|
الأنسنة والإسلام، مدخل تاريخي نقدي - محمد أركون
صرخة العقل تحتل قضية الأنسنة في الفكر العربي الإسلامي موقعًا أساسيًا في مشروع محمد أركون في نقد العقل الإسلامي، وهو كان بدأه مع أطروحة الدكتوراه التي تمحورت حول هذا الموضوع انطلاقًا من دراسة عن أبي حيان التوحيدي ومسكويه. ظل هذا الموضوع يخترق مجمل أبحاثه ودراساته، يزيد الاصرار عليها من جانبه انبعاث الفكر الأصولي، ومعه ممارسات العنف التي تعطي صورة عن الإسلام متمحورة حول هذا الجانب. لذا يكافح بقوة لنزع الانغلاقات اللاهوتية عن الإسلام وتحريره من القيود التي تكبله. في هذا السياق يأتي كتابه الأنسنة والإسلام، مدخل تاريخي نقدي، الصادر عن "دار الطليعة" في بيروت، ترجمة هاشم صالح، ليشكل مساهمة في إضاءة الأنسنة في الإسلام وإعادة بنائها، حيث يقول في مقدمته: في هذا الكتاب رغبة في تحطيم العزلة عن الإسلام ورفع إطارها لتقويته حتى يستطيع أن يخرج من سياجه العقائدي المحصن داخل قلعة الصمود ضد تحديات التاريخ، في حين ينتظر منه العالم إجابات مسؤولة عن تحديات عاجلة ومحددة. يشير أركون إلى مفاهيم متعددة للأنسنة في الفكر الإسلامي، فهناك الأنسنة المتمركزة حول الله، أو ما يعرف بالتمركز اللاهوتي الذي ينطبق على الأديان التوحيدية الثلاثة؛ وهناك الأنسنة الفلسفية المتمركزة حول الإنسان العاقل، سواء أتى الأمر من "داخل المنظور الأفلاطوني للمعقولات، أم داخل الإطار المفهومي للتمركز المنطقي للأرسطية"، ليصل من ذلك إلى القول إن تحرير الفكر الإسلامي من سياجاته العقائدية الخاصة به، لن ينجح ما دامت الأطر والأسس التاريخية القصصية للإيمان غير مهدمة، وذلك على غرار تهديم أسس الإيمان المسيحي منذ عصر الأنوار. ينطلق أركون من تعيين مفهوم الأنسنة بما هي أحد الأسس التي يرتكز عليها الفكر الديموقراطي والممارسة الديموقراطية، وتقوم على الامتناع عن إقصاء أي شيء ينتجه الإنسان أو مما يدفعه إليه قدره، ولكنها تخضع كل ذلك للتمحيص النقدي، بما في ذلك عقائد الإيمان الديني والحقائق المقدسة. انطلاقًا من ذلك، يحاول أركون أن يعيد الاعتبار إلى هذا الجانب الإنساني في الفكر العربي الذي ازدهر في القرن الرابع الهجري، العاشر الميلادي، حيث مهدت الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في زمن العصر البويهي لنجاحه وانتشاره. كان أبو حيان التوحيدي أبرز المفكرين، وهو صاحب المقولة الشهيرة "الإنسان أشكل عليه الإنسان"، فحكمت هذه المقولة جميع كتاباته وتمرده الفكري ونقده الصارم لما هو سائد حيث سعى إلى تعطيل الشرائع الدينية من أجل خلق فضاء مناسب للتعميق الروحي.
يقارن أركون بين ذلك العصر القديم والحال الراهنة، فيشير إلى أن معاركه من أجل الأنسنة إنما تهدف إلى تظهير الأزمة الفكرية والروحية للفكر الإسلامي الذي تصادره وتحتجزه أيديولوجيا المعركة وتكبِّله مؤسساتها الميثولوجية منذ أكثر من ألف عام حتى اليوم. يزداد الأمر أهمية بعدما جنحت أيديولوجيا المعركة في نضالات سياسية عبثية وخصوصًا في العمليات الإرهابية التي وصلت ذروتها في هجومات الحادي عشر من أيلول عام 2001. فاقم الأمر أن النخب السياسية التي استولت على السلطة منذ الاستقلال لم تتمكن من أن تحيي أو ترمم خطابًا انسويًا سبق لرواد النهضة في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين أن لامسوه، وذلك في ظل "خطاب تحرري تتخلله تلفيقات حداثية وأوامر عقائدية ظلامية، فضلاً عن كونها حطمت الهويات الوطنية، التي تلقي مسؤولية انمحائها على المستعمرين وحدهم". في سياق الفكر الإسلامي المتصل بالمفاهيم الإنسانية، احتلت مفاهيم السعادة والسعي إلى الخلاص موقعًا غير بسيط في التحديد والموقع. فخلف النموذج الإسلامي الذي يتمثل في أدب غزير، ماضيًا وحاضرًا، "تحيل مسألتا السعادة والخلاص على مظاهر وجودية، أعني نماذج لتشكل فكري وأخلاقي وروحي للفرد البشري". في هذا المجال يبدو أن الخلط الذي تقوم به الحركات السياسية في العصر الحديث بين الخلاص "الآخروي" والخلاص الأرضي من أجل تجييش الجماهير في الصراعات السياسية والاجتماعية على السلطة، إنما يعبر في الحقيقة عن الارتداد الذي يلفُّ المجتمعات الإسلامية اليوم. يتجلى ذلك في أن كلمة "جهاد" قد صادرتها الحركات الأصولية الإرهابية، وهي كلمة كانت لزمن طويل محور المعركة الروحية الصوفية في طريق الوصول إلى الله والاتحاد به. في العودة إلى الفكر الإسلامي، يشير أركون إلى مسكويه، صاحب كتاب تهذيب الأخلاق، في كونه أكثر المعبِّرين "عن مفاهيم السعادة النامية داخل السياقات الإسلامية الوسيطية والأكثر شمولاً والأحسن بيانًا والأوسع تأثيرًا، فهو يقدم بناء رحبًا للحكمة، حيث توجد كل الأشياء المتقاربة متناغمة متناسقة منسجمة". قاد مسكويه خطًا في الفكر الفلسفي الأنسني يشدد فيه على سعادة الإنسان، ويعطي هذا الإنسان دروسًا في الفكر والأخلاق من أجل ترجمتها في حياته الواقعية الملموسة. هذا الفكر حلَّ محلَّه فكر ديني عن الخلاص الأبدي والوعد بالملذات للأبرار في الجنة والوعيد بالعقاب الشديد للفجَّار والكافرين في نار جهنم. هكذا بات المسلمون اليوم محكومين في حياتهم اليومية إلى إسلام متخيل استيهامي يعود بنا إلى العصور الأسطورية، وإلى زمن قديم يجري إفهامنا أنه الزمن الأصيل الواجب استعادته واسقاطه على عصرنا، وإجبار الدارسين على درسه من دون الأخذ في الاعتبار الحد الأدنى من معايير التاريخ النقدي وتساؤلاته وشكوكه، بحيث يمكن القول إن الإسلام قد اختزل اليوم إلى وظائف ثلاث: الوظيفة الأسطورية التي تجعل منه الملاذ والأمل لفئات واسعة من المنبوذين والمهمشين والعاطلين عن العمل واليائسين. الوظيفة الثانية التي تجعل منه ملاذًا لمعارضي الأنظمة الحاكمة والمتجلي اليوم في الحركات السياسية المعتقلة للإسلام والمسخِّرة تعاليمه في خدمة برامجها السياسية الانقلابية. أما الوظيفة الثالثة فهي تسخير الرأي العام وتعبئته، وهذه وظيفة تمارسها السلطة السياسية والحركات المعارضة في الآن نفسه، كلٌّ في خدمة مشروعه في الاستيلاء على السلطة أو المحافظة عليها. يتساءل أركون عن المكانة التي تحتلها المعرفة التاريخية النقدية في النظام التعليمي في كل بلد من البلدان التي تتخذ الإسلام دينًا للدولة، ليخرج بنتيجة سلبية عن وجود هذه المعرفة. يعزو أركون هذا الغياب أو التغييب إلى أن اعتناق هذه المنهجية في قراءة التراث الإسلامي قد يؤدي إلى زعزعة المجتمعات الإسلامية في ظل ظروف تاريخية تواجه فيها أزمات متعددة في الداخل والخارج. لذا تبدو هذه المجتمعات متمسكة بالدفاع عن مدونة "إيمانية" بعيدة عن أي مساءلة نقدية، فالمجال الإسلامي منغرس في الرفض العقائدي للتاريخ وفي فوضى دلالية مرتبطة باستيراد جنوني لوسائل الرقابة المتطورة بقصد مراقبة أكثر شمولية لشعوب ظلَّت محرومة من كل أشكال الحرية والعدالة الاجتماعية منذ أمد بعيد. لذلك تبدو الفضاءات العربية والإسلامية غارقة في شتى أنواع الفشل في المعارك الدائرة على جبهات العقل الذي يقود الإنسانية إلى درب خلاصها الحقيقي المستند إلى المعرفة العلمية والثقافة الديموقراطية والأنسنة الشاملة. وهو أمر يفتح مباشرة على دور المثقف ووظيفته في هذه المعركة الكبرى، في دفاعه عن حقوق العقل وفي نشره للفكر الإنساني. لا ينكر أركون وجود علماء في التاريخ الإسلامي دافعوا عن فكرة الابتعاد عن مواقع السلطة من أجل الانصراف بحرية إلى القيام بمسؤولية إنتاج سلطة فكرية وأخلاقية وروحية، وأخذ الحرية في الاجتهاد في النصوص المقدسة واستنباط الأحكام الفقهية. مثلما وجد في الآن نفسه "مثقفو السلطان" الذين كان همُّهم الأساسي اسباغ المشروعية على السلطة والسلاطين وتبرير قراراتهم وممارساتهم. يخلص أركون من ذلك إلى مخاطبة العلماء المسلمين لاستبدال خطابهم عن الإنسان الإسلامي وعن الصاق الإسلام بكل القضايا الدنيوية، نحو الالتفات إلى الحركية التاريخية التي تؤثر في الاعتقاد والوظائف الدينية الخاضعة لقوى العولمة التي لا يمكن التصدي لها. يؤكد أركون في مجرى كتابه، أن الانغلاق العقائدي ليس إنتاجًا للتعاليم الدينية فحسب، فليست التعاليم الدينية سوى عامل يساهم في تثبيت تقديس التقاليد والعادات والطقوس والقوانين الثقافية والمعتقدات والقيم والممارسات السياسية القديمة المرتبطة بمسألة النظام الرمزي والنظام الاجتماعي–الاقتصادي والسلطة التي تديرهما. لذا يضع في أولوية مشروعه مسألة الخروج من هذا الانغلاق العقائدي، بل يرى أن المجتمعات العربية والإسلامية هي في مرحلة مفصلية بحيث سيكون عليها الاختيار بين الموروث المترسخ والمتبلور في إطار العائلة والمدرسة والمسجد والإعلام وغيرها من أماكن التعبير الثقافي والديني، وبين انتهاج سياسة هادفة إلى إعمال العقل في ميادين البحث والتعليم، بما يسمح بتحرير القوى والمواهب الخلاَّقة، مما يفتح على حركة الإصلاح الواسع والمتعدد الوجه، الذي يذهب به أركون بعيدًا في الحديث عن هدم الفكر الديني ببناءاته القصصية التاريخية للإيمان، أو عدم هدم الفكر الحديث بتحولاته الأسطورية والأيديولوجية: إعادة أعمال حركة فلاسفة عصر التنوير في القرن الثامن عشر، بهدف فتح آفاق جديدة للمعنى وقابلية الفهم والمعرفة مع مراعاة ضرورة الافهام وتوجيه الحركة الثورية. تبدو المجتمعات العربية والإسلامية اليوم في أمس الحاجة إلى "صرخة" أركون وتركيزه على منهجية النقد من أجل الوصول إلى الإصلاح. كتابه هذا نداء ملحٌّ للانخراط في نقد ينزع القدسية عن العقل القانوني في الفكر الإسلامي لاستعادة عقل يساهم في هدم الأشكال والانحرافات العقائدية للعقل الديني، وكذلك لعقل الأديان العلمانية التي تضع نفسها في إطار الحداثة. اليوم ثمة هدم اجتماعي وسياسي لا رجعة فيه نظرًا للعنف المعمم الذي يتميز به التعبير السياسي والخيالي للمجتمعات، غير أن إعادة تفعيل الأسطورة القائلة إن "الاسلام صالح لكل زمان ولكل مكان" تعبئ جماهير غفيرة لدرجة أنه يخفي اتساع الهدم وطبيعته - على ما يشير إلى ذلك الكاتب. *** *** *** النهار |
|
|