|
لماذا الحرية؟
من اللافت أن الشعار العفوي الذي هيمن على الانتفاضات العربية في مشارقها ومغاربها، كان شعار الحرية. لماذا الحرية دون سواها؟ لأنها روح العصر، ولأن المنتفضين يشعرون، في وعيهم أو لاوعيهم، بأنها تختصر كل المطالب وتؤدي إلى تحقيقها. لا شك في أن التوق إلى الحرية والتوق إلى المساواة هما محرِّك التاريخ في الأزمنة الحديثة. منذ نهايات القرون الوسطى، مع ظهور الطباعة وحركة الإصلاح الديني واكتشاف القارة الأميركية، التي ساهمت كلها في اطلاق النهضة الأوروبية، إلى اليوم، نجد نزعتي الحرية والمساواة في قلب العوامل الكثيرة المتشعبة التي صنعت التحوُّلات الكبرى في العالم. كان التوق إلى المساواة، المتلازم مع نزعة الحرية، الذي حمله الشعب وحملته الطبقة البورجوازية الصاعدة في وجه النبالة والأكليروس، في صلب انهيار النظام الأوروبي القديم برمَّته في فرنسا عام 1789، برتبه الثلاث، وملكيته، التي جرفها تضامنها مع الرتبتين الرفيعتين، مع أنها لم تكن مستهدفة في ذاتها. وكان التوق إلى المساواة نفسه، إضافةً إلى نزعة الحرية، في جوهر الثورتين البولشيفية والماوية وهما أكبر ثورتين في القرن العشرين. وكان التوق إلى الحرية هو رائد حركات التحرر الوطني التي أزاحت الاستعمار الغربي عن العالم أجمع. التوق إلى الحرية نفسه، هو الذي أسقط على حين غرة الاتحاد السوفياتي وفكَّك المعسكر الاشتراكي. وهو نفسه الذي أسقط ديكتاتوريات أميركا اللاتينية الواحدة تلو الأخرى، والذي يُسقِط الآن الجمهوريات الديكتاتورية المعدة للتوريث في العالم العربي. يُفاجأ الرحَّالة الفرنسي الثاقب النظرة، فولني، أثناء زيارته جبل لبنان آخر القرن الثامن عشر، بالمجهود البشري الدقيق والهائل الذي بُذِل في هذا المكان لاستصلاح الأراضي الصخرية الوعرة، وتحويل كل شبر منها مساحةً مزروعة وأرضًا خصبة، ويتوقف بإعجاب عند أساليب الري وتقنياته، وما نتج من هذا الفعل البشري في المدى من ازدهار واستقرار وأمان، ليخلص إلى القول: كنت أنسى حينئذٍ أني في تركيا، وإذا تذكَّرت ذلك فلأشعر بقوة أكثر كيف أن النسمة الأقل من نسائم الحرية يمكن أن يكون لها هذا التأثير العظيم. أدرك فولني منذ ذلك الحين أن جوهر التقدم أو التخلف في الشرق مرتبط بعمق بمسألة الحرية. اليوم نعرف تمامًا، بعد قرنين من التحولات والتجارب في العالم، وبعد انحسار الاستعمار عن المنطقة العربية، وقيام اسرائيل فيها، والانقلابات والأنظمة العسكرية التي تلت ذلك، وما آل إليه هذا المسار التاريخي من فشل وتراجع وخيبة، أن شعار الحرية الذي رفعته الإنتفاضات العربية في صورة عفوية هو مفتاح الأمل الوحيد، وأنه طريق النهوض الحياتي والثقافي والفكري والعلمي والأخلاقي والاقتصادي والاجتماعي معًا الذي ما من طريق سواه. حين ننظر إلى الديكتاتوريات المعاصرة، خصوصًا البسيطة منها كالتي قامت في المنطقة العربية، والتي ينحصر طموحها أساسًا في أمرين: حصول العائلة الحاكمة ومن حولها على أكبر قدر من المكاسب المادية، وتأمين استمرار النظام بكل الوسائل، نجد أن كل تخلُّفها يقوم على انعدام الحرية التام فيها. لقد جعلها فقدان الحرية تدور على نفسها في حلقة مفرغة خارج التاريخ الحديث، وأدَّى في نهاية المطاف إلى انهيارها. فمفاعيل الحرية وتجلِّياتها لا تنحصر في مجالات المعتقد والرأي والتعبير فقط، ولا في الحياة اليومية وحق التنقُّل والسفر والسكن وغيرها من الأمور، على أهميتها البالغة. فالحرية وما يلازمها من نظام ديموقراطي دستوري، من أهم أركانه التعددية السياسية والحزبية، وتداول السلطة على نحو دوري دقيق، والانتخابات الشفافة السليمة، والفصل الصارم بين السلطات الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية، إنما تنطوي على تأثيرات عميقة في المجالات الاجتماعية، والأخلاقية، والتربوية، والعلمية، والمهنية، والاقتصادية، والإنتاجية، والإدارية، والمالية، والعسكرية، والاستراتيجية وغيرها، تطال مختلف أوجه الحياة الفردية والمجتمعية. فهي ترسي مجموعة واسعة من القيم والممارسات والتقاليد، المرتكزة على العمل والكفاءة والتخصص والخبرة والنزاهة في تسلُّم الوظائف العامة والخاصة، وفي إدارة المجتمع والدولة، وفي مختلف أشكال الترقي، مما يؤدي إلى بناء الأفراد بناءً نوعيًا، ويجعلهم يحققون ذواتهم في شكل أمثل، ويفجِّر مواهبهم، ويوليهم القدرة على تكوين الرأي الذاتي وإعادة النظر والإبداع، ويمنحهم الأدوار الملائمة لهم. ويقود ذلك إلى إطلاق الديناميكية المجتمعية، وجعل الدولة الديموقراطية تتحرَّك بكل طاقاتها، وبكامل ثرواتها البشرية والمعرفية والمادية، ويحقق لها الازدهار والقوة والتقدم، ويضعها في قلب التاريخ. ذلك كله يتعارض بعمق مع الديكتاتوريات العربية. فلما كانت هدفيتها محصورة في تكديس الثروات للعائلة الحاكمة وتأمين استمراريتها في الزمان، فهي تعمد إلى إرساء الرعب في المجتمع لمنع كل رأي آخر وخنق كل احتجاج مهما يكن بسيطًا، عبر جهاز أمني وقمعي شديد الفاعلية تستثمر فيه وتنمِّيه دون سواه. من جهة أخرى، يعمد النظام إلى مصادرة كل الوظائف والأدوار في الدولة والمجتمع، ويعيد توزيعها، ليس وفقًا لمعايير الكفاءة والتخصُّص والخبرة والنزاهة، بل على أساس واحد أوحد: الولاء المطلق للحاكم. هكذا يُفسَد كل شيء، فيتكبَّل المجتمع ويفقد حركيته وحيويته، وتُصاب طاقاته بالشلل، وتضمر ثروته البشرية، ويسلك ما بقي من نخبه طريق الهجرة إن أفلت من السجن والقتل، فيتراجع اقتصاده، وينعدم ازدهاره وتقدُّمه، وتزول منعته، ويجد نفسه قابعًا على هامش التاريخ. روح العصر؟ أجل، إنها المنقذ الوحيد. *** *** *** النهار |
|
|