|
طاردُ أرواح يذكِّر مواطنيه الحديثي الأورَبة بماضيهم المخزي
وفد البرتغالي أنطونيو لوبو انتونيس إلى جوار الرواية من الطبِّ، لكأن في الانعطاف تجلِّيًا أو دعوة أو حثًّا قدريًّا حتى. نعثر على أكثر من ايماءة إلى ذلك، أفصحها ربما ما يحكيه بنفسه عن مرحلة انضوائه في الطاقم الطبي لمشفى متخصِّص في علاج الأطفال المصابين بالسرطان في لشبونة في أعقاب الحرب، وهي تجربة جعلته ينصرف إلى غضب ميتافيزيقي، يستفهم الله كيف يوقِّع صكَّ معاناة لا ترحم. راودته أقذع تلك التساؤلات وهو يجاور طفلاً في الخامسة مصابًا باللوكيميا يستغيث عبثًا لنيل مورفين يلجم ثوران ألمه. لم يلبث الموت أن ألتهم الصبي المثخن بالمرض فاستسلم له، ليصل بعدذاك عجوزان مع حمَّالة يقرران، إزاء حال الجسد الضامر والمخرَّب، أنه غير مستأهل ليتدرَّب على ما يشبه الراحة الأبدية فيتمدد في فراش. حزما الفتى في ملاءة فانزلقت القدم الصغيرة من الكفن المرتجل لتروح تتأرجح في الخواء. إزاء المشهد المزعزع، صمَّم أنطونيو لوبو انتونيس أن يكتب لأجل هذه القدم، على ما يذكر. ربما لاقتناعه أن الروائي إذا لاقى رذاذًا من الحظ، جعل حيوات جديدة تبرعم، فيما أجبر في الموازاة على توجيه تحية إلى جميع الحيوات الأخرى التي قصَّر عن عتقها من الموت. أصدر أنطونيو لوبو انتونيس باكورته في أواخر السبعينات من القرن المنصرم ليحصد مذاك كمًا من الجوائز الأوروبية الرفيعة. بيد أنه لطالما بقي على المستوى الدولي في ظلِّ مواطنه الأكبر سنًا جوزيه ساراماغو الفائز بنوبل الآداب في العام 1998. في البرتغال، ظلَّ الكاتبان أشبه بخصمين سياسيين أو رياضيين متنافسين إلى حين وفاة ساراماغو. جمع كل واحد مناصرين أشداء أحدثوا جلبة حيثما حلُّوا، وذهب مؤيدو لوبو انتونيس إلى الإدعاء بأن جائزة نوبل رُكنت إلى الكاتب الخاطئ. على ما يتراءى، أيَّد الروائي الرأي عينه، ذلك أنه عندما تلقَّى اتصالاً من صحيفة "تايمس" الانكليزية للحصول على تعليقه في شأن اختيار مواطنه ساراماغو للجائزة الأهم في فلك الآداب، تمتم حفنة كلمات مفهومة بالكاد، محاججًا أن الهاتف معطل قبل أن يقفل السماعة بفظاظة صريحة. ربما تكون البرتغال، تلك البلاد المنكمشة، أصغر من احتواء الرجلين، غير أن العداء المميت يتراءى مهمًا بالكاد من مسافة. الروائيون الجيدون فريدون، وهذا ما يجعل المقارنة بينهما صعبة. ساراماغو ساحر ومنجِّم رقيق يعلِّق تخييله الصلات بالواقع، فيما يشبه لوبو انتونيس طارد أرواح يصارع لإقصاء الشرِّ وشفاء الوطن. تأتي أمثولات ساراماغو إلى بلاد متصوَّرة من دون أسماء، فيتيسر تاليًا انتشارها عالميًا، في حين يواظب لوبو انتونيس على زرع قصصه في محلية تصل إلى العظم، يحرِّكه القلق في خصوص أمراض التاريخ البرتغالي ووهن بلاده على المستوى الثقافي. يريد لوبو انتونيس أن يصير ضميرًا وطنيًا، فيذكِّر مواطنيه الحديثي الأوربة (نسبة إلى أوروبا) بماضيهم المخزي، بذاك الإرث من ذنب تركته ديكتاتورية سالازار بين عامي 1932 و1968، ناهيك بفظاعة نظام البرتغال الاستعماري في افريقيا. في متناولنا اليوم، النسخة القشتالية من روايته أرخبيل الأرق الصادرة حديثًا لدى "دار "موندادوري" حيث يقترح انطونيو لوبو انتونيس (لشبونة 1941) رحلة جديدة إلى "زنوجة الضمير"، في استكمال لما راح ينجزه على مرِّ مسيرته الادبية، أي أن يضيء شموعًا في وسط عتمة خراب الروح الإنسانية، ليسأل عمَّا يخبو داخلها. أرخبيل الأرق نص يتركَّب من خلال كلام فوضوي هائم يخصُّ ساردًا مأخوذًا إلى الحلم. يتصوَّر هذا البرتغالي رواقًا من المجد والثراء في كنف أسرة ثائرة تنبثق من أرض البرتغال، مطبوعة بعلاقات عاصفة، بسفاح القربى والخيانة والعنف. إنها المرة الأولى تنبت رواية لوبو انتونيس خارج حظيرة لشبونة، وتحديدًا في الداخل البرتغالي. لا نتحدث عن الحكاية بمعناها الامتثالي، ذلك أن الكاتب يصرُّ على أن عناوينه لا تسرد أي قصة، وإنما تحاول إطلاق البحث عن الداخل وتشكيل قلق الإنسان في مواجهة الزمن. ولأن الكاتب يذهب إلى اعتبار الروايات المؤتمنة على حكاية من الصنف الرديء، يمكن الادِّعاء بأن أرخبيل الأرق رؤية متعددة لأسرة برتغالية ريفية على مر السنين، خلال حقبات تعكس مرارة بصمة الوقت.
ليست الرواية محض حكاية بسيطة لأجيال ثلاثة، كما هي الحال على غلاف الطبعة الإسبانية، إنها قصة جيل واحد ورجل واحد يتخيَّل ماضيًا باهرًا. من طريق لغة شاعرية ذات جمال بالغ، يسافر لوبو انتونيس إلى دواخل المرء في عمل، حيث يتكلَّم رجل نافذ. إنه صوت خاص يترجَّح بين الماضي والحاضر، هو في المحصلة الصوت عينه ينوب عن أجيال ثلاثة، كهذيان امرئ يتصوَّر نفسه صاحب ثراء فاحش وسطوة. هؤلاء الشخوص أصوات عدة، هم الصوت نفسه الذاهب والوافد والمتلوِّن في آن واحد. لا يقارب انطونيو لوبو انتونيس الأسرة إذًا بوصفها مجموعة يسمع أصداءها فحسب، ولا يهتم بأن يتخيَّلها جسديًّا، وهذا مبرر غياب أي أوصاف حسية تخصُّها. تنجدل الأصوات بغية رصد عائلة تتكوَّن من نماذج تشعر بالراحة إزاء أفعال عنيفة، أكثر مما ترتاح إلى مقابلة إيماءات الحنان، وفي هذا المنظور تستريح شيئيات العادة. لمرور الوقت والتهلكة والحسرة وغياب الحب والصمت، حضور بارز في هذا الكتاب، بمنطق مؤلفات أخرى للوبو انتونيس، ذلك أنه يشبه الرواية التقليدية في الحد الأدنى، ويكاد يحيد عن الحبكة كذلك. بنية الرواية التقليدية، والحبكة، قالبان قلما يهتم بهما هذا البرتغالي، صاحب الأجوبة المتأنية. تعدُّ الرواية تاليًا قطعة في عقد أعمال سابقة أو ربما تكون عتبة إلى حلقة الصمت، ذلك أن جميع الفنون تنجح صوب الموسيقى فيما تصبُّ الموسيقى في السكون. يريد لوبو انتونيس أن يستحيل كاتبًا فاعلاً غير متراخٍ أو متخاذل، فنراه لا يستسلم إلى تجربة الاستعارة الجميلة لاقتناعه أن في وسع صورة لمَّاعة أو التفافات لغوية مذهلة أن تؤذي الرواية. كتبت أرخبيل الأرق بتناسق حلمي اعتباطي، واللافت أن الأمر ينجح إذا انساق المرء إلى القراءة مغامرًا بالاستيقاظ مشوَّشًا بسبب جمل تضجُّ في الرأس ولا يدرك مصدر انبثاقها، أمن الحلم نفسه أم من قصة الكاتب البرتغالي. أنجز لوبو انتونيس الرواية وسط الخشية من عدم تمكنه من إكمالها، ذلك أنه أدرك إصابته بسرطان القولون وهو ملقى في خضمها. أغرقته المعرفة تلك في حال شلل، فنفى نفسه طوعًا من الرواية شهورًا عدة، مشكِّكًا في احتمال أن تبلغ نهايتها. غير أنه أعاد إحياء ما أوتي من قوة ليضع لها نقطة الخاتمة. خيِّل إليه أن الرواية أكثر أهمية من فكرة دهس الموت، في تلك الأيام العصيبة. بدَّل المرض على ما يبدو نظرته إلى الأدب، فكان له أن يقامر، فيما أوراق اللعب مفتوحة للعيان، متخليًا عن الحاجة إلى الاحتماء بالغشِّ. إذا كان ثمة امرؤ في وسعه اعطاء شهادة في شأن لوبو انتونيس، فهو انطونيو نفسه. يعبِّر الكاتب عن هذه الحال في سلسلة من المقابلات منحها للفيلسوفة ماريا لويزا بلانكو بين نيسان 2000 وشباط 2001 قائلا "أنا انطونيو، أصير لوبو انتونيس في الكتب فحسب". لا يهادن انطونيو لوبو انتونيس في تعريفه. في رأيه ليس ثمة وجود لكُتَّاب بالجمع وإنما كاتب بالمفرد، وينبغي له أن يكون أصليًّا ونقيًّا، والأهم جيدًا. يجب عليه أن ينتمي إلى قماشة المغامرين والحساسين والمراقبين والوحيدين. يجب عليه اقصاء المنطق العميق إبان الفعل النصِّي، ذلك أن الكتابة حاجة. شارك الروائي البرتغالي المتخصِّص بالطب النفساني بين عامي 1970 و1973 بخواتم فصول الحرب البرتغالية ضد أنغولا، ليغدو هذا الصراع ثيمة تتكرر في أكثر من عمل كتابي. في أعقاب مرض زوجته الأولى زي، انتقل إلى لشبونة حيث جعل الصحافة والأدب معقلاً لما ستمثله كينونته كإنسان، هو الذي يجد في كل امرأة المرأة الأولى. كان هناك معرفة الجحيم (1980)، كتاب معتم ومتمرد يرتقي ليصير رواية طريق، فيما السياق الوحيد لأي فكرة هو منظور نفساني. في الرواية مصادفات أكثر من موضوعية. هناك رجل بإسم انطونيو انتونيس يتقاسم والكاتب مشابهات ذاتية، بدءًا بامتهانه الطب النفساني إلى وجهة رحلته، أي المستشفى حيث يعمل في لشبونة، ناهيك بكونه من قدامى المحاربين البرتغاليين إبان الصراع في أنغولا. تلك الشخصية ذاتية وليست كذلك، كما هو وضع كل شخص. تؤمِّن استعادة روتين المشافي وبهتان الجدران فيها واليوميات الأكاديمية، المقتربات الفضلى لشخصية كاتب لا يسعنا أن نتغافل عن أن مساره تحدَّد من خلال دور أدان إليه في هذا المضمار، في ممارسة مهنة يصفها بتعابير ذات قدرة تعبيرية هائلة. يكتب: يجيء الأطباء النفسانيون مسلحين بديانة مركَّبة حيث تنوب الأريكة عن المذبح، ينتظم دينهم على نحو هيكلي يضم كرادله وأساقفه وقوانينه ومقابره المبكرة وطلاب لاهوته... ليس ثمة وجود لأي شيء آخر بالنسبة إليهم في هذا الكون باستثناء الأمهات والآباء الآسرين والأثيرين تقريبًا، فضلاً عن طفل اختزل إلى فم يرتبط بهذين الكائنين اللذين لا يُحتملان. تلك علاقة فريدة حيث استثنيت العفوية والفرح. يظهر التصوير الديني في هذا المكان مُغرقا في التعبير، لأن في عرف الكاتب أنطونيو لوبو انتونيس، كما الشخصية أنطونيو لوبو انتونيس، يكمن إثم الأطباء النفسانيين الأعظم في إيمانهم بألوهية ممارساتهم المهنية. أما السعادة فمسألة أخرى. خلال رحلته بالسيارة، يتذكَّر لوبو انتونيس في أحد إرجاعات الذاكرة، فترة جنونية حيث هام إبان اقامته وأسرته في لاغوس: على رغم الخشية من العتمة ووحدتي الوحشية وافتقاري إلى المال، كنت سعيدًا. كنا، كما يسع بوب كرايمر الذي ابتكره جون ابدايك أن يقول: عشنا تحت رعاية عين الله. يوثِّق لوبو انتونيس لإلهه بحرف طباعي كبير دومًا، ذلك أنه غير معلوم ونافذ إلى أبعد حدٍّ، لتتراءى كل محاولة لاغتصاب هذه السلطة شكلاً من الاستغلال. تدلِّل كلمة "جحيم" الواردة في العنوان تاليًا، إلى سوء استخدام السلطة، ويبدو الطبيب والجندي السابق في الموقع الأفضل لإدراك كواليس استغلال مماثل. يستوي هذا الروائي البرتغالي في القوائم الافتراضية للفائزين بجائزة نوبل المتناسلة سنويًا قبيل الإعلان الرسمي. لا يعود ذلك إلى ما يمثِّله ككاتب فقط وإنما إلى مساره الذاتي ورهافة مقاربته لظروف الحياة. يؤكِّد في لفتة غير مألوفة أن الكتاب ينتهي عندما يفقد رغبته في كاتبه. ليس في ذلك جرأة فحسب وإنما أناقة في التعاطي مع الشيء المكتوب. ربما تكون الأناقة شكل الجرأة الأسمى، فيما الجرأة شكل الأناقة الأسمى. انطونيو لوبو انتونيس كاتب غير مصبوب في هيئة واحدة. إنه رجل يترجم الشغف الإنساني ويأتي إلى الوظيفة الكتابية بمعناها المبدئي. تلك بعض صفات البرتغالي الاستبقائية، تلتئم وغزارة تفاصيل تمتعنا في الفوضى وألاعيب كلمات تتملَّق عدمية اللغة. *** الـسـفـن
يشيِّد راسم الهويات انطونيو لوبو انتونيس في روايته الحلمية والمؤرقة السفن (1988) المنقولة إلى الانكليزية بعنوان عودة السفن، مقاربة ساخرة تكشف الضفة الأخرى للابتهال بأبطال الوطن وهشاشة التيارات الميسيانية. لا تلمح صورة السفن إلى التوسع الكولونيالي وتراجع المهزومين فحسب، وإنما تبحر في عالم الأموات كثيمة أدبية. يتعايش الأحياء مع الأبطال بوصفهم تصورًا لماض وهمي، انتُزعت منهم الفضائل فيما لا يزالون يتوَّجون بالقدسية. في ما يأتي المطلع من فصل الرواية الأول ننقله إلى العربية: اجتاز لشبونة قبل ثمانية عشر عامًا أو عشرين عامًا في طريقه إلى أنغولا وكانت غرف والديه في نزل كوندي ردوندو أفضل ما يتذكَّره من تلك المدينة حيث مكثا وسط طقطقة الأواني وتذمُّر النساء الساخطات. تذكَّر الحمَّام المشترك، وهو كناية عن حوض غسيل حيث وُضعت مجموعة من محابس المياه ذات طراز باروكي تقلِّد السمك وتتقيأ دفقًا من المياه الضاربة إلى السمرة عبر خياشيمها المفتوحة. استعاد زمنًا كان يلتقي فيه رجلاً اعتاد أن يبتسم للمرحاض، فيما يُنزل سرواله إلى مستوى ركبتيه. في المساء، كان يلمح عبر النافذة المفتوحة، المطاعم الصينية المضاءة ورؤوسًا شقراء تتحرَّك فوق أحجار الأرصفة. آنذاك لم يكن يتردد في أن يبلِّل سريره لأنه يخشى المغامرة، فيلتقي بالرجل الباسم خلف الأسماك الصدئة أو الرؤوس الشقراء التي اجتذبت التجَّار عبر الرواق بينما راحت تدوِّر مفاتيح الغرف حول خناصرها. كان ينتهي به الأمر مستغرقًا في النوم، تراوده أحلام تتمحور على شوارع كوروش التي تفتقر إلى منفذ، وشجرتي ليمون مطابقتين في الحقل القريب، فضلاً عن صورة جدِّه الضرير صاحب العينين الخاويتين الشبيهتين بعيون التماثيل، يجلس على مقعد قبالة باب الحانة، فيما تنوح قافلة من سيارات الأسعاف عبر غوميس فريير، في طريقها إلى مستشفى سان جوزيه. في يوم سفرنا، اخترقنا شارعًا ضيقًا حيث مقار كونتيسات مخبولات ومحال يملكها تجار طيور يهلوسون، وحانات مخصصة للسياح قصدها الانكليز ليحصلوا على جرعتهم الصباحية من مشروب الـ"جين". اقلَّتنا سيارة الأجرة إلى جانب تاغوس، إلى شريط رملي باسم بيليم، وفق ما دوِّن على لافتة معلقة في محطة القطار المجاورة، حيث ميزان للحرارة في إحدى الجنبات ومبولة في الجنبة الثانية. استطاع من هذا المكان أن يلمح مئات الأشخاص فضلاً عن قطعان من الثيران تولَّت نقل كتل من الحجارة استُخدمت لإنجاز مبنى هائل، قادها حرَّاس يرتدون ثيابًا نبيذية غير آبهين بسيارات الأجرة وعربات استقلتها مجموعة من المطلَّقات الأميركيات والكهنة الإسبان واليابانيين القصيري النظر، انصرفوا إلى التقاط الصور في كل زاوية ولكل شيء، وهم يثرثرون مستخدمين ألسنتهم، ألسنة الساموراي المقوَّسة والمسنَّنة. وضعنا بعدذاك حقائبنا أرضًا خلف نبات إفريقي كان يتم رشَّه من طريق مضخَّات ميكانيكية قذفته بدفق مائي دائري، إلى جانب عمَّال اشتغلوا على تحويل أنابيب صرف المياه التي تقود إلى ملعب كرة القدم وعمارات ريستيلو الشاهقة، في حين سارت جرارات رأس فيرديان في الطرق فضلاً عن عربات تنقل مقابر الأميرات وكومات الزينة المخصَّصة للمذابح. مررنا أمام لافتة تعرِّف بالمبنى غير المنجز وحيث كتب "جيرونيميتيس"، حاذينا البرج في الخلفية وسط النهر، تزنِّره الدبَّابات التي تحمي الأمة من الاجتياح الإسباني. في مكان أقرب، وجدنا سفينة الاكتشافات منتظرةً على أمواج الشاطئ المكشكشة، تترقَّب المستعمرين وتلتصق بوحل المياه بجذور حديد، صحبة أميرالات يضعون القفازات الحريرية مستلقين على سكة الجسر، فيما كانت تحضَّر العدَّة على سارية السفينة استعدادًا لمخر البحر الواسع تفوح منه رائحة الكوابيس وزهور الغاردينيا، وسط زوارق التجديف والقوارب. توفَّى والده من جراء داء الأسقربوط قبل بلوغهم رأس بوجادور في مرحلة كانت خلالها المياه ساكنة كالغبار في رفوف المكتبات وقد أوشكوا على الاهتراء خلال شهر اضطروا خلاله إلى أن يقتاتوا من الفستق واللحم المملح فحسب إلى حين ضربت الريح جسم السفينة. في أعقاب سبع عمليات تمرد دموي وأحد عشر هجومًا تسببت به الحيتان المتجوِّلة فضلاً عن عاصفة تشبه تنهيدة يطلقها الله في أرقه الصاخب، التقط التلسكوب منظر يابسة. ظهر أمامه ساحل لواندا على نحو عكسي بسبب تكسُّر الصورة بنتيجة المسافة. وقف أمامه حصن سان باولو وسفن الصيد وسيدات يحتسين الشاي في فيء أشجار النخيل، فضلاً عن أصحاب المزارع وهم يلمِّعون أحذيتهم فيما يقرأون الصحف في محال الحلويات تحت القناطر. أما الآن وفيما تهبط الطائرة في لشبونة، أحسَّ بقلق لرؤية عمارات انكارناساو وأكوام الأغراض المتروكة، وهي كناية عن آلات بيانو مكسورة وهياكل سيارات آيلة إلى الصدأ، ناهيك بمقابر ومواقع عسكرية كان يجهل أسماءها، كأنه يصل إلى مدينة غريبة كانت ضائعة، بغية أن يعترف بها مدينته، وأن يتملَّك سيارات الإسعاف والمساعدين في الحوانيت الذين كانوا موجودين قبل ثمانية عشر عامًا. تأخَّر أسبوعًا عن المجيء بسبب سيدة خلاسية وأحد الاطفال كان يستلقي أرضًا في غرفة الانتظار في مطار لواندا ملفوفًا بالبطانيات يتضور جوعًا ويئن لرغبته في قضاء حاجته، وسط زحمة حقائب وحقائب يد وبكاء أطفال آخرين وانبعاث الروائح. كانا يأملان أن يفتح الباب ليفرَّا من انغولا ومن صدى الأسلحة التي كانت تؤدي دورها في الشوارع كل يوم، يرفعها ناس من العرق الأسود يضعون الأقنعة، ثملين من كؤوس امتلأت بكولونيا بعد الحلاقة وبشراب السلطة. نقَّب أحد المسؤولين الرسميين في الأوراق وانحنى فوق الأجساد المستريحة وراح يختار اسمًا كل ساعة تقريبًا، في حين راقبنا من خلف زجاج النوافذ جنودٌ رديفون ينتمون إلى "الاتحاد الوطني لاستقلال أنغولا الكامل" المعروف بالـ"أونيتا"، وضعوا أسوار الشعر ورماحًا مريَّشة، يقودهم مستشارون أميركيون وصينيون بينما استلقينا تحت أنوار فوسفورية ركِّزت في السقف. اقتادوني إلى مبنى إسمنتي بائس حيث لافتات دوِّنت عليها لائحة الرحلات الداخلية والدولية، وحيث أومضت المصابيح الملوَّنة خلف محل لبيع الويسكي معفى من الضريبة. اقتادوني إلى هذا المكان عوضًا من تلك السوق المتاهية التي قصدوها يوم مغادرتهم الذي تلا رؤية قصور الكونتيسات والحانات، حيث ظهرت الأطياف الكئيبة والأجانب المصابون بفقر الدم. اقتادوني إلى هذا المكان عوضًا من ضفاف نهر تاغوس حيث كان يتم تشييد أحد الأديرة، وعوضًا من مقطورات ينبعث منها رثاء البغال والثيران والمهندسين مثلما ينادي عمَّال في مطعم غاليسي مساعديهم على نحو عقيم. اقتادوني إلى هذا المكان عوضًا من سيدة تبيع البيض والدجاج المشوي وعوضًا من صفاء صوانٍ غسلت بدموع البصل، وعوضًا من قدرات النساء الغجريات الخفية التي أثارت رغبة العذروات في سن خريفية بوعود حب نائب ملك، وعوضًا من شاحنات السياح والعربات وقوارب الأتراك في أسفل الجسر أيضًا. تلألأت ماكينة بيع السجائر والشوكولا في إحدى الزوايا، تبصق السكاكر بعد هضم معقد للقطع النقدية، في حين انتظم المسافرون القادمون من الطائرة في صف طويل كما في محال بيع البقالة المكتظة وفي الأفران في لواندا يبحثون عن الأرز والخبز واللحوم المفقودة، ذلك أنه لم يبق سوى الغبار وحارس يهزُّ رأسه خلف المنضدة، ويشير إلى الصناديق الخاوية. تذكَّر المساءات المخيفة وأيامه الأخيرة في أنغولا والقنافذ السود تتهجَّم على المكاتب والشقق في وسط المدينة وواجهات العمارات المبقورة بسبب الرصاص، وسيدات مقاطعة مارثال المثيرات للأعجاب، اللواتي صفرن من الزبائن يعرضن كعرائس البحر أوراكهن التي باتت يتيمة، للاأحد في الأزقة، حيث بدت أَضواء السيارات الرباعية الدفع الأمامية كمصابيح عربات القطارات. تذكَّر أولئك الذين لجأوا إليه من رجال دين ومبرِّجين وتجار يهود ومهرِّبي الرق وبيض معدمين متحدرين من إقليمي برندا وكوك، ربطوا حقائبهم وألعابهم المحطمة بحبال، اصطفوا في خطٍّ متعرج من التأوهات والبؤس حتى المطار، وراحوا يدفعون حقائبهم بأقدامهم (على الرصيف المخصص للمسافرين بالترانزيت، حيث يمر أبناء إيسلندا الطويلي القامة والمكسوين بالشعر كطيور النهر) صوب مكتب استوى فيه كاتب الملك الرسمي على المنصة. سأله عن شهرته: "بيدرو الفاريث ماذا؟". تحقق من هويته بالعودة إلى لائحة مطبوعة سلفًا تمَّ حشوها بالتصحيحات وعلامات دوِّنت بقلم الحبر. نزع نظارات القراءة ليتفحصه على نحو أفضل وهو ينحني إلى إحدى جهات مقعده المصنوع من الفورميكا. أمرَّ سبابته بتكاسل على شاربه ليسأله مباغتة: "هل يقيم أحد أفراد عائلتك في البرتغال؟". أجبت بالنفي، قلت كلا سيدي بسرعة، من دون أخذ الوقت الكافي للتفكير، ذلك أن زوجتي توفَّت من جراء داء اليرقان قبل ستة أعوام، ولا يسعني تقريبًا أن أتذكر الأعمام والعمات الذين مكثوا هنا. لا أعرف إذا كانوا لا يزالون في كوروش، وإذا كان ذلك صحيحًا، لا أعرف أين يقيمون راهنًا على وجه التحديد، وبرفقة من، وكم يبلغ عدد أولادهم، وما إذا كانوا على قيد الحياة في الأساس. لا أزال أحتفظ بصورة تعيد إليَّ هيئة أحد أبناء الأعمام الباهتة وهو يصل إلى المنزل بعد حصوله على مأذونية، مرتديًا ثياب المجندين ليدوس الخسة في الحديقة بجزمته القاسية. لكن ماذا عن المنزل مثلاً؟ اختفى بالنسبة إليَّ تمامًا، باستثناء مرآة في المدخل اشتريناها من معرض ألميريم حيث عرضت وسط خنازير ترضع ووقع طبول المهرجين. كانت مرآة تشوِّه الوجوه وتلوي الحركات لتجعلها أمواجًا ناعمة فتعيد إلى كل امرئ سرَّه ووجهه الأصلي، الوجه الذي تستطيع عزلة النوم فحسب أن تفصح عنه، أو تخلِّي الحب. أذكر مواسم الشتاء عندما نمت المزروعات في الأحواض وفي صينيات وضعت أرضًا لكي تصلها مياه الأمطار التي تسلَّلت عبر ثقوب السقف. أذكر أيضًا من الماضي السحيق عرَّابة والدي ترتق جاربيها في فيء شجرة كرز عقيمة. أعادت إليه هذه الذكرى البعيدة فجأةً رائحة سماد البقرة المنبعثة خلال الشهور الماضية، مذ أعلن جلالته عبر الهاتف استقلال أنغولا في أعقاب حركة تمرد، فيما حاشية الملك ملتئمة في لشبونة. انبعثت رائحة التعرق والإسهال والخوف ونحن ندفع الخزانات إلى النوافذ وسط الذعر الشديد، لأن في وسع أي حذاء وفي أي لحظة أن يخدش السجادة. في أي لحظة يمكن أعضاء "الحركة الشعبية لتحرير أنغولا" أيضًا أن يشرعوا في صبِّ الرصاص على نحو واسع لتشتعل مؤخرات الرؤوس مثل التين في مزيج من اللحم الأبيض والبذور الحمراء. ترجمته عن الانكليزية: ر. ر. *** *** *** النهار |
|
|