|
حول الحوار، والتسوية، والواقع السوري الراهن...
يعيش أهل بلدي 1 لأن أول ما تفكرت به في محاولتي المتواضعة هذه، من أجل تلمُّس مخرج للمأزق الذي يعيشه بلدنا اليوم، هو هذه القصيدة التي من أوائل السبعينات من القرن الماضي، للشاعر المصري أحمد فؤاد نجم، والتي يتحدث فيها عن بلده. وبلد أحمد فؤاد نجم هو مصر، وفي مصر، على حدِّ علمي، طائفتان أساسيتان فقط. وكلتاهما من أصول قومية وإثنية واحدة. وأتفكر حالمًا، وأنا أستعيد هذه القصيدة المعبرة، أن أحمد فؤاد نجم إنما كان يتحدث عن سورية وليس عن مصر، لأن في سورية، كما نعلم، كلُّ ما يمكن تصوره في منطقتنا من إثنيات وطوائف. وأبدأ من هنا، من هذه النقطة التي يحاول معظمنا تجنبها... لأني أعتقد بأن داء الطائفية والفئوية الضيقة هو واقع قائم في بلدنا. على الأقل، لدى قسم لا يستهان به من شعبنا. واقع يسعى كلُّ وطني مخلص لتجاوزه، ولكنه في الوقت نفسه واقع لا يمكن إنكاره. واقع يجب علينا التعامل معه بكل حكمة ومسؤولية، خاصةً وأن المجرى الإيجابي للحياة وهذا الحراك الشعبي المبارك من أجل الحرِّية والكرامة والعدالة، الذي نعيشه منذ ما يتجاوز السبعة أشهر، يؤكد، كلَّ يوم، وكما يردد المتظاهرون في هتافاتهم، على أن الشعب السوري واحد. ولأن هذه الوحدة ليست مجرَّد هتاف أو أمنية، إنما هي ضرورة وواقع حال يفرض نفسه على الأرض من خلال المعاناة والآلام والدم المراق، فإن الثورة القائمة اليوم في بلدنا فرضت علينا مواجهة واقعنا بمنتهى الوضوح والشجاعة. مواجهته بكل صدق، بسلبياته وبإيجابياته. وانطلاقًا من هذا الواقع مواجهة أنفسنا، وتلمس الحلول لمشاكلنا ولمشاكل بلدنا.
2 لأن سورية على صغر مساحتها (حوالي 185000 كم2)، تتمتع بأهمية جغرافية-سياسية خاصة، في منطقة حيوية من العالم. فمن الشمال تحدها تركيا، ومن الغرب، والجنوب الغربي يحدها لبنان وفلسطين (إسرائيل)، ومن الجنوب يحدها الأردن، ومن الجنوب الشرقي والشرق يحدها العراق. ولسورية مع جميع دول الجوار هذه مصالح مشتركة، ومشاكل عالقة – إن لم نقل مشاكل بالقوة. فإنْ نظرنا إلى التركيبة السورية التي يقارب عدد سكانها اليوم 22 مليون نسمة، فإننا سرعان ما نلاحظ التنوع الكبير لبلد يشكِّل فيه من هم من أصول عربية ما يقارب الـ90% من مجموع السكان (2.5% منهم فلسطينيون) مقابل ما يقارب الـ9.5% من الأكراد الذين يتواجد قسم منهم – حوالي النصف – في منطقة الجزيرة في الشمال بينما يتوزع النصف الآخر بين دمشق وحلب؛ أما الباقون، أي حوالي الـ0.5% من السكان، فهم من الأرمن والشركس والآشوريون. ونتفكر بأن للأكراد في سوريا مشكلة مزمنة مع النظام الحاكم؛ فالأكراد محرومون من أبسط حقوقهم القومية، وأول هذه الحقوق هو حقُّ استخدام لغتهم القومية. كما أن الكثير منهم، وخاصةً في منطقة الجزيرة، محروم من هويته السورية. كما أنهم إضافةً إلى ذلك، مثلهم مثل باقي الشعب السوري، محرومون من حقوقهم السياسية. وما يعرفه القاصي والداني، أن للأكراد السوريين امتدادات في تركيا، حيث يعانون أيضًا من مشاكل مشابهة مع الدولة التركية التي لا تعترف أيضًا بحقوقهم القومية؛ وكذلك لهم امتدادات في العراق حيث أصبحت لهم منطقة حكم ذاتي (إن لم نقل شبه دولة مستقلة). ونتذكَّر أنه قبيل انفجار الثورة في بلدنا حاولت السلطة استباق الأحداث وتحييد الأكراد فاعترفت بحق العديد منهم في الحصول على جنسيته السورية. لكن هذا التدارك الذرائعي الذي جاء متأخرًا لم يكن له أثر يذكر. حيث قام الأكراد بالتظاهر إلى جانب إخوانهم العرب في جميع المناطق التي يتواجدون فيها، بدءًا من القامشلي (قامشلو بالكردية) وصولاً إلى دمشق، مطالبين بالحرِّية (أزادي بالكردية) وبالديموقراطية. وأيضًا... إن نظرنا إلى التركيبة الطائفية السورية، حيث يشكِّل المنتمون إلى الإسلام السنِّي ما يقارب الـ75% من السكان، والمسيحيون (على اختلاف طوائفهم) 5% من السكان (تسكن غالبيتهم في المدن الرئيسة وفي منطقة وادي النصارى في وسط البلاد)، فإننا سرعان ما نلاحظ أن النسبة المتبقية من سكان البلاد، أي حوالي 20%، هي من العلويين الذين يشكلون حوالي الـ 15%، والدروز 2.7%، والشيعة 2% والإسماعيليون 0.3%. ونتفكر أن لكل طائفة من هذه الطوائف العريقة تواجد متفاوت في مختلف المناطق، وكذلك تداخلات مع دول الجوار. فالعلويون الذين كانت مناطق سكناهم الأساسية منطقة الساحل وما يطل عليها من جبال عرفت باسمهم، باتوا يتواجدون بشكل كبير في مختلف المدن، وخاصةً في دمشق، كما أن لهم امتدادات في تركيا، وإلى حدٍّ ما في لبنان. كذلك للمسيحيين والدروز والشيعة امتدادات في كلِّ المنطقة وخاصة في لبنان. كما أن للعشائر العربية، التي تشكِّل الأغلبية السكانية في المناطق الشرقية والجنوبية الشرقية من سورية، والذين هم بشكل شبه كامل من العرب السنة، امتدادات في العراق وفي الأردن وفي الجزيرة العربية. ونتفكر أن هذا التنوُّع والتداخل الذي من المفترض أن يكون عاملاً إيجابيًا يغني البلد، وعامل تقارب بين دول المنطقة، لو كانت الأوضاع في سورية و/أو في المنطقة أوضاع طبيعية، سرعان ما ينعكس سلبًا على أمن واستقرار البلد والمنطقة. لأن هذه الدول، وخاصةً منها سورية، تعاني، مع الأسف، من خلل عضوي. وهذا الخلل هو بالدرجة الأولى، كما يتضح اليوم، سياسي واقتصادي واجتماعي.
3 لقد قارب عمر الثورة السورية اليوم السبعة أشهر. والحصيلة كما تبدو لأول وهلة مريعة: ما يقارب الثلاثة آلاف قتيل، وأكثر من عشرة آلاف مفقود، وما يزيد عنهم من المعتقلين. مريعة نعم، لأن هذه الأرقام ليست مجرد أرقام إحصائية إنما تعني على أرض الواقع آلاف المآسي لآلاف الأشخاص والعائلات. وهذه المحصلة مرشحة للزيادة على ما يبدو. خاصةً وأن آفاق الحوار مع القائمين على رأس النظام الأمني القائم تبدو اليوم مغلقةً. ونتمعن قليلاً، بمزيد من التفصيل، في هذه الأوضاع وفي الآفاق المطروحة أمامنا. وأبدأ من الناحية الطائفية: حيث من الواضح اليوم أن أغلبية الطائفة العلوية، التي تشكل ما يقارب الـ15% من مجموع سكان سورية، ما زالت ملتفة حول النظام القائم و/أو لنقل (وهذا هو الأصح) ما زالت متخوفة من الثورة. لأن لامسؤولية النظام القائم التي تجلَّت بأوضح صورها في طريقة معالجة هذه الأزمة من جهة، والخلل في تركيبته المتمثلة بشكل واضح في تركيبة القوات المسلحة والأجهزة الأمنية من جهة أخرى، وكذلك الخلل المقابل المتمثل في التركيبة السائدة للمعارضة وتشتتها، وبعض الشعارات المتطرفة التي طرحت بين الحين والحين في بعض المناطق، قد جعلت السواد الأعظم من أبناء هذه الطائفة الكريمة يشعرون بتهديد غريزي يمكن أن يطالهم في حال تغيرت الأوضاع بشكل جذري و/أو تمَّ إسقاط النظام الأمني والاستبدادي القائم بالقوة. وهذا الواقع الحالي ينطبق أيضًا على نسبة كبيرة من المسيحيين الذين (وفق ما تدَّعيه مرجعياتهم الدينية) يشعرون أيضًا بالقلق مما يفترضونه احتمال سيطرة الأصولية السنِّية على الأوضاع في حال سقوط النظام القائم. وأيضًا... هناك نسبة كبيرة من أبناء البلد، من مختلف الطوائف، وخاصةً من أبناء الطائفة السنِّية في دمشق وحلب، التي ما زالت تقف على الحياد (الأغلبية الصامتة)، خوفًا على مصالحها (المشروعة أو غير المشروعة) من الفوضى التي يمكن أن تنجرّ إليها البلاد إنْ سقط النظام بشكل عنيف و/أو إن حصل تدخل خارجي. تدخل بدأ يبرر ويُهيأ له ويدعى إليه من قبل بعض جهات المعارضة ويستند إلى مبدأ تقرُّ به الأمم المتحدة و يؤكد على واجب الشرعية الدولية في فرض الأمن الإنساني من الأعلى على بلد بات أمن سكانه مهددًا من قبل النظام الحاكم فيه. ما قد يعني تكرار السيناريو الليبي، وإن كان ذلك بشكل أكثر عنفًا وأكثر ضراوة. وهذا الواقع الحالي يضعنا، إن أخذنا بعين الاعتبار نسبة القوى على الأرض، أمام احتمالين رئيسيين علينا أن نتفكَّر فيهما بعمق وبمسؤولية... - الاحتمال الأول هو احتمال أن يخرج النظام من هذه الأحداث "منتصرًا"، أي أن ينجح النظام الحالي في قمع الانتفاضة. وهو الاحتمال الذي راهن وما زال يراهن عليه مع الأسف على ما يبدو، من هم في أعلى هرم السلطة. وهذا الاحتمال يستند خارجيًا إلى ميوعة الموقف الدولي الأمريكي والأوروبي والتركي والعربي من جهة، وإلى المساندة المباشرة أو غير المباشرة لبعض القوى الإقليمية والدولية كإيران وروسيا والصين من جهة ثانية. كما يراهن داخليًا على ما يلي: * أولاً: تعب الحراك الشعبي وتراجعه ومن ثمَّ تلاشيه، بسبب شراسة القمع واستمرار القتل، والضرورات الحياتية للبشر. لذلك نرى هؤلاء القائمين على رأس النظام يسعون عن طريق العنف المفرط إلى... * ثانيًا: حصر هذا الحراك في مناطق محددة ما سيجعله يتخذ طابعًا أقرب إلى التوجه الطائفي، لنقل السنِّي تحديدًا... الأمر الذي قد يمكن النظام القائم من اكتساب "مظهر شرعية" تدَّعي أنها تحافظ على وحدة البلاد وأمنها واستقرارها. وبالتالي يمكِّنه من الحفاظ على تماسك من يلتفون حوله، ومن جذب و/أو استمرار تحييد من يقف على الحياد. لكن يبقى أن هذا الاحتمال صعب جدًا وإن كان ليس مستحيلاً. لأن الثورة ما زالت مستمرة ولأن جدار الخوف عند الشعب السوري قد انكسر أولاً، ولأن وسائل الإعلام والاتصالات الحديثة جعلت كلَّ الأمور مكشوفة ثانيًا، ولأن الحكم القائم، من خلال ممارساته القمعية المشينة واعتماده على ميليشيات الشبِّيحة التي خلقها أعوانه، فقد معظم ما كان يتمتع به من شرعية أخلاقية تستند على المبادىء والقيم الإنسانية التي يفترض أن يتمتع بحدٍّ أدنى منها أي نظام حاكم ثالثًا. ما يضعنا أمام... - الاحتمال الثاني الذي هو احتمال أن تنجح الثورة التي تمكنت، حتى الساعة، من الاستمرار، رغم كلِّ ما مورس تجاهها من قمع وحشي شرس، في زعزعة النظام وفي تفكيكه، ما سيؤدي إلى سقوطه. لأن النظام (أي نظام) سينهار حتمًا حين يتخلى عنه معظم مؤيدوه في الداخل والخارج، حين سيصبحون مقتنعين بأنه لم يعد قابلاً للاستمرار؛ و/أو أنه بات يهدد وجود و/أو استقرار البلد. ما يهدد بالتالي، أمن واستقرار هذه المنطقة الحيوية من العالم. لكن هذا الاحتمال ما زال حتى الساعة بعيد المنال أيضًا. وللأسباب التالية: * حيث صحيح أولاً أن الحراك ما زال مستمرًا إلى الآن من خلال التظاهرات التي ما زالت سلمية بشكل عام في معظم المناطق. لكن عنف وشراسة القمع الممارس من قبل السلطة بدأ يؤدي إلى إخراج هذا الحراك من سلميته، من خلال مواجهة عنف السلطة بعنف مضاد. * وقد كانت أهمُّ تجليات هذا العنف المضاد، ثانيًا، تعاظم الانشقاقات في صفوف الجيش الوطني، وتحديدًا في صفوف المجنَّدين وصفِّ الضباط والضباط من أبناء تلك المناطق التي كانت محسوبة على السلطة تقليديًا، والذين يشكلون الكتلة البشرية الأكبر فيه. أقصد أبناء مناطق درعا، ودير الزور، وأرياف حمص وحماة وإدلب. وهذا الاحتمال خطير فعلاً، لأنه لم يحصل من قبل في التاريخ السوري الحديث، ولأنه ينذر (لا سمح الله) بإمكانية تفكك جيشنا الوطني الذي ما زال إلى الآن متماسكًا بمعظمه وراء ما يفترض أنه "السلطة الشرعية" التي تحكم البلاد. وهذا الاحتمال هو أخطر بكثير من... * ثالثًا: احتمال الانهيار الاقتصادي الخطير أيضًا، والذي يراهن عليه البعض في الخارج. لأن النظام بوسعه، وكما يعلم الجميع، أن يصمد لوقت طويل في وجه الحصار الاقتصادي الذي بدأت آثاره بالظهور، والذي سيكون أول من يتأثر به الشعب السوري. ما يعني في نهاية المطاف أن احتمال سقوط النظام بسبب الانتفاضة، وإن كان ممكنًا بالقوة، ما زال احتمالاً بعيد المنال. وأن أضراره كبيرة، إضافةً إلى أنه مكلف جدًا. ونتساءل جميعنا عن احتمال ثالث يؤمن انتقال بلدنا إلى الديموقراطية وحكم القانون، ويحافظ على وحدة البلد وعلى الدولة ومؤسساتها.
4 اليوم، وفي مثل هذه الأجواء المحقونة من العنف المفرط، والقتل، والاعتقال، والتنكيل والتخوين المتبادل، قد تبدو آفاق مثل هذا الحلِّ غير ممكنة للوهلة الأولى. فالحوار مستحيل فعلاً في مثل هذه الأجواء. كما أن الواقع الحالي سيؤدي حتمًا، إن استمر وطالت مدته، بالبلاد إلى كارثة كلا احتماليها مرٌّ بالنسبة لشعبنا. قلت احتماليها، وبالاحتمالين أقصدُ طبعًا احتمال أن ينتصر (لا سمح الله) النظام القمعي القائم وأن نعود إلى أوضاع أسوأ من تلك التي كنَّا عليها قبل أن تنفجر الثورة؛ أو احتمال أن ينهار النظام بالكامل، وأن تنهار معه (أيضًا لا سمح الله) الدولة ومؤسساتها. من هذا المنطلق تأتي أهمية البحث عن مخرج، وأهمية التأكيد على الدعوة للحوار مع العاقلين في النظام، وبالتالي أهمية البحث عن تسوية يمكن أن تكون مقبولة من مختلف فئات الشعب، إن لم نقل عن حلٍّ وسط يخرج منه الشعب السوري بمجمله رابحًا. وأبدأ من هذه النقطة، لأن المنطلق الأول الذي يميزنا كأمَّة وكشعب بمختلف فئاتنا وطوائفنا ومكوناتنا هو أولاً، وقبل كلِّ شيء، وسطيتنا. لأنه وكما جاء على لسان الحقِّ في الكتاب الكريم... وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا[1]. والوَسَط هو... اسمٌ لما بيْن طَرَفَي الشَّيء... كما أِنَّ الوسطيَّةَ من خَصائصِ هذه الأُمَّة وهي سببُ خَيْريَّتِها، ولا تزالُ الأُمَّةُ بخَيْرِ ما حافَظَتْ على هذه الخَاصيَّةِ التي تتميَّزُ بها خاصية الوسطيَّةِ التي تُمثِّلُ الاعتدالَ والاستقامةَ على صِراطِ اللهِ عزَّ وجلَّ، فإِذا خرَجتْ عن الوسَطِ إلى أحَدِ جانِبَيْه... هلَكت، فإِنَّ التَّطرُّف مَهْلَك، والتَّطرُّف لا يخْتَصُّ بالغُلُوِّ والإفْراط، وإٍنَّما الغُلُّوُ والإفْرَاطُ تطرُّف، والتَّقْصِيرُ والتَّفرِيطُ تَطرُّفٌ أيضًا، وكِلاَهُما مَهْلَكَةٌ للفَرْدِ والمُجْتَمع[2]. وأول مقتضيات الوسطية على أرض واقعنا، وفي مثل هذه الظروف العصيبة، هو المبدئية من جهة، والعقل البارد من جهة أخرى، والبحث عمَّا يمكن أن يجمع ويتفق عليه الجميع من مبادىء وقيم أخلاقية ووطنية من جهة ثالثة. - وأول هذه المبادىء هو أن العنف بكلِّ أشكاله يجب أن يتوقف بالمطلق وبشكل كامل وفوري، ومن قبل الجميع، كشرط أساسي لبدء أي حوار، من قبل أية جهة، ومع أية جهة. وأول جهة مطلوب منها أن توقف عنفها لأنها الأقوى (عضليًا) ولأنها الأكثر مسؤولية (افتراضيًا) هي الدولة. - وثاني هذه المبادىء هو الوقف الفوري للاعتقالات وللتعذيب ولجميع تلك الممارسات الشائنة التي أصبحت دارجة جدًا في هذه الأيام. وبالتالي الإطلاق الفوري لسراح جميع معتقلي الرأي. ولأن الجراثيم ليس بوسعها أن تحاور الآلهة، ولأن السجين ليس بوسعه أن يحاور السجَّان، فإن الشرط الأول لأي حوار هو أن يكون بين بشر متساوين في الحقوق وفي الواجبات. - وثالث هذه المبادئ هو التسامح بكلِّ ما تعنيه هذه الكلمة من معنى ومن نتيجة. ما يعني أن يعتبر ما حصل – على قماءته وقسوته – وكأنه فعل ماضٍ أصبح وراءنا وعلينا السعي والعمل معًا لنسيانه (مع التأكيد على ضرورة أن يحاسب كلُّ من كان مسؤولاً عن ارتكاب أفعال شائنة من قبل القضاء). لأن الأهم من حيث النتيجة، وبعد أن عشنا ما عشناه ورأينا ما رأيناه، هو أن لا تتكرر هذه الأفعال ولا تلك القماءات. من أجل هذا يجب أن يعتبر كلُّ من قضى – من جميع الأطراف – شهيدًا، وأن يصدر عفو عام، وأن يتم تعويض وتكريم أهالي جميع من قضى أو تضرر. - ورابع هذه المبادىء هو أن بلدنا الحبيب والمتماسك هو لجميع أهله وأبنائه، أي الوحدة الوطنية التي تعني قبل كل شيء أنْ لا غنى عن أحد، وأنْ لا تسلُّط لأحد على أحد. فكلنا مواطنون وجميعنا بشر متساوون في الحقوق وفي الواجبات. - وخامس هذه المبادىء وأهمها هو الحرِّية والعدالة. لأن هذه الثورة المباركة قامت أولاً وآخرًا من أجل الحرِّية ومن أجل العدالة. ولأن ثورة البعث قبل ما يقارب الخمسين عامًا قامت أيضًا من أجل الحرِّية ومن أجل العدالة. لهذا، فإن سورية يجب أن تكون ديموقراطية وسورية يجب أن تكون دولة قانون. وبالتالي... - وهذا هو المبدأ السادس والأخير الذي يمكن أن نتفق عليه جميعنا: أن يكون الحامي والضامن لديموقراطية البلاد وسلمها الأهلي هو مؤسساتها الوطنية التي على رأسها حماة ديارها. أي بالحرف العريض جيشنا الوطني الذي يجب أن يتحمَّل اليوم كامل مسؤولياته وأن يستعيد كامل سمعته وقدسيته في نظر شعبه. لأن تحقق هذه المبادىء هو السبيل الوحيد لقطع الطريق أمام أية مؤامرة تحاك ضد البلد. ولأنه انطلاقًا منها يمكن التفكير بحلٍّ عملي يبدأ بقيام حكومة من التقنيين الكفؤين من جميع التوجهات والأطياف تقود البلاد خلال مرحلة انتقالية لا تتجاوز مدَّتها السنة. سلطة نظيفة اليد تقوم بإدارة شؤون البلاد خلال هذه المرحلة. سلطة تقوم بمحاورة الجميع بدءًا من الجنود والضباط المنشقين لأسباب ضميرية، وصولاً إلى أبناء جميع المناطق وجميع الطوائف والفئات والتوجهات والأحزاب. حكومة تعترف بالآخر فتحاور ليس فقط أنصارها إنما أيضًا المعارضة التي على رأسها اليوم (شاء البعض منَّا أم أبى) المجلس الوطني الذي تشكَّل مؤخرًا والذي يضم الطيف الأوسع من ممثليها ومن ممثلي الثوار. سلطة انتقالية تهدىء الأوضاع وتهيء لانتخابات ديموقراطية لمجلس نواب حقيقي تكون أولى مهامه وضع دستور جديد ودائم للبلاد. انتخابات نيابية حرَّة ونزيهة تليها خلال ستة أشهر انتخابات رئاسية حرَّة ومفتوحة. هذا كلُّ ما عندي بهذا الخصوص كمواطن، وكـ"لاعنفي"، وقبل كل شيء كإنسان من هذا البلد. *** *** ***
|
|
|