيش واقع التعدد في روافد الهوية الوطنية، هي أن هويتنا الوطنية غالبًا ما تصطدم "بمحنتنا" التي هي في الأصل محنة أقدمية في الزمن، إنها محنة أنَّ لنا تاريخ. هناك العديد من الأوطان استطاعت أن تؤسس لهويتها بسهولة ويسر، علمًا أن هذه الأوطان لم تفشل في تحقيق ما تصبو إليه، بل إن الغرب الذي طالما عاتبنا على جزء منه أنه بدون ذاكرة تاريخية، استطاع إحكام قبضته على العالم إما بطمس الهويات التي تشكل عائقًا أمام تحقق طموحه أو التي تسعى إلى إضعافه أو إلى خلق مناخ للتماهي بين الهويات باعتماد آليات الحداثة والعولمة والعلمنة أيضًا. حتى أصبح الشك يساورنا ومن تم أصبح لزامًا طرح سؤال: هل عائق تطورنا هو اسرافنا الجهد والدهر في حياكة استفسارات منصبة على هويتنا مع العمل على حماية الهويات، دينية كانت أو إثنية أو لغوية أو إيديولوجية أو سياسية... من كل ما يهددها؟ هنا أصبح سؤال الهوية عائقًا أمام تحقيق التنمية، فقد أسرفنا زمنًا ليس بقصير ونحن نلوك هذا السؤال، فمن المستفيد من هذا التأخير؟ تعتبر كل هوية متماسكة وصلبة البناء والتشكل، من وجهة نظري، بمثابة عبء، وقد يحد من حرية الاختيار، لأن فتح الأبواب حين يطرق الآخر يعتبر أمرًا مستحيلاً – وهذا ما سأعمل على توضيحه عند الحديث عن علاقة الهوية بالإقلاع الحضاري والحرية –. في اختصار، تصبح الهوية هنا وصفًا لكل شيء متصلب ومذمومة ومستهجنة ومدانة من طرف كل السلطات الحقيقية والمزعومة في أيامنا، كوسائل الاعلام وخبراء المشاكل البشرية وأيضًا السياسية، لأنها على نقيض المواقف الصائبة الرشيدة المبشرة بيسر التعامل مع الحياة. قبل الإجابة عن سؤال: من المستفيد من التأخير الحاصل في التقدم بطرحه لقضية "الهوية"؟ تستوقفني آخر عبارة ختم بها د. محمد عابد الجابري مقدمة أحد كتبه قائلاً: سؤال الحداثة سؤال متعدد الأبعاد، سؤال موجه إلى التراث بجميع مجالاته وسؤال موجه إلى الحداثة نفسها بكل معطياتها وطموحاتها... إنه سؤال جيل بل أجيال... سؤال متجدد بتجدد الحياة[5]. مات محمد عابد الجابري وفي نفسه غصة من أولئك الذين لم يستوعبوا مشروعه الفكري فظلموه. فالرجل لم يسعى إلى قلب الطاولة على التراث بل لقد اعتبره منطلق كل تجديد، دون انكار أنه (أي التراث) محدد للهوية العربية التي ابتدأت من "صحيفة النبي إلى لحظة تفكك الخلافة العباسية..."[6]، والذي ارتبطت فيه العروبة بالإسلام، والإسلام بالعروبة
إذ لم تكن الهوية تتحدد بالنسب بل كانت تتحدد حضاريًا بالإنتماء إلى الثقافة العربية الإسلامية، وسياسيًا واجتماعيًا ودينيًا بالإنتماء إلى إحدى الهويات الصغرى: عرقية، مذهبية، دينية طائفية...[7] بل لقد سعى الجابري، مثله مثل الراحل محمد أركون وعبد الله العروي وهشام جعيط وحسن حنفي، للمساهمة في تعميق النقاش المتعلق باشكالية الانحطاط والتخلف الذي يعيشه العالم العربي والإسلامي، والتي اختزلتها الصياغة التالية: "لماذا تقدم الغرب-الآخر، وتأخر العرب-الأنا؟". يرى العديد من المثقفين، كما رجالات الفكر، أن المجتمعات العربية والإسلامية بعد لحظة الاستيقاظ من نومها (بل قل بياتها) الطويل وجدت نفسها تتعرض لهجمة شرسة افتتحت فصولها بالاحتلال بعد ذلك الإستلاب الثقافي والاجتماعي والسياسي ثم القانوني والتربوي فالاقتصادي... هذه المجتمعات لم تجد لها مفرًا لمنع تلك الهجمات غير الالتجاء والاحتماء بماضيها وتراثها أيًّا كان نوع هذا الميراث خشية الذوبان أو التماهي. فهذه المجتمعات المغلوبة على أمرها سعت لإحياء تراثها في العادات والتقاليد والعقائد وكثير من الأمور الثقافية وذلك لدحر المستعمر عن ديارها، وهو ما حدث مع الدول العربية والإسلامية التي شهدت دعوات قادها جماعة من العلماء والمفكرين الذين انطلقوا من المؤسسات الدينية (مساجد أو زوايا...)، هنا ظهرت ثقافة الإحياء الديني والثقافي والاجتماعي. بعد استنزاف الجهد وعودة المستعمر إلى حال سبيله وجدت النخب[8] التي تمكنت من طرد المستعمر نفسها لا تملك مشروعًا حضاريًا نهضويًا فكريًا متكاملاً، بل إن مشروعها كان ناقصًا، الأمر الذي أدى إلى انقسام هذه النخب (ظاهرة التحزيب)، والنتيجة هي أن الفئة التي قاتلت المستعمر قد تسلمت السلطة وسط هتافات الجماهير التي عقدت عليها العزم بل ربطت مصيرها بانتقال السلطة إلى هؤلاء، وبما أن مشروع هؤلاء النخب كان ناقصًا فقد تم التفطن إلى أن المستعمر قد طُرِدَ "كزَيٍ" من الشوارع، لكن ثقافته قد تم التشبت بها "سلوكًا"، وهنا ستظهر فئة مهمتها هي رفض موقف النخبة. منذ ذلك الحين إلى الآن شوهدت عدة سيناريوهات "نضالية-سلمية" (حالة المغرب والجزائر في شمال افريقيا)، أو "نزاعية-مسلحة-دموية" (حالة الأكراد، والصراع الشيعي السني في المشرق). وهنا فهم على أن التاريخ قد يعيد نفسه بصياغات متعددة، فالنخب "الحداثية الأمازيغية" الآن تبحث لنفسها عن موطئ قدم داخل النسق السياسي لممارسة "السلطة"، في الوقت الذي "توهم" فيه شريحة مهمة من المغاربة بأن ما ينقصهم هو الإصرار، بطريقة مبالغ فيها، على سؤال الهوية، علمًا أن استغراق المزيد من الوقت في البحث عن إجابة لهذا السؤال من شأنه أن يعيق التنمية، ويدخلنا في دهاليز القرن الذي نعيشه غير حاسمين في ما نرمي إليه. خطورة الأمر لن تنجلي لنا إلا بعد انصرام الزمن، مثلما أن هويتنا لن تنضج إلا بالانفتاح على تجارب معاصرة، فإذا كان المغرب قد انشغل عن سؤال الهوية بدسترة اللغة الأمازيغية (شأن باقي الدول العربية والإسلامية التي تنشغل بهوياتها العرقية أو الدينية أو الإيديولوجية... )، وإذا كان الفاعلون الأمازيغيون يرون في ذلك مدخلاً لتحقيق "الهوية الكاملة" لهم، فإن لحظة التوثيق التشريعي-القانوني تختلف كليًا، فالحراك الذي عرفته مجموعة من الأقطار كان دافعه غياب التنمية وضيق الأفق السياسي وانسداده، ولم يكن البتة نتيجة تعصب ديني أو عرقي أو مذهبي... إلا أنه في خضم هذا الحراك ولمزيد من الاحتقان وإضفاء زخم على هذه "الثورات" تم الاستعانة إما بنعرات عرقية، كما هو حال تملق رئيس سوريا بشار الأسد للأكراد بمنحهم الجنسية السورية، أو بنعرات طائفية كالتدعيم الباعث للصراع السني الشيعي، ولعل المنصت البسيط للتكبيرات المرافقة لكل طلقة رشاش أو للِحَى العديد ممن يسمون أنفسهم "مجاهدين" دليل على أن الحراك الشعبي له دافع قبلي مخالف للتأزيم البعدي الذي تشعله النعرات العرقية أو الطائفية. خلاصة قولي هنا أن النعرات السالفة الذكر هي مجرد "خلايا نائمة" غالبًا ما يتم ايقاظها في الوقت المناسب لتحقيق غايات بأجندات مفارقة لواقع الناس، وهي تلعب في نهاية المطاف دور العائق أكثر منه دور المسوغ للتنمية. "الهوية الكونية" و"الإقلاع الحضاري" و"الحرية" يورد إدغار موران تساؤلاً مبنيًا على تشخيص منتبه إليه: أي تنوع مذهل لا يحصي على كوكب الأرض هذا، حيث تنوع الأجناس وتعدد الإختلاط، وكما تبين الجغرافية المتعددة الألوان، فإن الأمم آخذة في الازدياد والإثنيات أكثر عددًا وتنوعًا من الأمم بعد، وقد ازدهرت آلاف اللغات مع تنوع لامتناه لقواعد اللغة وتراكيب الكلام والمفردات والأصوات التي تميز بينها. وإذا كان كثير من اللغات ضئيلة الأهمية تموت حاليًا فذلك لأن اللغات المهمة تخنقها، لكن تظهر لهجات دارجة ولغات مختلطة ورطانات في كل مكان...[9] وفي خضم حديثه يشير ادغار موران إلى أنه برغم التنوع الذي تعرفه كل مناحي الحياة البشرية، سواء كان تنوعًا عرقيًا، دينيًا، لغويًا، ثقافيًا، اجتماعيًا (قبائل، طبقات، فقراء، أغنياء...)، فيزيولوجيًا (الشكل، الطول، الجهاز العصبي، اللون...)، نفسيًا (الشخصيات، الطباع، الجبلة، الادراك، الأمزجة...)؛ برغم هذا التنوع يقر موران بأنه "بقدر وضوح التنوع البشري للعيان أصبحت الوحدة البشرية اليوم واضحة للأذهان"[10]، ليتوصل إلى إمكانية بناء هوية بشرية مشتركة بناء على عناصر الوحدة التي تجمع بين البشر، وحدة إزاء الموت والثقافة والسوسيولوجيا، منطلقًا من أنه ليس هناك تعريف للثقافة يشمل جميع الثقافات من غير النظر إلى اختلافاتها، كما أنه بداخل مجتمع ثمة موسيقى، غناء، شعر، عقلانية، دين، تقنية، سحر، طقوس، عبادة... ليصل بعد ذلك إلى فكرة مفادها أن التنوع والتعدد يمكنه أن يكون أصلاً للوحدة ثمة وحدة بشرية، وثمة اختلاف بشري، وثمة وحدة داخل الاختلاف البشري، وثمة اختلاف داخل الوحدة البشرية... ولا ينبغي للاختلاف الشديد أن يخفي الوحدة، ولا للوحدة الأساسية أن تخفي الاختلاف[11]. يصعب التفكير فعلاً في تأسيس وطن بدون هوية، مثلما يصعب التنظير لكيفية الانتقال "إلى الهوية الكونية"، لكن الأصعب أيضًا أن نستمر في طرح سؤال الهوية بالشكل الذي نكرسه حاليًا، فعوض أن يلعب السؤال دور المساعد على تحقيق الإقلاع الحضاري المرتبط بالإقلاع في كافة المجالات الحيوية، بما فيها ضمان الحرية، لازلنا ننظر إليه كسؤال يعيق تحقيق هذا الإقلاع، نظرًا لاختزالنا للهوية في مجالات محدودة أدت إلى تكريس انغلاقنا بما ينفع فئة دون باقي الفئات، ولعلي سأكون حالمًا، ومنسجمًا مع بنات أفكاري، إن قلت إن الهوية لا بد أن ترتبط أكثر بالإنتماء الوجودي والتموقع الاجتماعي وإلا ما فائدة هوية مفتقدة لمحركات تسهل عملية الإقلاع؟ ألم تقلع اسبانيا رغم الإرث الثقيل لهويتها المنقسمة على ثلاث؟ وهل نخبنا مستعدة للتخلي عن تصوراتها الضيقة لمفهوم الهوية لتجاوز وضعنا المتخلف؟ خلاصات إن التاريخ البشري منذ عصور ما قبل التاريخ لم يعرف لحظات قطيعة مطلقة، ولن أحتاج للتذكير بأن الجنس البشري ينتمي، رغم اختلافه، إلى نفس النوع، كما أننا نمتلك السمات الأساسية نفسها، وما وضع التشتت أو الشتات الذي نعيشه كما عايشناه في الماضي القريب إلا وضع مرحلي، علمًا أن هذا الوضع أدى إلى ظهور الإبداع الإنساني في أحلى صوره (اللغة، الفنون، العادات، الأخلاق،...)، بمعنى أن التنوع الذي عرفته الذهنية والثقافة البشرية كان مصدرًا للتجديد في كافة مجالات الحياة، وهذا لا يعني أن حالة التعصب لواقع هوياتي من شأنه أن يساهم في بناء هوية كونية تضمن الحرية والكرامة للجميع وتحفظ هبة الضعيف كما القوي... بل على العكس فما نعاينه الآن من توتر واستقواء عنيف ما هو إلا ردة فعل تنطلق من سمو هوية على أخرى؛ فوحدة الهوية، كفكرة ممكنة التحقق إذا ما تم استحضار قيمة المحافظة على الأجيال اللاحقة، هي مصدر الإبداع المولد للتنمية والمحقق للإقلاع، أما اختزالية الهوية في مكون واحد، فهو قصور استراتيجي لا يفضي إلا إلى تكريس العنف ماديًا كان أم معنويًا، ومعلوم من يستفيد من مثل هذا الوضع. إن سؤال الهوية الآن ينبغي أن ينطلق من الإنسان لتحريره من اكراهاته الاجتماعية، اللسانية، المذهبية والعقائدية... خصوصًا في ظل ظرفية لم يعد فيه هذا الكائن منعزلاً، بل إنه يتحمل مسؤوليته الأخلاقية على الأقل في كل ما يقع في العالم من تحول نحو الأسوء. نعم أننا ندرك أن الطريق إلى ما نحلم به لا بد أن يكون متدرجًا وذلك لعدة معطيات أبرزها التخلف الثقافي والاستبداد والتدخل الخارجي والأمية... إلا أن هذه الرؤية لا ينبغي أن تجعلنا عازفين على الطموح لغد أفضل، لهذا فتربية الأجيال القادمة على منظور سليم للهوية يحصن أمننا ويجنبنا صدام الهويات حتى لا أقول صدام الحضارات. *** *** *** [1] جان فرانسوا ماركييه، مرايا الهوية: الأدب المسكون بالفلسفة، ترجمة أ. كميل داغر، مراجعة لطيف الزيتوني، بدعم من مؤسسة الفكر العربي، دار النشر: المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولى، 2005، ص 13. [2] المرجع السابق، ص 15. [3] راجع مقالتنا اللغة كساء الفكر، المنشورة من طرف مركز آفاق للدراسات والبحوث: http://aafaqcenter.com/index.php/post/1333 [4] تكثر في قاموسنا التداولي عدة عبارات ذات حمولة قدحية الغرض منها التقليل من العربي أو من الأمازيغي مثلاً: (أعراب إجان: العربي كريه الرائحة. والشلح الغربوز: الأمازيغي المغفل). [5] محمد عابد الجابري، التراث والحداثة: دراسات ومناقشات، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، يوليو، 1991، ص 11. [6] محمد عابد الجابري، مقالة تشكُّل الهوية العربية، المنشورة بجريدة الاتحاد الاشتراكي، العدد الصادر بتاريخ 6 ابريل 2010، والتي عنونت بـ الهوية العربية: من صحيفة النبي إلى تفكك الخلافة العباسية، الموقع الخاص بالكاتب. http://www.aljabriabed.net/conceptislamiques_9.htm [7] المرجع السابق. [8] في المغرب يمكن القول إن المستعمر عندما فشل في تحقيق شرخ في "الهوية الوطنية" للمغاربة على إثر إقراره لما عرف بـ"الظهير البربري"، والذي تجندوا (أي المغاربة) له بقراءة "اللطيف" داخل المساجد كإشارة رمزية توحي بقوة "الهوية الدينية" وأن "الهوية الإثنية" تابعة لها، قلت عندما فشل هذا المخطط مهد المستعمر لما عرف بـ"ظاهرة التحزيب" وأشرك "الحركة الوطنية "في اتفاقية اكس ليبان، وهو الأمر الذي ساهم في خلق شرخ في "الهوية الإيديولوجية "هذه المرة وهو ما أسفر عن التعددية السياسية فيما بعد. [9] إدغار موران، النهج، إنسانية بشرية، الهوية البشرية، ترجمة د. هناء صبحي، هيئة أبو ظبي للثقافة والثرات (كلمة)، الطبعة الأولى، 2009، ص 71. [10] المرجع السابق، ص 74. [11] المرجع السابق، ص 81 – 82. |
|
|